الذهول – الإنشغال – النسيان – السهو – الغفلة
خمس حالات تتعطل فيها الذاكرة فلا تقوم بما ينبغي أن تقوم به من أفعال.
الذهول: تتعطل الذاكرة لوجود حدث مخيف عظيم غير مريح يلهيك عن محبوب فتذهل عنه بحيث تنظر إليه ولا تراه. حرب، قنبلة، فيضان أو أي شيء مخيف جداً يعطّل الذاكرة بحيث لا تستطيع أن تتحرك تحركاً طبيعياً. هذا الذهول يجعلك تنظر إلى من تحب ولا تراه (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) الحج) يذهل عن كل محبوب لشدة الهول. الذهول هو إذن تعطّل ذاكرتك بمن تحب ومن تحب بحيث تنظر إليه ولا تراه.
الإنشغال: إذا كان الحدث محبوباً وهذا الحديث يلهيك عن واجب يسمى إنشغالاً (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) الفتح) واجب جهادي أو ثقافي أو وظيفي أو سياسي أو مادي فشغلك عن أداء واجبك عطّلت ذاكرتك عن وجوب إلتحاقك بعملك (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) يس) منشغلون عن كل واجب وليس في الجنة واجبات ونعيمها المقيم المتكرر يشغل بال أهلها عن كل شيء فهم منشغلون.
الذهول إذن عكس الإنشغال فالذهول بحدث مكروه والإنشغال بحدث محبوب.
النسيان: قانون بشري يمنع التذكّر بما مضى مما ينبغي أن تتذكره. النسيا يشغلك عن شيء مضى ولم تعد تذكره.
السهو: يكون عن شيء حالي أو مستقبلي. الذاكرة تتعطل بالنسيان عما مضى وبالسهو عما هو آت. إذا سهوت عن صلاة العشاء مثلاً (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الماعون) لمن هم تاركوا الصلاة الآن وفي المستقبل. أما النسيان فشيء آخر (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) التوبة) (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) طه) فالنسيان والسهو قانون بشري النسيان يتكلم عن الماضي والسهو عن الحال والمستقبل (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) الذاريات) الآن.
الغفلة: تعذّر الذاكرة عن شيء لم يستقر فيها وليس واضحاً أي إدراكك له ضعيف لا تدرك أهميته وأبعاده فأهملته ذاكرتك لعدم إستقرار صورته وحقيقته في عقلك وفي ذاكرتك (وهم في غفلة معرضون) الحساب قادم وسريع وأقرب ما يكون وحينئذ كل ما مات فقد قامت قيامته، ما إن تموت حتى تبدأ قيامتك ثم يبدأ الحساب من ساعة قيامة قيامتك. من قبل أن تخرج روحك من جسدك يبدأ التعامل معك على أنك من العالم الآخر لأن البرزخ من العالم الآخر (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) الواقعة). كل يوم نرى جنازة تُدفن ولا يخطر ببالنا أننا سنموت إلا من رحم الله عز وجل ولذها فإتّباع الجنائز في الإسلام عبادة عظيمة لأنها تذكرك ولعلك تصحح أخطاءك (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) الأنبياء) (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) مريم) إدراك الموضوع في عقلك يكون معدوماً فهو غافل. (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) الروم). والغفلة أخطر ما تعاني منه البشرية من آدم إلى قيام الساعة. عندما إقتتل إبنا آدم فقتل أحدهما الآخر حتماً القاتل كان غافلاً عن جريمة القتل وعن هول ما يلقاه القاتل يوم القيامة وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة قبل الصلاة والصيام والحج هو الدماء أنه أسال دماً من آخر، هل كان حقاً؟ أو باطلاً؟ فيحاسب على هذا الأساس.
هذه هي منظومة تعطيل الذاكرة.(في مداخلة لإحدى الأخوات المشاهدات سألت الدكتور الكبيسي عن كلمتي السُكارى فأجاب أنهم الذين ضاع عقلهم أو غفلوا (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) وسأل مشاهد آخر عن كلمة النُعاس (فأنزل عليهم من الغم أمنة نعاساً) وسيتحقق الدكتور من هاتين الكلمتين إذا كانتا ضمن المنظومة)
الفتنة مأساة الناس وكل الحروب والمشاحنات والعداوات والجهل والتخلف وكل أمراض البشرية من تحارب طائفي بين الأمم وإقتصادي وعِرقي وكل المعاناة أساسها الغفلة. القيادين الذين بيدهم القرآن غفلوا عن شيء لو أدركوا ما فعلوا ما فعلوه مما جرّوا على العالم من ويلات وأحقاد. إدرك الحقائق متعددة: إدراك الحقيقة المطلقة (الصراط المستقيم، أن الله تعالى موجود) وهناك إدراك زائد عن المطلوب وهذا يسمى التطرّف والغلو وهذا ما تعاني منه البشرية بحيث تزيد على الحقيقة زيادة تخرجها عن أهدافها فبدل أن تكون نافعة تصبح ضارة قاتلة. وكل الديانات تحارب التطرف. الجاهل إما أن يكون مفرطاً أو مفرِّطاً. الإدرك قد يكون زاد عن الحقيقة هو إفارط وقك يكون نقص عن الحقيقة فهو تفريط. والجهل والحمق والغباء والتخلف والبغضاء والهوى إما يجعلك متطرفاً أو مقصراً ولهذا فالإستقامة مطلوبة (قل آمنت بالله ثم إستقم) أي لا تفرّط ولا تفرِط فالإستقامة هي فضيلة بين رذيلتين. شدة الذكاء مكر وقلّته غباء والوسط الحكمة (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) البقرة) وكل فضيلة بين رذيلتين تسمى الحكمة. الذي أصاب البشرية بالعناء والمعاناة هو الغفلة الناتجة عن التعميم بلا دقة في الحكم وهذا هو الطغيان والظلم والجور والحيف ولو تتبعنا ما يجري في التاريخ منذ إبني آدم إذ إقتتلا إلى هذا العصر عصر الحرية كما يُزعم من ألفاظ ثبت أنها جوفاء ومن ضمن العملية التي تؤسس للغفلة لأدركنا أن الغفلة من أبشع ما تعاني منه البشرية.
