في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف
في رحاب سورة الشعراء – 2
تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا
المقدم: من يقرأ سورة الشعراء يجد واضحًا أن جلّها يتحدث عن قصص الأولين من الأنبياء ومن الأقوام فلماذا سميت بالشعراء؟ ذكرت بعض الأسباب ونريد شيئًا من التفصيل في هذا الأمر.
د. المستغانمي: اسم السورة توقيفي من الله جلّ جلاله “سورة الشعراء” هذا عنوانها التوقيفي. بعض العلماء في التفسير قالوا تسمى السورة الجامعة أنها جمعت أكبر عدد من الأنبياء من حيث القصص أما سورة الأنعام ذكر فيها 18 نبي لكن فقط بالأسماء (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ(90) الأنعام) أما سورة الشعراء جمعت قصصهم مشاهد معينة من قصصهم. بعضهم سماها سورة الظُلّة (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(189) الشعراء) عندما أصاب قومًا الحر الشديد وهم أصحاب الأيكة ابتلاهم الله بحرّ شديد سبعة أيام، فلما اشتد الحرّ حتى غلت أنهارهم فجاءهم الله تعالى بغمامة، سحابة فأتوا تحتها يستظلون فلما تجمعوا تحتها أحرقتهم تلك الغمامة (عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) ولم يرد هذا اللفظ إلا في سورة الشعراء لذلك سميت به، عادة العناوين تتفرد بها بعض السور ولا تنطبق على كل السورة مثل الأنبياء ويوسف، لفظ الشعراء لم يرد في غير سورة الشعراء، ورد في غيرها شاعر، شعر لكن الشعراء لم ترد في غير هذه السورة. سورة الشعراء هي حوالي أكثر من 180 آية فيها حول القصص من مجموع آياتها 226 في العدّ المكي والمدني وفي العدّ الشامي 227 آية حسب علماء عدّ الآي. سميت سورة الشعراء العلماء يذكرون أنه لورود (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا(227)) لكن عندما نتعمق في تفسيرها وإدراك معانيها وتدبر آياتها نجد أن ثمة شبهًا بين الشعراء غير المؤمنين وبين الأقوام غير المؤمنين لأن سورة الشعراء فصّلت الأقوام الذين كفروا وبعد كل قصة تأتي اللازمة القولية التي تكررت ثماني مرات (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191)) (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ) أي القوم الذين سبق الحديث عنهم. هذه اللازمة القوية تكررت ثماني مرات. أكثر الأقوام كذبوا أنبياء الله فحاق بهم العذاب (أصابهم عذاب يوم عظيم) (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) فكأن القرآن يقول للشعراء الذين كان بعضهم يتولى كبر المعارضة المحمدية وكانوا يهجون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم النضر بن الحارث ومنهم العوراء زوجة أبي لهب وكثير من الذين يهجون الإسلام ويفنّدون أساسيات القرآن قال (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224)) الذي غووا (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا(227)) استثنى الله (إلا الذين آمنوا)، ابن فارس النحوي صاحب كتاب الصاحبي في اللغة العربية وأسرارها يقول: المستثنى أقل من المستثنى منه. فالشعراء المؤمنون مستثنون من الشعراء غير المؤمنين أكثر الشعراء غير مؤمنين وهذا ينطبق على الأقوام (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ). ثانيًا وصف الله الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226)) والأقوام معظمهم قالوا ما لا يفعلون فرعون قال لموسى (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)) موسى عليه السلام كان مؤيدًا من الله وعندما ألقى العصا قال له فرعون: ناشدتك بالله يا موسى احملها، أخافته الحية أو الثعبان، وعندما آمن من آمن من السحرة قال (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(56)) وتوعدهم أشد الوعيد ولكنه لم يفعل شيئا بل أغرقه الله وأطبق عليه الماء. قوم هود قالوا (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138)) نفوا نفيًا قاطعًا فقال (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ(16) فصلت) وعذبهم الله. وقوم لوط (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ(167)) لئن لم تنته عن دعوتنا لنخرجك ونبعدك هو قال لهم (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ(168)) من الهاجرين، قلى هجر، هو الذي هجرهم (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ(81) هود) وكانوا هم الغابرين والمهلكين. سيدنا نوح قومه قالوا (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ(116)) يتوعدونه لكنهم لم يحققوا شيئًا من وعيدهم ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا! هل يهزم رجل معه الله؟! قال الله لموسى وهارون (قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ(15)) هل يستطيع فرعون أن يصيب موسى وهارون بأذى والله يقول (إنا معكم مستمعون)؟! هذه المعية عظيمة. (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) بالعكس هم الذين أصابهم ما أصابهم وغشيهم من اليم ما غشيهم وأغرقهم الله سبحانه وتعالى. إذن التقى الأقوام المشركون مع الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون.
