الحلقة 3
أسرار التكرار في القرآن الكريم في سورة النساء
د. جمال السيد
سؤال: هل هنالك تكرار لفظي في القرآن؟
هناك ألفاظ تتكرر بعينها هي هي في القرآن الكريم بنفس الدلالة مثل (فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، نفس الدلالة. “خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي “آلاء ربكما تكذبان” قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ” الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: الألباني – المصدر: صحيح الترمذي – الصفحة أو الرقم: 3291، خلاصة حكم المحدث: حسن”. معناها أنها نفس الجملة وكانوا يردّون نفس الرد.
سؤال: الآية 132 في سورة النساء ختمت بقول الله سبحانه وتعالى (وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) ونفس الختام كان في الآية (إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (171)) لماذا تكررت (وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً)؟ وما اللمسة البيانية التي أضافتها في هذه الآية عن تلك؟
الله تعالى لما يذكر أنه يملك السموات والأرض وأنه له ما في السموات وما في الأرض فهذا لا يكون إلا لملك قادر على الحفظ موكل بحفظ هذه السموات وهذه الأرض يضبطهما يسيطر على ما فيهما ويتحكم في كل ما يدور في ملكه فهو وكيل حافظ لا يضيع منه شيء. والله قال (وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) مرتين في سورة النساء لنفس الأمر. الله تعالى يقول لعباده المسلمين آيات سابقة قبلها (وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)) نجد أن النهاية التي أنهيت بها الآية الأولى تتناسب معها (وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)) هذه الفاء ليست الفاء الواقعة في جواب الشرط وإنما هي تعليلية وجواب الشرط محذوف تقديره وإن تكفروا فإن الله لا ينقصه كفركم وكفركم لا يضره فهو سبحانه يملك السموات والأرض ويملك ما بينهما، من كفر فإن كفره لا يضر الله ومن آمن فإن إيمانه لن يزيد الله شيئاً.لأنهم استغنوا عن الله بالكفر فإن الله غني عنهم، فاستغنوا واستغنى الله.
(وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) الآية القرآنية تؤكد نفس المعنى السابق (وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) ونلاحظ تقديم شبه الجملة (لله) مع أن المبتدأ معرفة (ما) إسم موصول، (لله) أسلوب قصر، لله ما في السموات والأرض له وحده قصراً وحصراً. إذا قيل خارج القرآن (ما في السموت والأرض لله) قد تعني أنها قد تكون ملك لله وغير الله، اللغة تحتمل أما المسلم فهو يؤمن أن الله سبحانه وتعالى هو الملك الوحيد المتصرف. لكن لما نقول (وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) تعني لله قصراً وحصراً، أسلوب قصر أفاد الحصر والتخصيص والتوكيد فلا شيء في هذا إلا لله. (وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) ما دام هو الملك وما دام هو يمتلك ما في السموات والأرض فبالتأكيد هو حافظ لهذا الملك وهو وكيل حافظ. تكرر نفس الشيء عندما جاء الكلام على النصارى الذين ادعوا أن المسيح هو الله أو ابن الله فبين لهم الله في نهاية سورة النساء (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ) يبين لهم أن المسيح هو إنسان، نبي وليس إلا رسول ثم يقول لهم جملة واضحة (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) ثم يبين لهم شيئاً أنه سبحانه لا يتخذ ولداً (نَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ). وختمت الآية (وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) الله ليس في حاجة إلى ولد ليدبر معه الكون، وهذا سر تكرار (وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) في هذه الآية، الله ينفي عنه احتياجه للولد فمن احتاج الولد فهو عاجز فهو يريد ولداً يمد حياته ويقوي عونه ويسانده، فالله يبين لهم أنه ليس في حاجة إلى الولد وأنه ينلك السموات والأرض ملكاً تاماً ولا ينازعه أحد في ملكه وكان طبيعياً أن تختم الاية بنفس الختام (وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) فهو يدبر الكون لا حاجة له إلى ولد يدبر معه.
