قبسات من روائع البيان

قبسات من روائع البيان – سورة النحل

اسلاميات

سورة النحل

(يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ (2)) الروح هو الوحي فلِمَ أَطلقَ عليه إسم الروح؟ أُطلِق عليه اسم الروح لأن الوحي به هدى العقول وإذا وعته العقول حلّت بها الحياة المعنوية وهي العلم. كما أن الروح إذا حلّت في الجسم حلَّت به الحياة الحسية

(وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)) إن الدفء الذي يتخذه الإنسان من الحيوانات ما هو إلا منفعة من منافعها المتعددة فلم ذكر الدفء ثم عطف عليه الأشمل والأكمل وهو المنافع؟ قدّم الدفء بالذكْر وعطف العام على الخاص وهو المنافع على الدفء لأن أمر الدفء قلّما تستحضره الخواطر فأراد ربنا أن ينبهنا عليه.

(وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)) لعل سائلًا يقف أمام هذه الآية التي وقعت بين تعداد نِعَمِ الله المادية على الإنسان ويسأل لِمَ وقعت عقب الامتتنان بنعمة تسيير الأسفار بالرواحل والخيل وغيرها؟ أُنظر إلى هذا البيان الإلهي لمّا ذًكِرت نعمة تيسير السبيل الموصلة إلى المقاصد الجسمانية إرتقى إلى التذكير بسبيل الوصول إلى المقاصد الروحانية وهو سبيل الهدى فكان تعهّد الله بهذه السبيل نعمة أعظم من تيسير المسالك الجسمانية لأن سبيل الهدى تحصل به السعادة الأبدية.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ (12)) لعلك تقرأ هذا الآية فيلفت نظرك رفع كلمة النجوم بعد المنصوبات، فلِمَ عَدَلَ عن عطف النجوم على ما قبلها بالنصب؟ إن نكتة اختلاف الأسلوب كانت للفرق بين التسخيرين. ألا ترى أن الأول وهو تسخير الليل والنهار والشمس والقمر واضحٌ جليٌّ لكل بصير وعاقل؟ وأما تسخير النجوم فهو خفيٌ عن كثير من الناس لقِلّة من يَرقُب حركات النجوم وفائدتها

(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)) تدبَّر هذه الآية، ألا ترى أن ختامها مناسب لمبتدئها؟ فلِمَ كانت آية إبراهيم ذاتها مغايرة في ختامها حيث قال ربنا (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) إبراهيم)؟ إذا رجعنا إلى آيات سورة إبراهيم نرى أنها جاءت في سياق وعيد وتهديد، يقول الله تعالى في ذلك الموضع (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) إبراهيم) فكان من المناسب تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله وأما هذه الآية فقد جاءت خطابًا للفريقين ولذلك ذكّرهم بنعمه وبفضل عفوه ومغفرته وفي تقابل الوصفين (إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) و (إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) إشارة إلى أن تلك النِعَم كانت سببًا لظلم الإنسان وكفره وهي سببٌ لغفران الله ورحمته والأمر في ذلك منوطٌ بالإنسان.

(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)) ألا يستقيم المعنى إذا أغفلنا جملة (غَيْرُ أَحْيَاء)؟ لأن الموت يعني أنهم غير أحياء، فلِمَ ذُكِرت هذه الجملة؟ هذه الآية تخاطب العقل وتبيّن له سخف اعتقاده بحجرٍ لا يضرُّ ولا ينفع ولذلك بيّن له ماهيّته فهو ميتٌ لا حِراك به ولذلك أكد هذا المعنى بقوله (غَيْرُ أَحْيَاء) ليدل المشركين على علاقة وصف الموت بالحجارة التي يعبدونها وبأن هذه الحجارة ليس فيها شائبة حياة.

