ظعن– سافر – خرج – رحل – ساح- سار – سرى – هاجر – هام – ضرب في الأرض
نحن الآن في حرف الظاء والكلمة التي تطالعنا هي كلمة ظعن (تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ (80) النحل) والظعن نوع من أنواع السفر. وكان علينا أن نتكلم عن هذه الحلقة في حرف السين ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن تبقى لهذا ولا بأس في ذلك. الكلمات التي تدل على السفر أو على أنواعه حتى تشكل منظومة كاملة: الفعل ظعن، خرج، ساح، سار، سرى، هاجر، وضرب في الأرض. هذه هي الكلمات القرآنية التي تدل على السفر وعلى أنواعه وبين كل كلمة وكلمة معنىً دقيقاً لا يدل عليه اللفظ الآخر وهكذا استعملها القرآن الكريم كعادته استعمالاً إعجازياً حيث جاء بالكلمة المناسبة في المكان المناسب باضطراد معجز لا يمكن أن يفعله إلا رب العالمين.
السفر: وهو عنوان المنظومة سمي السفر سفراً باعتبار الفراق والحزن الذي يصاحبه. باعتبار أن جميع الشعراء والناس والمحبين والعشاق يتحدثون عن السفر ولم يستخدموا كلمة المهاجر أو الظاعن أو الساير لأن كلمة السفر وحدها هي التي تشير وتوميء إلى ما في هذا الفراق من حزنٍ ووداع والوداع كما تعلمون من ساعات الألم الشديد حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سافر من مكة إلى المدينة قال” “إنك لمن أحب البلاد إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت” فقال الله عز وجل (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ (85) القصص) إذاً النبي صلى الله عليه وسلم سافر إلى مكة وهو حزين لفراق مرابعه وأهله وما يحب هناك. و”السفر قطعة من العذاب” كما قال عليه الصلاة والسلام لأن العذاب هو هذا الفراق الشديد. سيدنا سليمان عندما قال (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴿20﴾ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا (21) النمل) العذاب الشديد هو أنه أخذه وأبعده عن أولاده في مكان بعيد فكان هذا العذاب الشديد هو أن الهدهد بقي حزيناً حتى هزل هزالاً كبيراً لشدة حنانه والمعروف أن الهدهد من المخلوقات التي تتعلق بموطنها تعلقاً عاطفياً شديداً. وحينئذٍ السفر من الإسفار أي مفارقة الليل بظلامه، الليل وما في الليل من أناس ومتهجدين وقراء وطلاب علم:
أأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذلك لحاقي
والمستغفرون بالأسحار والسائحون والليل هذا وعاء كل العواطف والعقول والأفكار فإذا أسفر النهار فارق كل حبيب حبيبه كمن فارق الكتاب أو من فارق المناجاة مع رب العالمين أو من فارق حبيبته حتى السفر يُسنُّ أن يكون في الليل فما سافر النبي عليه الصلاة والسلام سفراً إلا كان في الليل. وهكذا كلمة سفر أي هناك حزن ودموع ووداع وقُبَل والخ هكذا هو السفر. ولهذا لم تأتي كلمة أخرى في أقوال أو في أبيات الشعر والحب وما شاكل ذلك. هذا هو السفر.
الظعن: إذا كنت تسافر بأهلك يسمى ظعناً وانظر إلى دقة القرآن الكريم (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ (80) النحل) عندما تحمل زوجتك وأولادك وتضعهم في سيارة أو على راحلة أو على بعير أو على هودج يسمى ظعناً. فالظعن فعندما أقول فلان ظعن أو هؤلاء من الظاعنين أي هو وزوجته وأولاده فكلمة ظعن أي لست مسافراً وحدك وإنما أنت مسافراً مع زوجتك وعيالك هذا الظعن.