سؤال: (وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) النساء) تكررت (لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) فما سر التكرار؟ وما اللمسة البيانية فيه؟
عندما يريد الله سبحانه وتعالى أن يكلف الناس شيئاً بأن يعبدوه يذكرهم بأنه الملك. في أول السورة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ (1)) وهنا الله وصّى أهل الكتاب ووصّى المؤمنين ووصّى الأمم كلها أن (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (131)) فلا بد أن يتناسب مع هذا (وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ (131)). ثم يأتي تأكيد على ملكية الله لهما نظراً لأن هنا تكليفاً وأمراً بالتقوى ولأن هنا في الآية الأخرى نفياً لأن يكون هناك ولد مع الله ولأن هنا تكليفاً بتوحيد الله عز وجل فكان منطقياً أن تتكرر (وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ).
سؤال: في قوله تبارك وتعالى (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ (133) النساء) يتكرر هذا المعنى بشكل أو بآخر ففي الأنعام (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)) ونفس المعنى (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) فاطر) ومرة يقول (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) إبراهيم) لماذا هذا التكرار؟ وما اللمسة البيانية لكل آية على حدة؟
الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الآيات التي تكلمنا عنها آنفاً بأن له ملك السموات والأرض وأنه سبحانه وتعالى هو الغني وأنه سبحانه وتعالى هو الوكيل نبّه الناس إلى أنه ليس في حاجة إليهم لا في عبادتهم ولا في وجودهم وأنه خلقهم لحكمة عنه فبيّن لهم (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ (133) النساء) هذه الآية جاءت بعد الآيات التي ذكرت ملكية الله سبحانه وتعالى، بيّن لهم أنه القادر على أن يستبدل بهم غيرهم وعلى أن يذهبهم ويأتي بآخرين والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء. نفس الآية في سورة الأنعام الله سبحانه وتعالى بيّن أنه خلق السموات والأرض (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء) بيّن غناه عنهم وغناه عنهم يترتب عليه مقدرته على أنه يقدر على أن يستبدل غيرهم، يقدر على أن يوجد غيرهم، يقدر أن يأتي بآخرين. ولو نظرنا (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) لم تقل الآية وربك غني، هذا أسلوب قصر الله وحده الغني ولا غني غيره. لو جاءت في غير القرآن فلان غني لا يستلزم نفي غنى غيره. فالقرآن قال (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) فالله غني وذو رحمة فهو لا يريد أن يعذبهم ولا يريد أن ينتقم منهم بدون ذنب أو بدون خطأ ارتكبوه ويبيّن لهم أنه إذا أراد (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء) يستخلف من بعدهم ما يشاء، نلاحظ أن (ما) إسم موصول لغير العاقل ولكنها تشمل العاقل وغير العاقل. الآية لم تذكر يستخلف بعدكم آخرين أو خلقاً جديداً وإنما قال (وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء)، تركيب (ما يشاء) هنا يدل على أنه من غناه تناسب مع الغني، الغني ينفق ما يشاء ويأتي بما يشاء والغني عن عباده يستطيع أن يخلق ما يشاء وأن يميت ما يشاء ويجعل ما يشاء، فكلمة (ما يشاء) هنا جاءت مناسبة تماماً لصدر الآية (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ).
قوله (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) فاطر) هذا ليس صعباً، هذا الخلق قد يكونوا بشراً وقد يكونوا بصفة أخرى يختارها الله سبحانه وتعالى (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) هنا غير ما سبق في الآية السابقة (وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء) هنا (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وكل ما أوجده الله فهو خلق وجديد قد يكون معناه أنه مغاير لهذا الخلق الذي استبدله الله عز وجل (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) ربما يكون على غير الهيئة ولا مانع من أن الله سبحانه وتعالى الذي خلقهم على هذه الهيئة قادر على أن يأتي بخلق لهم هيئات أخرى.
(وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) تكرر هذا التعبير في سورة فاطر وفي سورة إبراهيم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي وليس ذلك صعباً على الله ليس ذلك متعسراً على الله عز وجل وليس متعذراً. ونلاحظ (وما ذلك) ونلاحظ (بعزيز) الباء زائدة للتوكيد، الزيادة هنا زيادة نحوية وليست دلالية كمصطلح نحوي اختاره النحاة يقولون حرف جر زائد يعنون به أنه ليس ركناً أساسياً أنه ليس من مكملات الجملة ويمكن الاستغناء عنه يقصدون به الزيادة النحوية، يعني هو زيادة من قِبَل الصنعة النحوية وليس من قِبَل أنه زائد في الدلالة بل هو له دلالة مهمة (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) ونلاحظ استخدام إسم الإشارة (ذلك) مرتين ويدل على العبيد مرتين يعني إن رأيتم ذلك في أنفسكم أنه شيء مستغرب مستبعد فإنه عند الله ليس مستبعداً.