المقدم: هم اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر واتهموا القرآن بأنه شعر فهل لهذا الأمر علاقة باسم السورة؟
د. المستغانمي: نعم، أول آية في سورة الشعراء (طسم(1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)) تلك آيات القرآن ليس بشعر هذا لام ليس بشعر ولا بثر ولا بخطب، براعة استهلال عجيبة! وبعدما قص عليه قصص الأنبياء مع أقوامهم المكذبين وما لحقهم من العذاب عاد الكلام إلى القرآن (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)) يثبت أن القرآن رباني المصدر، من عند الله (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194)) ثم قال (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)) الشعراء هم الذين يتبعون الشياطين (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)) هذا كلام مقدّس عجيب عظيم حفظه الله وأنزله. فلكي يفصل الله تعالى ويميز بين القرآن وقداسته وبين الشعر سمى هذه السورة سورة الشعراء تنفيدًا لأقوالهم لكن هذا لا يدعونا أن نأخذ موقفا من الشعراء كلهم، جاء الاستثناء (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا(227)) الإمام الشافعي كان شاعرًا وحسان بن ثابت كان شاعرا وعبد الله بن رواحة كان شاعراً كانوا شعراء لكم الشعر الإسلامي الذي ينافح عن القرآن وعن الدين. بعض العلماء أيضًا لهم وجهة نظر في تسميتها قالوا: سميت الشعراء لأنها حفلت بخطابة الأنبياء مع الأقوام، كل الأنبياء قالوا كلامًا جميلاً بليغًا لأقوامهم، كل الأنبياء، موسى عليه السلام قال كلاماً بليغًا، سيدنا نوح قال لهم كلامًا بليغًا، سيدنا هود، سيدنا صالح، سيدنا لوط، كأن القرآن اجتزأ شيئا من خطابتهم لأقوامهم، كانت تلك الخطابة وسائل الإعلام وكان الشعراء في عصر الجاهلية كانوا هم الإعلام الحقيقي، الإعلام كان يتمثل في الخُطب وفي الأشعار حتى أن القبائل كانت تتنافس أن تُخرج من بينها شاعرًا أو خطيبا ليكون هو وسيلة إعلامها ويكون اللسان الذي يتحدث باسم القبيلة وأعدوا لهم سوق عكاظ لا للتجارة بل للأشعار وعلقوا أشعارهم على أستار الكعبة. إذن الشعر كان وسيلة إعلامية كأني بالقرآن يقول انظروا إلى الأنبياء والمرسلين كيف خطب كل واحد في قومه وكيف خاطبهم وبصّرهم وارشدهم وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أرشد قومه وجاء القرآن وسيلة إعلامية عظيمة لتبليغ عقيدة التوحيد.
المقدم: نتحدث عن الخصائص اللفظية التي تميز هذه السورة عن غيرها.