الخروج: الخروج أمر استبد بك لكي تسافر مثال أن يقال لك على غفلة أن أباك مات في المدينة الفلانية فتخرج مسرعاً ومتلهفاً ومستعداً هذا خروج أو أن يقال لك أن هنالك غزو قادم على الحدود فأنت أخذت سيفك وانطلقت لكي تدفع العدو عن بلادك هذا خروج (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ (243) البقرة) (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا (47) التوبة) (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴿83﴾ التوبة) فالخروج شيء أهاب بك شيء أستصرخك، هناك حدث عظيم، هناك حادثة أوجبت أن تترك كل شيء، فالمسلمون كانوا إذا قيل حي على الجهاد حي على الفلاح، واصباحاه، وانظر إلى الآية (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴿1﴾ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ﴿2﴾ العاديات) فالذي يركب الفرس عادة يكون في البداية بشكل بطيء ثم يبدأ الجواد بالسرعة إلى أن يبلغ غاية السرعة فيبدأ به الضبح من شدة سرعة الفرس هؤلاء المسلمين من أول ما ينطلق الفرس يضبح بالليل فبالليل تبدو آثار الفرس تقدح ناراً وشراراً. فرب العالمين يقسم بهؤلاء الفتيان الذين ما أن امتطوا صهوات جيادهم إلا وغاروا من اللحظة الأولى انطلقت بهم جيادهم كالسهام فهي تضبح من أول خطوات، هذا خروج فهنالك شيء مهم العدو هنالك سيل ونار ومعارك هنالك أمر أخرجك من بيتك (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴿5﴾ الأنفال) خرجت منطلقاً مسرعاً، (“من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة) أي أن هنالك أمراً مهم جداً حتى ولو مشيت شهراً لا يسمى سفراً ولا يسمى ظعناً بل يسمى خروجاً فالخروج في الكتاب والسنة أي هنالك أمر استفزك استفزازاً سريعاً يسمى هذا خروجاً (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ﴿42﴾ ق) هذا الاستفزاز الأعظم عندما تسمع الصيحة وأنت في البرزخ فتنطلق انطلاقة هائلة في سفر طويل إلى ساحة المحشر. (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ (21) القصص) سيدنا موسى قتل شخصاً وعندما خرج من المدينة خرج منطلقاً كالسهم فهناك أمر استفزه ولاحظ استعملها القرآن الكريم بهذه الدقة المتناهية فكلمة خروج أو خرجوا تعني أن هنالك أمر استفزهم.
الرحل: كلمة رحل الرحل سفر بعيد إلى بلد آخر فأنت لا تقول رحل إلى أبو ظبي ولكن تقول رحل إلى قطر أو رحل إلى البحرين بلد آخر، والرحلة في الغالب تكون جماعياً (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿1﴾ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿2﴾ قريش) الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام فالرحلة إلى بلد آخر، إلى قطر آخر، إلى مكان بعيد معروف تسمى رحلة.
السياحة: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (2) التوبة) (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ (112) التوبة) الآن هناك مصلحة شركة السياحة والسياحة هي السفر السريع للمعرفة يقول الله عز وجل (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿190﴾ آل عمران) هنالك من ركب الطائرات أو السيارات (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (109) يوسف) وهكذا الذين اكتشفوا القارات والبلدان والبحار كانت عن طريق السياحة سياحة سريعة ومنطلقة ويسجل كل شيء كل ما في طريقه للمعرفة إلى أن يصل إلى نتيجة. فالسياحة سفر سريع من أجل المعرفة والاكتشاف فكل الأرض الآن (ساح يسوح ويسح من السيح) بدأت بالسواح أو السياح. وسميت سياحة لأنه عندما تسكب الماء أولاً يمشي سريعاً فالسياحة سفر سريع فأنت لا تستقر فكما نرى السياح حقيبته على ظهره وينام في أي مكان وهو لا يتوقف فليس لديه وقت للتوقف فالسياحة سريعة، وثانياً ليست في جهة معينة فهو خرج من دبي مثلاً الأرض أمامه كلها مفتوحة فكل يوم هو في بلد