سؤال: القرآن الكريم كثيراً ما يستخدم ثواب الدنيا، ما معنى ثواب الدنيا؟ وما معنى ثواب؟
ثواب من الكلمات التي فيها تضادّ يعني الكلمة تحمل المعنى وضده، وكلمة ثواب من الكلمات التي تحمل معنيين: تحمل الأجر الذي يعطيه الله عز وجل للمحسن وتشمل أيضاً العقاب الذي يوقعه الله على المسيء (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) المطففين) يعني هل جوزي الكفار؟ وكلمة جزاء تحمل المعنيين. التضاد موجود في القرآن ومن ضمن ذلك كلمة ثواب ومعروف في اللغة كلمة لها معنيين. جاء في القرآن كلمة (عسعس) (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) التكوير) المفسرون يقولون عسعس لها معنيين إما بدأ الليل أو انتهى الليل. السياق هو الذي يحدد المعنى، العلماء يحاولون أن يصلوا إلى المعنى من خلال السياق إذا وجدوا الكلام يتحدث عن الصبح يقع المفسرون في الأمرين يقولون (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) إما أنها تعني والليل إذا بدأ والصبح إذا بدأ يعني أقسم الله تعالى بالليل إذا بدأ وبالصبح إذا بدأ، وهناك من يقولون والليل إذا عسعس يعني إذا انتهى والصبح إذا تنفس يعني إذا ابتدأ وكأن القسم لشيئين متقاربين في الزمن، أحياناً المعنى يحتمل الأمرين ولا يستطيع المفسر أن يجزم بمعنى واحد. كلمة ثواب هنا واضحة في الآية (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ (134) النساء) هنا ثواب الدنيا ما فيها من مال ومن شهرة ومن زينة ومن غنى ومن أولاد ومن تفاخر.
سؤال: مرة يقول الله تعالى (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا (145) آل عمران) لماذا الاختلاف؟
من كان يريد ثواب الدنيا وحرص على هذا الثواب فأتقن العمل في الدنيا فالله يعطيه جزاء هذا العمل، رجل أتقن صنعته وبرع فيها واشتُهر نتيجة براعته فيها يستخدمه الناس فينال شهرة كبيرة وينال أموالاً طائلة من وراء الصنعة التي أتقنها فهذا ثواب الدنيا بالنسبة له.
هل لمسرح الأحداث دخل في تحديد المعنى؟ ففي آل عمران (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) آل عمران) كيف الترابط والربط بين من يريد ثواب الدنيا وبين الأجل؟
هذه الآية تلاها في آل عمران (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)) الله بيّن هؤلاء وبيّن علو منزلتهم وتناسب هنا أن يبيّن الله أن هؤلاء أرادوا ثواب الآخرة فمن فعل غيرهم وناقضهم وكان على خلاف معهم أو كان مغايراً لهم في التصرف فالله يبيّن أن المخالِف لهؤلاء الصالحين كأنما يريد ثواب الدنيا ويريد العلو فيها فالله يعطي الفريقين، يعطي كلاً منهما ما يناسبه. رجل أتقن عمله في الدنيا فيعطيه الله جزاء إتقانه. ثم الله سبحانه وتعالى يقول (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا (145)) ثم يبيّن لهم بياناً واضحاً (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) سيجزي من عمل عملاً صالحاً والشكر هنا لا يستلزم الشكر بالقول فقط وإنما بالقول والفعل.