د. المستغانمي: هذه السورة لها هندسة عجيبة، مهندّسة موزّعة وزّعتها اللازمة القولية المتكررة ثماني مرات بعد كل قول قوم لنبيهم (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9))، أول مرة جاءت بعد آية علمية (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)) هذه آية عقلية علمية موجهة لقوم محمد صلى الله عليه وسلم ، للمسلمين وللعالم، بدأت (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) ثم جاء بأقوام الأنبياء موسى مع فرعون، نوح، إبراهيم، هود، لوط، شعيب، بعد كل مقطع ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (*) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(*)) هذه الآية تواسي وتثبت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك ولله المثل الأعلى العالم الحكيم الناصح الذي يمسك طالب علم ويراه قد تأسف على أمر ينصحه ويقول لا تأسف ولا تذهب نفسك حسرات، ثم يعطيه قصة ثم يعود إليه (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) كان القرآن يتخوّل محمدا صلى الله عليه وسلم بالموعظة ويمسح على قلبه ويقول (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) هؤلاء لا يعجزون الله، العزيز يعني الغالب القوي هؤلاء لا يعجزون الله يستطيع عقوبتهم لكنه رحيم يفسح الآمال حتى يتوبوا وحتى يعودوا (العزيز الرحيم) وآخر شيء قال (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)) وتحدث عن محمد صلى الله عليه وسلم.
من بين خصائصها اللفظية نجد هذا التركيب الجميل: “وأنت من” “وأنا من” فرعون لما تحدث مع موسى قال (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)) لم يقل له وأنت كافر، (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)) قال موسى لما أجابه (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20))، (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)) ((من) لبيان الجنس، من هذه المجموعة، من هذه الزمرة والطائفة) فرعون لما أراد أن يسجن موسى قال (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)) (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)) (وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)) (مِنَ الضَّالِّينَ) هذه تكررت في السورة 22 مرة (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)) (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)) هذه خاصية. درسنا قبلها سورة الفرقان لا يوجد هذا التعبير، فلكل سورة خصائص لفظية.
من بين ما يميزها بدايتها (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) لما بدأت (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) تكررت كلمة (مبين) (ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)) (لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)) (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)) (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)) هذه من خصائصها لأنه ثمة آيات أخرى (يس(1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ(2) يس) كلمة الحكيم ليس المبين لأن الحكيم تتناسق وتتناسب مع سورة يس من حيث اللفظ والمعنى.
مما يميز سورة الشعراء (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) كررها ثماني مرات حتى عندما أمر الله جلّ جلاله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوكل قال (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)) وهذه فريدة في القرآن العزيز الرحيم هذا الذي يؤانسك ويسليك ويثبتك ولن يتخلى عنك. في سورة الفرقان قال (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ (58) الفرقان) لأنه ورد في السورة (وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا(3) الفرقان) والله هو الذي يملك الموت والحياة والنشور فقال (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) وفي سورة الأحزاب قال (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) لأن فيها حديث عن الله.
من بين ما يميز سورة الشعراء أن فيها صبغة درامية سنصل إلى كل قصة، في كل قصة ذكر الله أن الأقوام استأسدوا واستغلظوا على أنبيائهم وتبجحوا، قال قوم هود (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138)) عندما يتجبرون الله سبحانه وتعالى لما علّق عليهم قال (أخرجناهم) في فن الأدب تسمى النهاية الدرامية، صور الله النهاية الدرامية المأساوية وأخرجهم مما كانوا فيه. تحدث الله عن قوم فرعون قال (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(58)) أخرجناهم مما كانوا فيه لم يشكروا الله. قوم عاد (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134)) ثم أخرجهم وعذّبهم، صالح مع ثمود (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ﴿١٤٦﴾ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٤٧﴾ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴿١٤٨﴾ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴿١٤٩﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٥٠﴾ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ﴿١٥١﴾ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴿١٥٢﴾ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٥٣﴾ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿١٥٤﴾ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴿١٥٥﴾ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿١٥٦﴾) وهذه أوقع في التأثير على تحسّرهم، فوصف القصص جانبًا مما كانوا فيه من النعم ثم وصف إخراجهم منها.
