الحلقة 4:
لم يجد أحد في البيان أعظم من القرآن وهو ليس من سحر البشر وإنما يناقض هذا السحر ويقضي عليه وإنما هو من سحر البيان الذي يسحر النفوس فتخضع لله رب العالمين. نكمل في هذه الحلقة كيف تأثر العرب بسحر القرآن اللغوي والبياني. تحدثنا في الحلقة السابقة عن تأثر الوليد بن المغيرة بالقرآن وكيف سحقه القرآن بهجاء عجيب واليوم نتحدث عن عتبة ابن ربيعة.
قبل أن يكون هناك إعجاز علمي وتشريعي وقبل أن ينزل التشريع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره، قبل كل هذا في بدايات البعثة النبوية وقعت مجموعة حوادث وقصص توضح أن التأثير الذي كان على العرب في نفوس سامعي القرآن كان بسبب القرآن الكريم ولغته وبيانه وفصاحته. من هذه القصص قصة عتبة إبن ربيعة.
بدأت قريش تتأمل وتفكر ماذا يفعلون بمحمد r الذي فرّق جماعتهم وفرق بين الأبن وأبيه والمرأة وزوجها فأخذت قريش تفكر وتدبر في أمر النبي وما جاء به من البيان والهدى. فقال عتبة إبن ربيعة – سيد قريش وله من الأولاد والإخوة الذين لهم مكانة في قريش – فقال: دعوني آتي محمداً وأعرض عليه أموراً لعله يقبلها فوافقوا. فذهب عتبة إلى النبي r وجلس إليه وقال: يا محمد لقد جئت قومك بما فرّق جماعتهم وعِبت آباءهم وأجدادهم وآلهتهم وأنا سأعرض عليك أموراً لعلك تقبلها وتكف عما يغضب قومك ويفرق جماعتك. فقال النبي r في أدبه : قل أسمع يا أبا الوليد. فقال: يا محمد إن كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت تريد الضرف سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد نساءً زوجناك أجمل نساء العرب وإن كان فيك مرض جئنا لك بالأطباء حتى يشفيك من أي مرض وإن كنت تريد غير ذلك فبيّنه لنا نعطك إياه. إستمع له النبي r ولم يقاطعه وهذا من أدبه r فقال: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم. فقال r: إسمع مني. (في الوصف أن عتبة كان جالساً على الأرض فألقى يديه خلف ظهره وبدأ ينصت). فبدأ النبي r بأول سورة فصلت – وكان r من أجمل الناس صوتاً بالقرآن – فقال: (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)) (إنما أنا بشر مثلكم) – أي أنه لا يدّعي أنه إله – واستمر النبي في قراءة الآيات فترة وعتبة مذهول مما يسمع ثم تلا r الآيات عن خلق السموات والأرض (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)) ثم قرأ آية إنذار هزّت كيان عتبة الذي أخذ القرآن بكيانه – وقريش تراقب ما يجري من بعيد – فلما وصل النبي r إلى قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)) إهتزّ عتبة وقام من مكانه ووضع يده على فم النبي r وقال: ناشدتك الله والرحِم. إهتز عتبة من الإنذار بالصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فسكت النبي r وانتبه عتبة لما فعل فعاد إلى مكانه وجلس جلسته وقال للرسول r: أكمِل. أي كلام يؤثر في الإنسان هكذا تأثير؟!. أكمل الرسول r الآيات التي تتحدث عن قصص الأمم السابقة التي لم ترد عبثاً في القرآن وإنما هي إنذار لقريش، ثم بدأت الآيات تصف حال أهل النار (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)) ثم انتقلت إلى حال أهل الجنة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)) الله وليّك يا محمد حبيبك ونصيرك وهذا معنى الولاية، الله تعالى وليك يا محمد وولي المؤمنين فلا تخافوا من أعدائكم، ثم وصل r إلى آية السجود (وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ {س}(38)) فسجد النبي وعتبة ينظر إليه فرفع النبي r رأسه وقال: هذا ما عندي.
عتبة إبن ربيعة سيد قريش، فصيح معروف بفصاحته جاء يعرض العروض على النبي وأي عربي يفرح لهذه العروض وكان عتبة يتوقع أن يسمع رداً على هذه العروض ومفاوضات حولها ولكن الجواب كان آيات من سورة فصلت. إستغرب عتبة من هذا الرد الذي لم يكن يتوقعه على الإطلاق ولم يردّ النبي r على أي عرض من العروض ولم يتكلم بكلام من عنده وإنما كل الكلام كان قرآناً. فقام عتبة من مكانه مشدوهاً كالمسحور تماماً (إن من البيان لسحرا) وأي بيان أعظم من القرآن؟! وذهب عتبة إلى قومه وقال: خلّوا بينه وبين الناس (أي اتركوا محمداً يدعو لدينه) ووالله ليكوننّ لقوله شأناً. لم يقل ليكونن لمحمد شأناً وإنما لقوله أي القرآن الكلام الذي سمعه من محمد r وهو الفصيح العربي وقال هذا القرآن سيسطر على الناس. أثّر فيه القرآن وبلاغة القرآن وبهرته تماماً وخاف عتبة من التهديد والوعيد. فانتهره أبو جهل فقال له سنجمع لك مالاً حتى لا تضطر أن تكون مع محمد فتكون معه يعطيك. إهتزّ عتبة فهو لا يريد أن يترك سيادة قومه ولا يريد لأحد أن يستهزئ به. ثلاثة من سادات قريش- الوليد بن المغيرة وعتبة إبن ربيعة وأُبيّ بن خلف – كادوا أن يسلموا وسبب عدم إسلامهم أبو جهل ومنعهم من قول لا إله إلا الله – وهكذا يكون جلساء السوء عوناً على الوقوف في وجه الحق – واستمر عتبة على كفره ولو اهتدى لصار سيداً في الإسلام. ولكنه بقي على كفره من أجل الفخر وبسبب الحسد الذي أثاره أبو جهل. عتبة لم يلتفت إلى هذه الآيات العظيمة التي تلاها النبي r ونزلت عليه كالصواعق حتى اضطرته أن يهتز ويضع يده على فم النبي r حتى كاد أن يستجيب للحق لكنه قدّم طاعة أبو جهل على طاعة الله تبارك وتعالى فصار صريع الغرور وقتيل الكفر والإلحاد والباطل.
إعجاز القرآن واضح في آيات سورة فصلت وواضح في تحطيم رؤوس الكفر لكنهم أصروا على الكفر.
هذه ليست القصة الوحيدة التي جرت في أوائل الدعوة وسنتحدث عن يعض هذه القصص ثم ندخل في بيان هذا القرآن وأنقل عن أهل البيان واللغة ما ذكروه عن عظمة الإعجاز البياني واللغوي.
في الحلقة القادمة قصة إسلام عمر بن الخطاب وبعض سادة قريش واليهود ثم ندخل في أعماق البيان والسحر الجمالي في بلاغة القرآن الكريم.