من مصيبة التعميم وهو غفلة مركبة مثلاً من الناس من يرة في مذهب معين حسنة يعممها على كل هذا المذهب ويزعم أنه ليس في هذا المذهب خطأ وإعتبره مقدّساً يناضل من أجله وآخر يرى هذا في مذهب آخر وهكذا. هذا المنهج يرى نقصاً في المنهج الآخر فيتعتبره باطلاً وعليه أن يحاربه لأنه عمّم جزئية على كل الأجزاء. الصواب يبقى صواباً والخطأ يعمل على إصلاحه أما تعميم الخطأ على صواب كثير أو تعميم الصواب على خطأ كثير فهذا هو التعميم وهذه الجزئية من الغفلة هي التي أصابت العالم بالحروب والخصومات والبغضاء والشحناء كما هو العالم اليوم الذي يغرق في بحر من الدماء في كل مكان نسمع ونرى إما إبادة جماعية أو سجون أو تطهير عرقي أو مجازر أو غيره. وهناك دويلات صغيرة أنعم الله تعالى عليها بالأمن ولا يقاس عليها. بهذا التعميم الناس تكره شعباً كاملاً من الغفلة التي تعمم الحسنات والسيئات. من هذا التعميم القبيح الناتج عن الغفلة يحدث ما يحدث في العالم اليوم حتى أصبح المعروف منكراً وحتى أنكرنا الذي يفعل المعروف والعكس صحيح.
كل ما أصاب الأمة من أول فجرها إلى اليوم أساسه الغفلة (لغافلون) هذه الغفلة أنك لا تدرك الحقائق وإذا أدركتها تدركها إما ناقصة مشوهة عن الحقيقة أو زائدة. من غفلة هذه الأمة إستبداد الإنبهار بها غير القائم على أسس عليمة ولكن من باب العاطفة ينبهر بحاكم أو بشخص لو رآه يقتل لا يشهد بذلك. هذا الذي نحن فيه أساه شدة الإخترق لهذه الأمة. للأسف أمتنا هذه ببساطتها وفطرتها وحياتها غير المعقدة سمى الله تعالى دينها دين الفِطرة ليس فيه تعقيد ولا صعوبة (الله ربنا ومحمد r نبينا والأنبياء رسلنا نؤمن بهم وبالكتب والعبادات الصلاة والصوم والحج والزكاة ونؤمن بيوم القيامة نُبعث وإما جنة وإما نار) هذه البساطة رشحتها لأن تكون العقيدة الثابتة في الأرض حصراً أو بالإجماع. هذه البساطة تركت في المجتمعات فجوة كثيرة فليس فيها هذا المكر كما نجده في المجتمعات الأخرى الماكرة السياسية. الأمة بقيت على نظام شيخ القبيلة أو الرئيس. هذا الوضع جعلها عرضة للإختراق السريع وبسهولة وإختراق غير مرئي ولكنه شامل وفي غاية الإتقان وأذكر منذ كنت طفلاً في الفلوجة وُزّعت ورقة أن أحداً رأى النبي r في المنام وطلب منه أن بلغ أمته كذا وكذا وهذه الورقة رأيتها لما ذهبت إلى مصر وهي تظهر بين فترة وأخرى بنفس الصيغة مطبوعة على نفس الورق وما زالت توزع إلى الآن في نفس الشهر في كل عام في أنحاء الأمة الإسلامية وطوال هذه الفترة لا أحد يعرف من الذي يوزعها ومن يطبعها مع أنها على نفس الحرف الطباعي. وماذا يريد من يوزعها أن يقول؟ هذه الأمة في كل زاوية وكل شارع هناك شخص واحد عنده عشرة يعتمد عليهم إعتماداً كاملاً هذا الواحد عنده إشاعة يعطيها لهؤلاء العشرة فتتنشر في كل البلاد.فالأمة مخترقة إلى هذا الحدّ.
