الحروف في القرآن الكريم, حرف الصاد

حرف الصاد – منظومة الصبر

اسلاميات

منظومة  الصبر

الصبر – الحلم  – الصوم – العِفّة – القناعة – كظم الغيظ – العفو

ما من كلمة ترددت في كتاب الله عز وجل بالكثرة التي ترددت فيها كلمة الصبر وأصبح من البديهي عند المسلمين بل وعند الناس جميعاً أن الصبر هو مقياس كل خير في صفات الإنسان. والنصوص في كتاب الله وسنة رسوله على فضيلة الصبر تجعل من هذا الصبر هو المعول عليه يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام (الصبر معوّل المؤمن) إذا ضعف عملك وكثرت خطاياك ثم وهنت قواك في طاعة الله عز وجل ثم ضاقت بك السبل يوم القيامة فإن الصبر هو المعوّل عليه. فإذا جاء في صحيفتك موقف واحد فيه صبر على بلاء واحتسبته لله ولم تشكوه لعوّادك ولم تدعو غير الله في كشفه فإن هذا الموقف وحده كافٍ لأن يرفع درجاتك حتى لو كبت بك كل أعمالك ما لم تكن مشركاً. هكذا هو الصبر (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ 46 الأنفال) فالصبر شطر الإيمان، فكل هذا الدين شطر والصبر وحده شطر كامل. وكما جاء في الحديث (الصبر أول العبادة). والكلمات التي ربما تتجحفل مع كلمة الصبر بشكل أو بآخر مع شيء من التجوز هي الصبر والحلم والصوم والعفة والقناعة وكظم الغيظ والعفو، كلها بحاجة إلى قوة نفسية لأن تفعلها. لأن تكون حليماً أو أن تعفو عن من ظلمك أو أن تقنع بقليل مع وفرة الكثير مع استطاعتك أن تأخذ الكثير وأن تكون عفيفاً عما في يد غيرك مع إمكان الحصول عليه وأن تكظم غيظك مع قدرتك على العقاب كل هذا بحاجة إلى طاقة هائلة من نوع من أنواع الصبر لكي تتصف بها أن تكون قانعاً (وأطعموا القانع والمعتر)، أن تكون عفيفاً (ومن كان غنياً فليستعفف)، كظم الغيظ أن تكون ذا نفوذ أو ذا وجاهة ثم يعتدي عليك معتد حتى يثيرغضبك إلى ما لا نهاية ومع ذلك لا يصدر منك أي ميل إلى الإنتقام. وهكذا هي المنظومة التي يعرف بها الرجال الجبال ولهذا الصبير هو الجبل مأخوذ من الصبر لأنه لا يتزحزح. والصبير في لغة العرب زعيم القوم ولا يكون الزعيم زعيماً إلا إذا صبر على قومه وصبر على تحقيق مصالحهم وصبر على العفو عن مسيئهم وقد رأينا بعض الزعماء على قلّتهم يفعلون ذلك.

الصبر: وعكسه الجزع إما أن تكون صابراً أو جزوعاً، وهو احتمال موقف مؤلم وشاق لا إرادة لك فيه في تلافيه. والفرق بين كونك حليماً وكونك صابراً أنك أنت حليم باختيارك، ممكن أن تتلافى هذا الذي جرى، لكن أن تكون صابراً وقع عليك موت أو بلاء، فالحليم نوع من أنواع الصبر التي تتفوق على مطلق الصبر، صبر اضطراري. ولهذا قال الله تعالى (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ 186 آل عمران) وفي موقع آخر (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ 43 الشورى) ففي الآية الأولى يدل على أن الصبر سهل لأنه اضطراري لأن لو افترضنا وفاة ابن شخص ما ليس لديه حل آخر غير الصبر فالجزع لن يفيده بشيء، كلما ازداد جزعه قلّت قيمته، لا بأس أن يبكي لكن لا يجزع، جاءك مرض، غرقت تجارتك ماذا تفعل؟ ولذلك ذكر (من عزم الأمور)، أما في الآية الثانية ذكر الله (لمن عزم الأمور) إذا ظلمك أحد الناس وأنت تستطيع أن تجابهه ولم تفعل إن ذلك لمن عزم الأمور. لأن من تعرض للظلم من أحد الناس وهو يستطيع أن يجابهه ولكنه يعفو عنه باختياره وأجّل العقوبة فهذا هو لمن عزم الأمور،. وهذه طاقة هائلة أشد من طاقة الصبر على مصيبة لا تستطيع دفعها، واحد مات ابنه وواحد في مجلسه وجاء من اعتدى عليه فلم يفعل شيئاً وعفا عنه هذه (لمن عزم الأمور) أكّدها باللام نظراً لأن وقعها على النفس عندما تكون حليماً أشد من وقعها عندما تكون مجرد صابر على قضاء وقدر. ويقول ابن القيم في مدارج السالكين أنه سأل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صبر سيدنا يوسف عليه السلام في الجب فقال كان صبراً اضطرارياً ولكن الأعظم من ذلك صبره في السجن وعلى مراودة زليخة فدخل السجن باختياره. فالصبر عكسه الجزع والحلم عكسه السفه (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ 75 هود) ورب العالمين حليم لأنه يؤخر العقوبة (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى 45 فاطر) وهذا من حلم الله عز وجل.

