(كهيعص “1”) هذه خمسة حروف مقطعة ، تنطق باسم الحرف لا بمسماه، لأن الحرف له اسم وله مسمى ، فمثلا كلمة ( كتب ) مسماها ( كتب ) أما بالاسم فهي كاف ، تاء ، باء . فالاسم هو العلم الذي وضع على اللفظ . وفي القرآن الكريم سور كثيرة ابتدئت بحروف مقطعة تنطق باسم الحرف لا مسماه ، وهذه الحروف قد تكون حرفا واحدا مثل : ن ، ص ، ق . وقد تكون حرفين مثل : طه ، طس . وقد تكون ثلاثة أحرف مثل : الم ، طسم . وقد تأتى أربعة أحرف مثل : المر . وقد تأتى بخمسة أحرف مثل : كهيعص ، حمعسق . لذلك نقول : لا بد في تعلم القرآن من السماع ، وإلا فكيف تفرق بين الم في أول البقرة فتنطقها مقطعة وبين {ألم نشرح لك صدرك “1”} (سورة الشرح) فتنطقها موصلة ؟ وصدق الله تعالى حين قال : {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه “18”} (سورة القيامة)
ونلاحظ في هذه الحروف أنه ينطق بالمسمى المتعلم وغير المتعلم ، أما الاسم فلا ينطق به إلا المتعلم الذي عرف حروف الهجاء . فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمياّ لم يجلس إلى معلم ، وهذا بشهادة أعدائه ، فمن الذي علمه هذه الحروف ؟ إذن : فإذا رأيت هذه الحروف المقطعة فاعلم أن الحق سبحانه وتعالى نطق بها بأسماء الحروف ، ونحن نتكلم بمسميات الحروف لا بأسمائها . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : (ذكر رحمة ربك عبده زكريا “2”) الذكر : له معان متعددة ، فالذكر هو الإخبار بشيء ابتداء ، والحديث عن شيء لم يكن لك به سابق معرفة ، ومنة التذكير بشيء عرفته أولا ، ونريد أن نذكرك به ، كما في قوله تعالى : {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين “55”} (سورة الذاريات)
ويطلق الذكر على القرآن : {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون “9”} (سورة الحجر)
وفي القرآن أفضل الذكر ، وأصدق الأخبار والأحداث كما يطلق الذكر على كل كتاب سابق من عند الله ، كما جاء في قوله تعالى : {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون “43”} (سورة النحل)
والذكر هو الصيت والرفعة والشرف ، كما في قوله تعالى : {وإنه لذكر لك ولقومك .. “44”} (سورة الزخرف)
وقوله تعالى : {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم .. “10” } (سورة الأنبياء)
أي : فيه صيتكم وشرفكم ، ومن ذلك قولنا : فلان له ذكر في قومه . ومن الذكر ذكر الإنسان لربه بالطاعة والعبادة ، وذكر الله لعبده بالمثوبة والجزاء والرحمة ومن ذلك قوله تعالى {فاذكروني أذكركم .. “152”} (سورة البقرة)
ومن قوله تعالى: {ذكر رحمة ربك .. “2”} (سورة مريم)
أي : هذا يا محمد خبر زكريا وقصته ورحمة الله به . والرحمة : هي تجليّات الراحم على المرحوم بما يديم له صلاحه لمهمته ، إذن : فكل راحم ولو من البشر ، وكل مرحوم ولو من البشر ، ماذا يصنع ؟ يعطى غيره شيئا من النصائح تعينه على أداء مهمته على اكمل وجه ، فما بالك إن كانت رحمة الله لخير خلقه محمد ؟ إنها رحمة عامة ورحمة شاملة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء وأكرمهم وخاتمهم ، فلا وحي ولا رسالة من بعده ، ولا إكمال . إذن فهو أشرف الخلق ، ورحمة كل نبي تأخذ حظها من الحق سبحانه بمقدار مهمته ، ومهمة محمد أكرم المهمات . وكلمة ( رحمة ) هنا مصدر يؤدى معنى فعله ، فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول ،كما نقول : آلمني ضرب الرجل ولده ، فمعنى :
{رحمت ربك عبده زكريا “2”} (سورة مريم)
أي : رحم ربك عبده زكريا . لذلك قال تعالى : {رحمت ربك .. “2”} (سورة مريم)
