في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف
في رحاب سورة الشعراء – 6
تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا
المقدم: الحديث في سورة الشعراء في نهاية قصة إبراهيم مع قومه شرح لهم من رب العالمين (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) يذكر الضمير في بعض المواضع التي تحتاج إلى تأكيد التي قد تلتبس على الإنسان، هو الذي يهدي، هو الذي يُطعم وليس آباؤنا أو أرباب أعمالنا فالله هو الرزاق. حينما يقول الله سبحانه وتعالى (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾) ما قال والذي يمرضني، ما نسب المرض إلى الله سبحانه وتعالى
د. المستغانمي: هذا في البلاغة العربية يسمى التنكيت أن يعدل المتكلم البليغ من أسلوب إلى أسلوب لنكتة، هو أسند كل شيء لله وعرّف رب العالمين بما يفعل جلّ جلاله (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) خلقني بمعنى أوجدني وهو الذي يهدي العقول ويهدي القلوب ويهدي النفوس إليه جلّ جلاله والذي هو يطعمني ويسقين أي الذي أعطاني مقومات حياة الجسم الجسم لا يعيش بدون طعام وسقاء والذي إذا مرضت أيضًا فهو يشفين، هنا القياس اللغوي: الذي يمرضني، لأن المرض بيد الله والموت بيد الله والحياة بيد الله لكن تأدبًا مع الله أسند الضرر لنفسه، أسند الشر لنفسه المرض في النهاية يعدّ ضررا لذلك الإنسان لأنه قد يتأوه ويتألم ويعاني من المرض وإذا مرضت أنا بالأسباب التي ارتكبتها تحت قضاء الله وقدره فهو يشفين، أسند الشيء الجميل وهو الشفاء إلى الله تأدبًا مع الله وهذا ديدن القرآن، في سورة الجن قالوا (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴿١٠﴾) الرشد شيء جميل فأسندوه إلى الله، وفي قصة الكهف حينما قال (فأردت أن أعيبها) نسب العيب لذاته، هذه قضية مطردة في القرآن أما في الخير نسبه إلى الله (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما).
(الَّذِي خَلَقَنِي) بدأ تعريف الله (الذي) اسم موصوف إما يُعرب صفة لرب العالمين وهو قال (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) من صفته (الذي خلقني). بدل أو صفة، بعض اللغويين يقول: (إلا رب العالمين). ثم جملة استئنافية، مبتدأ (الَّذِي خَلَقَنِي)، ليس فيها مشكلة، هذا ثراء. (الَّذِي خَلَقَنِي) مبتدأ (فَهُوَ يَهْدِينِ) خبر، قد يقول قائل هل الخبر يُبتدأ بالفاء؟ نقول: اسم الموصول تقوّى إلى درجة الشرط حمل وتضمن الموصول معنى الشرط كأنه يقول: الذي خلقني، فهو يهدين، هكذا يجيب النحويون تضمن معنى الشرط ولا يوجد شرط. (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾) ولم يقل بعدها والذي إذا مرضت فهو يشفين إنما قال (وإذا مرضت) لأن ثمة علاقة تلاحمية بين الطعام والشراب والمرض لا يفصلها بـ(الذي) لأن المرض هو نتيجة آلية من زيادة الطعام أو الشراب أو عدم وجود الاعتدال. زار علي بن أبي طالب رضي الله عنه المقبرة مع رفقائه فقال لو سألناهم ما سبب آجالكم؟ لو أجابوا لقالوا: التخمة. المعدة بيت الداء كل الأمراض من الطعام والشراب لذلك لم يأت بـ(الذي).
(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾) هنا مسألة أخرى، من الذي يملك الموت؟ الله، من الذي يملك الإحياء؟ الله. (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) (أطمع) ما قال أرغب، أطمح، ألتمس، وإنما قال (أطمع) هو يصور عدم استحقاقه لهذه المغفرة، إبراهيم عليه السلام يهضم نفسه فما بالك أنت أتخذت عند الله عهدا؟!! أرغب فيها شدة رغبة، أطمع فيها نوع من الطمع كأنه يقول يا رب أنا لا أستحق، فيها شيء من التذلل وما أحوجنا أن نحن أن نتذلل أمام الله سبحانه وتعالى!!
