منظومة القضاء (كلمة حَكَم وأخواتها)
قضى– حَكَم – فصَلَ – أفتى –
هذه الكلمات تتناول المسألة القضائية في المحاكم والتسلسل المنطقي يفرض علينا أن نبدأ بكلمة قضى ولو كانت كلمة حَكَم هي كلمة الحلقة حيث ما زلنا في حرف الحاء والكاف. وهذه الكلمات ليست بمعنى واحد كما يقول بعض المفسرين وإنما كل كلمة منها تعني مرحلة من مراحل الانسان الذي يقوم بعملية القضاء.
قضى: القضاء قضية هي فصل خصومة بين متخاصمين والقاضي هو الذي يُنجز عمله على أتمّ وجه وأكمله بحيث يقطع النزاع واللجاجة فيه. اثنان اختصما على أمر ما مال أو بيت أو غيره وحكم القاضي بينهما حكماً شاملاً تاماً أفرغ فيه وسعه من حيث الدليل والحيثيات والاقناع بحيث اقتنع الطرفان ولم يعد بينهما لجاجة ولا اختلاف على الموضوع وكل منهما رضي بالحكم فهذا هو القاضي. وبهذه الكلمة (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) يونس) كلمة يقضي تدل على أن القاضي هذا وصل الغاية في الاتقان والابداع في إقناع الطرفين بصحة هذا الحكم لشدة ما عند القاضي من حكمة ودراية وقام بكل ما ينبغي للقاضي من جهد أمام الخصوم وسمع من الخصمان استماعاً متساوياً. وتذخر المكتبات بالكتب في أدب القاضي وأدب القضاة وأدب القضاء.
حَكَم: كلمة القاضي لا تعمي أن له سلطة ملزِمة فإذا كان للقاضي سلطة مُلزِمة صار حاكماً فالحاكم إذن هو القاضي الذي له سلطة ونفزذ بحيث يُلزِم الطرفين المتخاصمين بالحكم إلزاماً وكل حاكم قاض لكن ليس كل قاض حاكماً. والقاضي هو الذي لا يُنقض حكمه من نقص فإذا كان القاضي بالابداع الذي ذكرناه سُمي قاضياً فإن كان له سلطة ونفوذ سمي حاكماً كما في هذا العصر فالقاضي الآن على بابه شرطة وله نفوذ ولهذا سُمي الحاكم السياسي حاكماً لأن له سلطة في تنفيذ أوامره. ونلاحظ في القرآن الكريم قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) يونس) وقوله (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)) الحج) وقوله (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) الحج) وقوله (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ)
القاضي من كان مبدعاً في قضائه (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت) وصل النهاية في الاتقان والابداع فإذا استطاع أن ينفذ حكمه فهو حاكم ويفرض حكمه على المتخاصمين. والقاضي والحاكم يفصل بين المتخاصمين بالتنازع على شيء يحقق به العدل (يحقق العدل) والذي يحكم بين اثنين في فكر أو عقيدة ليعيّن لهم بالحق (يحقق الحق)
فصل: ورب العالمين سبحانه عندما يجلس بين المؤمنين والكافرين وبين المتخاصمين من مذاهب مختلفة يفصل تعالى بينهم في العقائد والافكار فالقضاء والحكم لتحقيق العدل والفصل لتحقيق الحق من الباطل. إذن القضاء يكيّز العدل من الظلم والفصل يميّز الحق من الباطل (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) الدخان (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) النبأ)) (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) الصافات) لأن الجدل يقوم حول أفكار وفلسفات.
أفتى: الافتاء هو حكمٌ لسائل يسأل عن قضية تحتمل أكثر من رأي أو حكم ويستفتيك صاحبها فتفتيه بالوجه الصحيح وتعطيه الحكم الصحيح لهذه المسألة (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) يوسف) رأى رؤيا تحتمل عدة أوجه (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)) الصافات)
وضح الفرق بين (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) يونس) أي ينجز الأمر على أتم ما يكون و (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) النساء) بالتنفيذ و (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) الحج) بالعقائد والأفكار وهذه هي منظومة القضاء في كتاب الله عز وجلّ.
حكم: مأخوذة من حُكَمة وهي حديدة توضع في فم الدابة كالحصان والبعير والبغل والحمار تمنعه من الجماح يلجمها الراكب فينتظم سير الدابة. والحاكم يمنع جماح المجرمين والظالمين والأشرار والمعتدين واللصوص بالحكم الذي يصدره (ولكم في القصاص حياة) لو لم يكن هناك حاكم لفسدت الأرض فكأن قرقرات الحاكم هي التي تمنع الناس وتجعلهم منضبطين ولذلك سمي حاكماً.
والحاكم مهنة (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) ص) داوود u عُيّن حاكماً وقاضياً وهو ملك يمكن أن يفرض أحكامه لأن له سلطة. ومنه الحَكَم (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) النساء) والحَكَم صفة محمودة بالرجل يُعرف بها عند الناس فأهل الزراعة مثلاً يعرفون أن فلاناً خبير بأمور الزراعة فيحتكمون إليه في أمور الزراعة وهكذا في غير الزراعة أيضاً. ففي كل أسرة يوجد رجل حكيم عادل منصف فيكون حَكَماً وهي صفة في الانسان من خبرة ودراية وكفاءة وهي ليست وظيفته أما الحاكم فوظيفة يليها الانسان بتعيين من الدولة.