سؤال: تكرار ثواب الدنيا ومرة ثواب الدنيا والآخرة واختلاف الجزاء (نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) ومرة (فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) آل عمران) ما اللمسة البيانية في هذا الاختلاف؟
في سورة النساء يقول تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ (134)) هنا أشبه بالقانون، بالتعليمات، الله يضع أمام الناس قانوناً يقول لهم هناك قانون يقول لهم “الدنيا لها ثواب والآخرة لها ثواب” (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ (134)) الإثنان معاً، قانون إلهي وضعه الله عز وجل للناس من أراد ثواب الدنيا الله يعطيه له ولكن هنا لم يأت يؤتيه ماذا؟ الآية في سورة النساء (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) هنا قانون إلهي أن من يريدون العلو في الدنيا دون الآخرة فعليهم أن يعلموا أنهم إن نالوا ذلك فلن يحصلوا على الآخرة وإن أرادوا العلو في الآخرة فإن الله عز وجل قد يعطيهم علواً في الدنيا وعلواً في الآخرة. الله تعالى يريد أن يخاطب هنا الذين يركنون إلى الدنيا ويخاطب الناس كلهم (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يخاطب أصحاب النفوس الرخيصة وأصحاب العقول التافهة الطموحات. (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يعني من كان يريد ثواب الدنيا فعليه أن يعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة.
في آل عمران (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) لأن الإرادة اختلفت. (ومن يرد ثواب الدنيا) في آل عمران يرد ويسعى لهذا الهدف لأن الآيات السابقة كانت تتكلم عن مؤمنين وكافرين (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً (145)) هناك آيات سبقت هذا الموضوع تتحدث عما حدث للمسلمين في غزوة أحد وأن المنافقين قالوا (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا (168)) وقالوا (يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا (154)) فالله عالج قولهم وبيّن للمؤمنين أن لا يحزنوا كما بيّن للمنافقين أن الموت بإذن الله عز وجل وبيّن للمنافقين أنهم أردوا الدنيا وأنهم حاولوا أن يسعوا إليها ولذلك قال (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) لأنه حريص على هذا الثواب ليس لأنه أراد بتفكيره وطموحه وإنما أراد وسعى واجتهد ولهذا جاء قوله تعالى (نُؤْتِهِ مِنْهَا) الإيتاء على قدر سعيه. (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا (145) آل عمران) يعني من يرد ثواب الآخرة ويسعى لهذه الآخرة ويحاول أن ينال هذا الثواب باخلاصه واجتهاده نؤته منها.
هذه الآية ما بيّنت أنه يسعى أو لا يسعى، قال (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) ما قال (وسعى إليها سعيها) وإنما قال (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) آل عمران) لكن في النساء قال (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) ما قال نؤته منها فما سبب الاختلاف؟
الآية في سورة النساء كانت تتحدث بعد ملكية الله عز وجل للسموات والأرض وأن لله ما في السموات والأرض لم تتحدث عن أعمال عليها جزاء واحد وبناء عليه بيّنت أن من أراد ثواب الدنيا فالله ينبهه إلى أن هناك ثواباً آخر (فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ).
عندما يذكر الجزاء ويذكر تفصيله فإنما هذا يدل على عمل، الله تعالى يقول (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ (46) فصلت) أي يكون صلاحه لنفسه، الله تعالى يقول (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي ومن يسعى لها ونجد توضيحاً لهذا في سورة الإسراء (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)) القرآن يكمل بعضه بعضاً (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي من يرد ثواب الدنيا إرادة يصحبها عمل واجتهاد وكفاح من أجل الدنيا فالله يعطيه لأنه أتقن عمله.
في آية النساء لم يقل (نؤته منها)، آية النساء أشبه بقانون إلهي وضعه الله للناس أن الله سبحانه وتعالى يدعو البشر أن لا ينحصروا في هذه الدنيا التافهة فجاءت آية سورة النساء بعد الآيات التي ذكرت ملكية الله عز وجل لما في السموات والأرض (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا). وآية آل عمران نزلت بعد الحديث عن غزوة أحد وبعد أن سردت أقوال المنافقين وأنهم أرادوا أن يبيتوا في بيوتهم حتى لا يموتوا وأرادوا أن يتركوا الغزوة متصورين أنهم إذا بتركهم الغزوة وتخلفهم عن حضور أحد سيوفر لهم حياتهم ويجعلهم ينجون من الموت فبين الله لهم (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً (145)) سياق الآيات السابقة يبين أن هنالك فريقاً سعى إلى الدنيا بجهده وهم المنافقون عندما تباطأوا وتركوا الغزو وأن هناك فريقاً سعى إلى الآخرة بجهده وعمله لا بنيته فقط وهم المؤمنون عندما ذهبوا الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحُد وحاربوا معه قتل منهم من قتل شهيداً وجُرِح من جرح.