(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) خطيئتي وليس ذنبي، هل للأنبياء خطايا؟! كلمة خطيئة وخطايا كلمة قوية لكن المفسرون قالوا الخطايا هي ما يتنافى مع مقام النبوة قال العلماء :حسنات الأبرار سيئات المقربين. وهؤلاء الأنبياء هم المقربين، اللمم بالنسبة لمقام النبوة خطايا فلذلك هو يقصد هذا، أطمع أن يغفر لي ما لا يتناسب مع مقام النبوة والخُلّة وصل إبراهيم إلى مقام الخُلّة فهو خليل الله. البعض يقول الخطايا هي الكذبات الثلاث البيضاء عندما قال (اقَالَ بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) الأنبياء) وعندما قال عن زوجه سارة أنها أخته وعندما قال إنه مريض لم يخرج في عيد قومه لكن رأيي أن إبراهيم الخليل معصوم كما الأنبياء معصومون، ومقام النبوة مقام عظيم وهنا كان إبراهيم يدعو كما دعا الأنبياء الصالحون.
المقدم: دعا إبراهيم عليه السلام (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿٨٣﴾ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴿٨٤﴾ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿٨٥﴾ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٨٦﴾ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾) لماذا هذه الأدعية بالتحديد؟ وما الحكمة من ورودها في ختام قصة إبراهيم عليه السلام؟.
د. المستغانمي: إبراهيم قبل أن يدعو كان يحاجج قومه ويدعوهم إلى الإسلام ووإلى التوحيد وهل أحسن ممن دعا إلى الله؟! (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) فصلت) الدعوة إلى الله عمل عظيم كالصلاة، هو عندما دعا قومه وحاججهم ثم عرّفهم من هو الله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٧٧﴾ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) لما انتهى من دعوته ومن التعريف والثناء على الله هنا حسُن أن يدعو. دائما عندما ننتهي من عمل عظيم في الإسلام نحن الآن أثناء الصيام في رمضان للصائم دعوة عند فطره، الدعاء مقبول عند إفطار الصائم وأدبار الصلوات الدعاء مقبول ومستجاب، عند الزحف، في عرفات الدعاء مقبول، إبراهيم في سورة البقرة عندما بنى الكعبة وابنه إسماعيل (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٢٧﴾ البقرة) لما انتهى من البناء دعا الله (ربنا تقبل منا). الانتهاء من عمل ديني خيّر الدعاء يكون مستحبًا.
لماذا دعا بهذه الدعاء؟ لماذا طلب الحكم؟ الحكم بمعنى الحكمة بشكل عام. إبراهيم كان نبيًا ورسولا فالزيادة في الكمال، رب هب لي حكمة. الحكم ليس الملك والأنبياء لا يطلبون هذا. عندما قال الله (آتيناه حكما وعلما) أي آتيناه النبوة آتيناه الحكمة وفصل الخطاب. وإبراهيم عليه السلام كان بحاجة إلى الحكمة ليحاجج قومه يجادلهم ويقنعهم.
