الحروف في القرآن الكريم, حرف العين

حرف العين – منظومة اللدنية (عند)

اسلاميات

منظومة  اللدنية

عند– لدى – لدن

هذه ثلاث كلمات تدل على العندية أو اللدنية أي الشيء الذي تملكه، وهذا الذي تملكه هو ما عندك، تقول: أنا أعطيتك من عندي مالاً، أعطيتك من لدني مالاً وأعطيتك مما لديّ مالاً. كلمات قرآنية ثلاث جاءت هكذا (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا (65) الكهف)، (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) ق) كما قال تعالى عندنا مزيد قال (ولدينا مزيد)، (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) الكهف) إذن هذه الإستعمالات الثلاث كل واحدة منها تعطي معنى ترسمه بدقة متناهية وكل كلمة تبين لنا عطاء الله عز وجل من حيث أسلوبه وقُربه ونفاسته. الله تعالى قال (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا) كل البشرية بل كل المخلوقات تنال رحمة من عند الله تعالى بالأسباب: تتزوج رحمة، تنجب أولاداً رحمة، تأكل وتشرب وتنام رحمة، كل ما عندك من رحمات ومن نِعَم هذه من نعم الله عز وجل وقد أعطاك الله تعالى إياها من عنده.

عند: عندما أقول: عندي مال، لا يلزم أن يكون المال في جيبي أو في حافظتي أو بين يديّ، قد يكون لدي عقارات أو أراض أو مال في البنك قد لا تصل إليها يدي الآن ولكنها ملكي وأعطي منها ما أشاء، هذه عندي وأصل إليها متي أشاء. يقال: عندي مُلك، عندي مال، عندي جاه، الملوك عندهم ملك لا تطال أيديهم كل أغراضهم فهناك مدن ووزارات ودوائر كثيرة هذه كلها عند الملك، هذه هي العندية.

لدى: إذا كان بين يديك تقول لدى. (قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) يوسف) لدينا أي صار وزيراً. تقول عندي موظف لكنه في قد يكون في مكان آخر في الدولة لكنه ليس بين يديك لذا لا تقول عندي وزير وإنما تقول لدي وزير لأنه مباشر بين يدي دائماً في أي لحظة تصل إليه. ما قال القرآن عندنا مزيد وإنما قال (ولدينا مزيد).

لدن: إذا كان ملكك أو عطاؤك من النوع النفيس الذي لا يستطيع غيرك أن يفعله هذا هو اللدن (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) لم يقل من عندنا ولو كان علمه علماً يمكن أن يتعلمه بنفسه لقال (عند) لكن لأن العلم من النفاسة بحيث لا يستطيع أن يحصله من نفسه إلا أن يعطيه الله إياه إما بشكل مباشر بحيث لا يمكن أن يحصل عليه من غير هذا المصدر هذا (من لدن). الملك قد يعطيك مما عنده يقول مثلاً يا فلان أعطيتك البيت الفلاني في المكان الفلاني قد لا يكون الملك رأى هذا البيت وإنما هو ملكه، لما يقول أعطيتك من لدني بيتاً أي من البيوت المجاورة الخاصة بالملك. لما يقول (من لدنا) أي سيعطيك بيتاً لا نظير له ولا شبيه له وليس له ثاني وهكذا عطايا الملوك.