مما تتميز به سورة الشعراء وتفردت بهذا الكلام في وسطها بعد حديث ابراهيم مع قومه (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٧٧﴾ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾) وتبرأ إلى الله بالتوحيد وعاد إليه بالتوحيد بعد أن انتهى مشهد إبراهيم مع قومه قال (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٩٢﴾ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ﴿٩٣﴾ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾) هم والغاوون وجاء في نهاية السورة (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)) هذا الرابط، الرابط أن الشعراء كانوا مثل الأصنام يتبعهم الغاوون مثل الكهنوت وهؤلاء الأصنام يتبعهم الغاوون، (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴿٩٥﴾) استعمل (الغاوون) ثلاث مرات، هذا الحبل الرابط للسورة ولذاك سميت بسورة الشعراء. والشعر يغوي الناس ويوم القيامة يقول (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) القصص) أتت في سورة القصص.
مما يميز سورة الشعراء وهذا شيء لافت الحديث عن رب العالمين في البداية إلى النهاية. عندما أمر الله موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون قال (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦﴾) لم يقل رسول ربك حتى فرعون لما غضب واحتدّ قال (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٣﴾) ما جنسه؟ ما حقيقته؟. إبراهيم عليه السلام لما تبرأ مما يعبد قومه (إلا رب العالمين) وبدأ يصف من هو رب العالمين (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾) الذي أنكره فرعون أجابه موسى وأفحمه وأجابه إبراهيم عليه السلام. حتى الأنبياء والرسل لما تكلموا مع أقوامهم قالوا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) لم يقولوا إن أجري إلا على الله، كل الأنبياء قالوها. هذه سورة حفيت واحتفلت بتفصيل من هو رب العالمين. ألم يقل فرعون (وَمَا رَبُّ ٱلعَٰالمِينَ (٢٣))؟ سأعرفك من هو رب العالمين وهذا تعريفه إلى أن يقول في الختام (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)) في سور أخرى (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) الجاثية) (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافر) ورد في سورة فصلت (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)) أما في الشعراء (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)) فهنا أيقونة لفظية مرعية ولها أسبابها.
المقدم: في سورة النور تبدأ (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1) النور) وقلنا حينما ينتهي الله سبحانه وتعالى من موضوع يذكر (آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) على سبيل المثال (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ (18) النور) الآن في سورة الشعراء يقول الله تعالى (طسم(1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)) وحينما ينتهي من قصة يقول (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) هل لهذه اللازمة علاقة ببداية السورة (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)؟
د. المستغانمي: هذه اللازمة هي التي قسّمت السورة. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) تختلف من آية إلى آية، القرآن كله آيات منزّلة، لما تحدث عن الآية العلمية (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)) آية علمية آية الإنبات، لما تحدث عن قوم موسى وفرعون وما الذي وقع بينهم قصتهم عبرة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) لعبرة، الآيات قد تكون قرآنية وقد تكون من الواقع ومن العلم.
المقدم: نلج في السورة بداية من الحروف المقطعة، (طسم) ما معناها ولماذا وردت هنا وهل لها علاقة بما سيأتي في السورة؟
د. المستغانمي: (طسم) من الأحرف المقطعة التي بدأت بها ثلاث سور سورة الشعراء (طسم)، سورة النمل (طس) وسورة القصص (طسم) وهي متوالية في المصحف وفي النزول. هذه الأحرف المقطعة ذكر العلماء فيها أقوالًا وهي تأويلات وذكرنا في سورة مريم (كهيعص) وفي سورة طه لمحنا إلى هذا القول وقلنا أن الأقوال التي ذكرها بعض العلماء في التفاسير من باب التأويلات وليست ثمة أدلة دقيقة على صحتها، منهم من يقول اسم السورة بعضهم يقول طسم الشعراء، بعضهم يقول هي أسماء الله، بعضهم يقول هي أسماء الملائكة، بعضهم يقول هي أسماء يوم القيامة، ورد فيها أكثر من عشرين رأيًا، بعضهم يعطيها تأويلات: الطاء من ذي الطول والسين من القدوس والميم من الرحيم، هي تأويلات لا ترجيح لرأي على رأي، الرأي الراجح عند اللغويين وذكره علماؤنا وهو الرأي الذي نرتاح إليه أنها حروف عربية أبجدية هجائية بدأ بها القرآن للتحدي.