في الجانب السياسي كلما هبّت الأمة على رأس كل مئة عام يأتي من يحاول إصلاحها وتصلح في الغالب. القوى تهيّأت لكل هبّة إصلاح حتى تحولها إلى فوضى, في الأربعينات هبّت الأمة تنادي بالحربة وتطالب قوات الإحتلال الأجنبية المستعمرة للبلاد بالرحيل وصارت ثورة شعبية عارمة وعلى غفلة ظهر أناس يساريون شعارهم الحرية للأمة إنتشروا في العالم العربي في العراق وسوريا وليبيا ومصر وغيرها. هذا الواحد مع العشرة مرتبطين بأمره والباقي من شباب محبين لأوطانهم لكن في غفلة من الذي قادهم؟ لا يعرفونه! على مدى ثلاثين عاماً سيطروا على الأمور وقتلوا الناس وسجنوهم وعذبوهم ما يقرب من ثلاثين عاماً أفسدوا الحرث والناس إلى أن إنتهت صرخة الحرية فاختفوا إختفاء كاملاً. وجد الناس أنفسهم مثقلين بالجراح في كل مكان. هذه الهبّة الوحدوية إنتهت. بعد أن هدأ الناس من هذه الحالة الرهيبة. كل من عداهم وليس منهم فهو رجل رجعي ليس منهم أنكروا الدين والعروبة والقومية وكانوا مع الشيوعية فقط. إنتهوا من الأرض أفاق الناس بعد سنوات في الستينات نهوضاً جديداً يبحثون فيه عن الوحدة العربية وصارت محاولات وعلى حين غفلة ظهرت جماعة قومية عربية وحدوية شعارها أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وصدّق الناس وإنتشرول وإستلموا الحكومات فقادوا الناس ثلاثين عاماً ومزقوا كل شيء فالشرطي يصير وزير دفاع والأميّ يصير وزير تعليم عالي ولم يعد لشيء قيمة. الذين قبلهم كانوا يطلقون على الذي يخالفهم رجعي أما هؤلاء فيقولون علة كل من خالفهم عميل فأوصلونا إلى ما نحن فيه الآن. الفكر القومي الوحدوي إنقلابات، جمهوريات، إضطراب، صحافة، إتهامات وقسموا الثروة بينهم ولم يبق لشيء قيمة وهذا ما نحن فيه. كيف إنتشروا هكذا؟ من غفلتنا لم نسأل أنفسنا هذا السؤال. الناس تبحث عن بديل هذا الإحباط والتمزق الذي فيه أمتنا ومن الطبيعي أن يلتفتوا إلى الدين الذي جعلهم عظماء التاريخ لأن الدين لا شائبة فيه وعلى حين غفلة ظهرت جماعة شعارها الكتاب والسُنّة فإنطلقوا وإستولوا على هذه الهبّة الإسلامية والفكر الإسلامي. الثلاثة إيدولوجيات ترفض الآخر رفضاً كاملاً لأنه آتيت وقادمة لا محالة فالفئة الأولى من عاداها فهو رجعي والثانية من عاداها فهو عميل والثالثة من عاداها فهو مشرك يستحق القتل. المشكلة أن اليساريين هم الذين حملوا القومية والقوميين هم الذين حملوا الحملة الإسلامية هذه. يُقتل العلماء الآن في العراق لأنهم يصلون على النبي r بعد الأذان مباشرة بحدة أنها بدعة. يحملون الفتاوى ويقتلون كل يوم بالعشرات هذا الذي يجري في العراق من المسلمين أنفسهم بعضهم يحرق مساجد الآخ ويحرق مصحفه ويفعل بالآخر ما لا يفعله بعدوّ÷. هم يريدون أن تعم هذه الفوضى العبقرية بين الدول الإسلامية كلها. الغفلة أن تعمم الخطأ اليسير على الكل بنوع من الجهل والحمق. أنت تصلي والآخر في قبلة واحدة وتطوف الكعبة معه ومختلف معه في حكم فلان هذا الخلاف البسيط الذي لا تؤمن به إلا قلة قليلة من هؤلاء ومن هؤلاء بدأ التطهير العرقي بينهم. هذه الغفلة كل آيات القرآن تقول غير هذا (من قال لا إله إلا الله عصم نفسه). بعد أن يهلكوا كل شيء تأتي المرحلتان الشنيعتان يحدث ما أخبره الرسول r عن يأجوج ومأجوج ومرحلة القنابل الجينينة (قنبلة تقتل جينات معينة) في حديث ” لا تقوم الساعة حتى تنفجر فيكم غمامة سوداء مثل الترس تنتشر وتقبض أرواح المسلمين فقط”. والله تعالى غالب على أمره (حتى إذا إستيأس الرسل).
علينا أن نلجأ إلى الله تعالى والإستغفار “من لزم الإستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب” فعلينا أن نكثر من الإستغفار بكشف الكرب. الله تعالى ما جعل داء إلا وجعل له دواء. والمؤمن كيّس فطن لا ينبهر. ومن الحصانات ضد الغفلة الإكثار من صلاة الليل في الثلث الأخير والإستغفار والسير وراء الجنائز.
بُثّت الحلقة بتاريخ 3/3/2006م