الآن دولة الإمارات مثلاً توزع البيوت مجاناً للناس في كل مكان، هذه من عند الأمراء والشيوخ وأحياناً يعطي أحد الشيوخ فرداً من الناس بيتاً مجاوراً أو قريباً هذا يعطيه من بين يديه (الملك يعرف هذا البيت بنفسه) هذا مما لديه، (ولدينا مزيد) الله تعالى يعطي المزيد بشكل مخصوص لكنه عام ليس لشخص واحد وإنما هناك أمثاله كثير. لما قال تعالى (من لدنا) هذا شيء نفيس لا يمكن الحصول عليه إلا من هذا الملك. وأعرف أميراً أعطى أحد الناس زجاجة عطر عمرها مائة عام معتّقة وموروثة أباً عن جد وهي ليست للإستعمال وإنما فقط تشمها من بعيد وتضعها في مكان يليق بنفاستها وتفتخر بذلك وأنها أغلى ما تملكه في البيت وأعطاك إياها الملك ولم ينل غيرك مثل هذه المكرمة. العلم اللدني لا يباع، رب العالمين يعلم بعض عباده، الله تعالى قال (وعلمناه من لدنا علماً) هذا ليس للنشر. أحد الصحابة سأل الرسول r أأنت قلت كذا وكذا؟ قال r من أخبرك بهذا؟ قال معاذ، فقال r لمعاذ: أأنت قلت للرجل كذا؟ قال معاذ: نعم، قال r: لِمَ أخبرته؟ أنا قلته لك أنت، أتريد أن يُكذّب الله ورسوله؟!. هذه قارورة العطر لو أعطاها الملك لأي شخص عادي لاستعملها أو رماها لكنه أعطاها لمن يعرف قيمتها فلا يستعملها وإنما للفخر، هذه (من لدن).

(وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99) طه) من غير الله تعالى يعطي هذا الذكر لمحمد r؟. (وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) النساء) لم يقل أجراً فقط، هناك نوع من المكآفآت يوم القيامة لبعض الناس الذين يعملون أعمالاً معينة. هناك من يعمل عملاً يستحق عليه قصر في الجنة لكن رب العالمين سيعطيه شيئاً نفيساً ليس لأحد غيره مثله إضافة إلى العطاء من عنده. الجنة كلها من عند الله عز وجل وتتشابه قصور وحور وغيرها ولكن بعض الناس يأتون ولهم خصوصية، تحفة معينة، قال تعالى (من لدنه) ليس لأحد آخر مثلها.

نستعرض الآن بعض الآيات:

(فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) يونس) لما قال من عندنا يتكلم عما أعطاه الله تعالى لموسى u وعيسى u وإبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور والصُحُف صحف إبراهيم كله من عنده سبحانه، ملكية عامة، مصدر عام. (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) كل ما عند البشرية الآن خزائنه عند الله تعالى لكن لا يفترض أن تكون كلها بين يدي الله تعالى بحيث ينفح منها نفحات، النفحات هذه مخصوصة. (آتيناه رحمة من عندنا) رحمة عامة له ولغيره، ولكن (علمناه من لدنا علما) شأن خاص به هو وحده ولا نظير له. (فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى (48) القصص) هذه الرحمة تشمل التوراة والقرآن والزبور والصحف، عامة. (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) ص) زلفى عامة أخذها آلآف الناس. من دقة القرآن (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) ق) وفي آية أخرى قال (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ (62) المؤمنون) معنى ذلك أن كلمة كتاب كلمة عظيمة والكتب متنوعة يوم القيامة: كتاب الحسنات، كتاب السيئات، كتاب مرقوم، كتاب مجيد. (لدينا) كتاب بين يدي الله عز وجل حاضر تماماً، وهناك عندنا كتاب، هناك قوانين كثيرة باسم الملك لكنها تطبق بعيدة عن الملك وهناك قوانين تتعلق بمجلس الملك وبخاصته فهذه (لدينا).

لما تقرأ كلمة (عند) في القرآن ترى عجباً ثم تقرأ كلمة (لدن)، ثم تقرأ كلمة (لدى)، إعجاز لا يمكن أن يكون إلا في القرآن بهذه الدقة المتناهية. هذا الفرق بين أعطيتني من عندك، أعطيتني مما لديك، أعطيتني من لدنك. (ما لديك): أي شيء في جيبك أو من أقرب شيء منك، (ما عندك): تذهب إلى المال في البنك أو في مكان آخر لتعطيه أو ترسله إلى شخص آخر فيعطيه، (من لدنك): تختصه بشيء نفيس لا تعطيه إلا لأحب الناس ولمن يعرف قدره وقيمته وهذا ليس للإستعمال ولا للنشر مثل كتاب مخطوط ليس له مثيل أو شيء أثري أو سرٌ لا يعرفه إلا الله تعالى. هذه الكلمات الثلاث: لدينا، من عندنا، من لدنا كل واحدة مرسومة رسماً هائلاً.

