الفصل السادس
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
اعجازات القرآن
الله سبحانه وتعالى جعل القرآن معجزة باقية الى يوم القيامة، ولذلك وضع فيه الدليل تلو الدليل على ما يتحدى به غير المؤمنين ليرد على ادعاءاتهم، ولقد قيل ان عصر المعجزات انتهى، ولكن معجزات القرآن لا تنتهي حتى تقوم الساعة، ومعاني الآيات لا تتضح في عصر واحد.
بل كل عصر نصل الي معنى لم نكن قد وصلنااليه، والقرآن معجزة ومنهج، المنهج وهو ما رسمه الله لنا كطريق للعبادة والحياة ثم تفسيره وبيانه كاملا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعبادات والمعاملات وغيرهما فيما يتصل بـ ” افعل” و ” لا تفعل” بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصلوات الفروضة فيه مثلا خمس لا تزيد ولا تنقص الى يوم القيامة، وكذلك الأحكام وكل ما يتعلق بمنهج السماء، كلها أشياء حسمت وبينت تماما، ولكن المعجزة في القرآن الكريم هي التي بقيت لتعطي كل جيل معنى اعجازيا لم يصل اليه الجيل الذي قبله.
ولو أن معجزة القرآن توقفت عند نزول القرآن لجمد القرآن فلم يعد يعطي شيئا جديدا، ولكن لأن هذا الكتاب معجزة باقية متجددة، فهو يعطي لكل جيل عطاء جديدا، وهكذا نجد في كل عصر عطاء للقرآن لم يكن موجودا في العصر الذي قبله.
فاذا قرأنا مثلا الآية الكريمة:{ غلبت الروم في أدنى الأرض} الروم 1_3.
وجدنا أن أدنى حين نزل القرآن كانت ” كما قلنا” بمعنى المكان القريب من أرض العرب، ولما تقدم العلم واستطاع الانسان أن يصوّر سطح الأرض بالأقمار الصناعية، وجد أن مكان المعركة بين الروم والفرس هو أكثر الأماكن انخفاضا على سطح الأرض، واذا قرأنا الآية الكريمة:{ اذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والرّكب أسفل منكم} الأنفال 42.
نجد أن الله سبحانه وتعالى قد حدد ثلاثة مواقع: موقع المؤمنين وهم قريبون الى المدينة المنورة، وموقع الكفار وهم بعيدون عن مكة المكرمة، أي أن المؤمنني أقرب الى مدينتهم واهلهم، والكفار بعيدون عن مدينتهم وأهلهم، ثم قال تعالى:{ والركب أسفل منكم}.
والركب هو قافلة أبو سفيان التي أفلتت من المؤمنين.
والمعروف ان أبا سفيان لكي يفلت من المؤمنين غيّر مساره واتخذ طريق الساحل وهنا يجب ان نلتفت الى قول الله تعالى:{ أسفل منكم}.أي موقع منخفض عنكم.
والمعروف أن ساحل البحر هو أكثر الأماكن انخفاضا في الأرض، ولذلك تقاس كل الارتفاعات بسطح البحر، فيقال: هذا المكان يعلو ألف متر مثلا عن سطح البحر أو مائة متر أو غير ذلك.
اذن فسطح البحر المقياس الذي اتخذه العالم كله بيساوي صفرا في الارتفاع، تقاس عليه كل الارتفاعات في الدنيا، ولذلك قوله تعالى:{ أسفل منكم} يلفتنا الى هذه الحقيقة، ولكن القرآن الكريم لم يكتف بأن يبين هذا، بل بين لنا أن هناك بقعة على سطح الأرض هي أكثر انخفاضا على سطحها، وهي التي دارت عليها المعركة بين الفرس والروم.
واذا قرانا القرآن الكريم، نجد ان الحق سبحانه وتعالى قد لفتنا الى مصدر العلم للبشرية كلها، فقال سبحانه وتعالى:{ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين} البقرة 31.