(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿٨٣﴾ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴿٨٤﴾ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿٨٥﴾ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٨٦﴾ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾) هذه الخمسة التي دعا بها إبراهيم، هذه الأدعية هي في الحقيقة المقابل النفسي، الكمال النفسي في هذه الأدعية والتي أثنى بها على الله كانت في الكمال الجسمي الدنيوي كأنه قابل كل شي بدعاء:
(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) الله تبارك وتعالى هو الذي يهدي وإذا ما هداك الله لا يهديك لا كاتب ولا عالم ولا أي أحد لذلك قال (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) كأني به يقول: يا رب زدني هداية وألحقني بالصالحين
(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) الطعام والسقاء والشراب بهما قوام الجسم وإبراهيم يريد الثناء الذي يمشي عند ذريته فقال (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ) هذا غذاء الروح، غذاء الجسم الطعام والشراب أما غذاء الروح فهي الأخلاق واجعل لي من يذكرني ونحن في الصلاة الإبراهيمية نقول (اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) وجعل ذريته هم الباقين وترك له ذرية (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود: 71] جعل الله له ذكرا حسنًا، هو حريص على هذا أكثر من الطعام والشراب فقال (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ)
(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) المرض الجسمي الذي يشفيه هو الله وفي دعائه قال (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الكمال النفسي أحسن من الكمال الجسمي. (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) تتعلق بالأمور المادية عرّف بها الله وأثنى عليه ثم دعا بالكمال النفسي كأنه يقول ما أحوجنا أن نعتقد الاعتقاد الصحيح ونأتي الله بقلب سليم لا السليم من الأمراض الدنيوية وإنما سلامة القلب من الاعتقاد السيء ونأتي إلى الله بقلب يؤمن به ويتوكل عليه.
ثم قال (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) فإذا أحييتني فاجعلني من ورثة جنة النعيم.
هذا تقابل عجيب! عرّف الله بما يفعل للخلق جميعًا ثم لم يطلب الأمور الجسمية والمادية وإنما طلب الأمور الكمالية. (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾)( رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿٨٣﴾ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴿٨٤﴾ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿٨٥﴾ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٨٦﴾) قابل الدعاء بالدعاء، قال أطمع أن يغفر لي ثم فصّل بما يطمع فيه حقًا (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أنا أعلم أنه من الضالين كان مشركًا (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) استجاب الله له أدعيته ولكنه خشي إذا دخل الجنة وينادى على الضالين والعياذ بالله ويوقف أبوه آزر مع الفرقة الضالة إن كان ذلك يخز خاطره ويؤلمه فقال (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾)
إبراهيم دعا لأبيه في سور أخرى لكن الله سبحانه وتعالى ردّ عليه في دعائه لأبيه. إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له وإبراهيم كان صادق الوعد (وما كان استغفار إبراهيم تبرأ منه) هنا القرآن يصف لنا مشهدًا من مشاهد إبراهيم وهو حيّ وأبوه حيّ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وانتهى عند ما قال الله.
المقدم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾) المال والبنون في ذلك اليوم أم هنا في الدنيا؟ وهل في الآخرة مال وبنون؟
د. المستغانمي: في القيامة. يوم لا ينفع مال كما في سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿٢٥٤﴾ البقرة) لا مال ولا بنون يوم القيامة، هو يقصد يوم لا ينفع مال ولا بنون يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم. وهل يوم القيامة ثمة أموال؟ لا يوجد يوم القيامة أموال ولو كان ثمّة أموال فهي لا تنفع.
المقدم: ليست كما فهمتها أنه لا ينفع مال الدنيا ولا بنون الدنيا في يوم القيامة
د. المستغانمي: لو أنفقت كثيرا من مالي ألا ينفعني يوم القيامة؟ ألا تأتي الصدقة؟ المقصود كما في تفسير المفسرين: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم أي إلا من أتى الله بالاعتقاد السليم الصحيح، التوحيد، جاء موحّدا وبقلب سليم على البشرية لا حاقد ولا غيره. وهل ثمّة شي آخر ينفع؟ هل ينفع الإخوة؟ لا شيء ينفع وهذا يسمى أسلوب الاكتفاء يعني يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا شيء آخر، هو أعطانا مثالًا بما له به صله يوميًا، بعائلته وبماله، يوم القيامة هذان الإثنان يتخلفان واستثنى من النفع من أتى الله بقلب سليم. هنا النحويون تحدثوا كثيرا خلاصة قولهم: يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدًا إلا واحدًا أتى الله بقلب سليم. لو قرأناها (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾) بيان المستثنى والمستثنى منه صعب لكن نبسطها للمشاهد الكريم: يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدًا من الناس إلا واحدًا أتى بقلب سليم.