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ (27)) إذا أردت أن تربط الظرف وتعلُّقه قلت (يخزيهم يوم القيامة)، فلِمَ قدّم (يوم القيامة) على (يخزيهم)؟ في هذا التقديم لفت لنظر السامعين والقارئين ليتنبّهوا إلى عِظَم هذا الخزي فخزي الدنيا أيام وتمضي وهو خزي جزئي أمام أناس دون غيرهم وأما خزي الآخرة فهو على مرأى من الناس كلهم ومسمع، فضلًا على أنه يوم الأحوال الأبدية ومن ثمّ فإن العذاب فيه مهول للسامعين.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ (28)) السَّلَم هو الاستسلام فكيف يُلقي الظالمون الاستسلام؟ هذا من بديع تعبير القرآن الكريم فقد رصد صورة مذلة الظالكين ومهانتهم ونقلها لك نقلًا محسوسًا ومشاهدًا حيث شبّه ربنا تحليهم عن الاستكبار والإنكار بإلقاء السلاح على الأرض لأن الحالتين تتطلبان من المرء أن يسرع إلى الاعتراف والخضوع وحالة الآخرة أشد لأنهم يذوقون عذاب انتزاع أرواحهم.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28)) في هذه الآية الكريمة يدور الحوار بين الملائكة والظالمين. والملائكة تعلم غيَّهم وتماديهم في الضلال فلِمَ عَدَلت عن الملائكة عن قولها بلى إنا علمنا بما كنتم تعملون إلى (بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)؟ مع أنهم كانوا يسجلون عليهم أعمالهم في الدنيا؟ أسندت الملائكة العلم إلى الله أدبًا مع الله تعالى وإشعارًا أنهم ما علموا ذلك إلا بتعليم من الله.

(فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ (36)) كان السياق يوحي “فمنهم من هدى الله ومنهم من أضلّه الله” فلِمَ قال (حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) دون أضلّه الله؟ في هذا إشارة إلى اصرار الضالين عن ضلالهم والله نهاهم عن الموبقات لكنهم صمموا عليها فاستحقوا الضلال وفي هذا إيماء إلى أن الله يحب لعباده الهداية ويكره لهم الضلال

(إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (37)) انظر إلى هذا الثناء الذي يجسّده قوله تعالى (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ). فهو يمثل لك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي من شأنه أن يثير الحنق في نفس من يلحق به الأذى ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم مطهرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الذميمة.

(وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً (41)) تأمل في كلمة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) وما ترسمه من ظلال باهرة لا سيما أنها وقعت في مقابلة الفعل (هَاجَرُواْ) فالتبوئة هي الإسكان ولكن الله عبّر بها عنها عن الجزاء على المهاجرة بالحسنى لتقع مقابل المهاجرة وهي الخروج من الديار وكأن الله يقول هجرتم الديار فسكنتم الحسنات.

(الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)) لِمَ جاء صيغة الصبر بالماضي فقال (صَبَرُواْ) بينما عبّر عن التوكل بالمضارع فقال (يَتَوَكَّلُونَ)؟ هذه الآية وقعت عقب آية الهجرة وما لقيه المؤمنون من الاضطهاد الذي دفعهم لهجر ديارهم فأتى التعبير عن الصبر بالماضي إشارة إلى أن صبرهم قد آذن بالانقضاء لانقضاء أسبابه. وأن الله قد جعل لهم فرجًا بالهجرة الواقعة والهجرة المترقبة وهذه بشارة لهم بينما عبّر عن التوكل بالمضارع للإشارة أنهم سيستقبلون أعمالًا جديدة تتم لهم بالتوكل على الله.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (47)) كلمة (تَخَوُّفٍ) تأتي على معنيين: تخوّف بمعنى (الخوف)، أو بمعنى (النقص) وهي لغة (لهذيل) وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن الكريم. وقد رُوِي أنّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أَشْكَلَ عليه معنى (تَخَوُّفٍ) في هذه الآية فسأل على المنبر ما تقولون فيها؟ فقال شيخ من هذيل: هذه من لغتنا تعني النقص. قال عمر: فهل تعرف ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، فقد قال شاعرنا:

تَخَوّف السيرَ مِنها تامِكاً قَرِداً                        كما تَخَوّف عُودَ النّبِعِ في السفر

فقال عمر: أيها الناس عليكم بِديوَانكم، قالوا: وما دِيوانُنا؟ قال: شعر الجاهلية، فإنّ فيهِ تفسيرَ كتابكم.

(وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49)) جـلّ جلالُكَ يا ربّ! فكم في هذا الجَمْعِ مِنَ الآية بَيْنَ أشرف المخلوقات (الملائكة) وأقـلِّها مِمَّن يَـدُبُّ على الأرض؟! كم فيه من التعريضِ والذَّمّ بكل من خـرج عن أُطُـر الشـرع وحَـادَ عن طريق الهُـدى، ونـزَلَ عن مـرتبة البشـر بكفره بخالقه؟! وكم فيه من الإشادَةِ والمدح لِمن شابه حال الملائكة؟!

(وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)) نجد أنّ السّيَاقَ انتقل من الغَائب (إنّما هُوَ إلهٌ واحِدٌ) إلى المُتكلِّم (فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ). ومن ثَمّ عَدَلَ عن قولِهِ (فارهبون) إلى (فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ) وما ذاك إلّا لِقَصْرِ الرَّهبة على اللهِ وحدهِ دونَ غيرهِ، ولتقرير الاعتقاد بأنَّ اللهَ مُنَزّلَ القُرْآنَ، فتؤوبُ القلوبُ إلى بارِئها وتملأُ الرّهبة جوارحَ النّاس.

(ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)) لِمَ عبّر ربُّنا تعالى عن إصابة الإنسان بالضر (بالمس)؟ في هذا اللفظ (مسَّكُم) تصوّيرٌ دقـيقٌ لِحَالةِ الإنسان، فما إن يُلامِـسُهُ أدنى كَرْب حـتى تراه فَـزِعاً ضائـقَ الصّدرِ، فاستعـمالُ الفِعْـلِ (مسَّكُم) فيه إشارةٌ إلى ضِيقِ صدرِ الإنسان بحيثُ يَجْأرُ إلى اللهِ بحصولِ أدنى شيء من الضُّرِ لهُ، وهذا لا يُصوِّرُه لفظ (أصابكم) الذي يوحي بالمصيبة أو البلاء العظيم.

(وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ (56)) لِننظُر إلى هذا التّسْفِيهِ لِأحلام أُولئكَ المُشرِكين فقد عَبّرَ رَبُّنا عن أصنامِهم بـاسم الموصول (ما) للزيادةِ في تعظيمِ سَخَافَةِ آرائهِم، لا سيما وأنّ صِلَةَ (ما) هي (لا يّعْلَمُون) لِتُصَور حالَتَهُمُ المُزْرِية حيث يَفْرِضُونَ في أموالِهم عَطاءٌ يَعطُونهُ لِأشياءَ لا يعلمونَ حقائقها، ولِيُنَفِّرَ رَبُّنا القلوبَ منهُم وصفَ النّصيبَ بأنهُ منَ الله فقال (مِمَّا رَزَقْنَاهُم) وذلكَ لِتَشْنِع ظُلْمِهِم عندما تركوا المُنعِمَ الجَبّار ولم يَتَقَرّبُوا إليهِ في أموالِهم بما يُرْضِيهِ، وإنَّما تقرّبوا إلى أشياءَ مَوْهُومَة .

(وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ (62)) لِنَتَأمّلَ هذا الكلامَ البلِيغَ والبديعَ فقد جعل اللهُ ألسنتهم تصفُ الكذب، وهل يَصِفُ اللسانُ الكذب؟ هذا هو الإسلوبُ الفَصِيحُ الذي لا يُبْلَغُُ شَأوُهُ، فقد جعلَ اللهُ القَولَ كأنَهُ عَيْنُ الكَذب، فإذا نَطَقت بِهِ ألسنتُهُم فقد صَوَّرت الكذب بِصُورَتِهِ، أَلا تَرى أنّهم يقولون (عَيْنُها تَصِفُ السِّحْرَ) ويقصِدون أنّها سَاحِرة، (وَوَجْهُها يَصِفُ الجَمال) ويريدون أنّه جَمِيل .

