تفسير القرآن للشعراوي

خواطر الشيخ الشعراوي في آية الكرسي

اسلاميات

خواطر في آية الكرسي

 

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم “255”)

ونقف بالتأمل الآن عند قوله الحق: “الله لا إله إلا هو”. إن كلمة “الله” هي علم على واجب الوجود. وعندما نقول: “الله” فإن الذهن ينصرف إلى الذات الواجبة الوجود. ما معنى “واجبة الوجود”؟ إن الوجود قسمان: قسم واجب، وقسم ممكن. والقسم الواجب هو الضروري الذي يجب أن يكون موجودا، والحق سبحانه وتعالى حين أعلمنا باسمه “الله” أعطانا فكرة على أن كلمة “الله” هذه يتحدى بها ـ سبحانه ـ أن يسمى بها سواه. ولو كنا جميعا مؤمنين لكان احترامنا لهذا التحدي نابعا من الإيمان. ولكن هنا كافرون بالله ومتمردون وملحدون يقولون: “الله خرافة”، ومع ذلك هل يجرؤ واحد من هؤلاء أن يسمي نفسه “الله”؟  لا يقل أحد هذا؛ لأن الله تحدى بذلك، فلم يجرؤ واحد أن يدخل في هذه التجربة. وعدم جرأة الكفار والملاحدة في أن يدخلوا في هذه التجربة دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم، فلو كان كفرهم صحيحا لقالوا: سنسمي ونرى ما يحدث، ولكن هذا لم يحدث. إذن “الله” علم واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال. وبعد ذلك جاء بالقضية الأساسية وهي قوله تعالى: “لا إله إلا هو” وهنا نجد النفي ونجد الإثبات، النفي في “لا إله”، والإثبات في “إلا هو”. والنفي تخلية والإثبات تحلية. خلى سبحانه نفسه من وجود الشريك له ثم أثبت لنا وحدانيته. و”لا إله إلا الله” أي لا معبود بحق إلا الله. ونعرف أن بعضنا من البشر في فترات الغفلة قد عبدوا أصناما وعبدوا الكواكب. ولكن هل كانت آلهة بحق أم بباطل؟ لقد كانت آلهة بباطل. ودليل صدق هذه القضية التي هي “لا إله إلا الله”، أي لا معبود إلا الله أن أحدا من تلك الآلهة لم يعترض على صدق هذه القضية. إذن فهذا الكلام هو حق وصدق.  وإن أدعى أحد غير ذلك، نقول له: إن الله قد أخبرنا أنه لا معبود بحق غيره؛ لأنه هو الذي خلق وهو الذي رزق، وقال: أنا الذي خلقت. إن كان هذا الكلام صحيحا فهو صادق فيه، فلا نعبد إلا هو. وإن كان هذا الكلام غير صحيح، وأن أحدا غيره هو الذي خلق هذا الكون فأين هذا الأحد الذي خلق، ثم ترك من لم يخلق ليأخذ الكون منه ويقول: “أنا الذي خلق الكون”؟ إنه أمر من اثنين، الأمر الأول: هو أنه ليس هناك إله غيره. فالقضية ـ إذن ـ منتهية. والأمر الآخر: هو أنه لو كان هناك آلهة أخرى، وبعد ذلك جاء واحد وقال: “أنا الإلهة وليس هناك إله إلا أنا”. فأين هذه الآلهة الأخرى؟ ألم تعلم بهذه الحكاية؟
إن كانوا لم يعلموا بها، فهم لا يصلحون أن يكونوا آلهة، وإن كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا: لا. نحن الآلهة، وهذا الكلام
كذب؟ وكما بعث الله رسلا بمعجزات كان عليهم أن يبعثوا رسولا بمعجزات. فصاحب الدعوة إذا ادعاها ولم يوجد معارض له، تثبت الدعوى إلى أن يوجد منازع. إذن كلمة “لا إله إلا الله” معها دليل الصدق؛ لأنه إما أن يكون هذا الكلام حقا وصدقا فتنتهي المسألة، وإن لم يكن حقا فأين الإله الذي خلق والذي يجب أن يعبد بعد أن سمع من جاء ليأخذ منه هذه القضية؟ وبعد ذلك لا نسمع له حسا ولا حركة، ولا يتكلم، ولا نعلم عنه شيئا، فما هو شأنه؟ إما أنه لم يعلم فلا يصح أن يكون إلها؛ لأنه لو كان قد علم ولم يرد فليست له قوة. ولذلك ربنا سبحانه يأتي بهذه القضية من ناحية أخرى فيقول:  {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا “42” سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا “43” }  (سورة الإسراء)  فلو كان عند تلك الآلهة المزعومة مظاهر قوة لذهبوا إلى الله سبحانه وتعالى وأنكروا ألوهيته، ولو كان هناك إله غير الله لحدثت معركة بين الآلهة، ولكن هذا لم يحدث. فالكلمة “لا إله إلا الله” صدق في ذاتها حتى عند من ينكرها، والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوة؛ لأنه إن لم يوجد منازع فقد ثبت أنه سبحانه لا إله إلا هو؟ وأضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ هب أننا في اجتماع، وبعد ذلك وجدنا حافظة نقود، فعرضناها على الموجودين، فلم نجد لها صاحبا، ثم جاء واحد كان معنا وخرج، وقال: يا قوم بينما كنت أجلس معكم ضاعت حافظة نقودي. ولما لم يدعها واحد منا لنفسه فهي إذن حافظته هو.
إذن “لا إله إلا الله” هي قضية تمتلئ بالصدق والحق، والله هو المعبود الذي يتوجه إليه بالعبادة، والعبادة هي الطاعة. فمعنى عابد أي طائع، وكل طاعة تقتضي أمرا وتقتضي نهيا، ومادامت العبادة تقتضي أمرا وتقتضي نهيا، فلابد أن يكون المأمور والمنهي صالحا أن يفعل وصالحا ألا يفعل. فعندما نقول له: افعل كذا كمنهج إيمان، فهو صالح لئلا يفعل. وعندما نقول له: لا تفعل فهو صالح لأن يفعل، وإلا لو لم يكن صالحا ألا يفعل أيقول له “لا تفعل”؟ إن ذلك غير ممكن.