دعا إبراهيم الخليل بدعائه، هل استجاب الله دعاء إبراهيم الخليل؟ ما ورد هنا في سورة الشعراء، نقرأ سورة الصافات (وإن من شيعته) يتحدث عن نوح (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم) أجاب الله دعاءه هنا، القرآن يرد بعضه على بعض. وما ورد (قلب سليم) إلا في هذين الموضعين. وفي قصة إبراهيم (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴿٨٣﴾ الصافات) من صنف هذا الرجل نوح إبراهيم (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٤﴾)) هو أجابه بطريقة حكيمة (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٧٠﴾) إبراهيم دعا (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴿٨٤﴾) قال الله تعالى عنه (وتركنا عليه في الآخرين وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين) (إنه من عباده المؤمنين) آتاه الله كل ما أراد (إنه من المحسنين) اقرأ مقطع سورة الصافات تجد دعا إبراهيم الخليل. القرآن متكامل ورحم الله من قال هو لوحة واحدة، لا ينفع أن تقرأ سورة البقرة وحدها، اقرأ كل القرآن تجد ردودًا، تجد هذا يكمّل ذاك.
——–فاصل————-
المقدم: نبدأ الحديث عن الجنة (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٩٠﴾) ثم الجحيم (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾). (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) قال قبلها (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾) يتحدث عن يوم القيامة (إلا من أتى الله بقلب سليم) كأنه يقول: في ذلك اليوم (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٩٠﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾)
د. المستغانمي: هذا حسن التخلص بعد أن أثنى إبراهيم الخليل على الذات الإلهية (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾) ثم دعا بتلك الأدعية العظيمة وجاء أوان ذكر (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴿٨٢﴾) دعا بتلك الأدعية (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾) جاء حسن التخلص لوصف مشهد من مشاهد يوم القيامة الكثيرة وهو مشهد يتعلق بما سبق (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أزلفت يعني قرّبت وقبلها (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ﴿٦٤﴾) هذا ثوب السورة اللفظي، لم يقل أُدنيت، قُربت، غير بعيد وإنما قال هنا (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ). أزلفت الجنة فيها نكتة يعني لا يتجشّم المؤمنون والصالحون والمرسلون العناء للذهاب إليها، هي قُرّبت إليهم، أما جهنم والعياذ بالله فيساقون إليها سوقًا. وقال (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾) ما قال أبرزت أو برزت للإخافة الفعل مضعّف أبرزها الله وأبرزها حتى يراها الرآئي والذين يصلونها (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾). (الغاوون) الذين غووا وضلوا، في اللغة العربية عندنا ضلّ وغوى، الهداية يقابلها الضلال والغواية يقابلها الرشاد (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256] الرشد والغيّ يتقابلان، (ووجدك ضالًا فهدى) الغاوي هو ضال لكنه لم يرشد. كما قال الشاعر العربي:
إن أنا إلا من غزيّة إن غـوت غويت وإن ترشد غزيـّة أرشد
(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) الغاوون هم كل من ضل عن سواء السبيل ولم يرشدوا هذا الرشاد، وقال الغاوين ولم يقل الضالين لأن (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴿٢٢٤﴾) فهو قرّب المسافة للشعراء ثم قال (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾)
(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٩٢﴾) الفعل مبني للمجهول لأن المهم السؤال لا السائل، يقول المفسرون الملائكة تسألهم لأن المشركين والغاوين في جهنم أحقر من أن يسألهم الله تعالى.