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ (66)) إنّ الإنسانُ هو المُستفِيدُ من حليبِ الأنعام، فلم قالَ ربّنا (نُسْقِيكُم مّمَا في بُطُونِهِ) ولم يقل (تَشرَبُونَ ممّا في بطونه)؟ استخدم ربّنا فعل السُّقِيا المّنسُوبة إلى ذاتِهِ العّلِية (نُسْقِيكُم) لِيُظْهِرَ مِنَّـتَهُ على عبادهِ بهذه النّعَم ولِيَدمِجَها مع العبرة والعِظة بآيةِ خُروج اللبَنِ من ضُرُوعِ الأنعامِ .

(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)) نحنُ نَقولُ (اتّخذتُ في بلدةِ كذا بَيتاً لي) ولا تقول (اتّخذتُ من بلدةِ كذا بيتاً لي) فلمَ قالَ جلَ جلالُهَ (مِنَ الْجِبَال) ولم يقُل (في الجبال)؟ إنّ التّعبير عنِ اتّخاذِ النّحلِ بُيوتها في الجبالِ والأشجارِ والعَرِيش أتى بـ (مِن) فقال (مِنَ الْجِبَال) دون (في الجبال) لِأنّ النّحلَ تَبني لِنفسها بُيوتا وتُشَيّدها بهندسةٍ دقيقةِ الصّنع، ولا تأوِي وتَرْكَنُ إلى بُيُوتٍ جاهِزَةٌ في جُحُورِ الجِبال، ولا تَجْعَلُ بُيُتَها الأغْصانَ والأوراقَ في الأشجارِ ولا أعوادَ العَرِيش، فناسبَ ذلكَ (مِنَ الْجِبالَ) دونَ (في الجبال).

(يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ (69)) لِنتأمّلُ دقّةُ اللفظِ في القُرآن فقد نَكّرَ كلمة (شِفاء) ولم يأتِ بها مُعرّفة، فلم يقل (فيهِ الشّفاءُ لِلنّاس) وذلكَ لِيَلْفِتَ نظرنا إلى أنّ العسلَ فيهِ شِفاءٌ منَ الأمراضِ ولكن لا على سبيلِ العُموم لِكُلَ الأمراضِ، فالشِفاءُ ثابتٌ في العسل في أفراد النّاس بحسبِ اختلافِ الأمْزِجَةِ إلى الإستشفاء، فقد يشفي هذا دون ذاك، ولذلك قال (فِيهِ شِفَاءٌ) ولم يقل (فيه الشفاء) لأنّ التعريفَ يدلُّ على العُمومِ والتّخْصِيصِ، أما التنكيرُ في سِيَاقِ الإثبات فلا يَقْتَضِي العُموم ومِن ثّـمّ لا يقتضي أنه شِفاءٌ من كلِّ داء .

(وَلِلهِ غَيبُ السّمَوَاتِ وَالأرض وَما أمْرُ السّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَر أو هُوَ أقْرَب (77)) نجدُ أنّ كلمةِ {أمر} أُضِيفت إلى {السّاعة} معَ أنّهُ يُمكنُ الاستغناءُ عنها فيُقال (وما الساعةُ إلاّ كلمحِ البصر) فما سببُ ذِكرِها؟ الأمرُ هوَ الشّانُ المُهم، كقولِ أبي بكرٍ- رضى اللهُ عنهُ-عنِ النّبي صلّى الله عليه وسلّم: ما جاءَ بهِ في هذه الساعة إلاّ أمر (أي شأنٌ وخطبٌ)، فإضافة الأمرِ إلى السّاعة كان لِإظهارِ شأنها العَظِيم ولِزرعِ الرّهبةِ في القلوبِ من مَقْدَمِها .

(وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأَفْئدَةَ لَعَلَّكُم تَشْكُرُونَ (78)) لِمَ خصّ اللهُ السّمعَ والبصر بذكر خَلْـقِـهِما دونَ غيرهما من الحواس؟ اقتصرَ اللهُ بإظهارِ مِنّـتِهِ بِخَلْـقِ هاتينِ الحاستين دون غيرهما لِأنّهما هُمَا الأهَم، ولِأنّ بِهِما إدراكَ دلائلِ الاعتِقادِ الحقّ، ولذلكَ ذكرَ بعدهُما {الأفئدة} لِأنّها هي مَقَرّ الإدراكِ كلِّهِ، فالعقلُ هو الذي تَنْقُلُ إليهِ الحواسُ مُدْرَكاتِها .

(أَلَمْ يَرَوا إلى الطّيْرِ مُسَخّراتٍ في جَوِ السّماء (79)) لِننظُر إلى هذا الاستفهام {ألمْ يَرَوا} كم يحمِلُ في طَيّـاتِهِ منَ التّهَـكّـمِ والإنكار على مَن يَرَى آياتِ اللهِ في الكون ثُمّ يُصِـمُّ أُّذُنَهُ ويُعْـمي بَصَرَهُ عن دلائلِ وجودِ الله، فكأنّ في هذا الاستفهامِ تنزيلَ رُؤيَتِهِمُ الطّير مَنزِلَةَ مَن لا يَرى لِانعِدامِ فائدةِ الرّوية، فما فائدةُ أن يَرى المَرْء ثُـمَّ لا يُدْرِكَ أبْعَادَ ما يَراه.

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ (81)) نرى أنّ الملابس تتخُذ لِلوِقاية من البردُ أكثرُ مِمّا تُتّخَذُ للوقاية من الحرّ، فلِمَ خصّ اللهُ الحرّ في الأية؟ خَصّ اللهُ الحرّ دونَ البردِ في هذهِ الآية لِاَنُهُ أكثَرُ أحوالِ المُخَاطِبين في وَقْتِ نُزولِها .

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)) لِنَتأمّلَ هذا التّيْـئِيـس لِمن تَمَرّدَ على أمرِ اللهِ، فَألسِنتُهم ملْجُومَةٌٌ عنِ الهمسِ والنّطقِ، وهذا المشهدُ يرصُدهُ قَولهُ تعالى (ثُمَّ لَا  يُؤْذَنُ لِلّذينَ كَفَرُوا) فلِمَ عطفَ إذنً قولهُ (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) على قولِهِ (ثُمّ لَا يُؤْذَنُ لِلّذيِنَ كَفَرُوا) مع أنّ عدمِ الاستعتاب أخصُّ من عدمِ الاذنِ؟ في هذا العطفِ غايةٌُ هامة وهو الدِلالةُ على أنّهُ مَيْؤسٌ من الرّضى عنهم عندَ سائرِ أهلِ المَوقِف بحيثُ يعلمون أن لا طائلَ في استِعْتابِهِم فلذلكَ لا يُشِيرُ أحدٌ عليهم بأن يَسْـتَـعْـتِبُوا .

(وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)) نعلمُ أنّ القَولَ لا يُلْقَى، فلِمَ عبّرَ ربُّنا عن إنكارِ الأصنام لِـمَـا نُـسِـبَ إليهِ بالإلْـقَـاءِ فـقال (فَألْـقَـوْا إلَيْهِمُ الْقَوْلِ)، ولَم يَقُـل مُباشَرَةً (قالوا إنَّكُم لَكاذِبُون)؟ إنَّ دُخُول الفاءِ على الفِعل (فَأَلْـقَوْا) أفادَ التّـعـقِيب، لِـيُـبَيّـنَ لنا سُرعةَ الأصنامِ في المُبادَرةِ بِتَكْذِيبِ ما نُسِبَ إلَيْها، فقد أنطَقَ اللهُ الأصنام فَكَـذَّبَت ما تَضَمَّنَهُ مَقَالُهُم مِن كَـوّْنِهُا شُرَكاءَ لله، وإنّما اسْـتَخْـدَمَ فِعل (الإلْقَاء) دون القَوْلِ مباشرةً لِأنّ نُطْقَ الأصنامِ غيرُ جارٍٍ على المُتَعارَفِ عليه، ولذلِكَ قال (فَألْقَوْا إلَيْهِمُ الْقَوْل) إشارةً إلى كَوْنِ القَوْل قد أجْرَاهُ اللهُ على أفْـوَاهِ الأصنامِ مِن دونِ أن يَكُونوا ناطِقِين .

(وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ (92)) لنتأمّلُ هذا التصوير الذي يَبهَرُ العُقُول، ويُقَرّبُ الأمر المعنوي، ويجعلُكَ تَتَلَمّسُ أجزاءه، فقد صوّرَ اللهُ حالَ الإنسانِ الذي يَحلِفُ وَيَنكُثُ بيمينهِ بحالِ تلكَ المرأة التي كانت تَغْزِلُ منَ الغداةِ إلى الظهرِ ثمّ تَنقُضُ ما غَزلتْهُ بعدَ فَتْلِهِ، فهذهِ المرأة كانت تُفْسِدُ ما صَنَعَتْهُ بيدها وتُحِيلُهُ إلى فساد، وأُولئكَ الّذينَ يَنكُثُونَ أَيمانهُم حالُهم كحالِها بل أشدُّ في نَقضِ عهدِ اللهِ والرجوعِ إلى الفسادِ بعدَ التّلَبّسِ بالصلاحِ.

(وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)) لننظر إلى هذا التهديدِ وَالوَعيدِ بقوله (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فالسؤالُ أريدَ بهِ المُحاسبة، لِأنّهُ سُؤالُ حكيمٍٍ يترتّبُ عليه الحسابُ والجزاء لا سؤال استطلاع. والسؤالُ الذي يطرحُ نفسه: لِمَ أكَّدّ رَبُّنا السّؤالَ بقولهِ (ولَتُسْئَلُنَّ) ولمْ يقُل (وسوفَ تُسألون) بالإخبار؟ لَمّا كانَ قولُهُ تعالى (يُضِلُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) قد يَـغْـتَرُّ بهِ قَصِيرُ النّظر، فَيَحْسَبُ أنّ الضّالَ والمُهتَدِي سواءٌ عندَ الله، وأنّ الضّالَ مَعْـذورٌ في ضلالهِ لِأنّهَ أثَرٌ من مَشِيئةِ الله، عَـقَّـبَ ذلكَ بِقولهِ (ولَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) مُؤكّدًا بِتَأكِيدَين: القَسَم المُقدّر أي (واللهِ لَتُسألنّ)، ونونُ التوكيدِ في آخرِ الفِعل ليكونَ ذلكَ رَادِعًا لَلنفسِ عن سُلُوكِ مَسلكِ الطُّغْيانِ والضّلال.

(وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا (94)) ذلكم صورة نَقضِ الأيمان، فلنتأمّل هذا التّصوير بين حالةِ اختلالِ الحال والتَعرُّضِ لِلضُرِ النّاتج عن ذلةِ القَدم، وحالةِ مَن نقضَ الأيمان، فكم جَرَّ على نفسهِ من الضُّرِ والسُّقُوطِ في غَضَبِ اللهِ

(وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهَ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (95)) لِمَا قَيَّضَ ربُّنا سبحانه الثمنَ (بالقليلِ)، مع أنَّهُ قد يَكونَ مالاً كثيراً أو مُلْكاً عظيماً؟ إنّ تَقْيِيض الثمنِ (بالقليل) فيه دلالةٌ وإشارةٌ كبيرة إلى أنّ كُلَّ عِوَضٍ يُؤْخَذُ عن نَقِضِ عهدِ اللهِ هوَ عِوَضٌ قليلٌ مَهْما عَظُم، ولو كانَ أعْظَمَ المُكْتَسَبات، لِاَنَّ الدّينَ لا يُقَيَّضُ بِثَمَن.