إذن لابد أن يكون صالحا لهذه وتلك وإلا لكان الأمر والنهي عبثا ولا طائل من ورائهما. لذلك عندما أرادوا أن يقصروا الإسلام في العبادات الطقسية التي هي شهادة لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، قالوا: هل هذا هو كل الإسلام، وقالوا: إنه دين يعتمد على المظاهر فقط، قلنا لهم: لا، إن الإسلام هو كل حركة في الحياة تناسب خلافة الإنسان في الأرض؛ لأن الله يقول في كتابه الكريم:  
{هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } (من الآية 61 سورة هود) “واستعمركم فيها” أي طلب منكم أن تعمروها، فكل حركة في الحياة تؤدي إلى عمار الأرض فهي من العبادة، فلا تأخذ العبادة على أنها صوم وصلاة فقط؛ لأن الصوم والصلاة وغيرهما هي الأركان التي ستقوم عليها حركة الحياة التي سيبني عليها الإسلام، فلو جعلت الإسلام هو هذه الأركان فقط لجعلت الإسلام أساسا بدون مبنى، فهذه هي الأركان التي يبني عليها الإسلام، فإذن الإسلام هو كل ما يناسب خلافة الإنسان في الأرض يبين ذلك ويؤكده قول الله تعالى:  {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها }  (من الآية 61 سورة هود)  ويخرج إلينا أناس يقولون: نحن ليس لنا إلا أن نعبد ولا نعمل. ونقول لأي منهم: كم تأخذ الصلاة منك في اليوم؟ ساعة مثلا. والزكاة كم تأخذ منك في العالم يوما واحدا في العام؟ والصوم كم يأخذ منك من وقت؟ نهار أيام شهر واحد. وفريضة الحج أتأخذ منك أكثر من رحلة واحدة في عمرك؟ فبالله عليك ماذا تفعل في الباقي من عمرك من بعد ذلك وهو كثير؟ إنك لا تأخذ أكثر من ساعة في اليوم للصلاة، ولا تأخذ أكثر من يوم في السنة لإخراج الزكاة، وتقضي شهرا في السنة تصوم نهاره. وتحج مرة واحدة في عمرك، فماذا تفعل في بقية الزمان، ستأكل وتلبس، ستطلب رغيف الخبز للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟ إن هذا الرغيف يمر بمراحل حتى يصير لقمة تأكلها. ويحتاج إلى أكثر من علم وأكثر من حركة وأكثر من طاقة.  إن المحل الذي يبيعه فقط ولا يخبزه يحتاج إلى واجهة من زجاج أو غيره، ولابد أن يعمل فيه من يذهب بعربته إلى المخبز ليحمل الخبز، وينقله إلى المحل ويبيعه وإذا نظرت إلى الفرن فسوف تجد مراحل عدة من تسليم وتسلم للدقيق، ثم إلى العجين، وإلي النار التي توقد بالمازوت، ويقوم بذلك عمال يحتاجون لمن يخطط لهم، وقبل ذلك كان الدقيق مجرد حبوب، وتم طحنها لتصير دقيقا، وهناك مهندسون يديرون الماكينات التي تطحن، ويعملون على صيانتها، وبعد ذلك الأرض التي نبت فيها القمح وكيف تم حرثها، وتهيئتها للزراعة، وريها، وتسميدها، وزرعها، وحصدها، وكيف درس القشر والسنابل، وكيف تتم تذريته من بعد ذلك، لفصل الحبوب عن التبن، وتعبئة الحبوب، إلى غير ذلك؟
انظر كم من الجهد أخذ رغيف الخبز الذي تأكله، وكم من الطاقات وكم رجال للعمل، فكيف تستسيغ لنفسك أن يصنعوه لك، وأنت فقط جالس لتصلي وتصوم؟ لا، إياك أن تأخذ عمل غيرك دون جهد منك. مثال آخر، أنت تلبس جلبابا، كم أخذ هذا الجلباب من غزل ونسج وخيط؟ إذن فلا تقعد، وتنتفع بحركة المتحرك في الحياة، وتقول: أنا مخلوق للعبادة فقط، فليست هذه هي العبادة، ولكن العبادة هي أن تطيع الله في كل ما أمر، وأن تنتهي عن كل ما نهى في إطار قوله تعالى: “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” إن كل عمل يعتبر عبادة، وإلا ستكون “تنبلاً” في الوجود. والإيمان الحق يقتضي منك أن تنتفع بعملك ولا تعتمد على عمل غيرك. إن الحق سبحانه وتعالى قد استخلفنا في الأرض من أجل أن نعمرها. ومن حسن العبادة أن نتقن كل عمل وبذلك لا نقيم أركان الإسلام فقط، ولكن نقيم الأركان والبنيان معا. ونكون قد أدينا مسئولية الإيمان، وطابق كل فعل من أفعالنا قولنا: “لا إله إلا الله”. ولقد عرفنا أن كلمة “الله” هي علم على واجب الوجود، وهي الاسم الذي اختاره الله لنفسه وأعلمنا به، ولله أسماء كثيرة كما روى في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل الله بكم اسم هو له أنزله في كتابه أو علمه أحداً من خلقه ـ أي خصه به ـ أو استأثر به في علم الغيب عنده، فلا تظنن أن أسماء الله هي كلها هذه الأسماء التي نعرفها، ولكن هذه الأسماء هي التي أذن الله سبحانه وتعالى بأن نعلمها.
ومن الجائز، أو من لفظ الحديث نعلم أن الله قد يعلم بعضا من خلقه أسماء له، ويستأثر لنفسه بأسماء سنعرفها يوم القيامة حين نلقاه، وحين نتكلم عن الأسماء الأخرى نجد أنها ملحوظ فيها الصفة، ولكنها صارت أسماء لأنها الصفة الغالبة، فإذا قيل: “قادر” نجد أننا نستخدم هذه الكلمة لوصف واحد من البشر، ولكن “القادر إذا أطلق انصرف إلى القادر الأعلى وهو الله. وكذلك “السميع”، و”البصير”. و”العليم”.
إننا نجد أن بعضا من أسماء الله سبحانه وتعالى له مقابل، ومن أسماء الله الحسنى ما لا تجد له مقابلا. فإذا قيل “المحيي” تجد “المميت” و”المعز” تجد “المذل”، لأنها صفة يظهر أثرها في الغير، فهو مميت لغيره، ومعز لغيره، ومذل لغيره، لكن الصفة إن لم يوجد لها مقابل نسميها صفة ذات، فهو “حي” ولا نأتي بالمقابل إنما “محيي” نأتي بالمقابل وهو “المميت”، فهذه اسمها صفة فعل. فصفات الفعل يتصف بها وبمقابلها لأنها في الغير. لكن صفة الذات لا يتصف إلا بها. وحينما قال الحق: “الله” فهو سبحانه يريد أن يعطينا بعض تجليات الله في أسمائه، فقال: “الله لا إله إلا هو” ليحقق لنا صفة التوحيد، ويجب أن نعلم أن “إلا” هنا ليست أداة استثناء، لأنها لو كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن توجد آلهة ويكون الله من ضمن هذه الآلهة التي نفيتها وذلك غير صحيح. وإنما المراد أنه لا آلهة أبداً غير الله فهو واحد لا شريك له، وأنه لا معبود بحق إلا هو فكلمة “إلا” ليست للاستثناء وإنما هي بمعنى غير، أي لا إله غير الله.