الصوم: احتمال الامتناع عن مطلوب مشروع (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا 26 مريم) فالكلام من حقك ولكن تصبر على عدم الكلام فهذا صوم. كذلك الطعام والشراب ولكن تصبر على عدم الأكل والشرب فهذا نوع من أنواع الصبر، هو الصوم والصوم عكسه الإفطار.

العِفّة: وعكسها الطمع (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ 33 النور) هذه العفة أنك تعف عما في يد الآخرين مع إمكان أن تحصل عليه. ولهذا كل شهوة تستطيع الحصول عليها وهي مما ترغب بها النفس ولكنك تتركها لمعانٍ سامية تسمى عفة. في الجاهلية بعض الرجال كان يسمون بالعفان أو العفيف كأبو عثمان بن عفان رضي الله عنه وهذا لقب يلقب به لأنه حرّم الخمرة والنساء على نفسه رغم شيوعهم في الجاهلية من باب عفته ومروءته وشعوره بالكرامة وحسن الخلق الرفيع لأنها لا تليق به.

القناعة: فأنت عندك القليل وتستطيع أن تحصل على الكثير ولكنك تقنع وتقبل بالقليل (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ 36 الحج) عندما تذبح الذبيحة تعطي القانع والمعتر، والقناعة عكسها الشره (لو كان لابن آدم جبلان من ذهب لتمنى الثالث).

كظم الغيظ: والكظم عكسه الإنفاذ، فشخص أغيظ وأغضب غضباً شديداً فإن أنفذ غيظه فهو من حقه لأن الآخر معتدي عليه ولكن إن كظم غيظه كما قال تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 134 آل عمران) فكظم الغيظ أنك أنت لا تتعجل الانتقام ولا تهيج برغم ما في داخلك من غليان ومن ثورة الغضب ولذلك وصف الله الذين يفعلون ذلك (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 35 فصلت) من يفعل هذا إلا عظماء الرجال، الجبال التي تمشي على قدمين؟ ويقول الله عز وجل في الحديث القدسي (من كظم غيظه من أجلي وهو قادر على إنفاذه كان حقاً علي أن أملأ جوفه رضىً يوم القيامة) وهذا لا يفعلها إلا قلة، الأنبياء ، الصديقون وبعض الرجال العظماء.

العفو: هو الخطوة الثانية بعد الكظم. رُبّ رجل يكظم غيظه الآن لكي يهدأ بعد شهر، بعد يوم، بعد ساعة لكي يتعامل مع الذي أساء إليه بالعدل فالغضب يجعلك تفقد التمييز ولهذا الظلم وليد الغضب، فالرجال الرجال هم الذين يكظمون غيظهم إما أن يحاسب المذنب بعد يوم أو يومين بعد أن يهدأ غضبه لكي يحاكمه بالعدل وإما أن يعفو عنه. وفي الأثر أن جعفر الصادق أحد خدمه قدم له الطعام وكان ساخناً فسكبه عليه فسيدنا جعفر لزم الصمت فأراد الخادم أن يستثمر هذه الواقعة فقال له: أما وقد كظمت غيظك فإن الله يقول (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال: عفوت عنك قال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال:أنت حر لوجه الله. معنى ذلك أن الرجال يتفاوتون في هذا فعندما تكون من هؤلاء الجبال التي تمشي على قدمين درجاتك ترتفع بقدر نوعية كظم غيظك لأن كظم الغيظ أنواع على الهمم الداخلة فهناك من يكظم غيظه في الساعة ثم في اليوم الثاني يعاقب المذنب ويعاقبه بعدل وهذا من حقه ومنهم من لا يعاقبه ويعفو عنه وهذا أعظم ومنهم من يكافئه وهؤلاء من الكبار الكبار جداً الذين يتفوقون على أنفسهم هؤلاء موفّقون في كل ما يفعلون (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).