(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ إُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةُ طَيِّبَة (97)) ويقولُ تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْنَكاً (125) طه) ولو تأمَّلنا في حياةِ المُسْلِمِ وحياةِ غَيرهِ لَلَمَسْنا السّعادة في حياة المُؤمِن جَلِيَّةً واضحةً، فالمؤمن إذا ابتلىَ ببلاءٍ صبر، وَعَلِمَ أنَّ ذلكَ منَ اللهِ عزّ وجلّ اختبارٌ يُظْهِرَ من خلالهِ صِدَقَ إيمانهِ، وإذا أنْعَمَ عليهِ شكرَ وحمدَ الله، أمّا غيرُ المؤمن فهو لا يرْجو بعد الحياةِ الدّنيا حياة، فهوَ يسعى في هذه الحياة لِيَتمتّع بها ويعِيش لذّاتِه فيها، فإذا اللذاتُ لا تحضُرُ بين يديه، وإذا حَضَرَت لا تَحْصُلُ لهُ منها الّلذةُ التى كان يتَوقُّعُها، فإذا به ييئسُ وَيقنطُ، فيَرْمي نَفْسَهُ من شاهق، ٍأو يَحْتَسي سُمَّاُ قاتِلاً يُنْهي حياتهُ، أو يُصابُ بمرضٍ نفسيٍ أو مرضٍ عقلي، تأمّلَ كلُّ ذلك في حياةِ الغربِ في أُوروبا، في أكثر الدّولِ حضارةً مادية، لننظُر إلى صُوَرِ الانتحار، ولننظُر على طوابير المرضى على أبواب العِيَادات النّفسِيّة، وبالمُقابل ترى المؤمن مُطْـمَئـناً يعيشُ حياةً طيِّبة هى وَعْدُ اللهِ لنا في الحياةِ الدّنيا، واللهُ لا يُخْلِفَ الميعاد .

(فَإذَا قَرَأتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)) إذا كانتِ الاستعاذة والبسملة قبل أن يشرع الإنسانُ في القراءة، فكيف يطلُبُ اللهُ مِنّا أن نستعِيذ بعد القراءة، فقال (فَإِذَا قَرَأتَ القُرْءانَ فاسْتَعِذ باللهِ)؟ إنَّ الفِعْلَ (قَرَأتَ) مُسْتَعْمَلٌ في إرادَةِ الفعلِ، أي (إذا أردتَ القراءة)، وذلك مثل قوله تعالى (إذا قُمْتُمْ إِلى الضّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم) أي (إذا أردتم القِيَام)، وفي هذا الإسلوبِ تْأكِيدٌ على قِيَامِ المَرْءِ بالمطلُوبِ منهُ، فهوَ قارِئٌ لِلقُرْآن لا هاجِرٌ لهُ.

(مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيْمَانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنٌّ بِالإيْمَانِ وَلَكِن مَن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيْمٌ (106)) نعلمُ أنَّ الجملةَ الإسميةَ تدلُّ على الثبوت، والجملةَ الفعليةَ تدلّ على التّجدد، فلمَ عبّرَ ربُّنا عن غضبهِ بالجملة الأسمية فقال (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ الله)؟ وقال الله (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) دون (فقد غضبَ اللهُ عليهم) لِما تدلُّ عليه الجملة الإسمية من الدوام والثبات، أي غضبٌ لا مغفرةَ معهُ، وذلك لِيُناسبَ سُوءَ صَنِيعِهم، فهم يستحقّونَ عذابًا لا رحمةَ معه، كيف لا؟ وقدِ انشَرَحت صُدُورهم لِما حَقُّهُ أن يَضِيْقَ معهُ الصدرُ وهو الكُفْرُ باللهِ، ولذلكَ قدّم الجار والمجرور على المُبتدأ فقال (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) دونَ (فالغضبُ عليهم) للإهتِمامِ بأمرهم، وأنَّهم يستحقُّونَ ذلك لا غيره .

(ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيا عَلَى الآخِرَةِ (107) لِننظر إلى هذا التّصويرِ لِخَلَجاتِ القلبِ التى دَفَعَت أولئكَ إلى تفضيلِ الباطلِ على الحقِّ، والظُّلمَةِ على النُّور، فهم قد استحبوا الْحَياةَ الدُّنيا على الآخرة، ولذلك قال (اسْتَحَبُّوُا) ولم يقل (أحبُّوا) للمبالغة في محبَّتهم للدّنيا وتقديمهم لها على الآخرة .

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلٌا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنُعُمِ اللهِ فَاَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (112)) إنّ الإنسانَ يتذوّقُ الطعامَ بِفِيــهِ، ولكن أنّى لهُ أن يتذوَقَ الخَوفَ أو لِباسَ الجُوع؟ فهل للجوع لِباسٌ يُرْتَدى؟ هذا الأُسْلُوبُ فيهِ تمْثِيلٌ لِطبيعةِ الإنسان حيث يكرهُ الخوفَ والجوعِ كما يكرَهُ تذوُّقُ الأطعِمةِ المُرّةِ البشعة، وإنما عبّر عن إصابتهم بالخوفِ والجوع بالذّوْقِ واللباس، لأنَّ التذوّقَ فيهِ تمَكُّنِ مِن فَمِّ ذائقِهِ، حيثُ لا يجدُ لهُ نَفْعًا، واللباسُ يُحيطُ بالجسدِ فلا يَتْرُكُ مِنهُ ذَرَّةً إلّا وَ يُحيطُ بها، وكذلك أحاطت بهم غَاشِيَةُ الجُوعِ والخَوفِ مِن كُلّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، وِتمَكَّنت منهم، واستقرَّت في إدراكِهمُ استقرارَ الطّعامِ في البطنِ.

(وَعَلَى الذِّيِنَ هَادُوْا حَرّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ (118)) فإذا أردنا أن نربط الجارَ والمجرور ونُعلقهما بمُتعلّقِهِما فسوف نُعِيدَ ترتيبِ الجملة فنقول (وحرّمنا على الذّينَ هادوا) فلم تقدّمَ الجارَ والمجرور على مُتَعَلِّقِهِ إذن؟ تقدمَ الجار والمجرور على الفعل (حَرَّمْنَا) إشارةً إلى أنَّ ذلك حَـرُمَ عليهمُ ابتداءً، ولم يكن مُحرّمًا مِن شَرِيعةِ إبراهيمَ عليه السلام التي كان عليها سَلــَفُهم، فهوَ إذن مُحَرّمٌ عليهِم دُونَ غَيْرِهِم.

(إِنَّ إِبْرَاهَيْمَ كَانَ أُمّةً قَانِتًا لِلهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِيْنَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)) نتأمّل لاستعمال ِجمع القِلّة أو جمعِ الكثرة في القرآن، ففي هذه الآية جمع (النّعمة) جمع قلة على وزنِ (أَفْعُل) فقال (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ)، في حينَ نراهُ في سورةِ لُقْمان قال سبحانه (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمِهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) فجمعها جمعَ كثرة، ذلك إنّ نِعَمَ اللهِ لا تُحْصى فلا يُطِيقَ الإنسان شُكْرَها جَمِيعها ولكن يشكرُ قِسْمًا منها، ولذلك لَمّا ذكرَ إبراهيمَ عليه السلام وأثنى عليه قال (شَاكِرًا لِأنْعُمِهِ) ولم يقُل (لِنِعَمِهِ)، لأنّ شُكر النّعَمِ ليس في مَقْدُورِ أحدٍ ، بل إنّ إحْصاءها ليس في مَقْدُورِ أحدٍ فكيفَ بشُكْرِها؟! وأمّا آيةُ سورة لقمان فهى في مَقَامِ تَعْدَادِ نِعَمِ اللهِ على الإنسان وإظهارِ فضلِهِ عليهِ، ولذلك ذكرها بجمعِ الكثرة فقال (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ).