رفع الحرج في الأمور الدينية:
منظومة رفع القلق والشك في الجدث والفعل في كل مراحل الشعور من ساعة الشعور بالادراك ثم الوجدان ثم النزوع وهي أحاسيس يمرّ بها المؤمن دائماً. ونعيد ما جاء في الحلقة السابقة حيث قلنا أن كلمة لا تثريب تختص برفع العار ولا جناح رفع الحرج إذا تُوهّم إن فعلاً ما حرام، ولا حرج تُستعمل عندما يكون الفعل ضيّق لا سعة فيه، أما لا ضير فتستعمل عندما يمون هناك نقص في الحقوق ولا لوم عكس المطلوب ولا جرم عندما يُتوهّم أن في الفعل اعتداء.
وذكرنا الحرج وهو الضيق والضيْق وقلنا أن رفع الحرج هو قضية كونية تتعلق بأمور الدنيا والآخرة. والحرج هو التصاق الشيئين بحيث لا يكون بينهما مساحة للعمل. وكلما وقف الانسان في الدنيا أمام جدار مسدود فتح الله تعالى له باباً آخر ورفع عنه الحرج. وذكرنا في الحلقة السابقة رفع الحرج في أمور الدنيا ونتطرق في هذه الحلقة لرفع الحرج في أمور الدين مستندين لكتاب الله تعالى وسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
علينا أن نعلم أن هذا الدين كله جاؤ لرفع الحرج عن أي علاقة من علاقات العبد بربّه فما من علاقة بين العبد وربّه تجبر العبد أن يقف أمام جدار مسدود أبداً. ولله تعالى ثلاث إرادات (يريد الله بكم اليسر) و (يريد الله أن يخفف عنكم) و (يريد الله أن يتوب عليكم)، وهذه الثلاثية هي من الارادة لتي لا بد أن تقع فاليُسر والتخفيف والتوبة تعني رفع الحرج. وعدم المؤاخذة هي نتيجة رفع الحرج فعندما يقول الله تعالى (لا جناح عليكم) يعني لا يؤاخذكم.
والله تعالى جعل على الأمم السابقة حرجاً عظيماً بدليل أن الله تعالى لم يتب على بني إسرائيل حتى قتل بعضهم بعضا، أما المسلمون فيكفي أن يستغفروا ربهم ويعودوا إليه فيغفر لهم. ونبي آخر الزمان هو الذي سيرفع عنهم الإصر والأغلال. وشدة القيد ليس من دين الاسلام في شيء وليس من دين أشد سماحة من الاسلام. والدين له وجه واحد والتوحيد هو قضية الأمة المركزية. ولكا أمر شرعي حدّان حد أدنى لا تقربوه وحدّ أعلى لا تعتدوه وبينهما مساحة يتحرك فيهما المسلم فالصلاة مثلاً تكون بين أول الوقت وآخره ولا حرج في ذلك وتخيّل لو أن وقت صلاة الظهر أو غيرها كان محدداً بوقت معيّن كالساعة الثانية عشر مثلاً فهذا بالتأكيد سيكون فيه حرج على المسلمين.
ومن أمثلة رفع الحرج في الدين:
أن الله تعالى خالق كل شيء فماذا لو قال تعالى من لم يتوصل إلى معرفتي فقد هلك بالطبع سيهلك معظم الأمة لأن العارفين بالله قِلّة لا يتجاوزون 1% والمعرفة متدرجة لكن المطلوب من العبد أن يعلم أن الله واحد لا شريك له ويؤمن بذلك يقيناً كاملاً فيرفع الله تعالى الحرج عن العقل البشري عندما يتوجه لعبادة الله تعالى. وأولو الألباب ملوك الجنّة ومن رفع الحرج أن العبد ليس هالكاً ولا يدخل النار إلا شقي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فالمجالات أمامه واسعة إلى حد كبير وكلها مبنية على مبدأ رفع الحرج. والله تعالى يرفع الحرج عن العقل لأنه متفاوت كما قال الشافعي: ” رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” فعلى المسلم أن لا يكفّر أحداً أبداً طالما أنه من أهل القِبلة على ما قد يكون فيه من الاخطاء.
رفع الله تعالى الحرج عن تعامل المسلمين مع غيرهم (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) الممتحنة)
من رفع الحرج أن شرّع الله تعالى لنا بعض الأعمال يغفر لعباده فيها كبير الذنوب والأمثلة على ذلك كثيرة منها “غفر الله تعالى لامرأة بغي بسقيا كلب”.