وقد عرفنا أن هذه القضية معها دليلها، وإلا فلو كان هناك إله آخر لقال لنا: إنه موجود. لكن لا إله إلا هو سبحانه أبلغنا “الله لا إله إلا هو”. وأعجبني ما قاله الدكتور عبد الوهاب عزام ـ رحمة الله عليه ـ وكان متأثرا بالشعر الباكستاني “إقبال”، كان للشاعر إقبال شيء اسمه “المثاني”، أي أن يقول بيتين من الشعر في معنى، وبيتين من الشعر في معنى، وكان يغلب على شعر إقبال الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي، وقد تأثر الدكتور عبد الوهاب عزام بشعر إقبال فجعل له مثاني أيضا يناظر فيها “إقبال”، فيقول:
إنمـا التـوحـيـد إيجـاب وسـلـب     وفيـهـما للنفـس عـزم ومضـاء
وقوله: “إنما التوحيد إيجاب وسلب” هو قول متأثر بالقضية الكهربية. فيقول: إنما التوحيد إيجاب وسلب فيهما للنفس عزم ومضاء. فأنت عندما تقول “لا إله”، فـ”لا” للنفي، وعندما تكمل قولك: “إلا الله” فـ”إلا” للإثبات، ويكمل الدكتور عزام قوله: لا وإلا قوة قاهرة. فهما في القلب قطبا الكهرباء كأن الكهرباء تأتي بأنك تسلب وتوجب. فالإيجاب في “إلا” والسلب في “لا”. ومادام فيه إيجاب وسلب، إذن ففيه شرارة كهرباء.
“الله لا إله إلا هو الحي القيوم”، و”الحي” هو أول صفة يجب أن تكون لذلك الإله، لأن القدرة بعد الحياة، والعلم بعد الحياة. فكل صفة لابد أن تأتي بعدها الذكر وإلا فليست صفة من صفات الله أسبق من صفة ولا متقدمة عليها فكلها قديمة لا أول لها، فلو كان عدماً فكيف تأتي الصفات على العدم؟، وكلمة “حي” عندما نسمعها نقول: ما هو الحي؟. إن الفلاسفة قد احتاروا في تفسيرها. فمنهم من قال: الحي هو الذي يكون على صفة تجعله مدركاً إن وجد ما يدرك.
كأن الفيلسوف الذي قال ذلك: يعني بالحياة حياتنا نحن، وما دوننا كأنه ليس فيه إدراك. ونقول لصاحب هذا الرأي: لا، إن أردت الحياة بالمعنى الواسع الدقيق فلابد أن تقول: الحياة هي أن يكون الشيء على الصفة التي تبقى صلاحيته لمهمته هذا هو ما يجب أن يكون عليه التعريف، فـ”الحي”: هو الذي يكون على صفة تبقى له صلاحيته لمهمته، مثال ذلك النبات، مادمت تجده ينمو، إذن ففيه حياة تبقى له صلاحية مهمته. فلو قطع لانتهت الصلاحية. ومثال الإنسان عندما يموت تنتهي صلاحيته لمهمته، والعناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل، هذا التفاعل فرع وجود الحياة، لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا.
أنت مثلاً ترى “الزلط” الناعم الأملس، تجده على مقدار واحد؟ لا، إن أشكاله مختلفة، وهذا دليل على أن هناك مراحل للحجر الواحد منها، ولو استمرت تلك الأحجار في بيئتها الطبيعية فلاشك أن هذه الكبيرة تتفتت يوماً وتصير صغيرة ثم تكبر مرة أخرى، لكن الإنسان حين يستخدم هذه الأحجار تكون قد خرجت من بيئتها. ومن حكمة الله أنه لا يوجد شيء تنتهي جدواه أبداً، بل هو سبحانه يهيئ لكل شيء مهمة أخرى. إذن فكل كائن يكون على صفة تبقى له صلاحيته لمهمة، وتكون له حياة مناسبة لتلك المهمة. نحن لا نأتي بهذا الكلام من عندنا، ولكن نأتي بهذا الكلام لأننا نقرأ القرآن بإمعان وتدبر، ونقول: ماذا يقابل الحياة في القرآن؟ إنه الهلاك بدليل أن الله قال:  
{ليهلك من هلك عن بينةٍ ويحيى من حي عن بينةٍ }  (من الآية 42 سورة الأنفال)  إذن فالحياة مقابلة للهلاك. و”الحي” غير هالك. والهالك لا يكون حياً، ويقول تعالى في الآخرة:  {كل شيء هالك إلا وجهه } (من الآية 88 سورة القصص)  ومعنى ذلك أن كل الأجناس من أعلاها إلى أدناها، سواء الإنسان، أو الملائكة، أو الحيوان أو النبات، كلها ستكون هالكة، ومادام كل شيء سيهلك يوم القيامة فكأنه لم يكن هالكاً قبل ذلك، وله حياة مناسبة له. أليست الحجارة شيئاً، وستدخل في الهلاك يوم القيامة؟. إذن فهي قبل ذلك غير هالكة. لكننا نحن البشر لا نفطن إلى ذلك ونفهم الحياة فقط على أنها الحس والحركة الظاهرة. مع أن العلماء قد أثبتوا أنه حتى الذرة فيها دوران، ولها حياة. وأنت عندما تنظر بالمجهر على ورقة من النبات، وترى ما بها من خضر وخلايا، وتشاهد العمليات التي تحدث بها، وتقول: هذه حياة أرقى من حياتنا، وأدق منها.
إذن فكل شيء له حياة، إياك أن تظن أنك أنت الذي تهلكها، فعندما تأتي بحجر وتدقه أو تضعه في الفرن لتصنع الجير؛ إياك أن تقول: إنك أذهبت من الأحجار الحياة المناسبة لها، أنت فقط قد حولت مهمتها من حجر صلب، وصارت لها مهمة أخرى، فالمسائل تتسلسل إلى أن يصير لكل شيء في الوجود حياة تناسب المهمة التي يصلح لها. وانظر إلى مهمة الحق، ما شكلها؟ إنها الحياة العليا، وهو الحي الأعلى وحي لا تسلب منه الحياة، لأن أحدا لم يعطه الحياة، بل حياته سبحانه ذاتية، فهذا هو الحي على إطلاقه.  إذن فالحي على إطلاقه هو الله والحق سبحانه وتعالى قال: “الله لا إله إلا هو الحي” وأثر صفة هذه موجود في كل الصفات الأخرى فقال: “القيوم”. والقيوم هو صفة مبالغة في قائم. ومثلها قولنا: “الله غفور” لكن ألا يوجد غافر؟ يوجد غافر، لكن “غفور” هي صفة مبالغة. وقد يقول قائل: هل صفات الله فيها صفة قوية وأخرى ضعيفة؟. نقول: لا، فصفات الله لا يصح أن توصف بالضعف أو بالقوة، صفات الله نظام واحد. وحتى نفهم ذلك فنضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ نحن نقول: كلنا نأكل كي نستبقي حياتنا، فكل واحد منا “آكل”، لكن عندما نقول: فلان أكول، فمعنى ذلك أنه أخذ صفة الأكل التي كلنا شركة فيها وزاد فيها فنقول عليه: “أكال” أو “أكول”.من أي ناحية تأتي هذه الزيادة؟ قد تأتي الزيادة من أنك تأكل في العادة رغيفا وهو يأكل رغيفين أو ثلاثة، إذن فالحدث له في الأكل أثر كبير، فنقول عليه: أكول. وقد يأكل معك رغيفا في الوجبة الواحدة، لكنه يأكل خمس وجبات بدلا من ثلاث وجبات؛ فيكون أيضا أكولا، إذن فـ”أكول” إما مبالغة في الحدث نفسه وإما بتكرار الحدث. ونحن ننظر إلى صفات الله ونقول: إنها لا تحتمل القوة والضعف في ذات الحدث، إنما في تكررها بالنسبة للمخلوقين جميعاً، فاله غافر لهذا، وغافر لذاك، وغافر لكل عاص يتوب، إذن فالحدث يتكرر، فيكون “غفوراً” وغفارا”. وهذا ما يحل لنا الإشكال في كثير من الأمور، فعندما يقول سبحانه:  
