في رحاب سورة – د. محمد صافي المستغانمي
قناة الشارقة – 1437 هـ – تقديم الإعلامي محمد خلف
في رحاب سورة النور – 7
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
المقدم: توقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله تبارك وتعالى (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴿٤٤﴾) وذكرنا أنه ورد في مواضع أخرى (يولج الليل) (يكور النهار) وفي يس قال (نسلخ منه النهار) فما دلالة قوله تعالى هنا (يقلب الليل والنهار) وهل في ذلك علاقة بمحور السورة؟
د. المستغانمي: الآن انتقلنا من التشريعات المتعلقة بالأسرة المسلمة إلى توجيه الناس إلى دلائل القدرة ودلائل الخلق كيف أن الله سبحانه وتعالى تفرّد بالخلق وأعطانا أدلة خلق السموات والأرض، يزجي السحاب، تقليب الليل والنهار ليس شيئا بسيطا وهو دليل على كروية الأرض القرآن لم يقل الأرض كرة لو قال أنها كرة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والناس يمشون على أرض مسطحة لما تقبلوا هذا الكلام (يقلب الليل والنهار) يجعل الليل والنهار يتعاقبان على نفس المنطقة وهذا يدل على أن الأرض كرة فالجهة المقابلة للشمس يكون فيها نهار والجهة الأخرى يكون فيها ليل فعندما يقلبهما ويتعاقبان دليل على كروية الأرض ودورانها والآن جاء العلم الحديث عن طريق الأقمار الصناعية يرون الأرض كروية ما في ذلك شك وهذا إثبات علمي. (يقلب الليل) التقليب التجاذب اللفظي في سورة النور قال تعالى (يخافون يوما تتقلب فيه ) تتغير ونخاف وتخشع ويصيبها من الفزع ما يصيبها وما سمي القلب قلبًا إلا لتقلبه وفي الحديث “القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. (يقلّب) فعل مضارع والفعل المضارع كما يقول النحاة يفيد التجدد والاستمرار وعملية تقليب الليل والنهار مستمرة إذن ينفعها الفعل المضارع. (إن في ذلك) في تقليب الليل والنهار أو فيما سبق، يجوز الوجهان. إن في كل ما سبق من الأدلة لعبرة لأولي الأبصار والعقول إن في ذلك التقليب السابق لعبرة لأولي الأبصار. لو قال في غير القرآن إن في تقليب الليل والنهار لعبرة لأولي الأبصار لخصصها ولم يفد الاستمرارية، الله عز وجلّ هنا غيّر الأسلوب قال (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴿٤٤﴾) لو قال إن في ذلك التقليب يتكلم عن التقليب لكن ليس فيها الاستمرارية التي يفيدها الفعل المضارع. هذا الذي يفيده البناء، نظم القرآن يفيد معاني جديدة كلما تأملت فيه.
المقدم: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٤٥﴾) الله سبحانه وتعالى هنا تحدّث عن ممَ خلق الله سبحانه وتعالى كل دابة ما المقصود بالدابة؟ ولماذا خصص (منهم من يمشي على بطنه)؟ وهل هناك ما يمشي على بطنه؟ أو يزحف على بطنه؟ وقال يمشي على رجلين ويمشي على أربع ولكن هناك من يمشي على عشرات الأقدام ودقائق الأقدام الصغيرة التي قد لا نراها فلماذا خصص هذا الأمر؟
د. المستغانمي: هنا غيّر الأسلوب (والله خلق) لم يقل: يخلق كل دابة كما قال (يقلب الليل والنهار). تغيرات في الأسلوب (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴿٤٤﴾)) لأولي الأبصار والعقول والبصائر وهنا لم يقل يخلق وإنما بدأ جملة جديدة استئنافية لإظهار عظمة الله في المخلوقات (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) كل ما يدبّ على الأرض سواء يمشي على قدمين، يزحف على بطن، على أربعة أرجل على أكثر من ذلك، لماذا ذكر فقط على رجلين، على بطن، على أربعة أرجل؟ هو ذكر الغالب الذي نراه، عبّر للناس وهو يخاطب العرب في عهد قريش بما يعرفون هم يعرفون الزاحفة ويعرفون الإنسان الذي يمشي على رجلين ويعرفون الحيوانات التي تمشي على أربع ولو قال لهم ثمة من يمشي على أكثر لقالوا أين هذا؟! هو سبحانه خاطبهم بما يعرفون ولكن الآية لم تحصر لو قال: “إنما خلق” لحصر وهنا لا يوجد لا حصر ولا قصر، قال (والله خلق) أسلوب يصف أن الله خلق كل دابة من ماء، (ماء) نكرة، من أيّ نوع من الماء؟ الماء أنواع وتتغير خصائص النطفة بتغيّر الحيوانات، إذن هي نكرة. منهم من يمشي على بطنه، في الحقيقة منهم من يزحف، اللغة العربية تقول يزحف على البطن وتسمى الزواحف وهي أنواع شتى لكن (منهم) تنطبق على العقلاء، لما أراد وعبّر عن العقلاء وغلّب جاء بكل ما يتصف به العقلاء والعقلاء لا يزحفون فلما قال (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) المقتضى: من يزحف لكن بما أن (منهم) اقتضت يمشي للمشاكلة وللمحافظة على التناسق (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) (منهم) للعقلاء والحيوانات تمشي على أربع فبما أنه غلّب العقلاء غلّب الفعل (يمشي) على يزحف ليناسب. وبدأ بالبطن لأنها الأصعب، المشي على رجلين أسهل، المشي على أربع أسهل بدأ بالأصعب لأن الأصعب والأشق يدل على القدرة، من جعله يزحف على بطنه ولا يوجد له أقدام؟! نحن نتكلم بالمنطق العقلي أما في عظمة الله لا يعجزه شيء الذي أمشاه على رجلية يمشيه على رأسه، حتى أنه لما قيل (يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) فقالوا كيف يمشي على وجهه؟ قال الذي أمشاه على رجليه يمشيه على وجهه والله على كل شيء قدير. لذلك هنا الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا وينبهنا إلى مخلوقاته (منهم من يمشي على بطنه) بمعنى يزحف (ومنهم من يمشي على رجلين) وهو الإنسان (ومنهم من يمشي على أربع) وهي الحيوانات، في كل هذه المخلوقات أسرار عجيبة الله يوجههنا إليها والعلم الحديث أثبت أن كل دابة خلقها الله من ماء.
المقدم: يقول الله سبحانه وتعالى (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٤٦﴾) أيّ آيات هذه؟
د. المستغانمي: السابقة، (لقد أنزلنا آيات مبينات) كل ما سبق من أدلة الكون، من أدلة الخلق، من أدلة السحاب، خلق الدواب.
المقدم: هنا قال (آيات مبينات) بينما قبل آية النور قال (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴿٣٤﴾) فلماذا ذكر (إليكم) هنا ولم يذكرها هناك؟
د. المستغانمي: قبيل آية النور جاء التعليق عن الأحكام السابقة التي تتحدث عن التشريع: تشريع حد الزنا، حدّ القذف، حدّ الرمي، غضّ البصر، كل الآيات التي سبقت آية النور كانت تتعلق بالتشريع للأسرة وأنزل الله هذا التشريع (إليكم) أيها المسلمون إذن الحديث خاص وموجه للمسلمين وللمؤمنين: لقد أنزلنا إليكم أيها المسلمون وشرّعت لكم. أما التعليق هنا جاء بعد آيات الكون، وآيات الكون لكل البشر وليست فقط للمؤمنين، لكل من يعقل، لقد أنزلنا آيات مبينات في خلق السموات، في السحاب هنا الآيات آيات كونية. قد تقول (أنزلنا) أنزلنا في القرآن تستعمل للإنزال الحقيقي (أنزلنا الحديد فيه بأس شديد) إنزل من السماء، هنا آيات كونية، وليست أنزلنا فقط بمعنى آيات تتلى ففي القرآن (أنزلنا لكم من الأنعام) الثوب اللفظي لسورة النور اقتضى (أنزلنا) وهي آيات أيضًا منزلة من الله ولكن أيضًا آيات كونية تدعونا إلى التنبه وإلى التأمل في خلق الله فإذن هي ليست موجهة لنا فقط وإنما للخلق فحذفت (إليكم).
المقدم: (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿٤٧﴾) من الذين يقولون؟
د. المستغانمي: المنافقون الذي كانوا يعيشون في فترة نزول سورة النور. قلنا في أول حلقة في سورة النور أن الفواصل اللغوية لسورة النور هي (آيات بينات) بمجرد ما تأتي (آيات بينات) انتقلنا إلى باب آخر، نحن الآن مع باب المنافقين.