أو مكان فهو متشعب فليس لديه هدف في مدينة، هدفه هو أن يتعلم فحيثما وجد المعرفة تبعها فهو متشعب الذهاب. ولما نزل قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) قال النبي صلى الله عليه وسلم” “ويلٌ لمن قرأ الأواخر من آل عمران ولم يتفكر بها”. الغريب أن الغربيون تفكروا بها، بالسموات وصلوا إلى القمر، والنجوم والكواكب، وصلوا إلى البحار وأعماقها وإلى القارات واستعمروا الدنيا فقد فكروا في كل الدنيا، هذه هي السياحة. ولهذا بدأت جميع موجات الاستعمار عن طريق السواح ففي مصر قبل نابليون امتلأت مصر بفرنسيين يتظاهرون بالإسلام فأطلقوا لحاهم وحملوا السبح وكأنهم صوفيين وعندما أتت فرنسا وإذا بهم قد وضعوا مؤشر على كل الصناعيين فمصر في زمانهم كانت فيها نهضة صناعية وفيها صناعيين هواة، فهذا المصري يقوم بزخرفة طبق بالصدف لمدة شهر كامل بشكل دقيق وهو عمل مضنٍ جداً ولكن النتيجة صورة في الجمال يبيعه بجنيه واحد وهذا في الخمسينيات ولم يكن هدفه الجنيه ولكنه يريد أن يقوم بشيء جميل. هذه الهواية ولهذا الصناعي المصري متقن ولو كانت له دولة ترعاه لكانت الاختراعات في مصر وليس في أوروبا. والفرنسيين أدركوا هذا فملأوا مصر بهؤلاء السياح وشخّصوا كل صنايعي فعندما جاء نابليون قتلوهم في ليلة واحدة. وهكذا قد رأيت في السودان وفي العراق قبل الغزو البريطاني جاء أشخاص غربيون يدّعون الإسلام ومنهم من أصبح من البدو في طريقة لبسه وكلامه وكذلك فلسطين احتلت بالسياحة فأولاً أتى السياح الغربيون سكنوا فلسطين إلى أن أخذوها. فالسياحة إذاً اكتساب خبرات اكتشاف مواقع وثروات، معادن، شعوب، معرفة أيضاً فجميع آثار المسلمين ومخطوطاتهم في الخارج لدى الغرب في متاحفهم لأنهم أمة نشطة ونحن كنا نائمين فهم اشتغلوا وهم سياح وأنت نوّاح وبالتالي فالنصر لا يعرف قواعد مسلم أو غير مسلم، فقواعد النصر كقواعد الحياة مسلم غير مسلم سواء فأنت والمسيحي واليهودي والبوذي سواء من حيث قوانين جسدك، قوانين النبات واحدة، وقوانين النصر والهزيمة واحدة ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو معهم هزموا وهو رسول الله ومؤيد بالملائكة لأنهم خالفوا (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ). وحينئذٍ السياحة هكذا من أجل هذا أنت تجد الغربيين في كل مكان، وثِق أن لا أحد فيهم أتى لكي يتفسح أو لكي يشرب خمراً عندنا ولكن الكل جاء يدرس ويخطط ويلاحظ ويكتب ويبعث تقارير ومسحوا كل شيء. فمثلاً قائد القوة الجوية العراقية كانوا يريدون خريطة العراق ليعملوا إحصاءً عاماً للعراق فأرادوا الخريطة حتى يعرفوا هنالك خرائط للآبار وخرائط للمواقع والمعادن فبحثوا في كل الدولة فلم يجدوها حتى وجدوها في السفارة البريطانية. هذه هي الدول التي تسيح (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ). والله عز وجل امتدحهم (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ) يتأمل في الكون، فطارق بن زياد أو عبد الرحمن الداخل قبل أن يدخل أسبانيا كان هناك أشخاص قد ذهبوا إليها وأعطوه تقارير عنها. والغربيون عندما استولوا على أسبانيا بقوا عشرين سنة يدرسونها إلى أن أخذوها وهكذا. فالسياحة إذاً أن تمتد عينك إلى ما وراء الحدود لتعرف ماذا يجري (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ (188) الأعراف) فالسياحة تعلمك الغيب، تنقل لك الغيب، وبالتالي الإسلام استعملها في الوصول إلى وحدانية الله (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وعندما نقرأ سيرة العلماء القاسم المشترك بينهم هو الرحلة اسمه ونسبه ومؤلفاته وشيوخه ورحلته ما من أحد يتعتق في العلم ويستقر العلم في عقله وينضجه ويضيف إليه إلا إذا رحل:
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يطب
فكل شيء في هذا الكون هو يسير، الكون كله قائم على السير والسفر هذه السياحة.