وهكذا حدد القرآن الكريم في اعجاز مذهل مدخل العلم لى البلشر، فأنت حين تريد أن تعلم طفلك عندما يبدأ يميز الأشياء، لا بد أن تعلمه الأسماء أولا، فتقول له: هذا كوب، وهذا قلم وهذا كرسي، وهذا طعام الى غير ذلك.
ونحن نقول اذا لم نعلم الطفل هذا فانه لا يستطيع أنيفهم شيئا ولكنه اذا تعلم الأسماء أصبح بعد ذلك قادرا على استيعاب العلم، ولذلك ففي الدنيا كلها وبالنسبة للبشرية كلها، لا بد أن نبدأ بأن نعلم اطفالنا أسماء الأشياء، ثم بعد ذلك تختلف نظم التعليم من دولة الى أخرى ومن طريقة الى طريقة، ولكنها كلها لا بد أن تبدأ بتعليم الأسماء، وهكذا نعرف أن بداية العلم من الله سبحانه وتعالى.
فقد بدأ الحق جل جلاله بتعليم الانسان الأسماء، وما زالت هذه البداية موجودة حتى الآن في كل نظم التعليم، الأسماء أولا، فاذا تعلم الطفل الأسماء بدأ يستوعب أي شيء آخر، ونحن لا نعلم الطفل الأسماء في المدرسة فقط.
ولكن هذا هو علم الفطرة، تبدأ الأم مع طفلها قبل أن يذهب الى المدرسة، والأم المتعلمة وتلك التي لم تنل حظا من التعليم، كلتاهما تبدأ بتعليم ابنها الأسماء، لأن علم الفطرة تكون منه البداية دائما، ثم بعد ذلك يتطور ويتبدل، ولا يمكن أن يتم التفاهم بين الأم وطفلها ولا بين طفل وطفل آخر الا اذا تعلما الأسماء أولا، والعلم في الدول المتقدمة والدولة المتخلفة أيضا لا بد أن يبدأ بالأسماء باعتبارها أساس التفاهم في الحياة، ولكن هناك اعجاز آخر بالعلم البشري لا بد أن نلتفت اليه، وهو يحمل الينا الدليل اللغوي على وجود الله.
اللغة تدل على الوجود
فاللغة أساس التفاهم بين البشر، واللغة ليست بيئة ولا حضارة ولا جنسا ولا لونا، ولكنها تعتمد أساسا على السماع، فاذا سمع الانسان تكلم، واذا لم يسمع لا يتكلم، ولذلك تجد دائما أن الأصم الي لا يسمع أبكم لا ينطق، فيقال دائما: الصم والبكم، لأن أساس الكلام هو السماع.
ولكي نفهم هذه الحقيقة جيدا وهي أن اللغة لا علاقة لها الا بالسمع، نقول: اننا اذا أتينا بطفل عربي وأخذناه بعد ولادته الى بريطانيا مثلا، بحيث لا يسمع الا الانجليزية فاذا حاولت أن تتحدث معه باللغة العربية فانه لا يفهمك، مع أنه عربي الأصل، من أب وام عربيين، ولكنه لا يستطيع أن ينطق حرفا واحدا من اللغة العربية لأنه لم يسمعها، فاذا جئنا بطفل انجليزي وأخذناه الى بلاد العرب فانه سنيشأ وهو يتكلم اللغة العربية، ولا يعرف حرفا من الانجليزية، مع أنه من أصل انجليزي، واذا اتينا بطفل أفريقي وكررنا معه نفس المحاولة فسنحصل على نفس النتيجة، اذن فاللغة لا علاقة لها بالأصل ولا باللون ولا بأي شيء آخر غير السماع.
وآدم حين خلقه الله وخلق حواء، لا بد أنه كان بينهما طريقة للتفاهم والا كيف تفاهما؟
لا بد أنه كان بينهما لغة ما تفاهما بها، ثم جاء أولاد آدم فكان بين آدم وحواء وأولادهما لغة للتفاهم سجلها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في قوله تعالى:{ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق اذ قرّيا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين} المائدة 27.