المقدم: عُلمنا منذ كنا صغارا بأن هذه الحروف المقطعة دلالة على إعجاز القرآن والإعجاز هو التحدي بشيء لا يستطيع المتحدى أن يأتي به فحينما نقول أن طسم أو طس هي دلالة على إعجاز القرآن أنا لا أفهم أين الإعجاز في هذه الحروف؟
د. المستغانمي: الإعجاز ليس في الحروف وإنما فيما يأتي في السورة.
المقدم: الإعجاز فيما يأتي في السورة بدون هذه الحروف؟
د. المستغانمي: كأني بالقرآن يقول هذا الكلام المعجز هو من جنس هذه الحروف ذكر (طسم) وذكر (كهيعص) وثمّة أسرار وسنذكرها يومًا ما في حينه. (طسم) هذا القرآن، هذه السورة نسجت من هذه الحروف أفتستطيعون أن تأتوا على منوالها؟! (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)
المقدم: الإعجاز ليس في مادة هذه الحروف والأصوات وإنما الإعجاز في بناء هذا القرآن من هذه الأصوات
د. المستغانمي: في بناء نظم القرآن لذلك لم يستطع العرب قديماً وكانوا أفصح الفصحاء وأصقع الخطباء لم يستطيعوا أن يأتوا بآية من مثله في محتواها ومبناها وعندما أراد مسيلمة الكذاب أن يعارض القرآن سمع (الْقَارِعَةُ(1) مَا الْقَارِعَةُ(2) القارعة) فكتب: الضفدع ما الضفدع، والفيل وما أدراك ما الفيل، كلام فارغ لا معنى له، لذلك لا يستطيع العرب أن ينسجوا ولا علماء الدنيا وقد تحداهم القرآن (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الإسراء)
المقدم: تعودنا أن نربط دائمًا العلاقات ما بين السور ونقول لماذا وردت هذه اللفظة أو هذا المصطلح في هذه السورة وورد مرادف له في سورة أخر لأنه يتناسب معها. حينما نقول بأن سورة الشعراء ثم النمل ثم القصص تأتي متتابعة في الترتيب وفي التنزيل وفي ذات البدايات (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) هذا معناه فيه سر؟
د. المستغانمي: طبعًا فيه سر، لا يوجد شيء في القرآن ليس فيه سر. حينما وضع الله عز وجلّ الفاتحة أول سورة ثم وضع سورة البقرة (الم) ثم سورة آل عمران (الم) ثم بعد عشرين جزءًا جاءت سورة العنكبوت (الم) والروم (الم) ولقمان (الم) والسجدة (الم) ست سور فيها (الم) هذه بينها علاقة وهي أسرة واحدة تبدأ بنفس المطلع، ثمة أسرار دلنا بعض العلماء عليها وثمة أسرار أخرى. (طسم) السور الثلاث الشعراء والنمل والقصص تحدثت عن قصة موسى، جاءت بداية قصة موسى في الشعراء من بعثته إلى فرعون (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(10)) لم تذكر تربيته في قصر فرعون، سورة الشعراء قصت لنا قصة موسى مع فرعون من البعثة اذهب إلى فرعون (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لم تتحدث عن طفولته ولا عن قتله القبطي ولا عن نزول الوحي، سورة النمل بعدها بدأت (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا (7) النمل) بدأت بالتكليف ونزول الوحي والتوراة عندما كلّم الله موسى. في سورة القصص (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٣﴾ القصص) قصة موسى وفرعون مفصلة وهامان وقارون، مفصلة من المولد (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ (7) القصص) العلاقة هرمية: سورة القصص التي هي آخر السور الثلاث بُنيت على التحدي تحدى الله فرعون الذي كان يقتل الأبناء ويستحيي النساء (طسم ﴿١﴾ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿٢﴾ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿٣﴾ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿٤﴾ القصص) ما دام علا في الأرض يستضعف طائفة هنا تدخلت العناية الإلهية (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ (7) القصص) هو أراد أن يقتل جميع أولاد بني إسرائيل فرباه