السير: سار وهو السفر المنظم لست وحدك فأنت في جيش أو مجموعة أو فريق مثلاً حملات الحج، الشركات السياحية، الجيش عندما يسافر كله منضبط في ساعة معينة يسافرون وساعة معينة ينامون فكلمة السير للسفر المنظم الجماعي ولهذا (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ (29) القصص) لم يقل سافر بأهله لأنهم مجموعة منظمة يقودهم جبريل فليس الأمر بإرادتهم هذا السير.
سرى: أي سرى ليلاً إذا سافرت ليلاً فقد أسريت ولهذا لا نقول فلان سرى إلا معنى ذلك أنه سافر بالليل.
هاجر: أي سفر يدل على أنك لم تعد تطيق المكان الذي أنت فيه إما من خوف أو أُجبرت عليه (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً (100) النساء) فكل من هاجر إما هاجر لعدم أمنه أو لعدم رضاه أو لأنه أجبر على ذلك. فالنبي صلى الله عليه وسلم هاجر مجبراً وهناك من هاجر لأنهم عُذبوا ومن هاجر لأن المكان لم يعد يصلح لهم من أجل هذا كلمة هاجر (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ (8) الحشر) فهو سفر أنت مجبرٌ عليه أنت لا تريده ولكن هناك ظرف أجبرك عليه تسمى هذه هجرة.
هام: السير في الفلاة بدون جهة والهومة هي الفلاة البعيدة الشاسعة فالذي يسير فيها على غير هدى يسمى هائم كالشعراء (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴿224﴾ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴿225﴾ الشعراء).
الضرب في الأرض: أخيراً الضرب في الأرض (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى (156) آل عمران) الضارب في الأرض هو الذي يسير ويسافر سيراً على قدميه،هذه المجموعة وكما سمعتم كيف أن القرآن الكريم استعمل كل كلمة منها بمكانها المرسوم فلا تسأل ما معنى الآية؟ فكل كلمة تعطيك المعنى الدقيق مباشرة: فكلمة سرى أي بالليل، ضرب في الأرض أي مشي، سار أي منظم مع جماعة بقيادة، ظعن أي هو وزوجته، خرج هناك شيء استفزه، ساح طالب معرفة يبحث عن آثار أو استعمار أو احتلال فهو في مهمة هائلة، وهكذا هي المنظومة استعملها القرآن الكريم على هذا النحو.
هذه الكرة الأرضية بكل ما فيها ومن فيها، القاسم المشترك الأعظم بين كل المخلوقات الإنسان والحيوان والنبات والأشياء كلها القاسم المشترك الأوحد بينها أنها جميعاً دائمة الأسفار. فما من مخلوق في هذا الكون إلا وهو في سفر دائم. فمثلاً الكرة الأرضية في سفر دائم، الشمس والقمر (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴿40﴾ يس) والرياح (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (57) الأعراف) كلها من حيث سفرها المتواصل، الأنهار كلها تجري كما يقل عن النيل: مسافرٌ زاده الخيال فهو مسافر 24 ساعة إلى ما شاء الله. حينئذً الرياح تسافر، كل شاعر يسافر طيلة عمره بين القوافي فهو ليل نهار ينتقل من معنى إلى معنى ومن قافية إلى قافية حتى لا يدرك الوقت فهو يقضي ليلاً كاملاً بأربع أو خمس أبيات كأن الليل ساعة واحدة فأنت منصرف عنه في سفر بعيد بين القوافي. وكذلك الرسام الذي يسافر بين كل جماليات هذا الكون ولكل جزئية في هذا الكون جمالها، الطيور تهاجر من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، الأسماك تقطع ملايين الكيلومترات ثم تعود، البذور والأشجار وانظر إلى أشجار الدنيا كلها فكل واحدة منها تهاجر: النخيل هاجر من هنا إلى أوروبا ومن أوروبا المطاط هاجر إلى اندونيسيا وماليزيا وهكذا في كل مكان هناك هجرة. والرحيل الجماعي بين الغجر والبدو والأجناس من البشر رحيل لا ينقطع. فالكون كله بما فيه ومن فيه يقوم على السفر الدائم.