اذن فالثابت يقينا من القرآن الكريم أنه كانت هناك وسيلة للكلام بين آدم وأولاده، واذا كنا قد اثبتنا بالدليل المادي أن الانسان لا يمكن أن يتكلم الا اذا كان قد سمع، وأن اللغة أساسها السماع، فلا بد أن آدم قد سمع حتى يستطيع أن يتكلم، فاذا قال لنا الله سبحانه وتعالى:{وعلم آدم الأسماء كلها} البقرة 31.
اذن فلا بد أن يكون آدم قد سمع الأسماء من الله سبحانه وتعالى، وبما أن السمع هو وسيلة النطق بالكلام، فكأن سماع آدم للأسماء من الله هو الذي علمه الكلام بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال:{ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم اني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمونْ البقرة 31_33.
أي أن آدم تكلم وأنبأ الملائكة بالسماء التي علمها الله له، واذا كان آدم نطق وتكلم فلا بد أنه سمع من الله سبحانه، وحواء سمعت من آدم فتكلمت، وأولاد أدم وحواء سمعوا منهما فتكلموا.
الكلام من السماع
هناك بعض الناس يقول: ان الانسان الأول لم يكن يتكلم، وانما كان يتفاهم بالاشارة ثم بعد ذلك تكلم، ونقول: ان هذا غير صحيح، لأن أي انسان لكي يتكلم لا بد أن يسمع أولا، فممن سمع أول انسان تكلم سواء كان آدم أو من بعده؟ ان الكلام لا يأتي الا بالسماع، والذين يتفاهمون بنفس الأسلوب، الا اذا سمعوا من غيرهم، حينئذ تبدأ عندهم ملكة الكلام، والصم والبكم الذين يعالجون من هذا الداء، اذا لم يسمعوا فلن يتكلموا.
فاذا قال أحدهم: ان البشر يتحدثون بلغات مختلفة ولهجات مختلفة، نقول: ان هذا دليل لنا وليس علينا أن اللغة مصدرها البيئة أو أي شيء آخر، وأن الكلام ليس صفة وراثية تولد مع الانسان ولكنها صفة سمعية فلا بد من السمع أولا.
وهكذا تعطينا القرائن كلها أن الله سبحانه وتعالى هو الذي علم البشرية الكلام بأن علم آدم الأسماء كلها، ولا يمكن أن تكون هناك بداية- علما ولا عقلا – الا هذه البداية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم.
لفظ الجلالة واعجاز التحدي
واذا كنا نريد أن نمضي في هذا الاعجاز فأمامنا مجالات كثيرة، لفظ الجلالة، كلمة “الله” سبحانه وتعالى، من أين جاءت، ان الثابت لغويا أن المعنى لا بد أن يوجد أولا ثم يوجد اللفظ والاسم، فاذا لم يوجد المعنى فلا يوجد اللفظ في اللغة، وكل الاختراعات الحديثة التي لم تكن البشرية تعرف عنها شيئا، لم توجد لها أسماء الا بعد أن وجدت وعرفناها، والانسان لا يستطيع أن يفهم الكلام الا اذا كان المعنى موجودا في عقله، ولذلك فان المجامع اللغوية في العالم تضيف كل فترة ألفاظا لمعان لم تكن موجودة ثم وجدت، فكان لا بد أن توجد لها ألفاظ تعبر عنها.
وعلى أي حال فان العقل البشري يعجز عن فهم أي لفظ اذا لم يوجد في عقولنا المعنى أولا، حتى انك اذا حدثت أي انسان بلفظ لا يفهمه، فلا بد أن يعرف المعنى أولا ثم بعد ذلك يفهم اللفظ، ولكن الله سبحانه وتعالى غيب عنا، لم يره أحد، ومع ذلك فان لفظ الجلالة موجود في كل لغات العالم، والعقول كلها تفهمه، فكيف يمكن أن يحدث هذا؟ الا اذا كان في داخلنا الايمان الفطري الذي يعرفنا معنى لفظ الجلالة.