في الحديث الشريف “ما من مسلم (وفي رواية ما من آدمي وفي أخرى ما من عبد) إلا وفي رأسه حُكَمة إذا همّ بسيئة فإن شاء الله أن يقدعخ بها قدعه” ففي كل قضية صراع والانسان يتصارع بينه وبين نفسه فالحُكَمة تمنعه من الضلالة وتمنعه من الجماح للشرّ أو همّ بسيئة وهذا يسمى الخاطر أو منازعة الملك وعندنا ملك مُلهِم أو شيطان موسوس (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) الانبياء) والشر والخير يترجمان إلى عدة حالات منها ملك ملهم أو شيطان موسوس. قال تعالى (يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) حتى يمتنع الظالم عن ظلمه.
والتحكيم غير الحُكم فالحاكم أمره مُلزِم أما الحَكَم فليس ملزِماً.
آيات محكمات: عندنا آيات متشابهات وهي التي فيها أراء مختلفة ويحصل فيها التأويل أما المحكمات فهي التي ليس لها إلا معنى واحداً كقوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وقوله تعالى(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) لم يقل أحد أن الميتة حلال وقوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم) وهي آيات مُلزِمة لا تحتمل التأويل أو الانحراف وإنما لها معنى واحد.
والحِكمة هي إصابة العقل بالحق والعلم.
والحاكم هو القاضي الذس بعد أن أبدع في الحكم وأتمه على أحسن وجه يستطيع أن يفرضه على الخصوم بالنفوذ أو بقوة الشرطة.
قضى: إكمال الأمر على أحسن وجه وعندنا ما يسمى بأدب القاضي واختيار القاضي أعظم وأدق وأصعب بكثير من أن تختار رئيس دولة فيكفي أن يكون رئيس الدولة عادلاً معروفاً وهذه صفات قد يتحلى بها الكثيرون أما القاضي فمن بين كل ألف شخص قد تجد قاضياً صالحاً بالمواضفات التي أرادها الاسلام للقاضي.
القضاء وحده ليس قاهراً وإنما الحاكم هو الذي يقهر (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) يونس) وقد أوجد عمر بن عبد العزيز ديوان المظالم ففي بعض الأحيان لا يمكن أن تُكسب الدعوى بالقضاء لعدم وجود الدليل فينظر ديوان المظالم في الدعوى ويعيد الحقوق لأهلها فديوان المظالم إذن ينظر في القضايا التي ليس لها أدلة ويعجز القضاء عنها لعدم وجود الأدلة مع تأكد القاضي من القضية فهو إذن أي ديوان المظالم رديف للقضاء وكثير من الناس أخذت حقوقها عن طريق ديوان المظالم. وقد أخذت فرنسا بديزان المظالم.
القاضاء ينفذك تعبّداً ولكن الحكم هو الذي يلزمك تنفيذاً. في قصة داوود u في سورة ص (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ {س}(24) ) والقصة أن داوود u لما صار ملكاً خطب في قومه خطاب العرض فأقسم أن يعدل بين الرعية وقال (والله أعدلنّ بينكم) ولم يقل إن شاء الله أو بإذن الله فبعث الله تعالى له ملكين في اليوم الذي كان يتعبد فيه لأنه u كان يقضي يوماً ويتعبد يوماً فدخل الملكان عليه على هيئة بشر وهو في صومعته ففزع منهما كيف دخلا وكان أحدهما على هيئة رجل ضخم متكبر والآخر ضعيف مسكين فقال اللمسكين إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب فلم يسأل داوود الطرف الآخر عن قوله فيما يدّعيه أخوه وتعاطف مع الضعيف المسكين فقال له لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ثم غادر الملكين فعرف داوود u أنهما ملكان وإن هذا اختبار من الله تعالى فخرّ راكعاً وأناب. فحكمه كان خطأ لأنه قضى وهو في حالة خوف أولاً ثم لم يسمع الخصم الآخر وإنما اكتفى بسماع أحدهما.
