سورة المؤمنون
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)) تأمل الافتتاح البديع. فهو من جوامع الكلم فالفلاح غاية كل ساعٍ إلى عمله ولكن بمَ أفلح المؤمنون؟ حذف ربنا متعلِّق الفلاح فلم يقل “قد أفلح المؤمنون في عبادتهم” أو في غيرها بل جعله مطلقاً ليشمل الفلاح كل ما رغبوا فيه. ولذلك أكّد الفلاح بـ (قد) لينزل فلاحهم منزلة الأمر الواقع.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)) انظر إلى هذا الاختيار لأداء الزكاة، فقد عبّر عن تأدية الزكاة بالفعل فقال (فَاعِلُونَ) ولم يقل مؤدّون. واختار الاسم (فَاعِلُونَ) دون الفعل فلم يقل “للزكاة يفعلون” فالتعبير بالاسم دون الفعل إيماء إلى أنك أيها المسلم حريص على تأدية الزكاة ما دمتَ حيّاً. فدفع الزكاة هو دأبُك أبد الدهر بدون انفطاع. وعبّر عن التأدية بـ (فَاعِلُونَ) لأن هذا اللفظ يوحي بأن دفع الزكاة هو من أفعاله وسلوكه.
(أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)) ما أعظم عطاء الله وكرمه! فالجنة جزاءٌ للمؤمن على حسن طاعته لله، ومع ذلك يجعلها الله تعالى هنا إرثاً مستحقاً له وكأنه أخذها عن حق مؤكد. لأن الوراثة تدل على الاستحقاق الثابت. وإنما خصّ الإرث دون غيره لأن الإرث أقوى أسباب استحقاق المال.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)) إن الظرف (فَوْقَكُمْ) يدل على الاتفاع الكواكب فوق الإنسان وهذ مفهوم لو حذف الظرف (فوقكم)، فلِمَ ذكره الباري في هذه الآية؟ خصّ ربنا الكواكب بالظرفية فقال (فَوْقَكُمْ) لينبهنا على وجوب النظر في أحوالها لتكون دليلاً لنا على عظمة قدرة الله سبحانه وتعالى.
(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ (28)) إن سيدنا نوح استقر في السفينة فلِمَ عدَل ربنا عن الاستقرار إل الى الاستواء فقال (اسْتَوَيْتَ) ولم يقل استقررت؟ أراد الله تعالى بهذا اللفظ أن يبين لنا تمكّن نوح عليه السلام من السفينة، فعبّر عن ذلك بالاستواء الذي يعني الاعتلاء. وأكّد ذلك التمكين بحرف الجر (على) فقال (عَلَى الْفُلْكِ) مع أن الاستقرار يكون في السفينة لا عليها.
(ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ (32)) الإرسال يتعدّى بحرف الجر (إلى) فتقول أرسلت أخي إلى بيت الله. ولكن الله تعالى جلّ بيانه قد عدّى الفعل أرسله بـ (في) فقال (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ) فهل من خصوصية لهذه التعدية؟ عدّى الفعل أرسلنا بـ (في) دون (إلى) للإشارة إلى أن الرسول كان منهم ونشأ فيهم. وفي هذا إيماء إلى أن حالهم مماثلة لحال القوم الذين بُعِث فيهم المصطفة صلى الله عليه وسلم فالنبي كان من قريش وأُرسِل فيهم.
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ (33)) انظر إلى هذا التشخيص للآخرة فقد جعل الله تعالى الآخرة شخصاً يلاقى ويشاهد ويؤتى إليه. فقال (بِلِقَاء الْآخِرَةِ) ولم يقل بموعد الآخرة وهذا التشخيص يدخل الروع في نفس السامع والهلع مما فعله المكذبون مقابل هذا اللقاء الذي لا يدرون ما فيه من أبعاد.
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ (41)) تأمل هذا الأخذ المهيب المُفزِع. فالصيحة هي التي أخذت الظالمين وهذا التصوير للصيحة فيه غاية التهويل. فلئن كانت الصيحة قد نالت من الظالمين فما بالك بما يرافق تلك الصيحة؟!
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا (44)) لعلك وقفت أمام كلمة (تترى) متسائلاً ما معنى كلمة (تترى)؟ ولِمَ عبّر عن تعاقب الرسل بـ (تترى) دون التعاقب؟ إن كلمة (تترى) لا تطلق إلا إذا كان بين الأشياء تعاقب مه فترات وتقطّع. والوتيرة ، الفترة عن العمل. ولذلك خصّ تتابع الرسل بـ (تترى) جون التعاقب لأن التعاقب يدل على التتابع دون فترة فهو تدارك وتتال. بينما الرسل أرسلت تباعاً ولكن مه فاصل زمني فناسب هذا الحال كلمة (تترى).
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ (46)) ملأ فرعون هم أهل مجلسه وعلماء دينه من السحرة. فلِمَ خصّ ربنا الإرسال إليهم خاصة دون بقية القوم؟ ولِمَ قال (وَمَلَئِهِ) ولم يقل قومه؟ إنما جعل الله سبحانه وتعالى الإرسال إليهم دون بقية أمة القِبْط لأن دعوة موسى وأخيه عليهما السلام إنما كانت خطاباً لفرعون وأهل دولته الذين بيدهم تصريف أمور الأمّة.
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا (46)) انظر إلى توصير مجريات الحدث. فموسى وأخوه عرضوا الأدلة والآيات فكيف قوبلت هذه الآيات؟ قوبلت بالإعراض والتكبّر. فلِمَ قال (فَاسْتَكْبَرُوا) ولم يقل فأعرضوا؟ إن عطف استكبروا بفاء التعقيب يفيد أنهم لم يتأملوا الدعوة والآيات والحجة ولكنهم أفرطوا في الكبرياء. وهذا التصرف اقتضى أن يوصفوا بالاستكبار دون الكِبر. فقال (فَاسْتَكْبَرُوا) لأن السين والتاء توحي بالتأكيد أي تكبروا كبرياء شديدة بحيث لم يعيروا آيات موسى وحجته آذاناً صاغية.