وهنا تأتي الآية الكريمة لتبين لنا هذا الاعجاز فيقول الله سبحانه وتعالى:{ واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} الأعراف 172.
اذن فلا بدّ أن الله قد أشهدنا على نفسه، وعندما ذكر لفظ الجلالة فهمناه، ولا بد ان الله سبحانه وتعالى أشهد البشرية كلها، لأنه لا توجد لغة في العالم ليس فيها لفظ الجلالة، بل ان التحدي والاعجاز الالهي يمضي أكثر من ذلك، فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{ رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته} مريم 65.
وهكذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى ان لفظ الجلالة لن يطلق على أحد غير ذاته الكريمة، وهكذا تحدى الله البشرية كلها في أمر اختياري، فالاسم هو شيء من اختيار الانسان، ويوجد في هذا الكون الكفرة والملحدون وشياطين الانس وغيرهم، فهل سمعت عن واحد سمى نفسه الله، أواسمى ابنه الله؟ لم يحدث ولن يحدث، لأن الحق سبحانه وتعالى اختص بهذا الاسم ذاته الكريمة، فلا يمكن لبشر أن يتخطى مراد الله ليطلق لفظ الجلالة على نفسه أو أحد أولاده، بل ان الذين ادعوا الالوهية مثل فرعون وغيره، ونصبوا أنفسهم آلهة يعبدون من دون الله، لم يجرؤ أحد منهم ولم يخطر على باله أن يسمي نفسه الله.
وهكذا جاء التحدي للبشر جميعا في أمر اختياري ليؤكد للدنيا كلها أن أحد لا يستطيع أن يخالف مرادات الله في كونه، ولو كانت هذه المخالفة في منطقة الاختيار للانسان، ولو كانت هذه المخالفة من ملحد محارب لدين الله يريد الاضلال في الأرض، أيوجد دليل مادي أكبر من هذا؟
التعداد دليل مع القرآن
فاذا تركنا الأدلة اللغوية فاننا سنجد هناك دليلا احصائيا على وجود الحق سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يقول:{ يا أيها الناس انّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، ان أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات 13.
الحق سبحانه وتعالى يخبرنا أن الخلق بدأ من ذكر وأنثى وهما آدم وحواء، ثم جاء منهما كل هذا الخلق الذي نراه، الدليل الايماني على ذلك أن الله هو الذي قال، والدليل المادي على ذلك هو أن علم الاحصاء يقول ذلك، فاذا تتبعنا البشر في الكون نجد أن تعداد الناس في العالم اليوم يصل الى كذا بليون نسمة.
فاذا فرضنا مثلا أن تعداد سكان العالم اليوم خمسة آلاف مليون، فكم كان عدد سكان العالم منذ قرن مضى، سنجد أن تعدادهم أقل، كان مثلا أربعة آلاف مليون ومنذ ثلاثة قرون مثلا كم كان عدد سكان العالم؟ طبعا كانوا أقل.
ومنذ عشرين قرنا من الزمان كم كان عدد سكان العالم؟ نقول انهم كانوا بضعة ملايين، ومنذ ثلاثين قرنا من الزمان كم كان عدد سكان العالم؟ نقول كانوا مليونين أو ثلاثة، اذا كلما عدنا بالزمان الى الوراء نجد أن عدد البشرية يتناقص، وكلما تقدمنا بالزمن نجد أن عدد البشرية يتزايد، أليسن هذه حقيقة احصائية.
أيستطيع أحد من الماديين أو غير المؤمنين أن ينكر أنه كلما عدنا بالزمن الى الوراء، فان عدد البشر يتناقص؟ واذا كانت هذه القاعدة المعترف بها، فمعنى ذلك أنه كلما عدنا الى الماضي تناقص عدد البشر، ويظل عدد البشر يتناقص ويتناقص حتى نصل الى نقطة البداية التي بدأت عندها حياة البشر، فتكون هذه النقطة من ذكر وأنثى.