هذه هي منظومة الصبر وكل واحد منها تعطي نوعاً من أنواع هذا الصبر الجليل الجميل الذي هو يوم القيامة إذا جئت به وحده كفاك لأنه لا يمكن أن تكون صابراً إلى هذا الحد وحليماً وقنوعاً وعفيفاً وكاظماً للغيظ إلا وأنت رجل رضي الخلق، واسع الصدر، معطاء، كريم، سخيّ، عادل بين قومك، تغفر الزلة، تكتم الخطيئة، تستر على قومك وأصدقائك وأهلك، فأنت نوع من أنواع الملائكة الذين يمشون على الأرض فلهذا يوم القيامة أنت من ملوك الجنة لأن ملوك الجنة يوم القيامة يختارهم الله عز وجل ليس على أكثرية الصلاة أو الصيام أو الحج بل أكثرهم مهابة ورجولة وفضلاً وصبراً أي وجهاء الرجال يوم القيامة هم وجهاء الناس في الدنيا ولا يكون الوجيه وجيهاً في الدنيا إلا إذا كان صابراً حليماً مبتسماً لا يعجل العقوبة ولا يعجل الغيظ وقنوعاً وعفيفاً فإذت اجتمعت هذه الصفات في عبد ولا يكون العبد صابراً إلا ويكون أواباً (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ 44 ص) ولا يكون أواباً إلا وهو في قمة الخلق. يقول النبي صلى الله عليه وسلم (أقربكم من مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا) (إن الرجل يكتسب بحسن خلقه يوم القيامة أكثر مما يكتسب الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر والمجاهد الذي لا.يضعف) الرجل الرجل في الدنيا هو الرجل الرجل يوم القيامة. ولذلك ابتلاء الناس بعضهم لبعض قانون من قوانين هذه الأرض كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا 20 الفرقان) هذه الابتلاءات بين الحاكم والمحكوم، وبين شريك وشريكه، بين جار وجار، وبين زوج وزوجة، وبين موظف ومراجع، هذا من قوانين الكون والناس يتفاوتون في التعامل مع الآخر. وفي هذا التفاوت مع الآخر يكون الميزان يوم القيامة ليس بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن أبي بكر الصديق (ما سبقكم أبو بكر بكثرة صيام ولا كثرة صلاة ولكن بشيءٍ وقر في قلبه) عفوّ، يخدم الغير، معطاء، سمح، عفيف، قانع، شجاع، الشجاعة نوع من أنواع الصبر صبر على الإقدام. فإذا كنت من أصحاب المروءات في هذه المنظومة فأنت من ملوك الجنة حتماً.

تعريفات الصبر من صالحي هذه الأمة:

يقول الزبيدي رحمه الله صاحب كتاب تاج العروس عن الصبر أنه حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش، فلا تجزع عندما تصيبك مصيبة والجزع هو شدة الانهيار فتلطم وتشق ثيابك وتصرخ فهذا جزع فالصبر أن تحبس نفسك عن الجزع فلا تجزع عند المصيبة، ولسانك عن الشكوى بحيث أنك لا تشتكي لأحد مصيبتك وحبس الجوارح عن التشويش وهكذا.