أمور كثيرة يُسأل عنها المشرطون يوم القيامة واختيار هذا السؤال تحديدًا لأن قصة إبراهيم مع قومه كانت (مَا تَعْبُدُونَ) قالوا (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا) فلما أتى بمشهد أتى مشهد خصومة العابدين والمعبودين في جهنم وإلا يوم القيامة هناك أسئلة أخرى تُطرح. هذا مشهد يتبع قضية إبراهيم مع قومه، الآن الختام بمشهد يصف لنا يوم القيامة. (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) آية واحدة أما جهنم (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿٩٢﴾ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ﴿٩٣﴾ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴿٩٥﴾ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴿٩٦﴾ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٩٧﴾) الحديث طويل لأن القضية تتعلق بالمشركين أما المؤمنون فقال (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٩٠﴾) طوي الستار. نحن الآن الذي يهمنا والقرآن الله عز وجلّ صاغه لنعيش في رحاب السورة: ما دام حوار إبراهيم كان مع المشركين وقالوا نعبد أصنامًا وكانوا متعصبين قال سوف ترون الأصنام كيف يؤول الأمر وكيف تصبح يوم القيامة! (فَكُبْكِبُوا فِيهَا) الأصنام، (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) هل الأصنام التي كنتم تعبدونها تنصركم أو ينتصرون لأنفسهم؟! لا، (فَكُبْكِبُوا فِيهَا) الأصنام تُكبّ. (كبكبوا) كبكب فعل مكرر، كبّه على وجهه، كبكبه أي تكرر الفعل لأنهم سيتكرر كبّهم على وجوههم إلى أن يصلوا إلى قعر جهنم، تتابع الكبّ ، يتدحرجون، مثل فعل زلزل لتتابع ردّات الأرض، وسوس الشيطان يوسوس ولا يتوقف، دمدم الفعل مكرر، الصيغة تصف المعنى (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿٩٤﴾) الغاوون يكبكبون لكن لماذا تكبكب الأصنام وهي حجارة لا تنفع، لا تضر، لا تفقه؟ الله أكبّ الأصنام أمام العابدين حتى يروهم رأي العين فيزدادوا حسرة وتحسرًا: أنتم الذين أغويتمونا! كبكبوا يزدادون حسرة! (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) هؤلاء أتباع، الأصنام أخذوا حيّزًا وجنود إبليس الذين كانوا يوسوسون وكان يسوّلون لهم.
(قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴿٩٦﴾) الخصومة بين العابدين وبين جنود إبليس والأصنام.
(تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٩٧﴾) قسم، وحروف القسم الباء والواو والتاء لكن القسم بالتاء يكون لكل شيء عجيب غريب، للشيء الذي يكون فيه شيء من الأعجوبة يُقسم به كما قال (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) [يوسف: 85] الآن بعد أربعين سنة تذكر يوسف؟! يقسمون على أمر فيه غرابة. هنا (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا) أصلها إنّا كنا في ضلال مبين، هذه (إن) إنّ المخففة من إنّ المؤكدة وإن المخففة لا تعمل فيما بعدها (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أصلها: إنّا كنا في ضلال مبين لكن أتوا بها مخففة والدليل على أنها إن المخففة اللام الفارقة التي تؤكد على أنها إن المخففة ولو كانت إنّ لا تأتي اللام. هم لاموا أنفسهم (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) عندما يقولون هذا فيما بينهم فهم يتحسرون، الخبر سيق مساق التحسّر.
(إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٩٨﴾) لأنهم سووهم في الدنيا، كان المقتضى أن يقال: إذ سويناكم برب العالمين لكن قال (نسويكم) رسم المشهد والفعل المضارع يرسم الصورة دائمًا، إذا أردت أن تصور المشهد فعليك بالمضارع وإذا أردت أن تحكي فعليك بالماضي.
(وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ﴿٩٩﴾) أمثال فرعون وأمثال الطغاة.
(فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ﴿١٠٠﴾) هم كانوا يعبدون الأصنام ليقرّبوهم إلى الله زلفى تشفع لهم عند الله، الأصنام التي كانوا يأملون ويتأملون أن تنفعهم وتشفع لهم (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ﴿١٠٠﴾) من الأصنام الباطلة لا تشفع فينا. قال (من شافعين) (من) تفيد الجنس، الواحد يتأمل أن فلان يشفع له، من عائلته، أبوه عالم جليل، أبوه رسول، (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ). (شافعين) بالجمع (ولا صديق) بالإفراد أحد المفسرين يقول لكثرة الشفعاء وقلة الصديق، في الدنيا تجد الشفعاء لكن أين الصديق الحميم؟ أين الصديق وقت الضيق الذي يؤلم نفسه والذي يضحي لينفعك، يصدقك المودة. حتى هذا الذي يصدقك المودة يوم القيامة لا ينفعك، هذا المعنى الأول. المعنى الآخر الذي أميل إليه أكثر: أصل الكلام: فما لنا من شافعين ولا أصدقاء لكن القرآن أن يصف الصديق بالحميم فلإرادة وصف الصديق بالحميم لو جمع وقال أصدقاء لقال أحمّاء لكن (أحمّاء) هذا جمع ثقيل، حميم على وزن طبيب أطباء، حميم أحماء تأتي حميمين على جمع المذكر السالم، الوزن ثقيل، لإرادة تصوير الصديق بالحميم أفرِد. ولا صديق قريب، الصديق القريب لا ينفع فما بالك بالصديق البعيد؟! الصديق الحميم لا ينفع فمن باب أولى الصديق البعيد لا ينفع.
هنا تزداد حسرتهم ويتمنون ما لن يحصل (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠٢﴾) هذا أسلوب التمنى، في اللغة العربية (لو) حرف امتناع لامتناع تفيد الشرط، لو اجتهدت لنجحت، ما نجحت لأنك لم تجتهد. لكن هنا خرجت تنوسي فيها الشرط وأصبحت تفيد التمني (لو أن لنا كرة) كأنهم يقولون: نتمنى أن تكون لنا كرّة أخرى فنكون من المؤمنين، هم لا يرجون وإنما يتمنون الذي جعل النُحاة يجزمون أنها للتمني لفظ (فنكون) لأنها جواب التمني.
يختم الله سبحانه وتعالى هذه القصة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١٠٣﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿١٠٤﴾) إن في ذلك لعبرة، لآية، حديث إبراهيم مع قومه، حديثه ومحاججته لهم وتعليمه لهم ومحاولته إيقاظ جذوة التوحيد في قلوبهم لم ينتفعوا بها وقالوا نعبد أصناما ويفتخرون بها، بين عشية وضحاها يوم القيامة سيندمون الندم الكبير ويتمنون أن تكون لهم كرة، لكن الكرة موجودة الآن ليتهم يتعظون إن في ذلك لآية يا محمد لكن ما كان أكثرهم مؤمنين. والحديث أيضًا عن القرشيين وللأسف كل هذه الأدلة لا تحرك نفوسهم (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴿٧٨﴾ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿٨٠﴾ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴿٨١﴾) وكان يفترض أنهم يؤمنوا، العزيز القادر على تعذيبهم الرحيم الذي يبعث الرسل لهم حتى يعلموهم.
المقدم: يبدأ الحديث عن قوم نوح (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٠٥﴾) كذبوا المرسلين أو كذبوا رسولهم؟
د. المستغانمي: هم كذّبوا رسولهم ولكن لأنهم أنكروا البشرية قالوا لا يمكن أن يكون الرسول بشرًا فكأنهم كذبوا جميع الرسل ومن كذب رسولا فكأنما كذب الرسل جميعًا ونحن كمسلمين نؤمن بجميع الرسل (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة: 285]
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٠٥﴾) قال كذبت ولم يقل كذّب، في اللغة العربية يجوز التذكير والتأنيث في الفعل ولكن اختار الفعل المؤنث (كذبت) والذي اطلعت عليه في كتب المفسرين قوم مذكر وقال الزمخشري قوم مؤنث بدليل أن تصغيرها قويمة لكن (كذبت) تم تأويلها بالجماعة، كذبت أمة نوح المرسلين، كذبت جماعة نوح. لو قلنا كذب قوم، موجود لأن قوم كلمة لا مفرد لها من جنسها.