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)) إذا تأملت السياق في الآية رأيت أن القرآن قد عبّر عن الزكوات والصدقات بالإيتاء فقال (يُؤْتُونَ) فلِمَ عَدَل ربنا عن التصريح إلى الموصول (مَا آتَوا)؟ عبّر الله تعالى بقوله (مَا آتَوا) دون ذكر الصدقات أو الأموال ليعُمّ كل أصناف العطاء وليعُمّ القليل والكثير. فثمّة مؤمنون ليس لهم من المال ما تجب فيه الزكاة ولكنهم يعطون مما يكسبون.
(حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)) إن العدل الإلهي اقتضى أن يشمل العذاب كل من حاد عن الهوى وعصى. فكيف تم تخصيص المترفين بالعذاب في الآية وحدهم دون بقية القوم مع أن شأن العذاب الإلهي إن كان دنيوياً أن يعُمّ الناس كلهم؟ جعل الأخذ واقعاً على المترفين منهم لأنهم هم الذين أضلوا عامة قومهم ولولا نفوذ كلمتهم لاتبعت الرعية الحق. فكان المترفون هم سبب نزول العذاب بالعامّة. وفي أخذ المتفرين بالعذاب حكمة فهم أشد إحساساً بالعذاب لأنهم لم يعتادوا مس الضراء والألم.
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)) الاستكانة بمعنى الخضوع، فما وجه الاشتراك بين الاستكانة والخضوع؟ الاستكانة مشتقة من السكون وهي تدل على الخضوع. لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له. والاستكانة تدل على المبالغة في السكون للإشارة إلى تمكن السكون والخضوع وقوته في قلب صاحبه.
(حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)) تأمل هذا التهديد والوعيد. فالله لم يهددهم بأن يصيبهم عذاب شديد بل عو عذاب مفزع مختزن وراء بابه. فإذا ما فتح هذا الباب إنهال العذاب عليهم دفعة واحدة بشكل مفاجئ. ولذلك وصف الباب بقوله (بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ).
(قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)) إذا وازنّا بين هذه الآية والآية السابقة في ختامها وهي قوله تعالى (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)) رأينا أن هذه الآية لم يؤتَ فيها مع الاستفهام بشدة كما جاء في الآية السابقة (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) وذلك لأن انفراد الله تعالى بالربوبية في السموات والعرش لا يشك فيه المشركون لأنهم لم يزعموا إلهيّة أصنامهم في السموات والعوالم العلوية.
(قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88)) وصف الله تعالى ملكه بالملكوت ولم يصفه بالمُلك كأن يقول “قل من يملك كل شيء” وذلك للمبالغة في المُلْك. فالملكوت هو المُلك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم. ولذلك جاء بعده (كُلِّ شَيْءٍ) ليدل على العموم والشمول
(وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)) انظر إلى هذا اللطف الإلهي وهذا الإكرام الرباني للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال له الله (أَن نُّرِيَكَ) للإيماء إلى أنه في منجاة من أن يلحقه ما يوعدون به من العذاب وأنه سيراه مرأى عين دون أن يكون فيه. وهذا ما تحقق له يوم بدر حيث جاء العذاب وتحقق في مصرع صناديد قريش بمرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا (100)) كم من تركيب ابتكره القرآن فجرى مجرى المثل. وفي هذه الآية يجعل الله أمنيتهمم في الرجعة إلى الدنيا أمنية بعيدة المنال. (كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) أي أن قوله (رَبِّ ارْجِعُونِ) لا يتجاوز أن يكون كلاماً صدر من لسان لا جدوى منه وهذا التركيب فيه تيئيس لهم من المغفرة.
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)) تأمل هذا الاستفهام فكم يحمل في طياته من التوبيخ والتحقير والتقريع. فهم لا يقولون بأن الإنسان خُلِق عبثاً ولكن يلزم من إنكارهم البعث أن يكون خلْق الناس مشتملاً على عبث، فنزلوا منزلة من حسب ذلك فوبِّخوا بما يلازم اعتقادهم.
(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)) انظر إلى وصف مُلْك الله بالحقّ، هل يومئء هذا الوصف بشيء؟ بما أن الحق يقابل الباطل فإن مفهوم الصفة (الْمَلِكُ الْحَقُّ) يقتضي أن مُلْك غيره باطل أي فيه شائبة الباطل لا من جهة الجَوْر والظلم لأنه قد يوجد مُلْك لا جَوْر فيه ولا ظلم كمُلْك الأنبياء والصحابة والتابعين. ولكن مُلْكهم غير مستكمل حقيقة المالكية. إذ كل من ينسب إليه المُلْك عدا الله تعالى هو مالك من جهة ومملوك من جهة لما فيه من نقص واحتياج. ومن ثمَّ فإن مُلْكه مُلْكٌ باطلٌ لأنه ادّعاء مُلْك غير تام. ولذلك وصف الله تعالى ذاته بالعلو فقال (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ).
(وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)) تقول في دعائك اللهم اغفر لي ذنب وارحمني وبالتالي فإنك تحدد مفعول المغفرة، فأين مفعول (اغْفِرْ وَارْحَمْ) في هذه الآية؟ حذف متعلِّق (اغْفِرْ وَارْحَمْ) لتفويض الأمر إلى الله في يقين المغفور لهم والمرحومين ولإطلاق المغفرة في كل شيء دون تعيين.