والصبر الجميل أي بدون شكوى وهجر جميل أي بدون مصارمة والصفح الجميل أي بدون عتاب. ذو النون يقول عن الصبر هو السكون عند تجرّع البلية أي عند الصدمة الأولى. وآخر يقول الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وآخر يقول الصبر إلزام النفس الهجوم على المكاره، كأن تصوم في يومٍ حار جداً أو أن تدخل في حرب مستعرة أو أن تتوضأ بماء بارد في يوم شديد البرودة، فكل ما تكرهه نفسك وهو يرضي الله عز وجل فتفعله يعتبر صبراً. عمرو بن عثمان يقول: الثبات مع الله وتلقي بلائه بالرحب والسعة، ويقول الخوّاص الصبر هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة، كل حركة وسكنة ميزانها الكتاب والسنة. ويقول أيضاً الصبر هو أن ترضى بتلف نفسك في رضى من تحب وأكبر مثال على ذلك عروة بن الزبير وكان يسمى عروة الصابر فقد ابتلي بابتلاءات عظيمة: قطعت يده، وذهبت عينه، واحترقت داره، وفقد ابنه، فكان كل يوم في بلاء ولذلك سمي عروة الصابر وقد كان يقول (وعزتك يا ربي وعزتك وجلالك لو قطّعتني إرباً إرباً ما شكوت منك ولو ألقيتني في النار ما شكوت منك)، هذا أتلف نفسه في سبيل من يحب بلغ عشقه لله عز وجل هذا المبلغ. ويقول الحريري الصبر هو ألا تفرّق بين حال النعمة وحال المحنة (في سكون الخاطر).

مراتب الصبر: مراتب الصبر خمسة: صابر ومصطبر ومتصبر وصبور وصبار.

  1. فالصابر كل من يصبر على أي شيء فكل من له شيء من الصبر يسمى صابراً وأنواع الصبر لا حدود لها (الصابرين والصابرات).
  2. المصطبر الذي يكتسب الصبر بالابتلاء أي أنه تعلم الصبر من كثرة ما ابتلي من بلايا متعددة.
  3. المتصبّر الذي يكلّف نفسه الصبر فهو في الحقيقة ليس صابراً ولكن في موقف ما أجبر نفسه تماماً على الصبر فيسمى متصبراً، كما في الأثر العلم بالتعلّم والحلم بالتحلّم والصبر بالتصبّر.
  4. الصبور هو من أصابته مصيبة واحدة ولكنها كبيرة ورهيبة من حيث الكيف بحيث تنخلع لها القلوب فصبر على هذه المصيبة وهذه المحنة التي قل من يصبر عليها فيسمى صبوراً.
  5. الصبّار (كمّ) قال تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ 5 إبراهيم) وهو من يتعرض للمحن بشكل دائم وكثرة المحن في حياته متعددة وقد صبر عليها جميعاً فهو صبار.