اذن التناقص في الأعداد البشرية الذي عرفناه وسجلناه بالاحصاءات لا بد أن ينتهي الى البداية التي بدأ منها تكاثر هذا الخلق وهما الذكر والأنثى، وكلما مرّ الزمن زادت أعداد البشر حتى وصلنا الى تعداد العالم الآن.
فلو أن تعداد البشر كان يتناقص مع الزمن، أي أن الدنيا بدأت بألف مليون انسان وانتهت في عصرنا بمائة مليون، لكان ذلك يؤكد لنا أنه من المستحيل أن تكون البشرية قد بدأت بذكر وأنثى، لأن الدليل العلمي سيكون في هذه الحالة شاهدا على أن ذلك لا يمكن أن يحدث.
ولكن كون البشر يتزايد عددهم مع مرور الزمن ويتناقص عددهم كلما عدنا الى الوراء في الماضي، حتى أنه في العصور الأولى لم تكن الا أجزاء صغيرة من الأرض يعيش فيها الناس، والباقي لا يوجد فيه أحد فهذا يعطينا الدليل على أن البداية كانت من ذكر وانثى.
فاذا ذهبنا الى التاريخ فنحن نجد فيه الدليل المادي على وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى علمه وعلى معجزاته، اقرأ قوله تعالى في هذه السورة الكريمة:{ ألم تر كيف ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميمهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول} الفيل 1_5.
هذه معجزة لم يأت بها رسول الله، ولم تنزل لتثبيت الايمان على قوم نبي كان يدعو قومه للايمان وهم لا يؤمنون، ولكنها حدثت لأثبات تاقدسية والحماية لبيت الله الحرام.
ولقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، وكانت هذه المعجزة علامة على أن دين الله الذي سينزل على هذا الرسول اذا تخلى عنه البشر جميعا، فان الله جل جلاله سيحميه ويحفظه.
والقصة معروفة وبطلها ملك الحبشة في ذلك الوقت أبرهة، الذي بنى بيتا ليحج اليه الناس بدلا من الكعبة، وجاء بعض الأعراب وألقوا فيه القاذورات، فصمم أبرهة أن ينتقم بهدم الكعبة، وأخذ جيشا ضخما وعددا من الأفيال وذهب الى مكة، فلما رأى أهل مكة هذا الجيش هربوا وفروا، فجاء الطير وألقى عليهم بحجارة من جهنم قضت على أبرهة وجيشه وأفياله في دقائق.
القصة يرفض تصديقها عقل غير المؤمن، اذ كيف يمكن لطائر صغير أن يقضي على جيش من الفيال، بينما لو وقفت مئات من الطير على جسد فيل واحد لا يحس بها.
ولقد توقف بعض العلماء عند هذه السورة الكريمة فقالوا: ان الله أرسل جراثيم لتقضي على أبرهة وجيشه، وكأنهم يريدون أن يسهلوا الأمر على الله، مع أن الله على كل شيء قدير، نقول: لقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، وبعث في الأربعين، ونزلت هذه الصورة في مكة بداية الدعوة الاسلامية، وكان المفار هم القوة والعزة، والمسلمون هم القلة والضعف، وكان الكفار يبحثون عن أي شيء للطعن في الدين الاسلامي.
نقول: ان هذه السورة نزلت في مكة، والرسول صلى الله عليه وسلم كلفه الله بالرسالة وعمره أربعون سنة، أي أن هناك من أهل مكة من كان يبلغ الخامسة والخمسين والستين من عمره والسبعين وقد شهدوا هذه المعجزة، ورأوها رؤية العين، ولو أن الطير لم تأت وجيش أبرهة لم يتم افناؤه في لحظات، لقال هؤلاء الناس: ان هذا الكلام غير صحيح، ولقد كنا موجودين في مكة في هذا الوقت ولم نر طيرا جاءت ولا جيشا أفنى، ولطعنوا بذلك في الاسلام وفي القرآن وفي أنه كلام الله ولكن كون الطير جاء، وكون المعجزة تمت، لم يجرؤ أحد من أعداء الاسلام أن يطعن فيه.