نعود لسفر الإنسان: هذا الإنسان المعجز (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ (11) لقمان) هو مسافر من ساعة ما تلده أمه إلى ساعة موته فهو في سفر طويل. كل ثانية هو في سفر، كل ثانية تمر عليك لن تعود وأنت في طريقك إلى البرزخ لا بد أن تصل يوماً كما يقول سيدنا علي رضي الله عنه: “ما أطول الطريق على قلة الزاد” ولابد لك في هذا السفر من زاد. كل مسافر لا بد أن يحمل معه زاده كما قال تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (197) البقرة). وحينئذٍ هذا السفر الطويل منا من يصل إلى غايته ويصل إلى نهايته منشرح النفس فقد حقق أهدافه كلها وتلهّف إلى أن يلقى الله عز وجل لأن لقاء الله هو مرحلة الوصول الكامل وأنت وردت على الكريم وكما يقول الشاعر:
تزود ما استطعت من الخفايا إذا كان القدوم على الكريم
ومن الناس من يسافر هذا السفر الطويل ثم إذا اقترب من الله عز وجل مات رعباً لشدة فشله في هذا السفر.
إذاً الإنسان في سفر دائم والإنسان مسافر عبر الزمان وعبر المكان. سفر الإنسان عبر المكان من آدم إلى هذا اليوم وسفره عبر الزمان من آدم إلى هذا اليوم هو الذي نقله من أن يركب حماراً إلى أن يركب طائرة أو يركب مركبة فضاء تذهب به إلى القمر، هذا بسفره الطويل عبر الزمان. وجعله ينتقل من السيف إلى القنبلة الذرية وما بينهما كثير وينتقل من الكوخ إلى هذا القصور وهذه الريادة وهذه العمارة التي يتفنن فيها الإنسان. حينئذ هذا السفر عبر الزمان هو الذي أوصل الدنيا إلى هذا الجمال. الغربيون لاشك أنهم سبقوا الأمم كلها بما وصلوا إليه: رأوا الطائر في الفضاء فقلدوه حتى تغلبوا عليه (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج) إذا رأيت الطائرات ترى عجباً، ورأوا الأسماك في البحار فسافروا إليها حتى قهروها بغواصاتهم التي تجوب البحار وحينئذ هذا السفر الهائل للبشرية عبر الزمان والمكان والذي هو مستمر إلى هذا اليوم. وحينئذٍ هذا السفر هو الذي جعل الدنيا بهذا الجمال وبهذه المقدرة كما جعل الغربيين بهذه القدرة. ومن سفرهم ذلك الاستعمار الهائل في بدايات القرن العشرين عندما استعمروا جميع العالم الإسلامي، ما بقيت فيه بقعة إلا استعمروها واستعمرتها أوروبا بالذات وبقي الاستعمار نصف قرن أو ما يزيد بذلك السفر الهائل المنظم. وللحق أنهم حكموها حكماً فيه شيء من التحضر بحيث أنهم عمروا معظم البلدان التي استعمروها عمارة لم يكن أهلها قادرين على أن يعمروها هكذا. ثم ذهب الاستعمار الأوروبي وجاء دور أمريكا الآن ولكن للأسف إنه استعمار في غاية الهمجية والتخلف فقد دمروا البلدين اللذين استعمروها تدميراً كاملاً لم يحدث في التاريخ أبداً أن احتلالاً فعل بالبلد المحتل هذه الفوضى وهذه الهمجية ولهذا أصبحت الآن هذه القوى كلها في نقطة حرجة جداً لأن للتاريخ أحكام تتفوق على قدرات البشر. وإن لله عز وجل سنن في كونه أن القوة الغاشمة إذا وصلت إلى حد معين لابد أن تذهب بدون سبب. فقد ذهب قوم عاد بإعصار وذهبت مملكة فرعون الكاسحة بموجة عاتية وذهب جيش النمرود وشعبه ببعوضة وكاترينا ملأت ولاية