ومعظم الناس في هذا الزمان من الصبّارين لأن الناس في هذا الزمان المحن عليهم كثيرة سواء في الفرد أو في الأمة أو في قومه أو محنة اقتصادية ووظيفية وصحية وأمراض العصر الرهيبة. فالبلايا في هذا العصر كثرت وكأن الله عز وجل يريد أن ينقي هذه الأمة من خطاياها لأن هذه البلايا أعجوبة العجائب ما تذر العبد وعليه خطيئة ويأتي يوم القيامة بلا ذنب لشدة ما يرحم الله الناس (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ 143 البقرة) ومن رأفته ورحمته بالناس أن أي بلاء بسيط قادر على أن يكفر ذنوباً. وكما جاء في الحديث أن ليلة من الصداع والمليلة – الحمى الشديدة التي تصل إلى العظم – كفيلة بأن يغفر الله بها ذنوبه فأي كرم هذا؟!. ومن الأحاديث النبوية عن الصبر قوله صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خير يصب منه) وقال أحد الناس للرسول أنه لا يمرض فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (أوَ أملك أن الله لا يحبك)، وقال صلى الله عليه وسلم (الحمى من فيح جهنم وذاك نصيب المؤمن من النار) (ما رزق الله عبداً خيراً له ولا أوسع من الصبر) عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار مريضاً فأكبّ عليه فسأله فقال:يا رسول الله ما غمضت عيني منذ سبع ولا أحد يحضرني فقال عليه الصلاة والسلام: اصبر يا أخي اصبر حتى تخرج من ذنوبك كما دخلت فيها ساعات الأمراض يُذهبن ساعات الخطايا)، وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أُريك امرأة من أهل الجنة فقلت: بلى قال:هذه المرأة أتت النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله إني أصرع فادعوا الله لي أن يشافيني قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك قالت: أصبر. فإذا رأيت أي مبتلى يقول الحمد لله ولا يجزع ولا يلطم ولا يشق ثيابه ولا يشكو الله لعواده فاعلم أنه من أهل الجنة. وإذا أن تعرف رجلاً من أهل الجنة فزُر مريضاً لا يشكو من الله عز وجل واعلم أنه من أهل الجنة فليدعو الله لك فإذا دعا لك الله يُشفّعه فيك. من أجل هذا جاء النص على عظمة العبادة التي تتمحور حول المرضى في زيارتهم في علاجهم في الدعاء لهم والرفق بهم فإذا زرت مريضاً لوجه الله عز وجل من غير نفاق أو طمع فيما عنده ثم دعا الله لك فاعلم أنك نجوت، كما في الحديث ثلاث مجالس العبد فيه على الله ضامن ومنها مجلس مريض، هذه الجنة الأعجوبة التي هي أمنية الأماني أحياناً تراها أقرب من نفسك وأحياناً تراها بعيدة نسأل الله العافية. عن عطاء بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا مرض العبد بعث الله ملكين فقال: انظروا إلى عبدي ما يقول لعواده فإن هو إذا جاءوه حمد الله وأثنى عليه رفع ذلك إلى الله وهو أعلم به فيقول الرب عز وجل: لعبدي عليّ إن توفيته أن أدخله الجنة وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وأن أكفِّر عنه سيئاته) وفي حديث آخر (من صُدِع رأسه في سبيل الله فاحتسب غفر له ما كان قبل ذلك من ذنب)، في سبيل الله: أي أثناء أدائك لعبادة كصوم أو صلاة أو حج أو حرب أو في قراءة العلم أو تعليم الناس. عن فاطمة الخزاعية قالت عاد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من الأنصار وهي وجعة فقال لها: كيف تجدينك؟ قالت:بخير إلا أن أم ملدم-تكنى بها الحمى-قد برحت بي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصبري فإنها تذهب خبث ابن آدم كما يذهب الكير خبث الحديد. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (من وُعِك ليلة فصبر ورضي بها من الله عز وجل خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). ويقول الله عز وجل (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157 البقرة) هذه الصلوات أن الله يرضى عنه ويعافيه ويؤجره في الدنيا والآخرة والرحمة فكل هذا الفوز بوعك ليلة قال فيها الحمد لله ولم يشكو ولم يبكي. الأمراض أنواع ومن المنصوص عليه من الأمراض التي تجعل صاحبها ملك من ملوك الجنة يوم القيامة من ابتلاه الله بعينيه أو بأحدهما ويقول أنس رأيت أصحاب النبي r يبكون يودّون أن تذهب أبصارهم لشدة ما سمعوا من الرسول r أن الأعمى يوم القيامة في هذا المكان الرفيع، ففي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة) وفي حديث آخر (من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرضى له ثواباً دون الجنة). (لا يذهب الله بحبيبتي عبد فيصبر إلا أدخله الله الجنة) (يقول تعالى إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً إلا الجنة) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما ابتلي عبد بعد ذهاب دينه بأشد من ذهاب بصره وما ابتلي ببصره فصبر حتى يلقى الله لقي الله تبارك وتعالى ولا حساب عليه) (لن يبتلى عبد بشيء أشد عليه من الشرك ولن يبتلى عبد بشيء بعد الشرك بالله أشد عليه من ذهاب بصره ولن يبتلى عبد بذهاب بصره فيصبر إلا غفر الله له) (من أذهب الله بصره واحتسب كان حقاً على الله واجباً ألا ترى عيناه النار). عن أنس قال:عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام قال عن ربه تبارك وتعالى قال: (يا جبريل ما ثواب عبدي إذا أخذت كريمتيه إلا النظر إلى وجهي والجوار في داري) قال أنس فلقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبكون حوله يريدون أن تذهب أبصارهم. ذهاب البصر من أشد البلاء.