قال (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٠٦﴾) لأنه منهم، من القوم. ومفردة (أخوهم) تكررت مع جميع الرسل إلا مع أصحاب الأيكة قوم شعيب قال (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٧٧﴾) لأن شعيبًا كان من مدين ولم يكن من أصحاب الأيكة، بُعث إلى القومين إلى قومه الذين ينتسب إليهم وإلى أصحاب الأيكة لأنهما اشتركا في تطفيف الميزان، نفس الذنب فبعث لهم نبيًا واحدًا. والعرب يقولون يا أخا العرب، يا أخا القبيلة، فهو من هذا القبيل.
(أَلَا تَتَّقُونَ) بداية الدعوة، فهو يسجل عليهم أنهم لا يتقون الله. هذه (ألا) في اللغة العربية نفسرها بطريقتين: همزة الاستفهام ولا النافية يستنكر عليهم عدم التقوى أو (لا التحضيضية). إذن (أَلَا تَتَّقُونَ) هو يستفهم ويستنكر لماذا لا يتقون أو ألا تتقون بمعنى يحضهم على التقوى (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) أي قاتِلوا.
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٠٧﴾) اختار من بين الأوصاف الأمانة لأنها تجعلهم يثقون فيما أتى به، صفتان ضروريتان لكل نبي: الصدق والأمانة، والأمانة تقتضي الصدق والذي عنده أمانة يكون صادقًا. هرقل عندما ذهب إليه أبو سفيان وقال له عن محمد صلى الله عليه وسلم هل جرّبتم عليه كذبًا؟ قال أبو سفيان: ما شهدنا عليه كذبًا قطّ، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ليكذب على الله. الصادق صادق، الأمانة صفة ضرورية لجميع الرسل.
القرآن موجه للمسلمين، نوح عندما قال لقومه قال (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٠٧﴾) تعرفون صدقي وأمانتي، إياك أعني واسمعي يا جارة! تعريض بقريش أنتم تعرفون صدق محمد فلماذا تكذبونه؟!
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٠٨﴾) كررها وأكّدها من جديد. (وأطيعون) أطيعوني أنا نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم للفاصلة (أطيعوني، يهديني) ياء المتكلم حذفت لرعاية الفاصلة لأن الإيقاع الصوتي للسورة كله بالنون. فاتقوا الله وأطيعوه ثم أطيعوني، التقوى الخوف من الله تؤدي إلى طاعة الله وطاعة رسوله ولذلك قدّم التقوى على الطاعة. (وأطيعون) يوقف عليها بالسكون في القرآءة المشهورة.
(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٠٩﴾) هل كان يخاف مظنة أن يسألون الأجر؟ هو أتى بصفتين عظيمتين: الصفة الأولى تعرفون أمانتي وصدقي، ثانيًا هل طالبتكم بشيء من المال؟ المال هو الذي يطغي الناس، أنا ما طالبتكم بمال ولا أجر، دلالة عل النزاهة ، وهذه جملة رددها كل الأنبياء نوح وهود وصالح ولوط وشعيب قالوها لأقوامهم لأنه لو طلب أجرًا على ما يقدم لشك الناس أنه يريد دنيا يشتريها إنما الرسل نزهاء لا يطلبون مالًا، يطلبون المقابل من الله سبحانه وتعالى.
في سورة الشعراء تكرر (أجر) من الأجرة، العوض، لكن في سورة هود (ما أسألكم عليه مالا) لأنه بعدها بقليل قال (ولا أقول لكم إني ملك ولا أقول عندي خزائن الله) كلمة الخزائن تقتضي المال، أما في سياق آخر لا يوجد الخزائن فيأتي الأجر وهو مقابل العمل.
تكرار (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) لتثبيت فكرة أن كل الأنبياء في سورة الشعراء طلبوا من أقوامهم شيئين اثنين: التقوى والطاعة (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) إذا استثنينا موسى مع فرعون واستثنينا إبراهيم والطاعة لأن التقوى تورث الطاعة وأكّدها لأنهم كانوا في انحراف شديد، نوح لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وهم كانوا منكرين المشهد يتناسب مع الإنكار الذي كان يلاقيه محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه.