{وما ربك بظلام للعبيد }  (من الآية 46 سورة فصلت)  فنحن هنا نجد قضية لغوية تقول: إنك إذا جئت بصيغة المبالغة، وأثبتها، تكون الصيغة الأخرى الأقل منها ثابتة بالضرورة، مثال ذلك عندما نقول: فلان “علام” أو “عالم”، فمادمت أثبت له الصفة القوية؛ تكون الصفة الضعيفة موجودة، لكن إذا نفيت الصفة المبالغ فيها قد تكون الصفة الأخرى موجودة، فهو ليس “علامة” لكنه قد يكون “علاماً” أو عالما”، فإذا قلت: فلان “علامة” فقد أثبت له الأدنى أيضاً، فيكون “علاما” أو “عالما”. لكن إذا نفيت عنه “علامة” انتفى عنه الباقي؟ لا، إذن فنفي الأكثر لا ينفي الأقل.  لكن إذا أثبت الأكثر ثبت الأقل، وإذا نفيت الأكثر فلن ينتفي الأقل، فإذا قلت: الله ليس بظلام للعبيد، نفيت الأكثر. صحيح أنه غير مبالغ في الظلم، فهل يمكن أن يكون ظالماً؟ على حسب ما قلنا: إذا نفينا الأكثر لا ينتفي الأقل نقول:لا، لأننا هنا يجب أن نأخذ القضية الأولى في أن المبالغة في الحدث والمبالغة في الفعل تأتي مرة في ذات الحدث، ومرة في تكرار الحدث؛ فيكون معاذ الله ـ ظلاماً، ولذلك لم يقل: بظلام للعبد، بل قال: بظلام للعبيد. إذن فهذا العبد يحتاج ظالماً، والعبد الآخر يحتاج ظالماً، وذاك يحتاج ظالماً! فعندما يظلم كل هؤلاء يكون ظلاماً، ولذلك نفاها سبحانه وقال: “وما ربك بظلام للعبيد”.
والحق هنا يقول: “قيوم” وهذه صفة مبالغة من قائم، فالأصل فيها: القائم على أمر بيته، والقائم على أمر رعيته، والقائم على أمر المدرسة، والقائم على أمر هذه الإدارة، ومعنى قائم على أمرها: أنه متولي شئونها، فكأن القيام هو مظهر الإشراف. فنحن لا نقول: “قاعد على إدارتها”. وعندما نقول” قيوم” فمعناها أنه أوسع في القيام. كيف جاء هذا الاتساع؟. لأن القائم قد يكون قائماً بغيره، لكن حين يكون قائما بذاته، وغيره يستمد قيامه منه، فهو قائم على كل نفس وهو سبحانه القائل:  
{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد “33” }  (سورة الرعد)  إن المشركين قد بلغو السفه في جحودهم فجعلوا لله شركاء في العبادة، فهل يستطيع أحد أن يبلغ تلك المرتبة العالية، مرتبة خلق العالم والقيام على كل أمر فيه، صغر أو كبر؟. إنه الحافظ المراقب لكل نفس، العالم بكل ما خفي وظهر، وهذه الأوثان لا تضر ولا تنفع، فكيف تتوهمون يا من أشركتم بالله له نداً، إن الحق منزه عن ذلك بقيامه على كل نفس وكل الخلق. لكن أهل الضلال أغواهم ضلالهم فلم يعد لهم هاد بعد الله. إن الحق سبحانه قائم بذاته، وقائم على غيره. والغير إن كان قائما إنما يستمد منه القيام. فلابد أن يكون “قيوماً”، ومن قيومته أنه “لا تأخذه سنة ولا نوم”، وقيل في كتب العلم: إن قوم بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: أينام ربنا؟.  فأوحى الله إليه: أن آت بزجاجتين وضعهما في يد إنسان، ودعه إلى أن ينام، ثم انظر الجواب. فلما وضع في يده الزجاجتين ونام. انكسرت الزجاجتان فقال: هو كذلك، هو قائم على أمر السماء والأرض، ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتحطمت الدنيا.
وهو سبحانه “لا تأخذه سنة ولا نوم”. و”السنة” هي أول ما يأتي من النعاس؛ أي النوم الخفيف، فالواحد منا يكون جالساً ثم يغفو، لكن النوم هو “السبات العميق”، فلما قال: “لا تأخذه سنة” قالوا: إنه يتغلب على النوم الخفيف لكن؛ هل يقدر على مقاومة النوم العميق؟. فقال الحق عن نفسه: “لا تأخذه سنة ولا نوم”. وعرفنا أن السنة هي: النعاس الذي يأتي في أول النوم، ومظهرها يبدو أولا في العين وفي الجفن، فعندما يذهب إنسان في النوم؛ فإن أثر ذلك يظهر في عينيه، ولذلك يقولون: إن العين هي الجارحة التي يمكن أن تعرف بها أحوال الإنسان، وقد اكتشفوا في عصرنا الحديث أن الشرايين لا يمكن أن يعرفوا حالتها بالضبط إلا من العين. فالفتور الذي يأتي في العين أولاً هو السنة أو مقدمات النوم ونسميه: النعاس.
“ولا تأخذه سنة ولا نوم” أتريدون تطميناً من إله لمألوه، ومن معبود لعابد، ومن خالق لمخلوق أكثر من أنه يقول للعابد المخلوق: “نم أنت ملء جفونك، واسترح؛ لأن ربك لا ينام”. ماذا تريد أكثر من هذا؟ هو سبحانه يعلم أنه خلقك، وأنك تحتاج إلى النوم، وأثناء نومك فهناك أجهزة في جسمك تعمل. أإذا نمت وقف قلبك؟ أإذا نمت انقطع نفسك؟ أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها الدودية التي تهضم؟ أإذا نمت توقفت أمعاؤك عن امتصاص المادة الغذائية؟ لا، بل كل شيء في دولابك يقوم بعمله. فمن الذي يشرف على هذه العمليات لو كان ربك نائما؟
إذن فأنت تنام وهو لا ينام. وبالله هل هذه عبودية تذلنا أو تعزنا؟ إنها عبودية تعزنا؛ فالذي نعبده يقول: ناموا أنتم؛ لأنني لا تأخذني سنة ولا نوم. وإياك أن تفهم أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن شيئا في كونه يخرج على مراده، لا؛ لأن كل ما في السماوات والأرض له، فلا شيء ولا أحد يخرج عن قدرته. ولذلك يقول الحق: “له ما في السماوات وما في الأرض”.