بساعات أخذتها وهكذا فكل قوة تتجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها الله لعباده سوف تذهب بدون أي سبب معقول أو علمي وإنما هكذا كما سقط الإتحاد السوفييتي عندما أذاق المسلمين منذ أربعمائة سنة ويلاً وتمزيقاً وتقتيلاً وجمعهم مائة عام في سيبيريا في الثلج ومات نصفهم ثم ذهب بدون سبب تلاشى، هكذا هي سنن الله في خلقه عز وجل. فالسفر إذاً في الحياة كلها بشره وخيره له قواعد إذا لم تتجاوز الخطوط الحمراء. فمثلاً فالغربيون فعلاً احتلوا العالم الإسلامي كله لكن إنصافاً كما قلت احتلوه احتلالاً فيه شيء من التحضر لم يستعملوا الإبادة أو تمزيق كل شيء أو حلوا الجيوش أو تدمير الناس أو تعذيب في السجون أو انتهاك أعراض النساء ولم يثيروا النزعة الطائفية أو العرقية أو المذهبية وإنما عمروا مصر والعراق وسوريا بالرغم من ذل الاحتلال أما أن يأتي المحتل وينقض البلد حجراً حجراً والأخلاق والقيم والأنظمة هذا احتلال لابد أن يزول هو وأهله زوالاً أبدياً.
يقول الخبر “لا تكره الفتن فإن فيه حصاد المنافقين” وإن كثير من المنافقين في العراق انكشفوا في مثل هذه الأحداث وصحيح أن العراقيين دفعوا ثمناً غالياً لكن هذا الثمن سوف يعيد لكم عراقاً نظيفاً بيد أصحابه الأصليين الشرفاء الكرام من الشيعة والسنة والأكراد سوف يبنونه بناءً عظيماً على وفق ما بنوه في بداياته في العشرينات إن شاء الله. ونطمئن العراقيين أنه كل ما كان هناك هجرة على مر التاريخ الإسلامي كانت هناك نصرة بعدها فكل من يهاجر يعود منتصراً وليس فقط في الإسلام حتى في الإنسانية كهجرة الحكومة الفرنسية وهجرة الحكومة البريطانيةً فكل من يهاجر يعود منتصراً فما بالك إذا كان في سبيل الله؟ وإذا كان مظلوماً (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ).
على كل حال التاريخ سجل لنا مسافرين مشهورين مثل ماركو بولو والإسكندر المقدوني وابن بطوطة وابن ماجد وابن خلدون وعبد الرحمن الداخل الذي وصل إلى إسبانيا، إضافة إلى الرحالة الغربيين الذين لا يبارون ذهبوا إلى كل بقعة في هذه الأرض والمبشرين ودعاة المسلمين ذهبوا إلى كل مكان والتجار في شرق أسيا. على كل حال السفر رياضة هذا الكوكب ومن لم يسافر فإنه يدفع الثمن من صحته وعلمه وعقله وفكره. الإمام عمر له كلمة جميلة في السفر عندما جاء رجل يشهد لرجل فكان يمتدحه فسأله الإمام: هل رافقته في سفر؟ قال لا، قال: إذاً كأنك رأيته يصلي في المسجد قال: نعم قال: ليس ذك،.وفعلاً السفر كما قال صلى الله عليه وسلم (قطعة من العذاب) فالسفر كشاف للرجال إذا أردت أن تعرف الرجل الرجل فسافر معه أو عامله في مال أمران لا ثالث لهما يكشف لك صاحبك والسفر كما نعرف لا يحلو إلا برفيق والرفيق قبل الطريق بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يسافر الإنسان بدون رفيقين. حينئذٍ إذا أردت أن تسبر غور شخصية ما فسافر معها تعرف من هو هذا الرجل. فمثلاً سفرات الحج تعرف رجال أفاضل وكرام وإذا به في السفر ينهار وهناك شباب لم يكونوا يملأون عينك وإذا بهم في السفر كالجبل الأشم فالسفر كشاف للرجال.
