التعـريـف بسـورة البقـرة
(سيد قطب – في ظلال القرآن)
سورة البقرة مدنية وآياتها ست وثمانون ومائتان
1 ـ نزول السور وترتيبها التوقيفي
هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة . وهي أطول سور القرآن على الإطلاق . والمرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل نزول آيات من سور أخرى ; فمراجعة أسباب نزول بعض آياتها وبعض الآيات من السور المدنية الأخرى ـ وإن تكن هذه الأسباب ليست قطعية الثبوت ـ تفيد أن السور المدنية الطوال لم تنزل آياتها كلها متوالية ; إنما كان يحدث أن تنزل آيات من سورة لاحقة قبل استكمال سورة سابقة نزلت مقدماتها ; وأن المعول عليه في ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول أوائلها ـ لا جميعها ـ وفي هذه السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كأيات الربا , في حين أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة .
فأما تجميع آيات كل سورة في السورة , وترتيت هذه الآيات , فهو توقيفي موحى به . . روى الترمذي ـ بإسناده ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين , وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر: بسم الله الرحمن الرحيم , ووضعتموها في السبع الطوال ? وما حملكم على ذلك ? فقال عثمان: كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ; فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب , فيقول: ( ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) . وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة , وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن ; وكانت قصتها شبيهة بقصتها , وخشيت أنها منها ; وقبض رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم يبين لنا أنها منها . فمن أجل ذلك قرنت بينهما , ولم أكتب بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم , ووضعتها في السبع الطوال .
فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل . وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] القرآن , وفي رواية فيدارسه القرآن , فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة . ومن الثابت أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد قرأ القرآن كله على جبريل ـ عليه السلام ـ كما أن جبريل قد قرأه عليه . . ومعنى هذا أنهما قرآه مرتبة آياته في سوره .
ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة ! شخصية لها روحيعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس ! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص . ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها ; ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة , تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو . ولها إيقاع موسيقي خاص ـ إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة . . وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا . ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة .
2 : ملابسات نزول سورة البقرة: وبدايات الهجرة
هذه السورة تضم عدة موضوعات . ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا . . فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة , واستقبالهم لها , ومواجهتهم لرسولها [ صلى الله عليه وسلم ] وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها . . . وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة , وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى . . وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها ; وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض , بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها , ونقضهم لعهد الله بخصوصها , وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم ـ عليه السلام ـ صاحب الحنيفية الأولى , وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم . . وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين , كما سيجيء في استعراضها التفصيلي .
ولكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة , وبين خط سير الدعوة أول العهد بالمدينة , وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة الأخرى . . يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لمواجهتها ابتداء . مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها ـ مع اختلاف يسير ـ على مر العصور وكر الدهور ; من أعدائها وأوليائها على السواء . مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد ; ويبث في هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور ; ويرفعها معالم للطريق أمام الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق , بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة . . وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني .
لقد تمت هجرة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم . تمت تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة ; وجعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدره الله لها بتدبيره . . كان موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة ـ وبخاصة بعد وفاة خديجة ـ رضي الله عنها ـ وموت أبي طالب كافل النبي وحاميه . . كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة وما حولها . ومع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم من جميع الاضطهادات والتدبيرات فإن الدعوة كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة وما حولها , بموقف قريش منها , وتحالفهم على حربها بشتى الوسائل , مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز والانتظار , في ارتقاب نتيجة المعركة بين الرسول وعشيرته الأقربين , وعلى رأسهم أبو لهب وعمرو بن هشام وأبو سفيان بن حرب وغيرهم ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة . وما كان هناك ما يشجع العرب في بيئة قبلية لعلاقات القرابة عندها وزن كبير , على الدخول في عقيدةرجل تقف منه عشيرته هذا الموقف . وبخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم بسدانة الكعبة , وهي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة !
ومن ثم كان بحث الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن قاعدة أخرى غير مكة , قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية , ويتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة . حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة . . وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة .
ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب , لتكون قاعدة للدعوة الجديدة , عدة اتجاهات . . سبقها الاتجاه إلى الحبشة , حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل . والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية . فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين . غير أن الأمر كان على الضد من هذا , فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا . إنما هاجر رجال ذوو عصبيات , لهم من عصبيتهم ـ في بيئة قبلية ـ ما يعصمهم من الأذى , ويحميهم من الفتنة ; وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين , منهم جعفر بن أبي طالب ـ وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ومنهم الزبير بن العوام , وعبد الرحمن ابن عوف , وأبو سلمة المخزومي , وعثمان بن عفان الأموي . . . . وغيرهم . وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا . . وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش ; وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم , فرارا من الجاهلية , تاركين وراءهم كل وشائج القربى , في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا ; وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة , بنت أبي سفيان , زعيم الجاهلية , وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها . . ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة , أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة . وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة . ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه , كما ورد في روايات صحيحة .
كذلك يبدو اتجاه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة . . وهي محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف استقبلوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أسوأ استقبال , وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرجمونه بالحجارة , حتى أدموا قدميه الشريفتين , ولم يتركوه حتى آوى إلى حائط [ أي حديقة ] لعتبة وشيبة إبني ربيعة . . وهناك انطلق لسانه بذلك الدعاء الخالص العميق: ( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي , وقلة حيلتي , وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ? إلى عدو ملكته أمري ! أم بعيد يتجهمني ? إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي . ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات , وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة , أن تنزل بي غضبك , أو تحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى , ولا حول ولا قوة إلا بك ) .
بعد ذلك فتح الله على الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب , فكانت بيعة العقبة الأولى , ثم بيعة العقبة الثانية . وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي نعالجه في مقدمة هذه السورة , وبالملابسات التي وجدت حول الدعوة في المدينة .
وقصة ذلك في اختصار: أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] التقى قبل الهجرة إلى يثرب بسنتين بجماعة من الخزرج في موسم الحج , حيث كان يعرض نفسه ودعوته على الوافدين للحج ; ويطلب حاميا يحميه حتى يبلغ دعوة ربه . وكان سكان يثرب من العرب ـ الأوس والخزرج ـ يسمعون من اليهود المقيمين معهم , أن هنالك نبيا قد أطل زمانه ; وكانت يهود تستفتح به على العرب , أي تطلب أن يفتح لهم على يديه , وأن يكون معهم على كل من عداهم . فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال بعضهم لبعض: تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود , فلا تسبقنكم إليه . . وأجابوه لما دعاهم . وقالوا له: إننا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم . فعسى الله أن يجمعهم بك . . ولما عادوا إلى قومهم , وعرضوا الأمر عليهم , ارتاحوا له , ووافقوا عليه .
فلما كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس والخزرج , فالتقوا بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وبايعوه على الإسلام . وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر دينهم .
وفي الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج كذلك , فطلبوا أن يبايعوه , وتمت البيعة بحضور العباس عم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم . وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى . . ومما وردت به الروايات في هذه البيعة ما قاله محمد بن كعب القرظي: قال عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعني ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال: ( اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ; واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ) . قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال: ( الجنة ) . قالوا: ربح البيع ولا نقيل ولا نستقبل !
وهكذا أخذوا الأمر بقوة . . ومن ثم فشا الإسلام في المدينة , حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله الإسلام . وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة تباعا , تاركين وراءهم كل شيء , ناجين بعقيدتهم وحدها , حيث لقوا من إخوانهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم , من الإيثار والإخاء ما لم تعرف له الإنسانية نظيرا قط . ثم هاجر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وصاحبه الصديق . هاجر إلى القاعدة الحرة القوية الآمنة التي بحث عنها من قبل طويلا . . وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] .
3: الخط الأول في السورة: كشف عداوة اليهود للدعوة الإسلامية وهو إلى نهاية الجزء الأول
من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار تكونت طبقة ممتازة من المسلمين نوه القرآن بها في مواضع كثيرة . وهنا نجد السورة تفتتح بتقرير مقومات الإيمان , وهي تمثل صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا . ولكنها أولا تصف ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه , هدى للمتقين , الذين يؤمنون بالغيب , ويقيمون الصلاة , ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك , وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون . .
ثم نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفار ; وهو يمثل مقومات الكفر على الإطلاق . ولكنه أولا وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم حينذاك , سواء في مكة أو فيما حول المدينة ذاتها من طوائف الكفار: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴿6﴾ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ . . كذلك كانت هناك طائفة المنافقين . ووجود هذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي تمت فيها , والتي أشرنا إليها من قبل ; ولم يكن لها وجود بمكة . فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة , بل لم تكن له عصبة يخشاها أهل مكة فينافقونها . على الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدا , وكانت الدعوة مطاردة , وكان الذين يغامرون بالانضمام إلى الصف الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم , الذين يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل شيء . فأما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف باسم المدينة ـ أي مدينة الرسول ـ فقد أصبح الإسلام قوة يحسب حسابها كل أحد ; ويضطر لمصانعتها كثيرا أو قليلا ـ وبخاصة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما ـ وفي مقدمة من كان مضطرا لمصانعتها نفر من الكبراء , دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا بد لهم لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم . ومن هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة . .
وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين , ندرك من بعض فقراته أن المعني بهم في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام , ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس , وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة العلية المتكبرين !: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴿8﴾ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿10﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴿11﴾ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴿12﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴿13﴾ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴿14﴾ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿15﴾ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴿16﴾ . مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴿17﴾ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴿18﴾ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ﴿19﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين ـ الذين في قلوبهم مرض ـ نجد إشارة إلى ﴿ شَيَاطِينِهِمْ ﴾ . والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنها تعني اليهود , الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد . أما قصتهم مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور القليلة:
لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة ; وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة . . كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين الأميين من العرب ـ الأوس والخزرج ـ ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء , إلا أنهم كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم من كتاب . ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام ـ وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا ! ـ فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا . . فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه . ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم , ووحد الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج , وقد أصبحوا منذ اليوميعرفون بالأنصار , إلى المهاجرين , وألف منهم جميعا ذلك المجتمع المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق .
ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار , وأن فيهم الرسالة والكتاب . فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما . فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته , وأن يقصر الدعوة على الأميين من العرب ! فلما وجدوه يدعوهم ـ أول من يدعو ـ إلى كتاب الله , بحكم أنهم أعرف به من المشركين , وأجدر بالاستجابة له من المشركين . . أخذتهم العزة بالإثم , وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة !
ثم إنهم حسدوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حسدا شديدا . حسدوه مرتين: مرة لأن الله اختاره وأنزل عليه الكتاب ـ وهم لم يكونوا يشكون في صحته ـ وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة .
على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى: ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف ! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة . ويذوبوا في المجتمع الإسلامي . وهما أمران ـ في تقديرهم ـ أحلاهما مر !
لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة , [ وسور غيرها كثيرة ] في تفصيل دقيق , نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير إليه . . جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذ النداء العلوي لهم: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿40﴾ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴿41﴾ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿42﴾ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾. . وبعد تذكيرهم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى ـ عليه السلام ـ وجحودهم لنعم الله عليهم , وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم . . ونكثهم لعهد الله معهم . . جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿75﴾ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾. .﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ . . ﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ .. ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ .. ﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ .. ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ . . ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ . . ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ . . ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ . . الخ الخ .
وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبلالإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا . مما جعل القرآن يخاطبهم ـ في عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى ـ عليه السلام ـ وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبارهم جبلة واحدة . سماتهم هي هي , ودورهم هو هو , وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان ! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى , إلى خطاب اليهود في المدينة , إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين . ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها . وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما ! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة , تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد , وحرب منوعة المظاهر , متحدة الحقيقة !
4 ـ الخط الثاني في السورة: أسس بناء الجماعة المسلمة وإعدادها للخلافة وهو من بداية الجزء الثاني
وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف , وهذا التنبيه , وهذا التحذير , تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما , ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا . .
تبدأ السورة ـ كما أسلفنا ـ بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة ـ بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين يرد ذكرهم فيما بعد مطولا ـ وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد ذلك . ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها . في وحدة ملحوظة , تمثل الشخصية الخاصة للسورة , مع تعدد الموضوعات التي تتناولها وتنوعها .
فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى: المتقين . والكافرين . والمنافقين . وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين . . نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده . وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله . وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة . . ثم نجد التعجيب من أمر الذين يكفرون بالله: ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم , ثم يميتكم ثم يحييكم , ثم إليه ترجعون ! هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا , ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات , وهو بكل شيء عليم ). .
وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ . . وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف ـ وهو عهد الإيمان ـ ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿38﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل ـ أشرنا إلى فقرات منها فيما سبق ـ تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى ـ عليه السلام ـ وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة .
ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه . . لقد كانوا أول كافر به . وكانوا يلبسون الحق بالباطل . وكانوا يأمرون الناس بالبر ـ وهو الإيمان ـ وينسون أنفسهم . وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه . وكانوا يخادعون الذين آمنوا باظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته ! وكانوا يريدونإن يردوا المسلمين كفارا . وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم ـ كما كان النصارى يدعون هذا أيضا ـ وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل ـ عليه السلام ـ بما أنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم ! وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء . وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية ومجيئها من عند الله تعالى ـ كما فعلوا عند تحويل القبلة ـ وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين . كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين . ومن ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه ; وتذكرهم بمواقفهم المماثلة من نبيهم موسى ـ عليه السلام ـ ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار أجيالهم . وتخاطبهم في هذا كأنهم جيل واحد متصل , وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل .
وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم , وهم على هذه الجبلة الملتوية القصد , المؤوفة الطبع . كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم أنهم وحدهم المهتدون , بما أنهم ورثة إبراهيم . وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته , ويتقيدون بعهده مع ربه ; وأن وراثة إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والمؤمنين به , بعد ما انحرف اليهود وبدلوا ونكلوا عن حمل أمانة العقيدة , والخلافة في الأرض بمنهج الله ; ونهض بهذا الأمر محمد والذين معه . وأن هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ وهما يرفعان القواعد من البيت: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿128﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾.
وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى الجماعة المسلمة من حوله ; حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة المستخلفة على دعوة الله في الأرض , وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص , وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص .
ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة . وهي البيت المحرم الذي عهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه الله وحده , هذه القبلة التي كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ . .
ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة . منهج التصور والعبادة , ومنهج السلوك والمعاملة , تبين لها أن الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها , إنما هو ابتلاء , ينال الصابرون عليه صلوات الله ورحمته وهداه . وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء والله يعدهم مغفرة منه وفضلا . وأن الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور , والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . . وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب . وتبين لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله . وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى . وأحكام الوصية . وأحكام الصوم . وأحكام الجهاد . وأحكام الحج . وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة . وأحكام الصدقة وأحكام الربا . وأحكام الدين والتجارة . . .
وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى . وعن حلقات من قصةإبراهيم . ولكن جسم السورة ـ بعد الجزء الأول منها ـ ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة , وإعدادها لحمل أمانة العقيدة , والخلافة في الأرض بمنهج الله وشريعته . وتمييزها بتصورها الخاص للوجود , وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى .
وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها , فيبين طبيعة التصور الإيماني , وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم , وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه , مع السمع والطاعة: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون , كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله , لا نفرق بين أحد من رسله , وقالوا: سمعنا وأطعنا , غفرانك ربنا وإليك المصير . لا يكلف الله نفسا إلا وسعها , لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت , ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا , ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا , ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به , واعف عنا واغفر لنا , وارحمنا , أنت مولانا , فانصرنا على القوم الكافرين . .
ومن ثم يتناسق البدء والختام , وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان .
الوحدة الأولى آياتها : 1 ـ 29 موضوعها : أصناف البشر الثلاثة ودعوة إلى الإنحياز للمؤمنين تعريف بالوحدة الأولى
في هذا المقطع , الذي يكون افتتاح السورة الكبيرة , نجد الملامح الأساسية للطوائف التي واجهتها الدعوة في المدينة باستثناء طائفة اليهود التي ترد إشارة صغيرة لها , ولكنها كافية , فإن تسميتهم بشياطين المنافقين تشير إلى الكثير من صفاتهم , ومن حقيقة دورهم , حتى يرد التفصيل الكامل بعد قليل .
وفي رسم هذه الملامح نجد خصائص التعبير القرآنية , التي تتجلى في قيام الكلمة مقام الخط واللون , إذ سرعان ما ترتسم الصور من خلال الكلمات ; ثم سرعان ما تنبض هذه الصور وكأنها تموج بالحياة . .
وهنا . . في عدد قليل من الكلمات والعبارات في أول السورة ترتسم ثلاث صور لثلاثة أنماط من النفوس . كل نمط منها نموذج حي لمجموعات ضخمة من البشر . نموذج أصيل عميق متكرر في كل زمان ومكان . حتى ما تكاد البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها تخرج عن تلك الأنماط الثلاثة . . وهذا هو الإعجاز . .
في تلك الكلمات القلائل والآيات المعدودات ترتسم هذه الصور واضحة كاملة , نابضة بالحياة , دقيقة السمات , مميزة الصفات . حتى ما يبلغ الوصف المطول والإطناب المفصل شيئا وراء هذه اللمسات السريعة المبينة , الجميلة النسق , الموسيقية الإيقاع .
فإذا انتهى السياق من عرض هذه الصور الثلاث دعا الناس . . الناس جميعا . . إلى الصورة الأولى ; وناداهم .