المقدم: (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿٤٧﴾)
د. المستغانمي: هذه الآية تتحدث عن المنافقين، والمفسرون يقولون (ويقولون) تعود على المنافقين لم يذكر أهل النفاق باللفظ أو بالتصريح لكن حالهم لا يخفى على الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي ولا يخفى على قارئ القرآن الكريم. من الذين كانوا إذا جاؤوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا دعوا إلى الحكم عند الرسول يفرّ,ن؟! إذا دعوا إلى الله والرسول ليحكم بينهم إذا فريق منهم بعرضون؟! هم المنافقون. كأن القرآن جرّدهم من الاعتقاد لم يقل “ويعتقدون قائلين” وإنما قال (ويقولون) مجرد كلام! الله وصمهم ووسمهم بأنهم يقولون كلامًا تقوله الألسنة (آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا) أطعنا من؟ أطعنا الله والرسول ولكن لم يذكر المفعول به لأنه واضح من السياق. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) من الذين عهدهم وديدنهم أن يتولوا دائمًا؟ المنافقون، ويُعرضون عن محمد صلى الله عليه وسلم. (ثم يتولى فريق منهم) أنصفهم لم يعمم، ليس كلهم كانوا يتولون لكن يتولون إذا سمعوا الوحي والقرآن وهم معرضون ثم بعد ذلك وصفهم بالصفة (وما أولئك بالمؤمنين) هذه آكد، وصفهم بالجملة الاسمية (ما) النافية (أولئك) اسم إشارة ميّزهم حتى لا يختلطوا بالمؤمنين (وما أولئك بالمؤمنين) لم يقل وما أولئك بمن آمن، ليسوا من جنس المؤمنين، نفاهم أن يكونوا من دائرة المؤمنين، وما قال أولئك بمؤمنين، وما قال وما أولئك بالذين آمنوا لأن الجملة الاسمية أشد في وصمهم ووصفهم بعدم الإيمان.
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿٤٨﴾ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴿٤٩﴾) ليحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم. المفسرون يذكرون سبب نزول الآية أن أحد المنافقين اختصم مع يهودي من اليهود حول قضية معينة فذلك اليهودي كان محقًا فقال لنحتكم إلى رسول الله وهو كان يهوديًا ويعرف أن محمدا يحكم بالحق فأبى ذلك المنافق في البداية ثم وافق فلما ذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بينهم بالعدل وأعطى الحق لليهودي لأن القضية ظاهرة لم يرض المنافق بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال نذهب إلى كعب بن الأشرف يهودي من كبار اليهود، اليهودي رفض أن يذهب إلى اليهودي كعب بن الأشرف وقال لا، محمد حكم بيننا. وهما يتكلمان تساوق بهما الحديث إلى عمر بن الخطاب – الرواية يذكرها المفسرون كالقرطبي وابن كثير وغيرهم- يقولون ذهبا إلى عمر بن الخطاب، اليهودي قال له ذهبنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وحم بيننا وحكم لي، فتحقق عمر بن الخطاب وقال أصحيح حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لليهودي؟ فأجاب المنافق نعم وأردنا أن نحتكم إلى غيره. فقال عمر بن الخطاب مكانكما، على رسلكما، فذهب عمر وأتى بسيفه فضرب المنافق فقتله وقال: هذا حكم عمر فيمن لم يرض بحكم رسول الله. ولذلك قال العلماء سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم بالفاروق بسبب هذه الواقعة وإن كان في سندها شيء من الكلام. لكن الواقعة حدثت واليهود لا يرضون لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم. إذا كان معهم الحق وعلموا أن القضية في صالحهم وثمّة من الأدلة ما يبررون به أحقيتهم يذهبون إلى رسول الله لأنهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يوحى إليه وأنه يحكم بالحق والعدل يأتوا إليه مذعنين طائعين منقادين.