في بيته وقالت زوجته (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) وتحداه الله! قدرة الله تتحدى فرعون الطاغية الذي كان يدعي الألوهية فجاء مولد موسى ولما ولد تربي في قصره (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) بعد ذلك وقع بينه وبين القبطي ما وقع وقتله خطأ ثم ذهب إلى مدين وهناك تزوج من ابنة الرجل الصالح ثم عاد إلى مصر وتوقفت القصة عندما أوحى الله إليه في الطور. جاءت سورة النمل التي قبلها أكملت من ذات الموقف (آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) فترة التلقي موسى يتلقى الوحي عند الطور وهي مرحلة جديدة تتوافق مع سورة النمل وشخصية سورة النمل (طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴿١﴾ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿٣﴾ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴿٤﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴿٥﴾ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴿٦﴾ النمل) لما قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴿٦﴾ النمل) أتى بالقصة المشابهة تلقي موسى للوحي من الله. العدسة البيانية القصصية ذكرت قصة موسى في تلقيه الوحي العظيم من الله. سورة الشعراء جاءت تسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقوام كذبوا رسلهم فحاق بهم العذاب ودمرهم الله تدميرا، هنا لا داعي للحديث عن إنزال الوحي ولا عن تربية موسى إنما أكملت المشوار (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بداية الدراما التي وردت في جميع قصص الأنبياء. إذن هذا التكامل بين هذه السور وثمة أسرار نرجئها إلى حين إظهار الإعجاز.
المقدم: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) لماذا التعبير بـ(تلك)؟
د. المستغانمي: تلك في اللغة العربية اسم إشارة للبعيد ولكن عندما تُقرأ في القرآن (ذلك وتلك) تدل على بعد المنزلة لا بعد المكان و(تلك) تشير إلى الآيات والسور السابقة النزول، كل ما نزل تلك آيات الكتاب المبين وفي هذه سيأتيك الكثير يا محمد صلى الله عليه وسلم.
المقدم: استعمل لفظ المبين لمناسبته للسورة
د. المستغانمي: لمناسبته للسورة وتكرر في عدد من المشاهد وهو من الخصائص الفظية لسورة الشعراء.
المقدم: (لَعَلَّكَ بَٰخِع نَّفسَكَ أَلَّا يَكُونُواْ مُؤمِنِينَ (3)) كنت أعتقد أن باخع نفسك يعني مهلك نفسك لكنكم ذكرتم في الحلقة الماضية أن باخع نفسك أي ذابح نفسك إلى العِرق.
د. المستغانمي: إلى العرق الداخل المستبطن في الفقرات. (بَٰخِع نَّفسَكَ) البخع في اللغة العربية هو إعماق الذبح إلى أن يصل الذابح إلى عمق الفقار. وهذه (لعل) تفيد الترجي وقال العلماء اللغويون (لعل) هذا تفيد الإشفاق، لعلك يا محمد، أشفق على نفسك يا محمد ولا تبخع نفسك ولا تهلك نفسك أسفًا على أن لا يكونوا مؤمنين. لم يقل له لعلك باخع نفسك ألا يؤمنوا وإنما قال (أَلَّا يَكُونُواْ مُؤمِنِينَ) بمعنى وطّن نفسك سيكفرون فهناك عدد منهم سيستمر على الكفر بينما في سورة الكهف قال (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) الكهف) (لم يؤمنوا) بالماضي، لماذا في سورة الشعراء تكلم بصيغة المضارع وفي سورة الكهف بالماضي؟ سورة الشعراء متقدمة في النزول 47 نزولًا وسورة الكهف 67 نزولًا فهي متأخرة بعدها، في سورة الشعراء وطّن الله محمدًا وثبت قلبه أنه لا زال عدد منهم سيكفر بك (أَلَّا يَكُونُواْ مُؤمِنِينَ) وسوف يستمر بعضهم، ولما قضى سنوات معهم جاءت سورة الكهف تثبته (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) بالماضي كما وجدت.