وهكذا يعطينا الحق سبحانه وتعالى دليلا من التاريخ لمعجزة مشهودة حدثت، ويعطينا معها الدليل على صدق حدوثها، فاذا أضفنا الى ذلك ما ذكرناه سابقا عن قوله تعالى:{ الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} الروم 1_3.
لوجدنا دليلا تاريخيا آخر، ثم ياتي بعد ذلك دليل ثالث يضاف الى هذه الأدلة التاريخية.
شهادة التاريخ
نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى عندما يذكر في القرآن الكريم شيئا عن حاكم مصر في عصر موسى عليه السلام، كان يسميه فرعون، أي أن الذين حكموا مصر أطلق عليهم القرآن اسم الفراعنة، فيقول تعالى:{ قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} الزخرف 51.
وهذا يتفق مع التاريخ أن الذين حكموا مصر في العصور القديمة هم الفراعنة، اذن حكام مصر القدامى فراعنة، والقرآن سماهم فراعنة، فاذا أتينا الى سورة يوسف عليه السلام وجدنا أن الله سبحانه وتعالى، وهو يروي لنا قصة يوسف في مصر، لم يلقب حاكم مصر بفرعون، بل لقبه بالملك فقال تعالى:{ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي} يوسف 54.
وقوله تعالى:{ وقال الملك اني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف} يوسف 43.
اذن فثابت من القرآن الكريم أن يوسف عاش في مصر، وأنه خلال وجوده في صر اختلف في القرآن الكريم اسم حاكم مصر، فلم يكن يلقب بفرعون، بل لقب باسم الملك، ويمضي الزمن ويكتشف حجر رشيد ثم تحل رموز اللغة المصرية القديمة، ويثبت أن يوسف عليه السلام عاش في مصر في الفترة الت احتلها فيها الهكسوس، وأن هؤلاء لم يكونوا من الفراعنة، وأن حاكمهم كان يطلق عليه الملك، ولم يكن يطلق عليه اسم فرعون، وأن المصريين طردوا الهكسوس، وعاد الفراعنة الى الحكم مرة أخرى، من الذي أنبأ محمدا عليه الصلاة والسلام بهذه الحقائق التاريخية التي لم يعرفها العالم الا في الفترة الأخيرة بعد اكتشاف حجر رشيد؟ وكيف علم أن يوسف كان في عهد الهكسوس وأن موسى كان في عهد الفراعنة.
وهكذا يأبى الله تعالى الا أن يعطينا الدليل المادي التاريخي على اعجاز هذا القرآن، وعلى أن الله يعلم ما في الدنيا والآخرة، وأنه بكل شيء عليم، وحتى يظهر ذلك لعباده بالدليل المادي على اعجاز هذا القرآن، وعلى ان الله يعلم ما في الدنيا والآخرة، وأنه بكل شيء عليم، وحتى يظهر ذلك لعباده وبالدليل المادي جاء بحقيقة تاريخية لم سكن يعلمها أحد من البشر وقت نزول القرآن، وذكرها في متابه العزيز، حتى اذا تقدم الزمن وكشف الله لخلقه ما شاء من علمه، وفي الوقت الذي تظهر فيه هذه الحقيقة وتخرج الى علم البشر، حتى تكون معجزة من معجزات القرآن ويظهرها الله، بعد نزول القرآن الكريم بعدة قرون.
على أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى من اسرار ملكه ما شاء لمن يشاء، وكشف عما شاء من علمه لمن شاء، ولكنه احتفظ لنفسه بعلم بدء الحياة أو الخلق، وبعوامل استمرار الحياة، وبنهاية الحياة وهي الموت، فمهما تقدم العلم وازدهر، وكشف الله من أسرار كونه، فان الله هو الذي يحي ويميت، وسيظل يحيي ويميت الى أن تأتي الآهرة ويتم الحساب، وتقبض روح ملك الكزت فلا يصبح هناك موت ولكن خلود، اما في الجنة واما في النار.