لأنها أعلى أنواع الرحمة ، وإن كان هنا يذكر رحمته تعالى بعبده زكريا ، فقد خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله :
{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين “10”} (سورة الأنبياء)
فرحمة الله تعالى بمحمد ليست رحمة خاصة به ، بل هي رحمة عامة لجميع العاملين ، وهذه منزلة كبيرة عالية . فالمراد من {ذكر رحمة ربك عبده زكريا “2”} (سورة مريم)
يعنى هذا الذي يتلى عليك الآن يا محمد هو ذكر وحديث وخبر رحمة ربك التي هي اجل الرحمات بعبدة زكريا . وسبق أن أوضحنا أن العبودية للخلق مهانة ومذلة ، وهي كلمة بشعة لا تقبل ، أما العبودية لله تعالى فهي عز وشرف ، بل منتهي العز والشرف والكرامة ، وعللنا ذلك بأن العبودية التي تسوء وتحزن هي عبودية العبد لسيد يأخذ خيره ، أما العبودية لله تعالى فيأخذ العبد خير سيده. لكن ما نوع الرحمة التي تجلى الله تعالى بها حين أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر عبدة زكريا ؟ (ذكر رحمة ربك عبده زكريا “2”) قالوا: لأنها رحمة تتعلق بطلاقة القدرة في الكون ، وطلاقة القدرة في أن الله تبارك وتعالى خلق للمسببات أسبابا ، ثم قال للأسباب : أنت لست فاعلة بذاتك ، ولكن بإرادتي وقدرتي، فإذا أردتك ألا تفعلي أبطلت عملك ، وإذا كنت لا تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به . ومن ذلك ما حدث في قصة خليل الله إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار ، ولم يكن حظ الله بإطفاء النار عن إبراهيم ، أو بجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم أن ينجى إبراهيم ؛ لأنه كان من الممكن ألا يمكن خصوم إبراهيم عليه السلام من القبض عليه ، أو ينزل مطرا يطفئ ما أوقدوه من نار ، لكن ليست نكاية القوم في هذا ، فلو أفلت إبراهيم من قبضتهم ، أو نزل المطر فأطفأ النار لقالوا : لو كنا تمكنا منه لفعلنا كذا وكذا ، ولو لم ينزل المطر لفعلنا به كذا وكذا . إذن : شاءت إرادة الله أن تكيد هؤلاء ، وأن تظهر لهم طلاقة القدرة الإلهية فتمكنهم من إبراهيم حتى يلقوه في النار فعلا ، ثم يأتي الأمر الأعلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية الإحراق : {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم “69”} (سورة الأنبياء)
وكذاك في قصة رحمة الله لعبده زكريا تعطينا دليلا على طلاقة القدرة في مسألة الخلق ، وليلفتنا إلى أن الخالق سبحانه وتعالى جعل للكون أسبابا ، لأن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالأسباب ، وقد يلغيها نهائيا ويأتي بالمسببات دون أسباب . وقد تجلت طلاقة القدرة في قصة بدء الخلق ، فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن طريق التزاوج بين رجل وامرأة ، إلا أن طلاقة القدرة لا تتوقف عند هذه الأسباب والخالق سبحانه يدير خلقه على كل أوجه الخلق ، فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى ، ويخلق حواء من ذكر دون أنثى ، ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر . فالقدرة الإلهية إذن غير مقيدة بالأسباب ، وتظل طلاقة القدرة هذه في الخلق إلى أن تقوم الساعة ، فنرى الرجل والمرأة زوجين ، لكن لا يتم بينهما الإنجاب وتتعطل فيهما الأسباب حتى لا نعتمد على الأسباب وننسى المسبب سبحانه ، فهو القائل : {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور “49” أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير “50”} (سورة الشورى)