من الرحالات المشهورين الغجر والغجر هؤلاء قومٌ ما أثار قومٌ الجدل كما أثاره الغجر من حيث غموض واقعهم وأصلهم إلى الآن لم يعرف الناس من أين انحدر هؤلاء القوم وما هي عاداتهم وتقاليدهم وفصائلهم ولكنهم رُحّل وهم القسم الأول من الرحالة المشهورين والقسم الآخر هم البدو يتبعون الأمطار والغيث لكن البدو أصحاب أصل وفصل ولهم قيم وتقاليد ولغة فصيحة صحيحة كانت مدرسة لكل الشعراء والعلماء والأدباء هكذا هو. ولهذا أدب الرحلات وأدب السفر ملأ المكتبة العربية من ملحمة جلجامش الأوديسة، زيد الهلالي، السندباد، جاك كوستو، فحيث ما تذهب ترى أدب الرحلات والسفرات وطبعاً من الرحلات التاريخية المشهورة لأول مرة في تاريخ الكرة الأرضية رحلة جاجارين حول الكرة الأرضية ولكن سبقه اثنان عظيمان هما سيدنا المسيح عليه السلام في رحلته المقدسة إلى السموات العلى كما قال تعالى (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ (158) النساء) ولا يزال موجوداً وهناك وسيعود، والرحلة المقدسة الثانية وهي رحلة الإسراء والمعراج التي صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان لم يسبق إليها مخلوق حتى ولا جبريل عليه السلام.
النيسابوري لما قطع المسافة من نيسابور إلى الحج ماشياً وقف على الروضة الشريفة المحمدية هاجت عيناه وقال:
أتيتك راجلاً وودت أني ملكتُ سواد عيني أنتقيه
وكيف لا أسير على المآقي إلى قبرٍ رسول الله فيه
يستكمل الشيخ الكبيسي إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة الحديث عن السفر وبالأخص الحج وفلسفة الحج.
بعض أسئلة المشاهدين في هذه الحلقة:
سؤال: ما حكم الخروج من العراق في هذا الوقت؟ .
من يخشى القتل الذي هو جارٍ الآن هذا العبث الماجن وهذه الخسة التي ليست من شأن العراقيين التي تطفو على السطح وإذا كنت مهددة بالقتل كما يجري يومياً من اختطاف وقتول بأبشع الصور عليك أن تذهبي وهذه هي الهجرة. فالهجرة هي من هذا الباب فالهجرة تكون عندما يصبح المقام في مكان إقامتك صعباً لأمر ما أو عدة أسباب. وإذا كنت تستطيعين أن تؤدي أي خدمة للبلد من أي نوع، كل أنواع الخدمات في استقرار البلد وتحريره وإعانة أهله لا يجوز لك أن تخرجي إلا إذا كنت مهددة بالقتل شخصياً هذا هو الحكم.
وفي إتصال للشاعرة إلهام من عُمان سألت عن كلمة ذهب فأجاب الشيخ أن كلمة ذهب من الكلمات المشتركة وتدخل في منظومة السفر. ثم أنشدت أبيات في الشيخ الكبيسي:
يا صاحب النهج اليسير تحية من كل قلب والقلوب سواد
ساقيتها يسراً بدعوة أحمد فإخضوضرت حضر بها وبوادي
لا فُضّ فوك يا كبيسي ولا تُرى تعدوا عليك من الصروف عوادي
وتظل مشكاة الدعاة وقِبلة للسالكين على هدى وتؤاد
ونظل ننهل من معين رائقٍ صبحاً وليلاً والضحى وغوادٍ
فرض الإله البر عنك يا سيدي ما قام فينا للفلاح منادي
أما التحية للنجيب أحفُّها بالسوسنات وبالأقاحي نوادي
وكذا السلام على دبي فإنها رمز ثنيٌّ في سويد فؤادي
بُثّت الحلقة في 17/11/2006م وطبعتها الأخت نوال جزاها الله خيراً من السعودية وتم تنقيحها