ويتابع سبحانه بقوله: “من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه” إنه سبحانه وتعالى يوضح: أنا أعطيتك الراحة في الدنيا، وحتى الكافر جعلته يتنعم بنعمي، ولم اجعل الأسباب تضن عليه، وأعطيته مادام قد اجتهد في تلك الأسباب مما يدل على أنني ليس عندي محاباة، قلت للأسباب: يا أسباب من يحسنك يأخذك ولو كان كافرا بي. لكنه سيأتي يوم القيامة وليس للكافر إلا العذاب، لأنه مادام قد عمل في الدنيا واحسن عملا فقد أخذ جزاءه، فإياكم أن تظنوا كما قالوا: “هؤلاء شفعاؤنا عند الله”، وجاء فيهم قول الحق:  
{ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون “18” }  (سورة يونس) إن هؤلاء الذين افتروا على الله بالشرك به، واتخذوا أصناما باطلة لا تضرهم ولا تنفعهم. يقولون عن هذه الأصنام: إنها تشفع لهم عند الله في الآخرة، ويأمر الحق سبحانه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المشركين: قل لهم يا محمد: هل تخبرون الله بشريك لا يعلم الله له وجودا في السماوات ولا في الأرض، وهو الخالق لكل ما في السماوات والأرض ومنزه سبحانه عن أن يكون له شريك في الملك. لقد أرادوا أن يخلوا بقضية التوحيد ويجعلوا لله شركاء ويقولون: إن هؤلاء الشركاء هم الذين سيشفعون لنا عند الله. فيقول الحق سبحانه: إن الشفاعة ليست حقا لأحد. ولكنها عطاء من الله، لذلك يقول: “من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه”.
ويقول الحق: “يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم”. ساعة يتعرض العلماء إلى: “ما بين أيديهم وما خلفهم” يشرحون لنا أن ما بين اليدين أي ما أمامك، وما خلفك أي ما وراءك، وما بين يدي الإنسان يكون: مواجها لآلة الإدراك الرائدة وهي العين، فهو أمر يشهد. والذي في الخلف يكون غيبا لا يراه، كأن ما بين اليد يراد به المشهود والذي في الخلف يراد به الغيب، فهو “يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم” أي يعلم مشهدهم وغيبهم، ويطلق “ما بين اليد” إطلاقا آخر. إننا قد نسأل عما بين يديك. هل هو مواجه لك أو غير مواجه؟ فلو كان أمامك بشر، فهل هم قادمون إليك أو راحلون عنك؟
إنهم إن كانوا راحلين عنك فقد سبقوك وقد جئت أنت من بعدهم، ومن وراءك سيأتي من بعدك. أي أن الحق سبحانه يخبرنا أنه يعلم الماضي والمستقبل. فمرة يعلم الحق ما بين أيديهم، أي العالم المشهود ويسمونه “عالم الملك”، وما خلفهم أي الغيب، ويسمونه “عالم الملكوت”. إنه يعلم المشهود لهم والخفي عنهم. وكما يقول الحق:
{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين “59” } (سورة الأنعام)  إن عند الله علم جميع الغيب ويحيط علمه بكل شيء، ولا تخفى عليه خافية. إنها إحاطة من كل ناحية. “يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء”. إنه الحق يعلم مطلق العلم. وكون الحق يعلم فإن ذلك لا ينفي أن يكون غيره يعلم أيضا، لكن علم البشر هو بعض علم موهوب من الخالق لعباده. فعندما يقول واحد: أنا أقول الشعر. فهل منع ذلك القول أحداً آخر من أن يقول الشعر؟ لا. إنه لم يقل: ما يقول الشعر إلا أنا.
ويقول سبحانه: “ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء”، و”العلم” هو الصفة التي تعلم الأشياء على وفق ما هي عليه، هذا هو العلم. وصفة الله وعلمه أعظم من أن يحاط بهم، لأنها لو أحيطت لحددت، وكمالات الله لا تحدد، مثلما ترى شيئا يعجبك فتقول: هذه قدرة الله، هل هي قدرة الله أو مقدور الله؟ إنها مقدور الله أي أثر القدرة، فعندما يقول: “ولا يحيطون بشيء من علمه” أي من معلومه.
“ويحيطون” هي دقة في الأداء، لأنك قد تدرك معلوما من جهة وتجهله من جهات، فأوضح سبحانه: أنك لا تقدر أن تحيط بعلم الله أو قدرته؛ لأن معنى الإحاطة أنك تعرف كل شيء، مثل المحيط على الدائرة، لكن ذلك لا يمنع أن نعلم جزئية ما، ونحن نعلم بما آتانا الله من قوانين الاستنباط، فهناك مقدمات نستنبط منها نتائج، مثل الطالب الذي يحل مسألة جبر، أو تمرين هندسة، أيعلم هذه الطالب غيبا؟ لا، ولكنه يأخذ مقدمات موضوعة له ويصل إلى نتائج معروفة سلفا لأستاذه. وأنت لا تحيط بعلم إلا بما شاء لك الله أن تحيط، “لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء”.
وقول الله: “إلا بما شاء” هو إذن منه سبحانه بأنه سيتفضل على خلقه بأن يشاء لهم أن يعلموا شيئا من معلومه، وكان هذا المعلوم خفيا عنهم ومستورا في أسرار الكون، ثم يأذن الله للسر أن ينكشف، وكل شيء اكتشفه العقل البشري، كان مطمورا في علم الغيب وكان سرا من أسرار الله، وبعد ذلك أذن الله للسر أن ينكشف فعرفناه، بمشيئته سبحانه. فكل سر في الكون له ميلاد كالإنسان تماما، أي أن له ميعادا يظهر فيه، وهذا الميعاد يسمى مولد السر. لقد كان هذا السر موجودا وكان العالم يستفيد منه وإن لم يعلمه. لقد كنا نحن نستفيد ـ على سبيل المثال ـ من قانون الجاذبية ولم نكن نعلم قانون الجاذبية، وكذلك النسبية كنا نستفيد منها ولم نكن نعلمها، وهذا ما يبينه لنا الحق في موضع آخر من القرآن الكريم، قال تعالى:  
{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد “53”}  (سورة فصلت)  مادام قال سبحانه: “سنريهم”، فهذا يعني أنه سبحانه سيولد لنا أسراراً جديدة، وهذا الميلاد إيجاداً وإنما هو إظهار، ولذلك يقول الناس عن الأسرار العلمية: إنها اكتشافات جديدة، لقد تأدبوا في القول مع أن كثيرا منهم غير متدينين، قالوا: اكتشفنا كذا، كأن ما اكتشفوه كان موجودا وهم لا يقصدون هذا الأدب. إنما هي جاءت كذلك، أما المؤمنون فيقولون: لقد أذن الله لذلك السر أن يولد.