ومن الأحاديث التي تتكلم عن الصبر على عموم البلاء: (إن العبد إذا سبقت له المنزلة عند الله فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبر على ذلك حتى يبلّغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل) الله تعالى يقول فلان مكانه في الجنة فلنا ترى أعماله لا تجدها توصله إلى مكانته فحتى يستحق هذه المكانة وليس عنده عمل يبتليه الله تعالى ليصل إلى تلك المنزلة، من هذه العوائل التي عندها معاق تصبر عليه أو الصبر على البلاء في الأموال والأنفس. الله تعالى يغفر لهذه الأمة رغم أنوفها. (المصيبة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه يوم القيامة) ومن يقول إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة غفر الله له كل ذنوبه وكلما تذكر هذا المصيبة حتى ولو بعد عشر سنين أو أكثر وأحدث لها استرجاعاً وقال إنا لله وإنا إليه راجعون يعطيه الله من الأجر والثواب مثل ما أعطاه أول مرة فأي رصيد هذا يوم القيامة! الله تعالى أعطانا عبادات هائلة وأرصدة نحن عنها غافلون ولهذا قال r: لا يدخل النار إلا شقي، (إذا أحب الله عبداً أصاب منه). عن أنس بن مالك قال: أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشجرة فهزها حتى تساقط ورقها ما شاء الله أن يتساقط ثم قال: “للمصيبات والأوجاع أسرع في ذنوب ابن آدم مني في هذه الشجرة”. فما أن تصاب بمصيبة أو وجع حتى تتناثر ذنوبك كما تتناثر أوراق هذه الشجرة اليابسة. قال صلى الله عليه وسلم (إن الصداع والمليلة لا تزال بالمؤمن وإنّ ذنبه مثلُ أُحُد فما تدعه وعليه من ذلك مثقال حبة من خردل) وهذه الأمة صابرة وكما قال رب العالمين لسيدنا عيسى قال: (يا عيسى سوف أخلق أمة تصبر على الذنب وتصبر على المرض وتحتسب ذلك لله عز وجل…).

وفعلاً هذه الأمة من الأمم القليلة التي تحتسب هذا لله. فهذه الأمة هي الأمة الوحيدة من بين جميع الأمم التي كلما أصابتها مصيبة حمدت الله وصبرت. وقال صلى الله عليه وسلم (إن العبد لتسبق له المنزلة عند الله فلا يبلغها بعمل فيسلط الله عليه الحزن ليبلغها بذلك). قال علي بن أبي طالب كرم الله وجه (الصبر، صبر على البلاء وصبر على الطاعات وصبر عن المعاصي) الصبر على البلاء كما قال تعالى (الصابرون في السراء والضراء وحين البأس) وهو أرقى أنواع الصبر باعتباره مؤلماً وهناك الصبر على الطاعات لأنها شاقة تحتاج ثبات وتحتاج صبر (وما يلقاها إلا الذين صبروا) ومن العبادات التي تحتاج إلى صبر التي يتبشبش لهم الله تعالى، من هذه العبادات: قيام الليل كمثل من لديه فراش بارد وزوجة حسناء فيتركهما ليقوم ويصلي لله يقول تعالى: (انظروا لعبدي قام يتملقني ولو شاء لرقد) أو من كان في سفر بعيد وتعب شديد فالكل نام من شدة التعب إلا رجل فَضّل القيام للصلاة على النوم والراحة، رجل في معركة كل أصحابه تركوا لأن المعركة حامية الوطيس وهو قال لا أنسحب حتى يقثتل أو ينتصر (انظروا لعبدي صبر لي بنفسه) وهكذا.الأمهات هم ملكات الجنة فالحمل والولادة والإرضاع والحيض والنفاس لا يبقي على المرأة أي ذنب والأم أجرها يوم القيامة يكون عظيماً من ناحية صبرها على الزوج وعنجهيته وصبرها على الأولاد وتربيتهم، قال صلى الله عليه وسلم (كفى بالمرء إثماً أن يُضيّع من يعول) فما من ذنب أعظم من أن تضيع أمر طفل أو من تعول وإن كان التضييع معنوياً أو تربوياً أو تعليمياً، وإن امرأة دخلت النار في هرة لم تطعمها فكيف بطفل؟ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم (إن من الذنوب ذنوباً لا يغفرها إلا الهمّ للعيال) بعض ذنوب الرجال كبائر يغفرها الله تعالى باهتمامه بأطفاله. الحزن سُنّة أما الجزع فهو الذي لا ينبغي أن يكون للمسلم. وفي الأثر أن في يوم من الأيام كان في حصار على المسلمين في فلسطين وكان الضغط شديد على المسلمين من أعدائهم وكانت الحراسة في أحد الليالي على عبدالله بن المبارك وكانت ليلة شديدة البرودة والمطر منهمر وكان في غاية الجوع هو ومن معه في المرابطة، فكان الرجل الآخر الذي كان مع عبد الله بن المبارك فرح لما سيكون لهم من الأجر لأنهم مرابطين فقال لعبدالله: يا عبدالله هل هناك على وجه الأرض الآن من هو أفضل منا عبادة؟ فقال عبدالله بن المبارك: نعم قال: من أفضل منا ونحن مرابطون؟ قال: أفضل منا رجلُ نام في الليل فانكشف عياله فقام فغطّاهم. رجلُ له صبية قد انكشفوا من الليل فقام فغطاهم هذا أفضل من المجاهدين ومن كل العبادات. همّ العيال في هذا الزمان كبير ونحن في زمن القابض على ذينه كالقابض على جمر نسأل الله العافية.