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴿١١١﴾) الأرذلون جمع أرذل وهم الطبقة الخسيسة الدنيئة أي اتبعك الناس الضعفاء الفقراء الذين لهم خسة ودناة، أنؤمن لك وندخل في حلفك واتبعك الناس الأراذل الضعفاء الذين لا قيمة لهم؟! في سورة هود قال (أراذلنا) الأرذلون جمع مذكر سالم جمع قلّة، سورة الشعراء فيها اتزان، في سورة هود الجدال الذي وقع بين نوح وقومه أشد، أراذلنا جمع تكسير.
قالوا (واتبعك) هذه الواو الحالية، أنؤمن لك والحال قد اتبعك الأرذلون؟! هذه الواو الحالية في مثل هذا تتبعها (قد) المفترض قياسًا لغويًا: أنؤمن لك وقد اتبعك الأرذلون، لكن حذفت (قد) وثمة قرآءة للإام يعقوب صحيحة: أنؤمن لك وأتباعك الأرذلون لأن الكتابة المصحفية تقتضيها: اتّبعك – أتباعك (أتباعك بمعنى ألف محذوفة فوق العين) أنؤمن لك وأنصارك وأتباعك الأرذلون؟! يُقرأ بالقرآءتين، لإفادة القرآءتين حذفت (قد)، هذه بلاغة القرآن العالية جدًا!
(قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١١٢﴾) هنا أتى بسؤال مع واو التلقين، هذه الواو العاطفة، على ماذا عُطفت؟ قال (وما علمي) هذه الواو تدل على أنهم قالوا كلاما طويلا: اتبعك الأرذلون الذين يعملون كذا وكذا والدليل (وما علمي) لما تأتي الواو في بداية الحوار تسمى عطف التلقين الذي يعطف على مقول سابق. ووضح (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴿١١٣﴾) (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴿١١١﴾ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١١٢﴾) الواو تدل على كلام محذوف. لما قال (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي) في سورة البقرة قال إبراهيم قال (ومن ذريتي) أي واجعل من ذريتي أئمة، واو التلقين، عطف التلقين.
(إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴿١١٣﴾) هنا أسلوب قصر، ما حسابهم إلا على ربي، هذا أسلوب قصر وحصر، قصر موصوف على صفة من الناحية البلاغية إن حسابهم إلا على ربي لأن الجار والجرور (عَلَى رَبِّي) متعلق بشي محذوف: إن حسابهم إلا كائن على ربي، مقصور على ربي، قصر موصوف على صفة فهو يتبرأ يقول: أنا لا أستطيع حسابهم، وكيف بي أن أطردهم وأقول لهم لا تؤمنوا بي حسابهم على ربي لكن أتى بأسلوب القصر ليؤكد الكلام، ما حسابهم إلا على ربي كأنه يقول حسابهم مقصور على الله.
(لَوْ تَشْعُرُونَ) هذه لو الشرطية، جوابها محذوف: لو تشعرون لعلمتم أن حسابهم على ربي. وقال لو تشعرون، ما قال لهم لو كنتم تعقلون وما قال لو كنتم تعلمون، هو جرّدهم من العلماء وجرّدهم من الشعور وهذا يسمى في اللغة أسلوب تجهيل، (لَوْ تَشْعُرُونَ) أسلوب تجهيل، في سورة هود قال (إني أراكم قوما تجهلون) إذا وصل الحوار إلى هذه الدرجة فأنتم جاهلون. وهنا قال: لو تشعرون لعلمتم أن حساب هؤلاء الفقراء على الله فما دخلي أنا لا أستطيع أن أطردهم.
وأكّدها بالتفصيل (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١٤﴾) (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴿١١٣﴾) ثم أتى بها جهارا نهارا (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١٤﴾) ما قال لن أطرهم، وإنما (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) ينفي عن نفسه صفة الطرد، ما أنا بالذي يفعل ذلك لإذا أنتم تستطيعون فعل ذلك فافعلوا (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) وظيفتي (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿١١٥﴾) ما أنا إلا نذير مبين، أسلوب الحصر والقصر والتأكيد.