الحياة من الله
تأمل قول الله تعالى في سورة الشعراء:{ الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين واذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين} الشعراء.
واذا اردنا أن نتأمل ما جاء في هذه الآيات ونستعرض الاعجاز فيها بايجاز نجد أن قضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى، فهو وحده الخالق، والكل عاجز، ولا أحد يستطيع أن يدعي أنه يقدر على خلق شيء ولكن قضية الموت فيها جدل فاذا قرأت قوله تعالى:{ اذ قال ابراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي واميت} البقرة 258.
والآية تروي قصة الحوار بين من آتاه الله الملك وابراهيم عليه السلام، فلما قال ابراهيم: ربي يحي ويميت، أخذت من أتاه الله الملك العزة فقال: أنا أحيي وأميت، وجاء يرجل من رعيته، فحكم عليه بالاعدام وقال: هو ميت، ثم عفا عنه وقال: أحييته!!.
نقول: ان الناس لا تنتبه للفرق بين القتل والموت، فالقتل هو افساد لجسد الانسان يجعل الجسد غير صالح لبقاء الروح فيه فتغادره، ولكن الموت هو اخراج الروح من الجسد دون هدم أو افساد للجسد، ولذلك فرّق الله بين الاثنين في القرآن الكريم فقال:{ وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} آل عمران 144.
وقال جل جلاله:{ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون} آل عمران 158.
اذن الموت لله وحده، وهو الذي يميت، ولكن القتل وهو غير الموت يمكن أن يتم على يد عباد الله.
ولأن الله هو الذي يميت، فلا أحد ينجو من الموت أبدا، لأن امر الله نافذ على خلقه، ولأن الانسان يمكن أن يتم على يده القتل، فهناك من ينجو من القتل مرة ومرات لأن أمر الانسان غير نافذ في الكون، ثم تقول الآية الكريمة:{ والذي هو يطعمني ويسقين} .
ويلاحظ في الآية الاولى أن الحق سبحانه وتعالى لم يستخدم أسلوب التأكيد فقال:{ الذي خلقني فهو يهدين} ولم يقل هو الذي خلقني لأنه لا احد ينازع الله في الخلق ولكن الطعام والشراب جعلهما الله أسبابا للانسان، فجاء التأكيد هنا ليلفتنا الى أن هذه الأسباب ليست هي الأصل، وانما كل شيء من الله، فالحبة في أي نبات خلقها الله سبحانه وتعالى ووضع فيها خصائصها، وخزن فيها الغذاء الذي يلزمها حتى تستطيع جذورها أن تضرب في الأرض لتأخذ منها عناصر الحياة وهو الذي أعطاها خصائصها، وخلق لها الأرض التي تزرع فيها، وأنت تضع الحبة في الأرض فتظل تتغذى على المخزون فيها من الغذاء الذي وجد فيها بقدرة الله، ثم بعد ذلك تمتص من عناصر الأرض ما يلزمها فقط تترك الباقي ثم تظل تنمو وتنمو حتى تثمر بقدرة الله وليس بجهد البشر، فكأن الطعام كله من الله سبحانه وتعالى.
والشراب أيضا من الله
فاذا جئنا للشراب نجد أن كل ما يشربه الانسان هو من الله سبحانه وتعالى، فالماء ينزل من السماء عذبا سائغا بقدرة الله، واللبن نأخذه من الحيوان وهومخلوق بقدرة الله.
ولقد حاول العلم أن يصنع البن فجاء باللبن الطبيعي وحلله الى عناصره، ثم جاء بهذه العناصر وخلطها مع بعضها البعض بنفس النسب الموجودة في اللبن الطبيعي، ثم جاء بعشرين فأرا سقى عشرة منها اللبن الطبيعي والعشرة الباقية سقاها اللبن المصنوع من نفس العناصر، فنمت الفئران التي سقيت اللبن الطبيعي وماتت الفئران التي سقيت اللبن الصناعي.