وطلاقة القدرة في قصة زكريا عليه السلام تتجلى في أن الله تعالى استجاب لدعاء زكريا في أن يرزقه الولد . قال تعالى : {ذكر رحمة ربك عبده زكريا “2”} (سورة مريم) أي: رحمه الله ، لكن متى كانت هذه الرحمة؟ يقول الحق تبارك وتعالى : (إذ نادى ربه نداء خفيا “3”) أي : في الوقت الذي نادى فيه ربه نداء خفيا . والنداء لون من ألوان الأساليب الكلامية ، والبلاغيون يقسمون الكلام إلى خبر ، وهو أن تطلب شيئا من عندك ، فلو قلت : يا محمد فأنت تريد أن تنشئ إقبالا عليك ، فالنداء إذن طلب الإقبال عليك ، لكن هل يصح أن يكون النداء من الله تعالى بهذا المعنى؟ إنك لا تنادى إلا البعيد عنك الذي تريد أن تستدنية منك . فكيف تنادى ربك تبارك وتعالى وهو أقرب إليك من حبل الوريد ؟ وكيف تناديه سبحانه وهو يسمعك حتى قبل أن تتكلم ؟ فإذا كان إقباله عليك موجودا في كل وقت ، فما الغرض من النداء هنا ؟ نقول : الغرض من النداء : الدعاء . ووصف النداء هنا بأنه : {نداء خفيا “3”} (سورة مريم) لأنه ليس كنداء الخلق للخلق ، يحتاج إلى رفع الصوت حتى يسمع ، إنه نداء لله تبارك وتعالى الذى يستوى عنده السر والجهر ، وهو القائل : {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور “13”} (سورة الملك)
ومن أدب الدعاء أن ندعوه سبحانه كما أمرنا : {ادعوا ربكم تضرعا وخفية .. “55”} (سورة الأعراف)
وهو سبحانه: {فإنه يعلم السر وأخفي “7”} (سورة طه) أي : وما هو أخفي من السر ؛ لأنه سبحانه قبل أن يكون سرا ، علم انه سيكون سرا . لذلك ، جعل الحق سبحانه أحسن الدعاء الدعاء الخفي ؛ لأن الإنسان قد يدعو ربه بشيء ، إن سمعه غيره رنما استنقصه ، فجعل الدعاء خفيا بين العبد وربه حتى لا يفتضح أمره عند الناس . أما الحق سبحانه فهو ستار يحب الستر حتى على العاصين، وكذلك ليدعو العبد ربه بما يستحي أن يذكره أمام الناس ، وليكون طليقا في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء ؛ لأنه ربه ووليه الذي يفزع إليه . وإن كان الناس يحزنون ويتضجرون أن سألتهم أدنى شئ ، فإن الله تعالى يفرح بك أن سألته . لكن لماذا أخفي زكريا دعاءه ؟ دعا زكريا ربه أن يرزقه الولد ، ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتيا وامرأته عاقر ؟ فكأن الأسباب الموجودة جميعها معطلة عنده ؛ لذلك توجه إلى الله بالدعاء : يا رب لا ملجأ لي إلا أنت فأنت وحدك القادر على خرق الناموس والقانون ، وهذا مطلب من زكريا جاء في غير وقته . أخفاه أيضا ؛ لأنه طلب الولد في وجود أبناء عمومته الذين سيحملون منهجه من بعده ، إلا أنه لم يأتمنهم على منهج الله ؛ لأن ظاهر حركتهم في الحياة غير متسقة مع المنهج ، فكيف يأتمنهم على منهج الله وهم غير مؤتمنين على أنفسهم ؟ فإذا دعا زكريا ربه أن يرزقه الولد ليرث النبوة من بعده ، فسوف يغضب هؤلاء من دعاء زكريا ويعادونه ؛ لذلك جاء دعاؤه خفيا يسره بينه وبين ربه تعالى . لقد أوضح زكريا عليه السلام العلة في ذلك في الآيات القادمة فقال : {يرثني ويرث من آل يعقوب .. “6” } (سورة مريم)
إذن : فالعلة في طلب الولد دينية محضة ، لا يطلب لمغنم دنيوي ، إنما شغفه بالولد أنه لم يأمن القوم من بعده على منهج الله وحمايته من الإفساد . لذلك قوله : ( يرثني ) هنا لا يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض ؛ أن الأنبياء لا يورثون ، وبذلك يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم.فالمسألة مع الأنبياء خالصة كلها لوجه الله تعالى ؛ لذلك قال بعدها :
{ويرث من آل يعقوب .. “6”} (سورة مريم)
أي : النبوة التي تناقلوها . فلا يستقيم هنا أبدا أن نفهم الميراث على انه ميراث المال أو متاع الدنيا الفاني . ومن ذلك قوله تعالى:
{وورث سليمان داود .. “16” } (سورة النمل)
لقراءة المزيد من خواطر الشيخ الشعراوي في سورة مريم اضغط على الوصلة التالية: سورة مريم