وجاء بعدها (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ ﴿٥٠﴾) ما أعظم هذه الاستفهامات!. القرآن الآن انتقل بتركيز البيان القرآني لفضح الطائفة بالأسلوب الإنشائي الذي يحرّك النفوس (أفي قلوبهم مرض) هنا جملة إسمية (أفي) استفهام، ثم قال (أم ارتابوا) جملة فعلية، لم يقل أم في قلوبهم ريب. (أفي قلوبهم مرض) تشير إلى سورة البقرة (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) إذن المرض متعشش مترسّخ متجذر. (أم ارتابوا) جملة فعلية فعل ماضي: آمنوا ثم ارتابوا دخلتهم شكوك في حق الإسلام وفي أحقية محمد صلى الله عليه وسلم وفي عظمة القرآن. التدرّج (أم ارتابوا) (أم يخافون) جملة فعلية بالفعل المضارع (أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أن يحيف يعني أن يظلم في المسألة من الحيف وهو الظلم في الحكومة، الظلم في المسألة، كل هذا الكلام ينطبق عليهم في الحقيقة: هم في قلوبهم مرض، في قلوبهم الريب ارتابوا هم يخافون بينهم وهذا خوف غير مبرر وهنا جاءت الآية اللازمة (بل) للإضراب ولتثبيت ما سبق (بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ) حقًا وصدقًا وفعلًا (أولئك) مبتدأ (الظالمون) خير، (هم الظالمون) قصر عليهم الظلم وكأن غيرهم غير ظالم، هذا قصر إضافي وصفهم بالظلم مبالغة. لم ينفِ عنهم المرض في قلوبهم ولا شيئا مما ذكر في الآية وإنما هذا إضراب انتقالي. (بل) تفيد الإضراب قد يكون إضرابا انتقاليا أو إبطاليًا، هنا إضراب انتقالي ما أبطل ما قبله وتدرج معهم. (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا) (أم) هذه المنقطعة تفيد الإضراب بمعنى تتضمن استفهامًا بداخلها (أم أفي قلوبهم) كأنه يقول أفي قلوبهم مرض بل هل ارتابوا؟ أو أرتابوا؟ بل أيخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله. انتقل الأسلوب (بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ). لماذا غيّر ما بين (أم) و(بل) وكلاهما يفيد الإضراب في هذا السياق؟ لأن (بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ) لم يشأ الله أن يجعل القضية عن طريق سؤال، هنا وصفهم بالسؤال والاستفهام وهنا أثبتهم بأسلوب تقريري ووصمهم بالظلم العظيم (بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ) كأنه يقول لا غيرهم، هناك غيرهم ظالمين هنا ليس حصرًا حقيقيًا وإنما قصر للمبالغة.
المقدم: الله عز وجلّ يقول (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥١﴾) لماذا قدّم (إنما كان قول المؤمنين)؟ فيها تقديم وتأخير، تقديم الخبر (قولَ) أين اسم كان؟
د. المستغانمي: اسم (كان) يأتي بعد (أن) اسم كان في هذه الجملة المصدر المأوّل المنسبك من (أن والفعل المضارع بعدها) نقول: أن والمصدر المأوّل غير الصريح الذي ينسبك من (أن) والفعل المضارع بعدها في محل رفع خبر (كان) ولكن تم تأخيره بسبب: (إنما كان قولَ المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) اسم كان: (أن يقولوا سمعنا وأطعنا) هو اسم (كان) وقول خبر (كان) وقدّم الخبر لشيئين اثنين:
الشيء الأول أنه لا تُجمع في اللغة العربية بين أداتين، صحيح (كان) فعل ولكن هي أداة ناسخة نقول فعل ناسخ لها عمل (الناقصة والناسخة) لها عمل. لو جئنا باسمها مباشرة بعدها يصير الكلام: “كان أن يقول المؤمنون سمعنا وأطعنا” فصارت (كان وأنّ) أداتان اجتمعتا، العرب لا يقولون هكذا وهذا إجباري إلزامي في اللغة إذا اجتمعت أداتان يفرّق بين الثانية. (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥١﴾) لو كان المصدر صريحًا يجوز أن يأتي اسمها بعدها مباشرة.
ثانيًا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) جملة (إذا دعوا إلى الله ورسوله) هذه قيد، (كان قول المؤمنين) كانت مقولتهم حين يُدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا. ما سبب المجيء؟ السياق يتحدث عن المنافقين فما جدوى الحديث عن المؤمنين هنا؟ كأن القرآن يقول: لما كان المنافقون يُعرضون عن حكم الله ورسوله بينما المؤمنون الصادقون يسمعون كلام الله ورسوله بضدّها تتميز الأشياء، لما تكلم عن المنافقين وأنهم يعرضون عن حكم الله ورسوله تهيأ المقام لذكر المؤمنين الصادقين الذين يحتكمون إلى الله ورسوله.