العبد الصالح في قصة موسى u آتاه الله تعالى من العلم اللدني ما لم يعرفه موسى وهو من أولي العزم، هذا العبد يتصرف بخاصة الله عز وجل بأشياء كل ظاهرها خطأ وموسى u يعترض وفي كل مرة يقول له العبد الصالح (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا (75) الكهف) ثم شرح له لماذا فعل ما فعل (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78) الكهف) وهذا موسى u. في المواقف الثلاثة ذكّره العبد الصالح بمواقف مشابهة لما حصل مع موسى u : عندما قتل العبد الصالح الغلام وعجب موسى وهذا يرمز إلى موسى لما قتل اليهودي (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ (15) القصص) وعندما أنكر موسى على العبد الصالح خرق السفينة يرمي العبد الصالح إلى أم موسى عندما ألقته وليداً في اليم ولم تخش عليه من الغرق فإن كان موسى يعجب من خرق السفينة فهذا الأمر أعجب من خرق السفينة وإن لامه على عدم أخذ أجره عندما أقام الجدار ذكّره بأنه سقى لبنتي شعيب ولم يأخذ أجراً في وقت كان يحتاج فيه للأجر (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا (25) القصص)، موسى u كان في عجلة من الأمر مع أن هذه المواقف الثلاثة قد حصل مثلها معه في ظاهرها، هذا من لدن الله عز وجل، وهناك أناس ليس معهم شهادات ولكن عندهم علم لدني من عند الله تعالى كما قال r: ” رُبّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه” ، والله تعالى يقول ” واتقوا الله ويعلمكم الله“.

نتكلم على آيتين في كتاب الله تعالى:

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) القمر): بعض التفاسير تقول (عند) كأن الله تعالى عنده مجلس والناس جالسون عنده وهذا كلام لا يصح ولا يليق ولو أننا تتبعنا ما نقوله في برنامجنا هذا من أن الكلمات القرآنية كل واحدة تدل على المعنى بالضبط وهذا معنى قوله تعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً (122) النساء) وقوله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا (87) النساء) وسنتحدث عن الموضوعات القرآنية في برنامج لاحق بإذن الله تعالى. (حديثاً) كل ما ذكره الله تعالى عن الأمم السابقة ما استطاع أحد أن يجد فيه تناقضاً ولا مرة (قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) الزمر) لم يتناقض مرة واحدة. (قيلاً) الكلمة القرآنية قيل.

(عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) ليس في مجلس والله تعالى ليس محدداً وليس له حيّز. العندية هنا ممن هم تحت أنظاره أو خاصته ولهذا (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) فصلت) ليسوا واحداً أو اثنين إنما مجموعة كبيرة هم العالون، ملائكة لا يعرفون عن الدنيا شيء، هناك الكرام البررة والسفرة والنازعات نزعاً والناشطات نشطاً وغيرهم من الملائكة لكن هؤلاء فهم العالون كما قال تعالى في قصة سجود الملائكة لآدم (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) ص) لما استكبر ابليس، إبليس مسخر لأمور العباد، خُلِق لتيسير الحياة على الأرض أما العالون فلم يسجدوا لآدم، هؤلاء لا يعلمون شيئاً إلا التسبيح لله تعالى فالملائكة العالون هم الذين لا يعرفون شيئاً سوى التسبيح لربهم ومعرفته، عباد يتغزلون بربهم. لما يقول تعالى (والذين عند ربك) هؤلاء الملائكة الآخرون (عند ربك) أي في محيطه العام كما يليق بجلاله وذاته عز وجل لأنه تعالى ليس له محيط طبعاً. هناك ملائكة متخصصون بتسبيح الله تعالى والسجود له (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) التحريم). معنى ذلك أن هناك نماذج من البشر عند مليك مقتدر، هذه العندية أكبر من (لدى) واللدى أكبر من اللدن، العتدية عامة، لدى أخفّ منها واللدن مخصوصة جداً جداً نوعاً وكيفاً وكمّاً وأفراداً.

