في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف
في رحاب سورة الشعراء – 8
تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا
المقدم: توقفنا عند بداية قصة نبي الله لوط مع قومه في سورة الشعراء. نحن نعطي لمحات ولا نفصل كثيرًا في التفسير لأن البرنامج لتبيان ملامح السور.
د. المستغانمي: برنامجنا نعيش السورة القرآنية ونعطي خصائصها، عندما نجلّي خصائص السورة، ملامحها العامة، ملامحها اللفظية المضمونية، التناسق في السورة تتضح معالمها للقارئ وتتضح له معالم خصوصية وضع هذه السورة بعد هذه وقبل هذه ويسهل عليه الفهم ونقف عند بعض اللمسات واللفتات والوقفات البيانية إن استطعنا.
المقدم: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٦٠﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٦١﴾ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٦٢﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٦٣﴾ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٤﴾) هذه الديباجة المتكررة ثم تأتي الخصيصة التي تخصّ قوم لوط (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٥﴾ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴿١٦٦﴾)
د. المستغانمي: قبل أن نتحدث عما خصصه الله لقوم لوط وعن الفعلة الشنعاء التي كانوا يرتكبونها نتحدث عن الديباجة المكررة أو اللازمة القولية التي رددها كل نبي ورسول لقومه (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٦٢﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٦٣﴾ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٤﴾) كلهم قالوا هذا الكلام. نقف عند (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ) هذه اللازمة وهذه الجملة كررت لأن أخو القبيلة هو منهم ينتسب لهم، عندما قال جلّ جلاله (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٠٥﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٠٦﴾) نوح من القبيلة ينتسب إليهم، (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٢٣﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٢٤﴾) هود من عاد، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٤١﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٤٢﴾) صالح من ثمود، لوط لم يكن في الحقيقة نسبًا من قوم لوط، تاريخيًا هو أخوهم بالمصاهرة، لوط عليه السلام كان من العبرانيين هو ابن أخ إبراهيم وهو من العبرانيين وقوم لوط كانوا من الكنعانيين – هكذا يقول علماء التاريخ – فلم يكن منهم نسبًا وإنما بالمصاهرة تزوج منهم وعاش فيهم فأصبح أخًا لهم، وهذه المعلومة تفسر شيئا في سورة ق فيها شيء لافت للنظر عندما يقول (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٦٠﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٦١﴾) لماذا سمى قوم لوط إخوان لوط في سورة ق فقط؟ إنما هو أخوهم من المصاهرة وليس من النسب هذا يفسر قوله تعالى (وإخوان لوط) لم يسمهم قوم لوط في سورة ق. أنا لست ممن يتشجع كثيرًا للإعجاز العددي وله أصحابه وله متخصصوه لكن فيه حكم عديدة، في سورة ق يقولون حرف القاف تكرر 57 مرة ولافت للانتباه والعدد 57 يقبل القسمة على 19 (عليها تسعة عشر) كل رقم في القرآن له حكمة – أحببنا أم كرهنا وبضاعتي قليلة في هذا المجال ولم أتخصص فيه – عندما جاء الحديث عن قوم لوط سماهم إخوان لوط لو سماهم قوم لوط يزيد العدد ويخرب التناسق. السؤال لماذا تم التضحية بقوم لوط ولم يضحى بقوم نوح مثلا؟ لأن لوط لم يكن من قومه نسبًا وإنما كان منهم مصاهرة، ليس فقط للعدد وإنما لأنه كان أخًا لهم بالمصاهرة، تزوج منهم. وعندما نجا الله عائلة لوط قال (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٦٩﴾) قال (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴿١٧٠﴾ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿١٧١﴾) امرأته كانت من الكنعانيين ولم تكن من العبرانيين كانت موافقة لما يقوم به أهلها.