المقدم: ما مناسبة هذه اللفظة (باخع نفسه) مع سياق السورة ومحورها؟ والمعنى قد ورد في صياغة أخرى (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ (8) فاطر) لكن ورود (باخع) في سورة الشعراء تحديدا هل له علاقة بمحور السورة؟
د. المستغانمي: (لعلك باخع) هذه اللفظة تحمل شدّة التأسف، لعلك قاتل نفسك، لعلك مهلك نفسك لبيان شدة حسرة محمد صلى الله عليه وسلم. محور سورة الشعراء هو تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ولشدة أسف محمد صلى الله عليه وسلم على ضلال قومه في ذلك الوقت كانوا يضلون وكانوا يقولون ما لا يعلمون وكانوا يناصبونه العداء فقال (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ (8) فاطر) وفي قرآءة (فَلَا تَهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) فهنا اختار له المادة اللغوية (باخع) لتصوير شدة تأسفه.
المقدم: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)) نقف عند الآية (إن نشأ ننزل) أفعال مضارعة ثم (فظلّت) ماضي، فهل هناك سر في استعمال الأفعال؟
د. المستغانمي: لما طمأنه وثبت قلبه (لَعَلَّكَ بَٰخِعٌ نَّفسَكَ أَلَّا يَكُونُواْ مؤمِنِينَ (3)) قال له لست عليهم بمسيطر (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ) هنا فعل شاء مفعوله محذوف: إن نشأ تنزيل آية قاهرة ننزل عليهم، إن أداة شرط، إن نشأ تنزيل آية ننزل عليهم، المفعول به محذوف لا نقدّره (إن نشأ ننزل) لأن (ننزل) جواب الشرط. إن نشأ تنزيل آية قاهرة ننزل عليهم آية ملجئة قاسرة مكرهة. القياس اللغوي إن نشأ ننزّل فتظل أعناقهم (في المستقبل) جاء (ظل) هنا عدول من المضارع إلى الماضي لإفادة سرعة التحول سرعة الوقوع وسرعة الحصول. عوضًا عن أن يقول له: إن نشأ ننزل عليهم آية فتظل أعناقهم لها خاضعين قال (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ) تمّت وانقضت، صارت في حكم الواقع على شاكلة قول الله (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) سيأتي أمر الله. الله في القرآن إذا أراد أن يصف أمرًا بأنه تم ووقع يستخدم صيغة الفعل الماضي. هنا إن نشأ ننزل عليهم آية تقهرهم تلجئهم إلجاء قسريًا لأنزلنا عليهم آية فظلت أعناقهم لها خاضعين. (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) في غير القرآن نقول الأعناق خاضعة لكن في الآية أتى بالأعناق وخاضعين والعلماء لهم شرحان: الأول: الأعناق مقحمة أصل الكلام: إن نشأ ننزل عليهم آية فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، الخضوع يكون بالأعناق، الإنسان إما أن يكون متكبرًا رافعًا رأسه وهامته أو يكون خاضعًا متطامنًا يخضع برقبته والرقبة هي مكان الشموخ أو الانكسار والانقياد فأُقحمت كلمة الأعناق. بعضهم يقول (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) أصل الكلام ظلت أعناقهم خاضعة لكن بما أن الأعناق هي جزء من الإنسان عندما يأتي المضاف والمضاف إليه، المضاف جزء من المضاف إليه يجوز الوجهان في اللغو العربية، يجوز خاضعين وخاضعة واختيار خاضعين للإيقاع الصوتي للسورة كاملة. مفسرون آخرون يقولون: أعناقهم وجهاء القوم ورؤساؤهم كناية عن الرؤساء والوجهاء والملأ الذين يملأون العيون وهنا قال إن نشأ ننزل عليهم آية من السماء فظلت رؤساؤهم وأغنياؤهم لها خاضعين والقرآن حمّال ويشعّ بالمعاني.
المقدم: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)) وفي سورة أخرى (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) الأنبياء) ما هو الذكر؟ وفي آية أخرى قال (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ (2) الأنبياء) لماذا قال الرحمن ولماذا قال في الآية الأخرى (يلعبون) وهنا (معرضين)؟
د. المستغانمي: الذكر هو القرآن الكريم (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) الحديث عن القرآن. (محدث) متجدد، كلما نزلت آيات من السماء من الله سبحانه وتعالى تجدد إيمانهم تبلّغهم أشياء جديدة إلا ازدادوا كفروا وأعرضوا عنها (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ).