المقدم: تكررت قضية الحكم في السورة (إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وفي الآية التي قبلها (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وفي بداية السورة أحكام
د. المستغانمي: كلها أحكام، سورة بيان سورة تشريع سورة إصدار أحكام سورة تجمع الأمة وتجمع الأسرة وترشدها سورة الطاعة وستجد في السورة ذكر الطاعة كثيرًا (أطيعوا الله) (أطيعوا الرسول) (طاعة معروفة) وهل تحتاج الأحكام إلا إلى الطاعة، تكرر لفظ الطاعة كثيرًا في سورة النور دلالة أو إيماء إلى المسلمين لكي يطيعوا الله ورسوله وهذه من الثوب اللفظي للسورة، قضية الطاعة والنور والبيان والأحكام.
————-فاصل——————-
المقدم: من الثوب اللفظي لسورة النور “الطاعة” (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿٥٢﴾ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿٥٣﴾) نتوقف عند الآيتين.
د. المستغانمي: الآية الأولى هي تعليق على ما سبق عندما تحدث عن المؤمنين الصادقين المخلصين أنهم كانوا يقولون سمعنا وأطعنا، عندما قال (إنما كان قول المؤمنين) هذا أسلوب حصر لكن هنا لا ينبغي أن يُفهم بأنه لا بد كل مؤمن يقول “سمعنا وأطعنا” فقط لو قلت “لبيك يا رب” بالمرادف يجوز، ليس المقصد اللفظتان فقط :سمعنا وأطعنا” وإلا لا يكون مؤمنا ولكن هذه عادة العرب يقولون: سمعا وطاعة، سمعنا وأطعنا لكن لو قلت حاضر، لبيك يا رب، كلها طاعة، كلها ألفاظ تؤدي المعنى. ثم جاء التعليق (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ) في قرآءة حفص و(يتقِه) وهي مسألة صوتية تحدث عنها بعض العلماء (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) ترقّي في الأسلوب قال قبلها (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المفلحون اسم فاعل من أفلح، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أتت على نفس التركيب (بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ) بما أنه وصف المنافقين بأنهم (أولئك هم الظالمون) وصف المؤمنين بما يضادّ ذلك قال (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ترقّى الآن (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) من يجمع بين طاعة الله ورسوله وزاد (وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ) زاد الخشية والتقوى هنا لا بد من الترقي (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)، كلنا مفلحون أما الفائز فقد أخذ النتيجة وقصب السبق فهو فائز كما قال في فريق المؤمنين (إن جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) في سورة المؤمنين. الآية التي بعدها (وأقسموا) المنافقون، السياق مسوق للمنافقين ولكن تحدث عن المؤمنين ليبين الخلل الكبير عند المنافقين أنهم يقولون ما لا يفعلون وإذا دعوا إلى الله ورسوله لا يحتكمون بينما المؤمنون يقولون سمعنا وأطعنا كأنها جملة اعتراضية تحدث عن صدق المؤمنين وطاعتهم ثم عاد إلى المنافقين (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) وأقسموا هم، واو الجماعة تعود على المنافقين. (جهد أيمانهم) يقسمون جاهدين، كلمة (جهد) في الإعراب اللغوي فيها قولان:
إما نقول هي حال وأقسموا بالله جاهدين
أو مفعول مطلق للفعل يجهدون جَهدا.
هكذا قال المفسرون وكلاهما يؤدي إلى ما بهم من توكيد “يكاد المريب يقول خذوني” لأنهم يعرفون أنهم مقصرون في حق الله ورسوله وقالوا لهم لماذا لا تحتكمون لحكم الله وتفرون من حكم الله؟ قالوا: والله لئن أمرتنا لنخرجن، يخرجنّ إلى ماذا؟ إلى القتال. كأنهم يقولون يا محمد لو أمرتنا بالقتال لخرجنا فما بالك نحتكم إليك؟!! هذا شيء بسيط! ويجتهدون في ذلك ويقسمون على ذلك وردّ عليهم القرآن (طاعة معروفة) هذه ضُربت مثلًا كأنه يقول طاعتكم طاعة معروفة، نحن نعرف طاعتكم. طاعة معروفة تميل إلى النفي كأنه يقول طاعتكم طاعة معروفة معروف كذبها معروف انتفاؤها معروف وهنها فضربت مثلا وهذه في القرآن كثير (فصبر جميل) يعقوب عليه السلام يقول فصبر جميل أي فصبري صبر جميل. وهنا (طاعة معروفة) طاعتكم معروفة، هنا تهكم بهم، أسلوب تهكمي.