المقدم: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٥﴾ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴿١٦٦﴾)
د. المستغانمي: هذا سؤال استنكاري وينكر عليهم أن يفعلوا تلك الفعلة الشنعاء (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٥﴾) والذكران جمع ذكر ولم يقل ذكور، لماذا لم يقل ذكور؟ ذكور على وزن فعول وهو الجمع الشائع، ذكران هو جمع نادر الاستعمال على وزن “فُعلان” كما رأينا في سورة الفرقان (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴿٧٣﴾) عميانا جمع أعمى وعمٍ على وزن فعلان هذا الجمع نادر، ذكر هنا ذكران لأنه جمع غريب قليل الاستعمال فعبّر الله سبحانه وتعالى به عن فعلة غريبة شنعاء لا تستعملها البشرية (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٥﴾) من دون العالمين، أتأتون الذكران مخالفين جميع العالمين؟! هذه الفعلة لا يفعلها العالمون وليس فقط البشر، أصناف الحيوانات، فلأن هذا الفعل شاذّ أتى بجمع غريب غير مستخدم. ورد في القرآن في قصة قوم لوط وورد في قوله تعالى في سورة الشورى (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿٤٩﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) هنا أتى بها، في سياق سورة الشورى في نهايتها الله جلّ جلاله (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) قابلها (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) واحد يعطيه بنات وواحد يعطيه ذكور (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) التزويج أن يعطي لإنسان ذكر- أنثى، ذكر- أنثى، هذه غريبة جدًا أن يرزق إنسانًا مثلًا سبعة أولاد وسبع بنات يتزاوجون، العملية غريبة قليلة نادرة فأتى بـ(ذكران)، هذا ما قاله المفسرون. ذكران هو جمع غريب قليل الاستعمال وفعلتهم فعلة شنعاء تخالف جميع الإنسانية.
(مِنَ الْعَالَمِينَ) (من) حرف جر، لكن من معاني (من) في النحو أنها تفيد ابتداء الغاية ذهبت من البيت إلى المدرسة أو (من) تفيد التجزئة، أو من السببية (مما خطيئاتهم) بسبب خطيئاتهم أو لبيان الجنس وهنا سماها ابن مالك صاحب الأفية: “من الفصلية” التي تفصل: أتأتون الذكران مفصولين عن العالمين، أتأتون الذكران مخالفين جميع الخلائق؟! هي قصل بينهم وبين العالمين. لماذا فسّرت (من) هنا الفصلية وفي غيرها من الآيات فسرت على أنها لبيان الجنس (إنما أنت من المسحرين) أنت تنتمي إلى هذه الطائفة، أنت جزء من المسحّرين. (لِيَمِيزَ اللَّه الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال: 37] يميز الخبيث مفصولًا عن الطيب، هي قريبة ولكنه معنى رشيق دقيق (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة: 220] والله يعلم المفسد مفصولًا عن المصلح. ابن مالك صاحب الألفية قال هي (من الفصلية) وهو معنى دقيق فكأن المعنى: أتأتون الذكران من دون العالمين مخالفين جميع الخلائق؟!
(وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴿١٦٦﴾) هنا قال لهم (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) دلّهم إلى الفطرة السليمة، (بل أنتم) بل انتقالية، أولا ذمّهم ذمّا شديدا ثم بالغ في ذمّهم وانتقل في ذمهم إلى طريقة أخرى، في البداية استنكر عليهم بسؤال وهذا السؤال يتضمن ذمّهم. (بل) عادة للإبطال، (بل) نوعان: إضراب إبطالي وإضراب انتقالي، هكذا قال النحاة: جاء عمر بل أحمد، أبطلت كلامي الأول، أضربت عن كلامي الأول عن عمر وقلت (بل أحمد). هنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) لا يبطل الكلام الأول، هو ذمّهم في الأول ثم أضاف إلى الكلام جملة أخرى.
المقدم: هل يمكن أن يكون التفسير: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم كأن هذا الأمر هيّن بسيط بل أنتم قوم عادون، كأنني أضربت عن هذا الأمر البسيط وذهبت إلى شيء أكثر!
د. المستغانمي: الأمر الذي فعلوه ليس بسيطًا، أتأتون الذكران من دون العالمين ومخالفين العالمين ذمّهم بل أنتم قوم عادون هذا ما قاله النحاة والمفسرون أنت موغلون في العدوان ولم يقل بل أنتم عادون وإنما قال (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) هذا أصبح سجيّة مكونة لقوميتكم، القومية تتكون من الأخلاق من الخصال التي اشتهر بها القوم وأنتم قوم اشتهرتم بهذه الفعلة الشنعاء.