الزمان يتغير ومن الذنوب ما لم يكن معروفاً في الازمنة السابقة وقد يرفع الله تعالى درجة عبد من عباده يوم القيامة بعمل واحد وقد يُحبط عمله الصالح كله بعمل واحد. وفي زماننا هذا من الذنوب ما لم يكن معروفاً سابقاً وإلا فما ذنب هذا الجيل بالامتحان والابتلاء بالفضائيات والعُري والسفور والربا كما في الحديث الشريف:” لا تقم الساعة حتى يأكل الناس الربا ومن لم يأكله أصابه منه” فمن رفع الحرج أن الحلال والحرام ليسا ثابتين ثباتاً قطعياً من حيث أن حجمه لا من حيث حُكمه ولهذا رُبّ كبيرة لك صغيرة بالنسبة لغيرك. وفي الحديث الشريف: ” أنتم اليوم في زمن لو عمل أحدكم عُشر ما أنزل الله لهَلَك وسيأتي على الناس زمن لو عمل أحد بعُشر ما أنزل الله لنجى” وفي حديث آخر ” أجر العامل منهم أجر خمسين” عمل قليل في عصر قد يساوي عملاً كثراً في عصر آخر وهذا من رفع الحرج.
من رفع الحرج عن الأمة ما عمّت به البلوى على قاعدة إذا ضاق الأمر اتّسع. كانت الشوارع من خمسين عاماً ملسئة بفضلات الحيوانات وكانت هندما تمطر يختلط هذه الفضلات بالماء ولم يكن هناك مهرب من أن يتّسخ ثوب أحدنا بهذه الفضلات النجسة والنبي صلى الله عليه وسلّم قال أن هذا جائز استثناء لأنه مما عمّت فيه البلوى، وكذلك دم البعوض فنحن نعلم أن الصلاة في ثوب فيه بقعة ولو صغيرة من الدم تبطل لكن في البلاد التي يكثر فيها البعوض فلا حرج على المصلّي أن يتم صلاته ولو امتلأ ثوبه بدم البعوض لأنه مما عمّت فيه البلوى. وفي عصرنا هذا عندما يخرج أحدنا في الشارع فلا بد وأن تقع عينه على فتاة شبه عارية والله تعالى رفع عنا الحرج حيث قال (غضوا من أبصاركم) ولم يقل أغمضوا أبصاركم وكذلك الغناء فحيث ما كان المرء يسمع غناءً وهناك فرق بين السماع والاستماع فإذا سمع الانسان الغناء عَرَضاً فلا حرج عليه لكن عليه أن لا يتقصّد الاستماع.
ويمكننا من قاعدة رفع الحرج أن نصل إلى أن الخطايا التي كانت في غير زماننا نسبة حُرمتها أقلّ في زماننا.
من الحرج ارتكاب الكبيرة وأن يموت الانسان وهو عليها. والاسلام يحذّرنا من ارتكاب الكبائر (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) النساء) واستعمال (إن) هنا تدلّ على أن الفعل أقل حدوثاً مما لو استعمل (إذا). ولا بُدّ من أن يقع المسلم في كبيرة في حساته من غيبة أو ربا أو سحر وهو منتشر كثيراً في هذا الزمان فيفتح الله تعالى باب شفاعة النبي صلى الله عليه كما جاء في الحديث:” شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي” وأمتي هي أهل القِبلة فإن مات المسلم على كبيرة وهذا حرج شديد رفعها تعالى بشفاعة المصطفى وإن تاب المسلم من الكبيرة قبل موته فإن الله تعالى يمحُها. ولقد شرّع اله تعالى لنا عبادات تمحق الذنوب محقاً كالاستغفار الشديد كما في الحديث الشريف:” من سرّه أن يرى صحيفته يوم القيامة فليُكثر من الاستغفار”.
رفع الحرج من حيث الطعام والشراب: فالذي كون في صحراء ويصيبه الجوع والعطش حتى يوشك على الهلاك رفع عنه الحرج في أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر للبقاء حيّاً وهذا في الاسلام فقط لأن اليهود حرّموا الأكل والشرب من المحرمات حتى في حالات الضرورة. أما في الاسلام فلا إثم على الذي يفعل هذا لأنه من باب الضرورات التي تبيح المحظورات حتى الكفر فالله تعالى رفع الحرج عن من كفر كُرهاً (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) النحل) (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) المائدة). والضرورة في الاسلام هي قضية حياة أو موت وقد سُئلنا عن بعض المسلمات المجبات في الغرب اللواتي تعرّضن للأذى الشديد وقلنا أنه إذا سبب لها الحجاب الحرج يسقط عنها.
ومن رفع الحرج أيضاً قصر الصلاة في السفر والافطار في رمضان للمريض والمسافر ومع أنه من أفطر يوماً من رمضان عامداً متعمّداً لم يُغنه صيام الدهر كلّه وإن صامه فقد شرّع الله تعالى للمسافر والمريض الفطر ويقال أن الفطر أفضل من الصيام في السفر حتى لو كان السفر مريحاً حتى أن بعض الفقهاء يحرّمون الصيام في السفر.