المقدم: ولا زال الحديث عن الطاعة
د. المستغانمي: لأنها سورة تأمر وتنهى فالأحرى بالمؤمنين أن يطيعوا الله ورسوله. تكرر في السورة لفظ الطاعة كثيرا (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٥٤﴾) وكررها حتى لا يُظن أننا نطيع الرسول فقط فيم جاء في القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شرّع شيئا ولم يأتي ذلك الأمر في القرآن فهو من روح الإسلام فطاعة الرسول واجبة ولو أتى بشيء لم يذكر في القرآن لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني مناسككم وأرانا كيف نحج خطوة خطوة، لم تذكر المناسك بدقة في القرآن لكن طاعة الرسول واجبة فيما شرّع طاعة الرسول واجبة وهو صلى الله عليه وسلم لن يخرج عن روح الإسلام فالله بعثه ليبين القرآن.
والحديث لا زال متواصلا عن المنافقين (فإن تولوا) تفهم بمعنيين:
- فإن تولوا هم تعود على المنافقين
- أو (وإن تتولوا أنتم) والتاء محذوفة للتخفيف فعل مضارع محذوف التاء وكثيرا ما تحذف التاء في القرآن (ولا تفرقوا أصلها ولا تتفرقوا) (تلقونه أصلها تتلقونه) التخفيف موجود.
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٥٤﴾) فإن تولوا أنتم أيها المنافقون بما أن الخطاب إليهم تحذف التاء لأنه معروف، وإذا حملناها كأن الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الالتفاف قال: وإن تولوا هم المنافقون في الماضي فإنه عليه صلى الله عليه وسلم ما حُمّل، حُمّل بأمانة التبليغ (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، فإنما عليه أمانة التبليغ التي حمّله الله إياها وعليكم ما حمّلتم من أمانة التكليف والتطبيق، الآية تقول فإن تتولوا أنتم فهو يتحمل التبليغ وكفى ليس عليكم بمسيطر ولا يرغمكم على الإيمان وأن تكونوا مخلصين وعليكم ما حمّلتم كما حمّل اليهود (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها) حمِّلوا التكاليف حمّلوا الطاعة والأوْلى بكم أيها المنافقون (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) في آية أخرى (إن على الرسول إلا البلاغ) ووردت (البلاغ المبين) في سورة أخرى فيها الإبانة وهنا في سورة البيان والتبيين فما على الرسول إلا البلاغ المبين.
المقدم: ما مناسبة الحديث عن وعد الله سبحانه وتعالى حين قال (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿٥٥﴾) ربما دخلنا موضوعًا جديدًا قضية الاستخلاف والتمكين، هل هناك مناسبة لهذه الآية؟
د. المستغانمي: موضوع جديد بالنسبة لنا ونحن نقرأ في القرن الحالي لكن المسلمين الذين كانوا يعيشون في الخوف الشديد في المدينة المنورة تتكالب عليهم القبائل ويتخطفونهم حتى إن أحد الصحابة وكانوا يصلّون في الحديد -بمعنى في السلاح- قال يا رسول الله: ألا يأتي يوم –هكذا ورد في السيرة وورد في أسباب النزول – نرتاح فيه ونأمن ونصلي فيه بدون حديد؟ قال صلى الله عليه وسلم لا تغبرون أي لا تمكثون إلا ايام وسوف يصلي أحدكم محتبيًا صلاة بدون سلاح. فجاء هذا الوعد العظيم.