(الرحمن) (ربهم) – (إلا استمعوه وهم يلعبون) (معرضين)
هنا قال (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ(5)) يأتيهم في المستقبل تفيد التجدد، كلما أتاهم ذكر من الله ونزل على قلب محمد إلا كان هذا ديدنهم. (مِنَ الرَّحْمَنِ) قلنا أن السورة نزلت لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ولهدايتهم وكررت فيها اللازمة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) العزيز يستطيع عقابهم، الرحيم يبسط الآمال ويبسط الفرصة لهم حتى يتوبوا فهنا (الرحمن) يتألف قلوبهم ما يأتيهم من ذكر من الرحمن الذي يريد رحمتهم، الذي يريد الخير لهم ويريد صلاحهم ونفعهم للأسف قابلوه بالإعراض! سورة الأنبياء سورة الوعيد (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) الأنبياء) ومع الوعيد يناسب الرب لا الرحمن لأن كلمة الرب جلّ جلاله تفيد الترغيب والترهيب، كلمة الرب جلّ جلاله بمفهومها اللغوي تعني الرازق، تعني المعطي المنفق المربي الرحيم، تعني عدد من المعاني، الذي يرزق، لذي يحفظ، الذي يرعى ويحفظ ويتكفل وهو المالك فسورة الأنبياء فيها وعيد شديد اللهجة (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) الأنبياء) هنا قال (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ (2) الأنبياء) كلمة الرب تحتمل الترغيب والترهيب أما كلمة الرحمن تحتمل الرحمة فقط. فهنا رحمة بالقرشيين المشركين أتى ما يأتيهم من ذكر من الرحمن
السؤال الثاني (يلعبون) (معرضين): سبق الإعراض في أول آية (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) الأنبياء) (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) الأنبياء) واللعب أيقونة في سورة الأنبياء. أما في سورة الشعراء ففيها الإعراض بدليل أعرض المشركون عن محمد صلى الله عليه وسلم وأعرض الأقوام عن رسلهم كما سيأتي في القصص.
المقدم: (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)) ما دلالة يستهزئون؟ ما قيل يكذبون لتتناسب مع (فقد كذبوا)
د. المستغانمي: تقصد رد العجز على الصدر وهذا كثير في القرآن (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) النحل) (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (37) الأحزاب). هنا في غير القرآن: فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يكذبون لو قالها لكان الكلام صحيحا ويتسق مع الإيقاع لكن هنا قال يستهزئون فأضاف معنى لأنهم هم كانوا يكذبون وكانوا يستهزئون فجمع لهم صفة أخرى لكن القرآن وجيز إيجازا شديدا فجمع لهم الاستهزاء مع صفة الكذب وقبلها وصفهم بالإعراض. إذن المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بثلاث صفات: الإعراض والتكذيب والاستهزاء.
المقدم: في الآية التي قبلها قال (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) ما قال يعرضون ثم هنا قال (يستهزئون) ما قال مستهزئين؟
د. المستغانمي: هنا (يستهزئون) الاستهزاء متجدد، في البداية لما وصفهم بالإعراض هم أعرضوا نهائيًا عن محمد صلى الله عليه وسلم لكن هنا الآية وصفت استهزاءهم بالتجدد. لو قال فسيأتيهم أنباء ما كانوا به مستهزئين يمكن أن يفهم أنهم استهزأوا مرة أو اثنتين لكن لما قال (يستهزئون) تفيد الاستمرارية هم دائمًا سيستهزئون فأنت وطّن قلبك يا محمد وتجلّد وما عليك إلا البلاغ.
المقدم: وقفنا عند الآية السادسة وسيكون حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله عن الآية السابعة (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)) قال كريم ولم يقل بهيج كما ورد في سورة ق.