الصبر عن المعاصي بأن يجاهد الإنسان نفسه لكي لا يقع في المعاصي رغم ما يتعرض له الإنسان من إغراءات الدنيا وضغوط الحياة كما حدث مع سيدنا يوسف عليه السلام امرأة جميلة أميرة تمزق ثيابه ولكنه قال لا إني أخاف الله رب العالمين فكم شخص يفعل هذا؟ وكذلك الغيبة هذه الغيبة الرهيبة كم شخص يدافع عن عرض أخيه المسلم في مجالس الغيبة ويمنع الناس عن ذكره بالسوء؟ قليل لأن أغلب الناس ينساقون وراء المعاصي فالصبر على المعاصي من أعظم أنواع الصبر. ما من بلاء إلا ويثاب الإنسان عليها وكل من تصيبه مصيبة حتى الشوكة يشاكها يكفر الله من خطاياه ولكن من صبر ولم يجزع هؤلاء هم أصحاب الرفع والدرجات العلى، وقد يسبق أحد الآخر في الجنة بصبره على مصيبة أصابته وليس بعمله.

ويقول الله سبحانه وتعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا 132 طه) الصلاة في حدّها الأدنى تكبيرة الإحرام، الفاتحة ومجرد ركوع وسجود والتحيات وتسليمة واحدة تكفي لاسقاط الفرض لكن الصلاة التي ترتقي بها يوم القيامة هي التي تصطبر عليها. فالله عز وجل يريد من الناس أن تكون صلاتهم مما ترفعهم يوم القيامة وليس فقط إسقاط فرض وهذا النوع من الصلاة بحاجة لأن يصطبر عليه الإنسان وأن يعلم نفسه الصبر عليها. عروة بن الزبير كان عندما يصلي من الليل يقف الحمائم على رأسه تظنه عمود لشدة سكونه. ولهذا الصلاة إذا كملت منك واصطبرت عليها تكون من أعظم الصابرين لأن هذا صبر على الطاعة. وهذه هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، الأذان، الإقامة، المسجد، الخشوع في الركوع والسجود والوقوف بين يدي رب العالمين هذه هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.

هناك صبر صغير وصبر كبير وصبار وصبور وحينئذٍ علينا جميعاً أن نتزود من هذه العبادة العظيمة التي هي المعول عليها يوم القيامة قال الله تعالى (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ 156 البقرة) لم يقل سليهم أو أكرمهم بل بشرهم وحينئذٍ نحن مع هذا الكرم الإلهي فيض الحنان من الحنّان المنّان فمن الذي يدخل النار إلا شقيّ. سئل بن عيينة أيهما أعظم الصبر أم الشكر؟ فقال:إن الله سبحانه وتعالى ذكر أيوب عليه السلام صابراً ووصفه بأنه أواب وكذلك وصف سيدنا سليمان عليه السلام بأنه أواب فهذا صبرٌ وهذا شكرٌ وكلاهما نسبها إلى الإيمان.

بُثّت الحلقة بتاريخ 23/6/2006م وطبعتها الأخت نوال من السعودية وتم تنقيحها