مناسبة الآية لما قبلها لأن المنافقين كانوا يدسّون السموم للمسلمين وكان اليهود يناصرون المنافقين والمجتمع المسلم الذي تنشئه سورة النور كان يعيش في الخوف: غزوات: أحد، المصطلق، الأحزاب، نزلت سورة النور منجمة في القرآن المدني فجاءت هذه الآية تفتح شعاع الأمل (وعد الله) ووعده حق لا يتخلف (وعد الله الذين آمنوا منكم) هم كانوا خائفين، كلمة (منكم) تنطبق على المؤمنين جميعا وكلمة (منكم) تخفف وتعطي أملًا للصحابة، وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات هذه تطمئنهم أكثر (ليستخلفنهم في الأرض) بشرى عظيمة وجاء نصر الله واستخلف المؤمنين وفتحوا تبوك وخيبر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وتوسعت رقعة الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين وليمكنن لهم في الأرض (نون التوكيد الثقيلة) في كل هذه الكلمات، قوة إلهية (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) كانوا خائفين، ما قال ليؤمِّننكم، لا، هم كانوا يعيشون في خوف، هذا الخوف سيذهب ويزول وهذا وعد لا يتخلف من الله.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (منكم) جاءت بين آمنوا وبين عملوا الصالحات، في سورة الفتح بعدما استقرت الأمور وفتحت مكة واطمأن المسلمون (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 29] أخّرها لأن صار الأمر وفتحت مكة واطمأن المسلمون. كانوا يحتاجون إلى تقديم (منكم) في آية سورة النور حتى يطمئنوا أكثر فأكثر العرب تقدّم من الكلام ما هم ببيانه أعنى فقدّمها لكثير من الطمأنة.
المقدم: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)
د. المستغانمي: (يعبدونني) جملة مضارع حال كونهم يعبدونني لا يشركون بي شيئا حال كونهم يؤسسون دولة تقوم على الحق والعبادة.
المقدم: عبادة الله بشكل مطمئن وبراحة لا فيها خوف ولا تنغيص ولا فيها عذاب لكن بعد هذا كله من يشرك بالله ويكفر بالله يتحمل المسؤولية.
د. المستغانمي: يعبدونني بمعناها الشامل، نحن الآن في عبادة، نحن نشرح القرآن، العمل، التعليم، الطب، كل عبادة بمفهوها الشامل فالإسلام يأمر بالعبادة بمفهومها الشامل والمجتمع المسلم لا بد أن يعبد الله وأن لا يشرك به شيئا.
المقدم: يستمر الحديث عن العبادة (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿٥٦﴾)
د. المستغانمي: هذه وسائل النصر ووسائل التمكين حتى إن بعض المفسرين قال هي شرطية بمعنى سيستخلفهم جلّ جلاله وليمكننّ لهم دينهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنًا شريطة أن يعبدوني عبادة بدون شرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، شرط مقتبس ومفهوم من المضمون العام لكن الإعراب يفضّل أن تُعرب في محل نصب (حال).
المقدم: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿٥٧﴾) ما مناسبة هذه الآية؟
د. المستغانمي: زيادة تطمين عندما رأوا المشركين كانت لديهم قوة وشوكة وسلاح وتمكين مؤقت لا تحسبن الذين كفروا معجزين لن يعجزوا الله ولن يعاجزوه لكن الله تبارك وتعالى يترك القدر يمشي بأسباب من البشر.
المقدم: ندخل إلى موضوع فتح سابقًا ثم فصل بينه وبين تتمته بفاصل كبير ثم عاد وهو قضية الاستئذان. هنا يتحدث مرة أخرى عن الاستئذان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٥٨﴾) لماذا لم يأتي والسورة نزلت منجّمة ترتيب هذا الموضوع مع السابق ولا شك أن هذا هو الأصح
د. المستغانمي: ما فعل الله جلّ جلاله هو الأصح وترتيب نظم القرآن أعظم ترتيب (كتاب أحكمت آيات ثم فصلت) إحكام، تفصيل، نظم عجيب، هي صحيح آيات عن الاستئذان – هذا في البلاغة من باب رد العجز على الصدر وهذا ديدن القرآن ليس هنا فقط ورد كثيرا في القرآن يبدأ بموضوع يناقشه يبلوره يوضحه ثم ينتقل إلى موضوع آخر يجلّيه ثم يعود إلى الموضوع الأول حتى لا يُنسى – هذه تقنية بلاغية رائعة. ثم ما جاء في هذا الموضوع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) هذا كلام فيه تتمة لمضمون الأول لو جاءت مباشرة بعدها لا يكون