المقدم: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴿١٦٧﴾ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ﴿١٦٨﴾ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٦٩﴾ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴿١٧٠﴾ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿١٧١﴾) في آيات أخرى قيل (لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين)
د. المستغانمي: نوح عليه السلام قيل له ذلك وهنا قال (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) وهذا يؤكد الكلام الذي ذكرته في البداية أن لوط ليس منهم، لوط من العبرانيين وهم كانوا من الكنعانيين فهددوه وهذا دليل على أنهم كانوا يستبقون الذين كانوا معهم ويعمدون إلى عزل من يشاؤون. لم يقولوا له: لئن لم تنته يا لوط لنخرجنّك، أيضًا كلام صحيح، لكننا ذكرنا أن من أيقونات السورة اللفظية (لتكونن من) مكررة 22 مرة في الشعراء لإفادة أن لديهم مخرَجين آخرين أخرجوهم وأنت سوف تكون من المخرجين هذا ديدنهم. و(مِنَ الْمُخْرَجِينَ) ليس من المرجومين أو المضروبين هم يريدون أن يتخلصوا منه لأنه لم يكن أصلًا منهم جئت وسكنت لدينا وناسبتنا لنخرجنّك. قوم شعيب قالوا له (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) [الأعراف: 88] مدين هددوه بالإخراج قالوا (لَنُخْرِجَنَّكَ) ما كان الإخراج ديدنهم أما قوم لوط فقالوا (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴿١٦٧﴾) هم معتادون على هذا الأمر. وفي سورة النمل قالوا (أخرجوا) هم مصرّون على الإخراج لأنه لم يكن منهم تاريخيًا.
(قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ﴿١٦٨﴾) من المبغضين (ما ودعك ربك وما قلى) وما أبغضك ربك أبدًا يا محمد. (من القالين) تصب في نفس المعنى ما قال إني لعملكم لقالٍ أو لمبغض وإنما (من القالين) أولًا لإفادة تمكّن الوصف فأنا شديد البغض لكم لما تعملون، ثانيا ليتناسق مع النسق التعبيري، ثالثًا ليتناسق مع علم البديع (قال) – (من القالين) هذا يسمى جناس مطرّف مذيّل، هذا جناس تام (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) وهنا يسمى جناس مطرف مذيل لأنه أضيفت الياء والنون في نهاية (القالين).
ثم دعا ربه (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٦٩﴾) لكن الله سبحانه وتعالى نجاه وأهله أجمعين (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿١٧١﴾) لما نقرأ (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٦٩﴾) هل كان لوط يخاف أن يقع في عملهم؟ لا، ليس هذا هو المعنى وإنما هو يخاف من العقاب الذي سيقع نتيجة هذا العمل لذلك قال: رب نجني وأهلي من عذاب ما يعملون (المضاف محذوف) ما الدليل؟ (فأنجيناه) أنجاه من العذاب الذي حاق بهم.
(فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴿١٧٠﴾) لما قال أهله أجمعين (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴿١٧١﴾) لو لم يذكرها لظنّ السامع أن زوجته كانت من أهله، لما ذكر أهله أجمعين لا بد من الاستثناء لأنها كانت توافقهم فيما يفعلون وكانت منهم في الغابرين في الباقين في الهلاك، غبر: بقي ومكث في الهلاك.
ثم يأتي نوعية العذاب (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ﴿١٧٢﴾ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ﴿١٧٣﴾) التدمير كلمة عامة، ما نوع التدمير؟ خسف بهم الأرض فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل وهنا أمطر عليهم مطرًا من الحجارة، (مطرا) مفعول به ولو قال إمطارًا لكان مفعولًا مطلقًا، مصدر هنا أمطرنا عليهم مطرًا من نوع خاص عوض أن يقول أمطرنا عليهم حجارة كثيفة الصبّ عليهم أتى بكلمة المطر لبيان كثرة سقوط الحجارة عليهم وكانت كل واحدة تذهب إلى صاحبها (حجارة من سجيل منضود).
(فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) لم يقل وساء مطر قوم لوط، وساء مطرهم وإنما قال ساء مطر المنذَرين الذين أُنذروا ولم ينتذروا ووعِظوا ولم يتعظوا أتى بالمنذرين حتى لا يقول أحدهم أو أحد المتستشرقين: عذاب شديد أوقعه الله بقوم لوط! ساء مطر الذين أُنذروا، كم مرة أنذرهم؟! استحقوا العذاب عن جدارة (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) [القصص: 59]
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١٧٤﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿١٧٥﴾) خصوصًا لتجار قريش الذين اعتادوا السفر والتجارة من مكة (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ﴿١٣٧﴾ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿١٣٨﴾ الصافات) إن كنتم ذوي عقول فأعمِلوا عقولكم في الاتعاظ بما سبق لقرى قوم لوط.
قصة شعيب
(كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٧٦﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٧٧﴾ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٧٨﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٧٩﴾ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٨٠﴾) ما قال أخوهم لأنه ثابت تاريخيًا أن شعيب عليه السلام كان من قبيلة مدين وقبيلة مدين تنتمي إلى الأب وهو مدين أبن أخ إبراهيم ولوط ابن أخ إبراهيم لكن قبيلة مدين كانت متأخرة في الزمن فهم أبناء ذرية ينتمون إلى مدين ويقولون بلدهم إلى الآن من ناحية الخليل في فلسطين، أصحاب الأيكة بعد تبوك فصاعدًا إلى بلاد الشام هناك تاريخيًا أثبتوا أنهم كانوا هناك فمدين غير أصحاب الأيكة لذلك هنا قال (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) تُقرأ الأيكة وتُقرأ أصحاب الايكة في قرآءات أخرى أما حفص عن عاصم نقرؤها (الأيكة) بالهمزة (عندما تصبح علَما على قبيلة لا تنصرف نقول أيكةٌ وهنا (أصحاب الأيكةِ) مضافة تنصرف) كانوا يسكنون بجانب مدينة الخليل ولم يكن شعيب منهم فقال (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٧٧﴾) شعيب أُرسل للقومين وللقبيلتين: لمدين ولأصحاب الأيكة لاجتماعهما في تطفيف الميزان.
الأيكة هي الشجر الملتفّ الكثيف، الأيكة تطلق على الدوحة العظيمة الشجرة الكثيفة الملتفة وتطلق أيضًا على الغيضة عندما يتجمع الماء وينبت الشجر الكثيف، الماء عندما يتجمع في بعض البلاد المخضرّة تجد القصب ينتشر وأيضًا في أدغال آسيا تجد الأيلك الملتف هنا شجرهم يسمى شجر المُقل والدَوب وهو مثل النخيل كثير الالتفاف فهذه غيضتهم كانت في بلاد الشام كانت كثيرة الاخضرار فسمّوا بها.
مدين وأصحاب الأيكة اتفقوا على تطفيف الناس وكانوا ينقصون المكيال وكانوا يبخسون الناس أشياءهم فأرسل الله عز وجلّ لهم شعيبا لأنه عُني بتصحيح هذه الآفة. آفة قوم لوط في الشذوذ والإنحراف، وآفة قوم مدين وأصحاب الأيكة في التطفيف في الميزان، آفة فرعون في العلو والتجبر في الأرض، آفة قوم إبرهيم في عبادة الأصنام، هذه كلها آفات كانت منتشرة عند العرب وعند غيرهم ذكرها الله عز وجلّ ليتعظ القارئون والمشركون المخاطَبون بالقرآن (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً) لقريش لأن كثيرًا من قريش كانوا يستوون مع أهل الأيكة في الإشراك وفي التطفيف وأنزل الله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴿١﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿٢﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿٣﴾ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ﴿٤﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿٥﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٦﴾ المطففين) جمع بين الإشراك والتطفيف كما جمع أصحاب الأيكة بين الإشراك والتطفيف إذن كلها دروس للمخاطبين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ﴿١٨١﴾) أوفوا من الإيفاء، وفّوا الناس حقوقهم إيفاءً أي عندما تزنون أعطوا للناس حقوقهم ولا تُخسروا، هنا أكّد المعنى الأول أكد الأمر بالإيفاء بعدم الإخسار (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) لو قال لا تكونوا مخسرين قد نظن أن هذا الخطاب موجه من شعيب إلى أولئك فقط، (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ﴿١٨١﴾) من زمرة المخسرين، كأنه يقول لا تكونوا من أهل هذا الصنيع، من أهل هذه الحِرفة الشنعاء التي يبخس الناس المشترين أشياءهم، واحد يشتري منك شيئا يعطيك مالا وأنت تنقصه حقوقه! يوم القيامة ستقف أمام الله وعلى التجار أن يقرأوا هذه الآية (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ﴿٤﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿٥﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٦﴾ المطففين)
المقدم: بعد ذلك الله سبحانه وتعالى يقول على لسان شعيب (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴿١٨٢﴾) ماذا تعني لفظة القسطاس؟ وهل هي عربية على اعتبار أنها مفردة غريبة مثل استبرق؟ ما هو أصلها؟
د. المستغانمي: القسطاس هي كلمة ليست عربية الأصل، هي كلمة رومية غرّبها القرآن وعرّبها العرب في استعمالاتهم وكثير من الكلمات ليست عربية، حبشية، رومية، فارسية لكن إذا ما استعملها العرب وأخضعوها لقوانين اللغة العربية للنحو العربي وقواعده وصرفه أصبحت عربية. القسطاس له معنيان: المعنى الأول هو العدل والمعنى الثاني هو الميزان في اللغة الرومية والأولى أن نحمل عليه المعنى هنا. لو فكرنا (وزنوا) بالآلة أما لو قلنا القسطاس هو العدل أيضًا صحيح. أقسط وقسط، أقسط بمعنى عدل وقسط بمعنى جار وظلم، لذلك لما تكلم أحدهم مع الحجاج قال له: أنت من القاسطين ثم تذكر الحجاج (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) بينما أقسط عدَل.
بحكم كون الكلمة رومية فعرّبت لا نستطيع إلا أن نقول هي من غير الكلام العربي، من الممكن أن العرب استنبطوا منها كلمة أقسط كما قلنا عندما قلنا شيطان وتشيطن، كلمات العرب يستنبطون ويخضعون لقواعدهم.
(وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴿١٨٢﴾) أي زنوا بالميزان كأداة تناسب (المستقيم)، قسطاس أتت على وزن فِعلال وفُعلال، قِسطاس وقُسطاس في قرآءة أخرى صحيحة.
(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿١٨٣﴾) لا تنقصوا الناس أشياءهم التي هي لهم، لا تطففوا، لا تُخسروا، ولا تعثوا في الأرض مفسدين لم يقل ولا تفسدوا أي لا تصبحوا في الأرض تمشون يمينا وشمالا وتفسدون كأنه يقول لا يكن الإفساد ديدنكم، حالكم، الصفّة المتأصلة والمتجذرة فيكم. عندما تقول لأناس لا تفسدوا غير أن تقول لا تعثوا في الأرض مفسدين وأتى بحالتهم لأن (مفسدين) حال فقرّب لنا الصورة كأننا نراها.
(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ﴿١٨٤﴾) الجبلّة هي الخلق، على وزن فعلّة لما نقول جبله الله على كذا أي خلقه على هذه الصفات، فطره، خلقه، ذرأه، هذه كلها مترادفات، الجبلّة هي الخِلقة الأولى، وانظر إلى الجملة (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ) وفي البداية قال لهم (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٧٩﴾) هو نفسه، في البداية قال اتقوا الله لذاته العلية وهنا قال اتقوا الذي خلقكم وخلق أسلافكم وآباءكم الأقدمين وكان حريًا بكم أن تشكروه جلّ جلاله لأنه هو الذي خلقكم من عدم وأحياكم من موات وأيقظكم من همود، خلقكم وخلق آباءكم من قبلكم فيها نعمة فيها امتنان فكانت كلمة (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ) هي توكيد لكن أتى بالواو لتفيد المغايرة فذلك معنى وهذا معنى جديد بينما لو لم يأت بالواو لكانت: اتقوا الله وأطيعون، اتقوا الذي خلقكم، نقول توكيد لكن (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ) أعطى معنى جديدًا، كما ذكرنا في قصة قوم عاد (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٣١﴾ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ﴿١٣٢﴾) وبدأ يفصّل (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ﴿١٣٣﴾ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿١٣٤﴾)، لما كرر الواو فيها مغايرة.
(قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٨٥﴾) أتوا بنفس الكلام الذي ذكرته ثمود لنبي الله صالح (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٥٣﴾ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) لا يوجد واو (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، أصحاب الأيكة قالوا (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا). أولًا قالوا له (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٨٥﴾) أصابك سحر وأيّ سحر! لم يقل إنما أنت مسحّر، أنت من زمرة المسحّرين الذين اعتراهم سحر كبير ولم يقولوا من المسحورين لأن المسحرين أقوى، فعّل أقوى وتفيد المبالغة. عندما قالوا له (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٨٥﴾) هم لا يعترفون بنبوته ورسالته وإلا لما وصفوه ووسموه بأنه مسحّر. إذن وسموه بأنه من المسحّرين هذا إبطال لرسالته ثم أبطلوها بطريقة أخرى (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ) واو المغايرة أدّت إلى أنهم يستشهدون بطريقتين، بينما كلام ثمود عندما تحدثوا مع صالح (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٥٣﴾) (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) الكلام الثاني أكّد الكلام الأول يعني الدليل على أنك من المسحرين أنك أنت بشر وأنت لا تنطق عن الإله ولست رسولًا من إله. أصحاب الأيكة كانوا حاقدين أكثر فأتوا بأدلة أكثر قالوا له (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴿١٨٥﴾) وهذا كفيل بأن لا نطيعك، ثانيًا لإبطال رسالته قالوا: (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) هذا دليل آخر لإبطال رسالته ساقوه بين يديه.
(وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) هذا سبب آخر، هذا الترقّي: أولًا إنك من المسحرين، ثانيًا أنت بشر مثلنا، ثالثًا أعطوا الحجة الدامغة في رأيهم (إن نظنك) هي في الحقيقة: إننا نظنك، هذه إن المؤكِّدة المخفَّفة وليست النافية والدليل (لمن الكاذبين) اللام الفارقة التي تأتي مع إنّ المؤكدة، لو لم تأت تلك اللام لأمكن أن نقول (إن النافية). هي إن المؤكِّدة المخفّفة والمعنى: إننا نظنك لمن الكاذبين، هم لا يظنون، هم مستيقنون، لو ظنّوا لخففوا الكلام، لكنهم قالوا: إننا متأكدون إنك لمن الكاذبين فالظن هنا بمعنى اليقين وهذا كثير في استعمال القرآن (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) يوقنون ويستيقنون أنهم ملاقو ربهم، هنا الدليل على أن الظن بمعنى اليقين هو اللام الفارقة لأنهم لو ظنوا لما أكدوا الكلام.
(وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴿١٨٦﴾) أصل الكلام: نظن إنّك لمن الكاذبين، (إنّ) لها الصدارة في الكلام فلما قدّمها ما يستقيم أن يقال: إنّ نظن، فتخفف إن نظنّ.
المقدم: الغريب أنهم طلبوا أن يسقط الله عليهم كسفًا من السماء كبيان على صدقه، في الأقوام الآخرين طلبوا جنات، طلبوا زروع، طلبوا دليلًا ماديًا فيه نفع: مائدة من السماء، هؤلاء يريدون العذاب!!
د. المستغانمي: هم طلبوا العذاب وحددوا نوعيته، ثمود أيضًا قالوا (فإتنا بما تعدنا) لكن ما حددوا. أما أصحاب الأيكة وقف عنده المفسرون هم طلبوا نوع العذاب للأسف الشديد. وهل القرشيون لم يحددوا؟! ألم يقولوا في سورة الأنفال (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿٣٢﴾) أحد العلماء قال: عوَض أن يقولوا يا رب إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ثبت قلوبنا عليه، لكنهم قالوا (فأمطر أليم) كانوا شديدي الكفر والجحود. وهنا أصحاب الأيكة قالوا له (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿١٨٧﴾) الكِسَف جمع قطعة قرئت كِسْفًا بمعنى القطعة الواحدة وكِسَفًا بالجمع، أسقِط علينا كسَفًا تعذبنا، تحرقنا، افعل ما تشاء! ووردت (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴿٤٤﴾ الطور). هذه قرئت كِسْفا ونحن نقرؤها على رواية حفص عن عاصم (كِسَفا). (فأسقط علينا كسفا من السماء) العلماء قالوا: لماذا حددوا؟ لدينا تقسيران: إما كانوا كثيري التبجح وشديدي العنجهية والقوة والشدة إلى درجة أنهم كانوا لا يبالون، أسقِط علينا ما تشاء! وإما أن شعيبًا هددهم بهذا النوع من العذاب كسفًا من السماء فقالوا ائتنا به كما تدّعي كما قال كثيرون (ائتنا بما تعدنا). كثير من مشركو قريش كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب فإتنا به!
(إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لم يقولوا (إذا) لأنهم يفترضون أنه غير صادق، لأن (إن) أداة شرط لغير المجزوم به، فهم يفترضون صدقه افتراضًا بسيطًا. (إذا) فيها أن الواقع سيقع، أما (إن) فهم يظنون أنه كاذب.
(قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿١٨٨﴾) أسند الأمر لصاحب الأمر
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿١٨٩﴾) هذا عذاب خاص بأصحاب الأيكة حتى إن سورة الشعراء تسمى سورة الظُلّة المفسرون وأهل التاريخ يذكرون أنهم عندما تحدوا سيدنا شعيب تحديا كبيرا (فأسقط علينا) الأمرهنا للتعجيز هم لا يطلبونه ولا يستميلونه وإنما يعجّزونه ويعاجزونه فعندما رأى الله عز وجلّ شدة نفورهم وجحودهم وإعراضهم هنا سلط عليهم شمسًا حامية وسمومًا وحميمًا وعاشوا سبعة أيام وسبع ليالي في سخونة وحرّ شديد فعاشوا في حرارة شديدة يقول المفسرون كانت مياههم تغلي في الأنهار خرجوا إلى البرية، لما ساقهم إلى البرية أتى الله لهم بغمامة بسحابة هي الظلة فوجدوا بردها ولكن كيد الله عظيم لأنهم هم كفروا وجحدوا وهم طلبوا الكسف يريدون أن يعجزوا الله سبحانه وتعالى فأتاهم بسحابة وجدوا ظلّها وبردها فتجمعوا كلهم تحتها فأحرقتهم وأنزلت عليهم صاعقة أحرقتهم، ذلك عذاب يوم الظلة، عذاب لم يصب الله به إلا أصحاب الأيكة الذين أُرسل إليهم شعيب عليه السلام.
المقدم: دائما يقولون الجزاء من جنس العمل، ما علاقة هذا العذاب بما كانوا يطففون به في الميزان؟
د. المستغانمي: هم لما قالوا (فأسقط علينا) وحددوا سواء كان التحديد منهم أو من سيدنا شعيب، استكبروا وتحدوا فجاءهم الله بعذاب جاءهم بقطع من السحاب وأنزلت عليهم صواعق ملتهبة ملهبة موقدة فأحرقتهم عن بكرة أبيهم. ويمكن أن نقول أنهم هم في البداية كانوا يعيشون في غيضة في شجر ملتف لم يشكروا وجزاؤهم ضد ما كانوا يعيشون فيه لكن لا أستطيع أن أعطي سببًا وقنعًا.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١٩٠﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿١٩١﴾) لا زال الخطاب موجهًا لمشركي قريش ومشركي العرب الذين خاطبهم القرآن إن في ذلك لآية لكم أيها المخاطبون. والذي يؤيد أن أصحاب الأيكة هم غير قوم مدين وأُرسل شعيب إليهما ما ذكره الله عز وجلّ في سورة الحجر (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ﴿٧٨﴾ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ﴿٧٩﴾ الحجر) (إنهما) أي القبيلتان: مدين وأصحاب الأيكة، كانوا في الطريق على طريق الخليل، قرى قوم لوط سدوم والمؤتفكات، ثن تأتي مدينة الخليل، كانوا بإمام مبين، الدليل على ذلك لما تحدث عم قوم لوط قبلهم قال عن قرية لوط (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ﴿٧٦﴾ الحجر) واضحة ولما تحدث عن أصحاب الأيكة ومدين (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) (إنهما) تدل على القريتين هكذا يقول أهل التفسير.
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴿١٩٥﴾ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ﴿١٩٦﴾) تعليق نهائي حول القصص الحديث كله عن القرآن، ولماذا بداية الحديث عن القرآن بضمير الغائب؟ ولماذا تحدث عن الروح الأمين؟ ولماذا قال (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)؟ والحديث عن اللسان العربي المبين؟