ومازال العلم حتى الآن عاجزا عن أن يصنع نقطة لبن واحدة، بل ان بعض دول العالم التي تعاني نقصا شديدا في اللبن لا تستطيع أن تحل الأزمة، فتحرم اللبن على الكبار ليكون متوفرا للصغار، ومنها الاتحاد السوفياتي والصين وكوريا الجنوبية وغيرها من دول العالم، ومن الاعجاز الالهي ان هذا اللبن تعطيه لنا حيوانات يجري في عروقها الدم، فلا يختلط الدم واللبن ألدا، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{ وان لكم في الأنعام لعبرة تسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين} النحل 66.
على أن العلم البشري كله عاجز حتى الأن عن أن يسقي الناس الماء أو اللبن، فالانسان الذي وصل الى القمر عاجز عن أن يصنع ترعة صغيرة، أو كوبا من اللبن، أما باقي الأشياء التي يشربها الانسان فهي ما أوجدها فيها من ثمر يضاف اليها الماء أو لا يضاف.
الشفاء والمرض من الله
فاذا جئنا الى قوله تعالى:{ واذا مرضت فهو يشفين} الشعراء 80.
نجد أن هناك جدلا كثيرا حول هذه الآية، فالناس تقول ان الطبيب هو الذي يشفي! ولكن الحقيقة هي أن الشفاء بيد الله وحده، وأن الطبيب يعالج فقط، وقد يأتي على يده الشفاء، وقد يخطئ في العلاج فيكون على يده الموت.
والله سبحانه وتعالى جعل لكل داء أجلا في الشفاء، ولذلك يحدث كثيرا أن طبيبا مبتدئا يكتب الدواء الصحيح لمريض عرض نفسه على أكبر الأطباء فلم يعرفوا لدائه دواء وفي هذه الحالة قد يتعجب الناس ويقولون ان حديث الطبيب الحديث التخرج أعلم من أساتذته!
نقول لهم: هذا تفسير خاطئ فالأستاذ قطعا أعلم من تلميذه، وهو الذي علمه، ولكن قدر الله سبحانه وتعالى بالشفاء جاء فكشف الله عن الداء لهذا الطبيب المبتدئ فكتب الدواء وتم الشفاء.
وليس معنى أن الله هو الشافي ألا نلتمس الوسيلة للعلاج، فنحن في هذه الدنيا أمرنا الحق سبحانه وتعالى أن نأخذ بالأسباب ثم بعد ذلك نتوكل على الله في النتائج.
والآية الكريمة تقول بعد ذلك:{ والذي يميتني ثم يحيين} الشعراء 81.
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى لم يستخدم أسلوب التأكيد فيقول: وهو الذي يميتني ثم يحيين، لأنه لا أحد يستطيع أن ينازع الله في الموت أو البعث، فاذا جاء الموت فلا أحد يستطيع أن يتأبى عليه، أو يقول: لن أموت، واذا جاء البعث، فالله وحده القادر على بعث الموتى، وبذلك نكون قد أثبتنا بالدليل المادي أن بداية الحياة واستمرار الحياة ونهاية الحياة، هي من قدرات الله سبحانه وتعالى وحده.
واذا كنا قد جئنا الى نهاية هذا الكتاب فنرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون هدانا الى ما يثبت الايمان في القلوب، وما يرد على أولئك الملحدين الذي يدعون أنه لا توجد ادلة مادية في الكون على وجود الله، ونرجو من الحق جل جلاله أن يتقبل منا، انه هو السميع العليم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
انتهى النقل والحمد لله
بيروت 11 تموز 2002
الموفق في 1 جمادي الأولى 1423
أشرف عليه واعتنى به أحمد الزغبي
أخوكم الاسلامي مشرف وصاحب موقع الاسلامي