ما معنى (عند مليك مقتدر)؟ بعض الأحاديث والسنة ” ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه”. البيان مما جاء في السنّة المطهرة يلقي شيئاً من الضوء على الآيات كما قال r : ” ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه”. يقول r في الحديث الصحيح: “إن المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا”، الله تعالى ليس له يد. وهناك أحاديث كثيرة: “المتحابون في الله عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين”، ليس لله تعالى يد ولكن تعني القرب. لما تزور الملك أكثر الناس وجاهة يجلس على يمين الملك ثم الأقل وجاهة يجلس على يساره، والميمنة والتيامن في الدنيا والآخرة لها اعتبار. من أجل هذا بعض عباد الله تعالى شرائح أهمهم الحاكم العادل يوم القيامة متجلي من حيث أنه عن يمين الرحمن، المقسطون، المقسط هو الذين يدفع الظلم أولاً ثم يحقق العدل أما العادلون فيحققون العدل فقط وليس هناك ظلم أصلاً. هؤلاء المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، مقربون جداً. من أجل هذا (عند مليك مقتدر) منهم الذاكرون الله كثيراً والعلماء العاملون وما أقلّهم وأكثرهم تأثيراً يوم القيامة الحاكم المقسط . أنت تستطيع أن تتعامل مع المرض وتتعايش معه وهناك من يتعايش مع الفقر إلا الظلم فليس من الممكن أن تتعايش معه لذا قال تعالى (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) النساء)، يقول تعالى (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) لقمان) الصبر على كل ما يصيبك إلا المظلوم ” إن لصاحب الحق مقالا”. حينئذ الظلم مصيبة لا يمكن أن تتعايش معه فهو مصيبة ومن جرّب الظلم مرة يدرك معنى أن العادل عند الله تعالى في الفردوس الأعلى. العادلون المقسطون في أهلهم يبدأون بتطبيق العدل على أهلهم أولادهم، إخواتهم، أسرتهم، يأخذون منهم الحق فوراً ثم يحقق العدل بين الناس، هذه الطبقة هي التي في مقعد صدق عند مليك مقتدر. لذلك امرأة فرعون دعت (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (11) التحريم) قدمت العندية على البيت، هي من ساعة ما قالت لا إله إلا الله لها بيت في الجنة لكنها قدّمت العندية على البيت.

الآية الثانية: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) الأعراف): (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) هذه واضحة ذكرناها القسط أن ترفع الظلم أولاً ثم تحقق العدل ثانياً، هؤلاء عن يمين الرحمن وهم الذين في مقعد صدق عند مليك مقتدر. (وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ما قال تعالى (في كل مسجد) لو قال في كل مسجد لكان الهدف فقط أن هذا المكان المعدّ للصلاة أنت لما تدخل فيه أقم وجهك وهذا أنت تفعله دائماً، كل من دخل المسجد أقام وجهه لله عز وجل. أن تقيم وجهك لله عز وجل أي ساعة ما تبدأ في الصلاة في أي مكان أنت تصلي فيه من حيث كما قال المصطفى r : “جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً”، فالمسجد في هذه الآية يعني كل مكان أنت تصلي فيه فهو مسجدك، في الصحراء، في غيرها بل الصحراء أفضل من المسجد كما في الحديث “الأعمال منها ما هو الحسنة بمثلها أو بعشر أو بثمانية عشر أو بخمس وعشرين (الصلاة في المسجد في جماعة) أو بخمسين (الصلاة في الأرض القيّ أي في الصحراء)” لأن ذاك مسجدك إذا كنت مسافراً أو تتفقد مشروعاً وحان وقت الصلاة تصلي في مكانك في الصحراء فهذه الصلاة فيها بخمسين، في الساعة التي تسجد في الصحراء في الأرض القيّ الصلاة فيها بخمسين والملائكة تصف خلف المصلي حتى تصل إلى عنان السماء.

(وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) كلما صلّيت في أي مكان من الأرض فذاك مسجدك فعليك أن تقيم وجهك لله أي أن تستقبل القبلة وأن تخشع في صلاتك وأن تجعل صلاتك خالصة لله تعالى ليس فيها رياء لأحد. هذا المسجد الذي تصلي فيه في كل مكان. ولكن هناك آيات أخرى تتكلم فيها عن المسجد بمعنى المكان المعدّ لصلاة الجمعة (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) الجن) (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) التوبة). هذه المساجد سوق هذا الدين، كل التجار الذين يبيعون ويشترون إما يفعلون هذا في بيوتهم وهؤلاء يربحون ربحاً بسيطاً في اليوم ويعيشون ومنهم من يفعل هذا في السوق ويربحون ملايين. والتجارة في السوق غير التجارة في البيت. التجارة مع الله عز وجل في هذا المسجد لأن هذا المسجد فيه من البضائع ومن الأرباح ما لا تجده في مكان آخر إلا في مكانين: في ساحة الجهاد وفي ساحة العلم فالعلم هو أساس النهضة في كل الدنيا وفي كل الآخرة. قال تعالى الربانيون أي الذين نسبهم الله تعالى إلى نفسه لذا من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة عليه بالعلم ومن أرادهما معاً فعليه بالعلم لذا جعلهم الله تعالى بعد الملائكة مباشرة في قوله (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) آل عمران) جمع أولي العلم والأنبياء في وصف واحد، تأمل هذا المجد! (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) آل عمران) تدرسون وتدرّسون.

نتكلم عن المسجد باصطلاحنا اليوم: هذا المسجد رب العالمين جعله مدخلك إلى الجنة فقال تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ (68) القصص) خلق البشر واختار منهم الأنبياء، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل u وخلق المدن واختار مكة والبيت المقدس، خلق الجبال واختار الطور وعرفة وخلق البقاع واختار منها المساجد، ولما سُئل r أي البقاع أحب إلى الله تعالى؟ قال المساجد، لذا قال (وأن المساجد لله) من أجل هذا قال (إنما يعمر مساجد الله) كل حركة في المسجد، كل شعور يقدمك خطوة. حبك للمسجد وحده يجعلك من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أولهم إمام عادل ومنهم رجل قلبه معلّق بالمساجد، لما يخرج منه لا يخرج إلا ليعود إليه، فيه وله وولع بالمسجد وهذا يفرح برؤية المساجد والمآذن أينما ذهب، هذا بمرتبة الإمام العادل، هذا الذي قلبه معلق بالمساجد، إذن مجرد حبه للمسجد يوصله إلى هذه المرتبة فما بالك بالذي ينظفه (قمّ المسجد) يزيل منه ولو قشّة؟ كانت هناك امرأة سوداء تقم المسجد النبوي فماتت والرسول r لم يكن حاضراً فلما جاء سأل عنها وعلم أنها ماتت ذهب وصلّى على قبرها فناداها وقال لها: أي الأعمال عند الله خير؟ فقال الصحابة: أتسمعك؟ قال r ما أنتم بأسمع منها، فقالت: قمّ المسجد. لهذا قم المسجد مهر الحور العين. عليك أن تدخل المسجد بوقار وهدوء وبدون صراخ لا تتكلم بكلام الدنيا ولا تركض حتى لو كان الإمام في الركعة الأخيرة وأوشك أن ينهي الصلاة وإنما ادخل بوقار وسكينة وعندما تكون جالساً إذا وجدت شيئاً في أرض المسجد قشة أو خيط أو أي شيء بسيط إرفعه وارمه خارجاً بهذا تكون قد فعلت إفادة عظيمة. حينئذ قمّ المسجد وتنظيفه لوجه الله تعالى خالصاً له أجره وهو نعمة لا يعرفها إلا ذووه، ويروى عن الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى أنه في مرة من المرات من حب الناس له رفعوا سيارته فأراد أن يشكر الله عز وجل فذهب خلسة إلى أحد المساجد ونظّف الحمامات فيها. للأسف في أيامنا هذه فُصِل العلم عن المسجد وقد قال r: ” يا أبا ذر لأن تغدو إلى بيت من بيوت الله تتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة ولأن تغدو إلى بيت من بيوت الله فتعلم باباً من أبواب العلم خير لك من أن تصلي ألف ركعة” وفي الحديث: ” ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتدارسون كتاب الله عز وجل إلا حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده”. لذا لا يجوز أن يشوش على الإمام بقراءة القرآن لكن بالعلم يجوز وهذه قيمة العلم. يروى أن الإمام مالك كان يجلس مع تلاميذه فقام أحدهم فصلى نافلة فقال له الإمام: ما أنت فيه خير وأعظم أجراً مما قُمت إليه.