وقوله: “لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء” فيه تحد واضح. فحتى إذا اجتمع البشر مع بعضهم فلن يحيطوا بشيء إلا بإذنه. وهذا تحد للكل حين يشاء سبحانه أن يجد إظهار سر في الوجود، فهذا السر يولد، وقد يكون إظهار السر موافقا لبحث الناس مثل العالم الذي يجلس في معمله ليجرب في العناصر والتفاعلات، ويهتدي لهذه وهذه، إنه يتعب كثيرا كي يعرف بعضا من الأسرار، ونحن لا ندري بتعبه وجهده إلا يوم أن يكشف سره.
لقد أخذ المقدمات التي وضعها الله في الكون حتى إذا تتبعناها نصل إلى سره، مثلما نريد أن نصل إلى الولد فنتزوج حتى يأتي، وقد يأذن الله مرارا كثيرة أن يولد السر بدون أن يشتغل الخلق بمقدماته، لكن ميعاد ميلاد السر قد جاء ولم ينشغل العلماء بمقدماته؛ فيخرجه الله لأي مخترع كنتيجة لخطأ في تجربة ما. وعندما نبحث في تاريخ معظم الاكتشافات نجدها كذلك، لقد جاءت مصادفة، فهناك عالم يبحث في مجال ما، فتخرج له حقيقة أخرى كانت مخفية عنا جميعا. لقد جاء ميعاد ميلادها على غير بحث من الخلق، فجاء الله بها في طريق آخر لغيرها، وفي بعض الأحيان يوفق الله عالما يبحث المقدمات ويكشف له السر الذي يبحث عنه.
إذن، فـ”لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء” تعني أن الإنسان قد يصادف السر بالبحث، ومرة يأتي سر آخر في مجال البحث عن غيره، فالله لا يضن بكشف السر حتى لو لم يشتغلوا به ونسميها نحن ـ مصادفة ـ إن كل شيء يجري في الكون إنما يجري بمقدار، وهذا هو الذي يفرق لنا بين معرفة غيب كان موجودا وله مقدمات في كون الله نستطيع أن نصل إليه بها، وشيء مستور عند الله ليست له مقدمات؛ إن شاء سبحانه أعطاه من عنده تفضلا؛ من باب فضل الجود لا بذل المجهود وهو سبحانه يفيضه في “المصادفة” هنا ويفيضه فيما لا مقدمات له على بعض أصفيائه من خلقه، ليعلم الناس جميعا أن لله فيوضات على بعض عبيده الذين والاهم الله بمحبته وإشراقاته وتجليه.
لكن هل هذا يعني أن باستطاعتنا أن نعرف كل الغيب؟ لا، فالغيب قسمان: غيب جعل الله له في كونه مقدمات، إن استعملناها نصل إليه، ككثير من الاكتشافات، وإذا شاء الله أن يولد سر ما ولم نبحث عنه فهو يعطيه لنا “مصادفة” من باب فيض الجود لا بذل المجهود. ونوع آخر من الغيب ليست له مقدمات، وهذا ما استأثر الله بعلمه إلا أنه قد يفيض به على بعض خلقه كما يقول سبحانه:  
{عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا “26” إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا “27” }  (سورة الجن) إن الله هو عالم الغيب فلا يطلع أحدا من خلقه على غيبه إلا من ارتضاه واصطفاه من البشر، لذلك فلا أحد يستطيع أن يتعلم هذا اللون من الغيب. ولذلك فلا يوجد من يفتح دكانا لعلم الغيب يذهب إليه الإنسان ليسأله عن الغيب. إن الحق يقول:  {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين “59”}  (سورة الأنعام)  وهو سبحانه لا يعطي المفتاح لأحد من خلقه. وقد يريد الله أن يعطي لواحد كرامة، فأعطاه كلمة على لسانه قد يكون هو غير مدرك لها! فيقول: من يسمح هذا القول وينتفع به. فلان قال لي: كذا وكذا .. يا سلام! وهذا فيض من الله على عبده حين يبين الله لنا أنه يوالي هؤلاء العباد الصالحين. وقوله الحق: “ولا يحيطون بشيء” نجد أن كلمة “شيء” تعني أقل القليل. وقوله سبحانه: “من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض” يعلمنا أن الحق فيما يتكلم به عن نفسه ولخلقه فيه نظائر، كالوجود، هو سبحانه موجود وأنت موجود، كالغني هو غني وأنت غني، كالعلم هو عالم وأنت تكون عالماً، فهل نقول: إن الصفة لله كالصفة عندنا؟ لا، كذلك كل ما يرد بالنسبة للغيب فيما يتعلق بالله إضافة أو وصفاً؛ لا تأخذها بالمناسب عندك؛ بل خذها في إطار “ليس كمثله شيء”.  فإذا قيل لله يد، قل: هو له يد كما أن له وجودا؛ وبما أن وجوده ليس كوجودي فيده ليست كيدي بل افهمها في إطار “ليس كمثله شيء”، فإذا قال: “وسع كرسيه” نقول: هو قال هذا، ومادام قال هذا فسنأخذ هذه الكلمة في إطار “ليس كمثله شيء”. فلا تقل له كرسي وسيقعد عليه مثلنا، لا. لقد وجدنا من قال: أين يوجد الله؟!! متى وجد؟!! وقلنا ونقول: “متى” و”أين” لا تأتي بالنسبة لله، إنها تأتي بالنسبة لكم أنتم، لماذا؟ لأن “متى” زمان و”أين” مكان. والزمان والمكان ظرفان للحدث، فالشيء الحادث هو الذي له زمان ومكان، مثال ذلك أن أقول: “أنا شربت” ومادام قد حدث الشرب فيكون له زمان ومكان، لكن هب أنني لم أشرب، أيكون هناك زمان أو مكان؟! لا، فمادام الله ليس حدثاً فليس متعلقاً به زمان أو مكان، لأن الزمان والمكان نشأ عندما خلق الله وأحدث هذا الكون، فلا تقل: “متى” لأن “متى” خلقت به، ولا تقل “أين” لأن أين خلقت به ولأن “متى” و”أين” ظرفان؛ هذه للزمان، وهذه للمكان، والزمان والمكان فرعا الحديث. وعندما يوجد حدث فقل زمان ومكان.
اذن فمادام الله ليس حدثاً، فإياك أن تقول فيه متى، وإياك أن تقول فيه أين، لأن “متى” و”أين” وليدة الحدث. وقوله الحق: “وسع كرسيه” نأخذه ـ كما قلنا في إطار “ليس كمثله شيء”، الكرسي: في اللغة من الكرس. والكرس هو:التجميع، ومنه الكراسة وهي عدة أوراق مجمعة، وكلمة “كرسي” استعملت في اللغة بمعنى الأساس الذي يبنى عليه الشيء، فمادة “الكرسي” (الكاف والراء والسين) تدل على التجميع وتدل على الأساس الذي تثبت عليه الأشياء؛ فنقول: اصنع لهذا الجدار كرسيا، أي ضع لهذا الجدار أساساً يقوم عليه. وتطلق أيضا على القوم والعلماء الذين يقوم بهم الأمر فيما يشكل من الأحداث، والشاعر العربي قال: “كراسي في الأحداث حين تنوب” أي يعتمد عليهم في الأمور الجسيمة.
وحين ينسب شيء من ذلك للحق سبحانه وتعالى. فإن السلف لهم فيها كلام والخلف لهم فيها كلام، والسلف يقولون: كما قال الله نأخذها ولكن نضع كيفيتها وتصورها في إطار “ليس كمثله شيء”، وبعضهم قال: نؤولها بما يثبت لها صفة من الصفات، كما يثبتون قدرة الحق بقوله الحكيم:  
{يد الله فوق أيديهم } (من الآية 10 سورة الفتح) أي أن قدرة الله فوق قدرتهم، وكما قال سبحانه عن قدرته في الخلق:  {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون “47” }  (سورة الذاريات)  إن كمال قدرة الله أحكمت خلق السماء، والحق سبحانه مقدس ومنزه عن أن يتصور المخلوق كلمة “يد” بالنسبة لله. ونحن نقول: الله قال ذلك، ونأخذها من الله؛ لأنه أعلم بذاته وبنفسه، ونحيلها إلى ألا يكون له شبيه أو نظير، كما أثبتنا لله كثيرا من الصفات، في خلق الله مثلها ومع ذلك نقول: علمه لا كعلمنا، وبصره لا كبصرنا، فلماذا يكون كرسيه مثل كرسينا؟. فتكون في إطار “ليس كمثله شيء”.  والعلماء قالوا عن الكرسي: إنه ما يعتمد عليه، فهل المقصود علمه؟. نعم. وهل المقصود سلطانه وقدرته؟. نعم، لأن كلمة “كرسي” توحي بالجلوس فوقه، والإنسان لا يجلس عن قيام إلا إذا استتب له الأمر، ولذلك يسمونه “كرسي الملك”؛ لأن الأمر الذي يحتاج إلى قيا وحركة لا يجعلك تجلس على الكرسي، فعندما تقعد على الكرسي، فمعنى ذلك أن الأمر قد استتب، إذن فهو بالنسبة لله السلطان، والقهر، والغلبة، والقدرة.
أو نقول: مادام قال: “وسع كرسيه السماوات والأرض” فوسع الشيء أي: دخل في وسعه واحتماله. “والسماوات والأرض” نحن نفهمها أنها كائنات كبيرة بالنسبة لنا، إنه سبحانه يقول:  
{لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون “57” } (سورة غافر)  وعندما يقول: إن الكرسي وسع السماوات والأرض، إذن، فهو أعظم من السماوات والأرض أي دخل في وسعه السماوات والأرض. ولذلك يقول أبو ذر الغفاري رضي الله عنه:  (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال: يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة).  والبشرية بكل ما وصلت له من إنجازات علمية قد وصلت إلى القمر فقط وهو مجرد ضاحية من ضواحي الأرض، ومفصولة عنا بمسافة تقاس بالثواني الضوئية، ولقد تعودنا في حياتنا أن نستخدم وحدات الميل والكيلومتر لقياس الأطوال والأبعاد الكبيرة، لكننا اكتشفنا أن هذه الوحدات ليست ذات نفع في قياس أبعاد النجوم؛ لأننا نعرف مثلا أن الشمس تبعد عن الأرض ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال، ولكن عندما نريد أن نرصد المسافة بيننا وبين أحد النجوم فلسوف نضطر إلى استخدام أعداد كثيرة من الأصفار أمام رقم ما، وهذا يجعل التعبير غير عملي، ولهذا السبب وضع علماء الفلك وحدة ملائمة لقياس أبعاد النجوم وهي ما نسميه السنة الضوئية. ونحن نعرف أن سرعة الضوء حوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية. ولذلك فقياس أي مسافة بيننا وبين أي نجم في السماء أمر يحتاج إلى حسابات دقيقة وكثيرة ودراسة علوم متعددة. فالشمس بيننا وبينها ثلاثة وتسعون مليوناً من الأميال ويصلنا ضوؤها في خلال ثماني دقائق وثلث الدقيقة. والشعري اليمانية وهي ألمع نجوم السماء يصل إلينا ضؤوها في تسع سنوات ضوئية. إذن فالسنة الضوئية هي وحدة لقياس المسافات الفلكية. ونحن نذهل عندما نعرف أن بعض النجوم يصل ضؤوها إلينا في خمسين سنة ضوئية!! كل ذلك ونحن لم نصل بعد إلى السماء الدنيا، فما بالنا ببقية السماوات؟ إذن فحدود ملك الله فوق تصورنا. ولنا أن نعرف أي تكريم من الحق للمؤمنين حين يصور لنا ضخامة الحياة يقول سبحانه:  {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم “21”} (سورة الحديد)  هذه هي الجنة التي أعدها الله للمؤمنين بالله ورسله الذين يسارعون إلى طلب غفران الله. فإذا كان عرض الجنة هو السماوات والأرض، فما طولها إذن؟ وكم يكون بعدها؟ والعرض كما نعرف هو أقل البعدين. إذن يجب أن نفهم أن هناك عوالم أخرى غير السماء والأرض، لكن عيوننا لا تبصر فقط إلا ما أراده الحق لنا من السماء والأرض، ولذلك فعندما نسمع قول الحق: “وسع كرسيه السماوات والأرض” فلنا أن نتخيل أي عظمة هي عظمة كرسي ذي الجلال والإكرام.  إن الحق يقول: “وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما”، ومعنى أده الشيء، أي أثقله. وحتى نفهم ذلك هب أن إنسانا يستطيع أن يحمل عشرة كيلوجرامات، فإن زدنا هذا الحمل إلى عشرين من الكيلوجرامات فإن الحمل يثقل عليه، ويجعل عموده الفقري معوجا حتى يستطيع أن يقاوم الثقل. فإن زدنا الحمل أكثر فقد يقع الرجل على الأرض من فرط زيادة الوزن الثقيل.
إذن فمعنى “ولا يؤوده حفظهما” أي أنه لا يثقل على الله حفظ السماوات والأرض. إن السماء والأرض وهما فوق اتساع رؤية البشر؛ فقد وسعهما الكرسي الرباني. وقال بعض المفسرين: إذا كان الكرسي لا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض فما بالنا بصاحب الكرسي!!؟ هاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يطمئنا فيقول:  
{إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا “41” }  (سورة فاطر) إنه الحق وحده سبحانه وتعالى الذي يحفظ السماوات والأرض في توازن عجيب ومذهل، ولئن قدر لهما أن تزولا. فلن يحفظهما أحد بعد الله، أي لا يستطيع أحد إمساكهما؛ فهما قائمتان بقدرة الواحد القهار، وإذا أراد الله أن تزولا فلا يستطيع أحد أن يمسكهما ويمنعهما من الزوال. وإذا كانت هذه الأشياء الضخمة من صنع الله وهو فوقها، فإنه عندما يصف نفسه بأنه “علي” و”عظيم” فذلك أمر طبيعي. إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا تذييلاً منطقياً يقتضيه ما تقدمت به الآية الجليلة: آية الكرسي، إنه الحق يقول: “وهو العلي العظيم” وكلمة “علي” صيغة مبالغة في العلو. و”العلي” هو الذي لا يوجد ما هو أعلى منه فكل شيء دونه.
هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها نعرفها بآية الكرسي؛ لأن كلمة “الكرسي” هي الظاهرة فيها. وكلمة “الكرسي” فيها: تعني السلطان والقهر والقدرة والملكية وكلها مأخوذة من صفات الحق جل وعلا. إنه لا إله إلا هو. إنه الحي. إنه القيوم. إنه الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. والشفاعة عنده مأذون فيها بإرادته هو وحده وليس بإرادة سواه. وهو العليم بكل شيء، الذي يسع كرسيه السماوات والأرض وهو العلي فلا أعلى منه، وهو العظيم بمطلق العظمة. وتتجمع كل هذه الصفات لتضع أمامنا أصول التصور في العقيدة الإيمانية، وقد وردت فيها أحاديث كثيرة، ومنها نستخلص أنها آية لها قدرها ومقدارها عند الله. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:  “وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو الطعام فأخذته وقلت والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلى عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ يا أبا هريرة: “ما فعل أسيرك البارحة”؟ قال: قلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: “أما إنه كذبك وسيعود” فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة: “ما فعل أسيرك”؟ فقلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: “أما إنه قد كذبك وسيعود” فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هي؟  قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي “الله لا إله إلا هو الحي القيوم” حتى تختم الآية؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما فعل أسيرك البارحة”؟ قلت يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: “ما هي” قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم “الله لا إله إلا هو الحي القيوم”، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا (أي الصحابة) أحرص شيء على تعلم الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أما أنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال صلى الله عليه وسلم: “ذاك الشيطان”.  
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سورة البقرة فيها سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه ـ آية الكرسي”.  وعن أبي أمامه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ دبر كل صلاة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت”.  وعن علي كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من قرأها ـ يعني آية الكرسي ـ حين يأخذ مضجعة آمنه الله تعالى على داره، ودار جاره، وأهل دويرات حوله”.
كل هذه المعاني قد وردت في أفضال هذه الآية الكريمة، وقد جلس العلماء يبحثون عن سر هذه المسألة فقال واحد منهم: انظروا إلى أسماء الله الموجودة فيها.  وبالفعل قام أحد العلماء بحصر أسماء الله الحسنى فيها، فوجد أن فيها ستة عشر اسماً من أسماء الله، وبعضهم قال: إن بها سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى، وبعضهم قال أن فيها واحداً وعشرين اسماً من أسماء الله، كل ذلك من أجل أن يستنبطوا منها أشياء، ويعلموا فضل وفضائل هذه الآية الكريمة. والذين قالوا إن بها ستة عشر اسما من أسماء الله قالوا:
إن بها اسم علم واجب الوجود “الله”.  واسم “هو” في لا إله إلا هو: هو الاسم الثاني.  و”الحي” هو الاسم الثالث.  و”القيوم” هو الاسم الرابع.
وعندما ندقق في قول الحق “لا تأخذه سنة ولا نوم” نجد أن الضمير في “لا تأخذه عائد إلى ذاته ـ جل شأنه ـ..  و”له ما في السماوات وما في الأرض” فيها ضمير عائد إلى ذاته سبحانه وكذلك الضمائر في قوله: “عنده” و”بإذنه” و”يعلم” و”من علمه” و”بما شاء” و”كرسيه” كلها تعود إلى ذاته جل شأنه.  و”لا يؤوده حفظهما” فيها ضمير عائد إلى ذاته كذلك.
و”هو” في قوله سبحانه “وهو العلي العظيم” اسم من أسمائه تعالى.  و”العلي” اسم من أسمائه جل وعلا.  و”العظيم” كذلك اسم من أسمائه سبحانه وتعالى.  لكن عالماً آخر قال: إنها سبعة عشر اسماً من أسماء الله؛ لأنك لم تحسب الضمير في المصدر المشتق منه الفعل الموجود بقوله: “حفظهما” إن الضمير في “هما” يعود إلى السماوات والأرض. و”الحفظ” مصدر. فمن الذي يحفظ السماوات والأرض؟ إنه الله سبحانه وتعالى، وهكذا أصبحوا سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى في آية الكرسي.  وعالم ثالث قال: لا، أنتم تجاهلتم أسماء أخرى؛ لأن في الآية الكريمة أسماء واضحة للحق جل وعلا، وهناك أسماء مشتقة، مثال ذلك: الله لا إله إلا هو. الحي هو. القيوم هو. العلي هو. العظيم هو. ولكن العلماء قالوا ردا على ذلك: صحيح أنها أسماء مشتقة ولكنها صارت أعلاما. المهم أن في الآية الكريمة ستة عشر اسماً، وإن حسبنا الضمير المستتر في “حفظهما” نجد أنها سبعة عشر اسماً، وإذا حسبنا الضمير الموجود في المشتقات مثل “الحي هو” و”القيوم هو” و”العلي هو” و”العظيم هو”. صارت أسماء الله الحسنى الموجودة في هذه الآية الكريمة واحداً وعشرين اسماً. إذن هي آية قد جمعت قدراً كبيرا من أسماء الله، ومن ذلك جاءت عظمتها.
وهذه الآية الكريمة قد بينت ووضحت قواعد التصور الإيماني، وأنشأت عقيدة متكاملة يعتز المؤمن أن تكون هذه العقيدة عقيدته. والآية في ذاتها تتضمن حيثيات الإيمان، إنه مادام هو الله لا إله إلا هو، ومادام هو الحي القيوم على أمر السماء والأرض، وكل شيء بيده، وهو العلي العظيم، فكل هذه مبررات لأن نؤمن به سبحانه وتعالى، وأن نعتز بأن نعتقد هذه المعتقدات، وتكون هي الدليل على أن المؤمن فخور بهذا الدين الذي كان أمر الألوهية المطلقة واضحا وبينا فيه.  ولذلك فمن الطبيعي ألا يقهر الحق أحداً على الإيمان به إكراهاً، لأن الذي يقهر أحداً على عقيدة ما، هو أول من يعتقد أنه لولا الإكراه على هذه العقيدة لما اعتقدها أحد. ونحن في حياتنا اليومية نجد أن أصحاب المبادئ الباطلة هم الذين يمسكون السياط من أجل إكراه الناس على السير على مبادئهم. وكل من أصحاب هذه المبادئ الباطلة يعلم تمام العلم أنه لو ترك السوط والقهر ما سار إنسان على مثل هذه المبادئ الباطلة.  ولو كان أحد من أصحاب هذه المبادئ الباطلة معتقدا أن مبدأه سليم لقال: أطرح هذا المبدأ على الناس، وأترك لهم الخيار؛ لأنه في هذه الحالة سيكون واثقا من مبدئه. أما الذي يقهر الناس إكراها بالسوط أو السلطان ليعتقدوا مبدأ ما، فهو أول من يشك في هذا المبدأ، وهو أول من يعتقد أنه مبدأ باطل. مثل هؤلاء نراهم عندما تضعف أيديهم عن استعمال السوط أو السلطان فإن أمر مبدئهم ينهزم ويسقط بنيانه.