والله تعالى جعل الميزان شعار القضاء لا يدخل فيه العواطف وإنما يجب أن تكون الكفتان متساويتان (كيلو مقابل كيلو) ولشدة القضاء ولشدة خطورته يوم القيامة فقد أهاب الرسول r بنا أن نُحسن اختيار القاضي بعد الكثير من التحذير من القضاء “من كان قاضياً فقضى بالجهل كان في النار وقاض قضى بالجور في النار والقاضي العادل يسأل الله الكفاف” “من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وُكِّل إلى نفسه” أي قاضي يتوسط ليعيّنوه قاضياً فالله تعالى يكله إلى نفسه ولا يعينه. ولا يجب أن يتقدم إلى القضاء إلا من هو قادر عليه إذا لم يكن هناك غيره قادر على القضاء. أما يوسف u مثلاً فكان واثقاً من نفسه لما طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض ونجح في مهمته أيّما نجاح في أي يعبر المصريون في حينها تلك المحنة الهائلة. فإذا كنت عالماً ورأيت القضاة ظالمين وأن وزير العدل أو الدولة لم يحسنوا اختيار القضاة ولا تجد غيرك في المجال فعليك أن تتقدم للقضاء. والقضاء يشكل وجاهة عظيمة والله تعالى حذّر أن القضاء أخطر ما يجعله ظالماً هو:
1. السلطة السياسية: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) الأحزاب) السلطة السياسية تجعل القضاء ظالماً بتدخّلها فيه والكثير من الدول تجعل الحق باطلاً والباطل حقاً.
2. سلطة الأقارب: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) وفي الحديث:” إلا من عدل وكيف بعدل مع أقربائه”
3. السلطة الدينية: قد تكون منحرفة أو حزبية أو مذهبية أو طائفية وهذا قد يؤثر على قضاء القاضي إن كان المتهم من طائفة أخرى.
ينبغي على أولي لأمر أن يحسنوا اختيار القاضي وعلى الذي يختار أن يتحمل النتائج سلباً إن كان ظالماً فيكون له نصيب من الأجر وإن كان ظالماً كان له نصيب من الإثم. “ليأتينّ على القاضي العدل ساعة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمر”. فالقضاء مصيبة والقاضي يجب أن لا يهمه حاكم ولا مال ولا سلطة وكل ساعة من عمله تساوي عبادة ستين عاماً قيام ليلها وصيام نهارها.
وقانون المحاماة أر مستحدث ولا يمنعه الاسلام ولا يعارضه لأنه يطالب بحق المظلوم ويحقق العدل للمظلومين ويدافعون عنهم والانسان المظلوم عليه أن يرفع صوته لأن رفع الصوت له تساهم في تحقيق العدل (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) النساء). والظلم ظلم القاضي والجور يكون من الدولة التي قد تأخذ ما لدى الناس بالقوة وتستولي على البيوت مثلاً والظلم والجور لا يزولا إلا إذا رفع المظلومون أصواتهم.
ولاية القضاء على نحو من الخطورة وفي الحديث : “ما من حاكم يحكم بين الناس إلا جاءه ملك آخذ بقفاه يرفع رأسه إلى السماء فإن قال ألقه ألقاه فهو في مهواه أربعين خريفاً” وفي رواية فكّه العدل وأسلمه الجور. وبقدر ما للقاضي العادل من مغانم فإن القاضي الجائر يحاسب حساباً دقيقاً “أول من يكرّم يوم القيامة إمام عادل ” و”ساعة من ساعات إمام عادل تساوي صلاة وصيام أربعين عاماً” والعكس صحيح. فالقاضي بين شقيّ الرحى.
وإذا تكلمنا عن وقائع المسلمين في دقة القضاء وجدنا عجباً : دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق فسلّم عليه فلم يرد فخرج عمر وفي طريقه التقى بعبد الرحمن بن عوف فأخبره ما حصل ثم بعد فترة لقي عبد الرحمن بن عوف أبو بكر الصديق فسأله لماذا لم يرد على عمر فقال أبو بكر أتاني وبين يدي خصمان قد فرّغت لهما قلبي وسمعي وبصري وعلمت أن الله سائلي عنهما وعمّا قالا وعمّا قلت. فعلى القاضي إذن أن يسخّر كل سمعه وعقله وبصره للقضاء ولو قرأنا شروط القاضي في كتب القضاء لرأينا عجباً والقاضي العادل والحاكم العادل والفاصل العادل يكون له بعض الأعداء فعليه أن يكون قوياً وكان عمر بن الخطاب يقول ما ترك الحق صديقاً لعمر. فالقاضي عليه أن لا يقبل هدية أو هبة أو عطية من أحد وله هيبة وحرس ويكون من الأنفة والعظمة وحسن الشخصية بحيث لا يجرؤ أحد على أن يعطيه هدية هذا هو القاضي المسلم العادل وإذا كان القاضي صالحاً فالأمة صالحة والله تعالى من أسمائه العدل وبدون عدل لا تنفع أي عبادة والأمة العادلة ينصرها الله تعالى ولو كانت كافرة والأمة غير العادلة يهلكها الله تعالى وإن كانت مسلمة (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) هود ). وعلى الرغم من تدخل السياسة بالقضاء في بعض البلاد إلا أنه في معظم الدول الاسلامية القاضي مستقل عن الدولة. اشتكى أحدهم سيدنا علي بن أبي طالب إلى أمير المؤمنين فاحتكما لديه فقال عمر لعلي قم يا أبا الحسن فاجلس أمام خصمك ثم قضى بينهما فرأى عمر أن وجع علي تغيّر فلما سأله قلت لي قم يا أبا الحسن فكنيّتني وناديته باسمه فلولا ناديتني قم يا علي.
بُثّت الحلقة بتاريخ 17/12/2004م