الغنم بالغرم ولذا كل شيء عظيم عكسه في غاية الشناعة لذا يقول تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) البقرة) الشرك ظلم عظيم ولهذا قال تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) هود) بظلم أي بِشِرك فالذي يهدم المساجد ويمنع الناس من الصلاة فيها ويحرقها ويقتل المصلين والمؤذنين كما يحصل في فلسطين والعراق وكما حصل في كوسوفا من قبل، هؤلاء (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) أما أن يحدث هذا في بغداد دولة الخلافة الإسلامية فهؤلاء ممن (ومن أظلم ممن منع مساجد الله).

من هؤلاء الذين عند مليك مقتدر كما قال r: ” بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة” كناية عن الذين يصلّون الصبح والعشاء في جماعة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه “لأن أشهد العشاء في جماعة أحب إلي من أن أقيم نصف الليل ولأن أشهد الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقيم كل الليل، وفعلاً (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) الإسراء). وفضل صلاة الصبح والعشاء في المساجد فضل عظيم وأكملها أن تصلي الصبح في جماعة ثم تجلس في مصلاك لا تقول إلا خيراً حتى تطلع الشمس فتصلي ركعتين “من صلى الصبح في جماعة ثم جلس في مصلاه لا يقول إلا خيراً حتى تطلع الشمس فصلى ركعتين فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة”.

طبعاً الشهداء (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا (69) النساء) الصالحون كما تحدثنا مرة هو من بلغ الإختصاص في تقوى. يعني كلنا نلعب الرياضة لكن ليس بيننا لاعب ممتهن. وكلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) العنكبوت) أما أن تكون من الصالحين فيجب أن يكون لك عبادة كاملة: إعرف شيئاً عن كل شيء واعرف كل شيئ عن شيء واحد، هؤلاء لهم إختصاص عبادة كاملة، إتقان عبادة إتقاناً عظيماً متخصصاً هذا من الذين هم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. كذلك أهل البلاء هؤلاء ملوك الجنة والمظلومين الذين لا يأخذون حقوقهم والذين يموتون وحاجتهم في صدورهم كانوا يشتهون شيئاً في الدنيا لكن ما حصلوا عليه ” رُبّ أشعث أغبر ذو طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه”.

الرسول r يتكلم عن مجالس العبد فيها على الله ضامن: منها مجلس إمام عادل الذي تجلس في مجلسه تسأله سؤالاً وتدعو الله له وتسأل الله تعالى له التوفيق والتيسير وتمنع عنه السوء وتنصحه وتجيبه بإخلاص إن سألك أو استشارك. وكذلك مجلس المريض وإتباع الجنائز هذه مغسلة الذنوب، حيثما رأيت جنازة سرت خلفها. هذه كلها مجالس العبد فيها على الله ضامن. مجلس علم وصلاة الجماعة أنت في صلاة من ساعة خروجك من بيتك متوضأً.

وفي اتصال من أحد المشاهدين من السعودية اقترح على العراقيين أن يتصدقوا صدقة السر لأنها تمنع ميتة السوء فعلى إخواننا في العراق أن يتصدقوا صدقة السر ولو كانت تمرة فهذه بإذن الله تمنع ميتة السوء.

بُثّت الحلقة بتاريخ 9/2/2007م