ومن رفع الحرج أن في الأمة منافقون لكن هذا ليس من شأننا فالفيصل هو القِبلة والله تعالى علّم رسوله صلى الله عليه وسلم مبدأ إحسان الظنّ بالمسلمين جميعاً حتى لو رأيناهم على الذنب كما في حادثة الصحابي الذي اعترف لرسول الله تعالى بالزنى فقال صلى الله عليه وسلم لو سترته بثوبك لكان خيراً لك. فإذا علمنا أن أحد المسلمين أذنب علينا أن ننصحه ولا نعيّره فيما بعد بهذا الذنب كما جاء في الحديث الشريف:” إذا زنت جارية أحدكم فليجلدها ولا يثرّبها” هذا في الجارية فما بالنا في المسلمين؟ ومن رفع الحرج أنك لست مسؤولاً عن أي مسلم مهما كان سلوكه معوجّاً وما يجري الآن من اتهامات بالعقيدة والدين والبدعة مصيبة كبيرة. والخلاف من رفع الحرج عن العقول (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) هود) فالله تعالى خلق الناس مختلفين والاختلاف في الآراء جمال أما أن يسفّه أحدنا الآخر لمجرد إختلاف آرائهم فهذا هلاك يوم القيامة “أحسِن الظنّ بالمسلم وحسابه على الله تعالى” وفي الحديث الشريف:” من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ومن حمى ظهر مسلم حمى الله ظهره يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إليه”.
ومن رفع الحرج أننا لسنا مسؤولين عن كل ما نُحدّث به نفوسنا ما لم نفعله كما جاء في الحديث الشريف:” تجاوز الله لأمتي عما حدّثت به نفسها ما لم تفعل”. وهذا رفع حرج عظيم أن لا يكون المسلم مسؤول عن خواطره.
ومن رفع الحرج أن شرع الله تعالى عبادات شاملة تمحو الذنوب اليومية الكثيرة مثل الغفلة عن ذكر الله تعالى وعدم ردّ السلام أو التقصير في العبادات أو عدم الاهتمام بالجار أو الاهمال في وقت العمل أو استعمال ما يخصّ العمل فيما لا يتعلق بالعمل نفسه وكل هذه الذنوب هي ذنوب خطيرة لكن بفضل الله تعالى شرع لنا بعض العبادات التي يمحو الله تعالى بها هذه الذنوب منها زيارة المريض واتباع الجنازة وقيام الليل وكثرة الاستغفار.
ومن رفع الحرج أن الله تعالى لا يحاسب المختلطين أي أخذ المال من أب أو زوج أو غيره ممن بينهم نسب وصِلة.
رفع الله تعالى الحرج حتى في الحدود بحيث لا تُقطع يد كل سارق أو يُرجم كل زاني ولمنع الحرج قال الرسول صلى الله عليه وسلم:” ادرأوا الحدود بالشبهات” فيجب البحث عن عذر للمذنب ولو كان هذا العذر يمثّل واحداً بالألف لا ينفّذ الحدّ. فالقلتل إن عفا عنه واحد من أهل القتيل يُعفى عنه. فالحدود شُرّعت للتخويف ولم تُشرّع للتطبيق إلا في الحد الأدنى لأخذ العِبرة. وفي خمسة قرون قطعت في الاسلام قّطعت أيدي خمسة أشخاص فقط وفي رواية سبعة.
منظومات رفع الذنوب كلها:
شرع الله تعالى لنا بفضله وكرمه بعض الأعمال التي يغفر بها الذنوب كالذكر ” ذهب الذّاكرون بكل خير يضع الذكر عنهم اوزارهم يوم القيامة فيمرّون على الصراط خفافاً”
· كثرة الاستغفار.
· أسماء الله الحسنى من أحصاها دخل الجنة وأحصاها تعني من قرأها مع معرفة معناها وأسرارها ويفتح الله تعالى على عباده مغاليق باسم من أسماء الله الحسنى.
· قول لا إله إلا الله مئة مرة
· زيارة المريض
· اتباع الجنائز
· بِرّ الوالدين
· صلة الرحم
· الصيام المأثور
· قيام الليل
· المرض فليلة من الصداع تغفر الذنوب جميعا، والحمّى من فوح جهنم وذلك نصيب المؤمن من النّار.
· الحزن والهمّ فإن من الذنوب ذنوباً عظيمة لا يغفرها إلا الهمّ.
بُثّت الحلقة بتاريخ 16/4/2004م