وقعها وقع الدواء. القرآن نزل منجمًا حسب الوقائع: لما نزل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٢٧﴾) صاروا يستأذنون لكن الذين ملكت أيمانهم دخلوا في الإذن السابق حتى أصبح الواحد منهم يدخل في أوقات حرجة يقول السلام عليكم ويدخل وقيل الرواية وقعت لإحدى النساء وقيل وقعت لعمر جاء رجل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر وكان من خدمه فاستأذنه استئذانا بسيطا وكان عمر في حالة لا يريد أن يراه عليها الناس فقال عمر تمنيت لو أن الله تعالى منع عنا آباءنا وأبناءنا وخدمنا في مثل هذه الأوقات فوافقت رأيه. وفي رواية أخرى أن امرأة دخل عليها أحد خدمها من المشمولين بالإذن وكانت مخففة من ثيابها وقبل أن تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآية تجيب المجتمع المسلم، مجتمع تتقلب أنظاره إلى السماء والوحي يتنزل رقراقًا يعالج، نحن عندنا الآن بدون مرض وتكون الثلاجة مليئة بأنواع الأدوية لكن عندما يقع المرض نتطلع إلى الدواء فنذهب ونبحث عن الدواء الدقيق. لو جاءت في الموضع الأول لكانت قضية فكرية نظرية لم تقع وقد لا تقع، لكن لما ترك القرآن المجال ووقعت جاء الدواء (ثلاث عورات) ولكن هذه (ليستأذنكم) لام الأمر (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) الفجر ووقت القيلولة وبعد صلاة العشاء، ما قال ثلاث أوقات أو يؤكدها (ثلاث مرات) وإنما قال ثلاث عورات، هي نفسها. تكلمنا عن العورة التي لا تبديها المرأة أو الرجل العورة من عَوَر من العار وهو النقص، قال العلماء اللغويون: عورة الإنسان هو ما يلحقه عار إذا كشفه، إذا كشف الإنسان عضوًا في جسمه ولحقته المذمّة فهي عورة. كل ما تخشى أن يلحقك من إظهاره مذمة فهو عار. فقال (ثلاث عورات) ثلاث أوقات عار أن يرى الإنسان كان ولدًا كان بالغًا كان خدما هذه أوقات يتخفف المسلم والمسلمة من الملابس وقت النوم في الليل قبل الفجر ووقت القيلولة يتخفف يلبس ثيابًا تتناسب مع الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء يتخفف، إذن ثلاث أوقات هي مظنّة للتخفيف من الثياب فالأوْلى الاستئذان أكثر وأكثر.
في غير هذه الأوقات وقبل هذه الأوقات (طوافون) يطوف بعضكم على بعض، الولد والخدم الذي يكثر دخوله في غير وقت الظهيرة وفي غير قبل صلاة الفجر وفي غير بعد صلاة العشاء طوافون عليكم أما لو في كل لحظة استأذن يتحرّج الولد أو الأم فلذلك في غير هذه الأوقات (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) أنتم تطوفون عليهم وهم يطوفون عليكم لأن الإنسان يكون لابسًا ثيابه العادية والمرأة تكون لابسة ثيابها العادية.
(وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٥٩﴾) كما يستأذن الكبار البالغون التي ذكرت في الآية السابقة وجّه الله لهم الخطاب (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) الآن ألحق الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، إذا بلغوا الحلم يلحقون بهم (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٥٩﴾) عندما يبلغ الأطفال ينطبق عليهم ما ينطبق على البالغين.
لكن هنا نكتة لغوية في الآية السابقة قال (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ) قال (الآيات) معرفة بالألف واللام والآية الثانية (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ) (آياته) بدون الألف واللام، هنا توقف العلماء: الآيات التي هي قبل في التشريع عندما أوضح الأوقات بدقة لا تقبل النقاش قال (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) واضحة ليس فيها جدال فقال (الآيات) الواضحة بالألف واللام. أما الثانية لما جاء عن بلوغ الأطفال الحلم متى يبلغ الأطفال الحلم؟ تختلف وقضية مختلف فيها يعلمها الله تعالى، قال (آياته) التي هو يعلمها وأضافها إلى ذاته العليم الحكيم وجعلها نكرة مضافة إليه والفقهاء اجتهدوا جزاهم الله خيرا في تحديد وقت البلوغ.
https://www.youtube.com/watch?v=THojqQc_FXY&list=PLkfWtLTtKgCNPVnTm3YD9deZOub0-yPc5&index=1