سؤال: في آل عمران يقول (فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ (148)) لماذا تكرر ثواب الدنيا؟
هذه الآية يسبقها كلام عن المؤمنين. الآيات التي قبلها تتحدث عن صفات الأبرار صفات المؤمنين المحسنين الذين آمنوا بالله عز وجل والآيات التي بدأت بقوله تعالى (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)) بيّن الله ثواب هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وأُخرجوا وأُوذوا في سبيل الله عز وجل فهؤلاء الله رفعهم في الدنيا والآخرة هؤلاء جيل الصحابة رفعهم في الدنيا بأن مكّن لهم دولة ومكّن لهم المدينة المنورة واستطاعوا أن يقودوا العالم بعد ذلك واستطاعوا أن يكونوا خلفاء (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) آل عمران) إذن هذه نزلت في فئة معينة وتحديداً المؤمنين، هذه تتحدث عن المؤمنين عن الرِّبيين الذين قاتلوا مع النبي، الأتقياء الذين حاربوا مع الأنبياء، كان لهم إحدى الحسنينن إما النصر وإما الشهادة، فانتصروا فنالوا الدنيا بقوتهم ونالوا الدنيا بشجاعتهم وببطولتهم ثم نالوا الآخرة بالأجر العظيم, هؤلاء (فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ (146) آل عمران) لم يضعفوا ولم يستكينوا ولم يستسلموا ولم يعجزوا فكافأهم الله بالعلو في الدنيا والعلو في الآخرة.
سؤال: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) هود) ما اللمسة البيانية في الآية؟
من النظرة إلى الآية نلاحظ أن الآية تتكلم عن الذين يفضلون الدنيا (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) (فيها) هؤلاء أرادوا الدنيا وأردوا زينة الدنيا وهؤلاء فضلوا الدنيا على الآخرة. في قوله (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) أي في الدنيا ينالون نصيبهم في الدنيا غير منقوص فإذا جاءت الآخرة يُخبر الله عز وجل عنهم في الآية التي تليها (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16) هود) بيّن الله أن أعمالهم قد حبطت وأن أعمالهم قد بطلت وأنهم في النار. هذا المعنى يقولون إن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال لأبي هريرة جملة: يا أبا هريرة حدثني حديثاً سمعته من الرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن معك ومعه أحد قال ابو هريرة لأحدثنك بحديث حدثنيه الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معي ومعه أحد فأغشي على أبي هريرة مرة ثم أفاق ثم أغشي عليه الثانية وكان إغماؤه في الثانية أطول وأغشي عليه الثالثة ثم أفاق فلما أفاق قال كنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم أسندت فخذي إلى فخذه فقال لي يا ابا هريرة أتدري أول ثلاثة تسعر بهم جهنم يوم القيامة؟ ثم حكى الرسول الحديث أخبره به قال: ” إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد. فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء. فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه . ثم ألقي في النار. الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 1905، خلاصة حكم المحدث: صحيح ” فلما سمع معاوية هذا الحديث قرأ هاتين الآيتين من سورة هود (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15)) هؤلاء لا يضيع منهم شيء ثم في الآخرة حبط ما صنعوا (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16)).
سؤال: نداء الرحمن لأهل الإيمان مرة يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ (135) النساء) ومرة يعكس الترتيب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ (8) المائدة) لماذا التقديم والتأخير؟ وما اللمسة البيانية؟ وهل هذا تكرار؟
في سورة النساء إذا نظرنا إلى السورة بالكامل فهي سورة تتناول الحقوق وتدعو إلى القِسط (وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ (127)) والسورة تسمى سورة النساء الكبرى وسورة الطلاق سورة النساء الصغرى. سورة النساء اهتمت بجانب العدل حتى عند الخصوم فكان من اللائق أن يقدم القسط (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا (135)) القِسْط هو العدل. القاسِط على وزن فاعل العادل عن طريق الحق، المائل عن طريق الحق، البعيد عن الحق، عدل عن الحق أي مال عنه، وفي سورة الجن (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)) قاسطون أي بعيدون عن الحق أما المُقْسِط فهو الذي يحكم بالعدل (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) الحجرات). المُقسِطين أي العادلين الذين يحكمون بالعدل. القِسْط من العدل هذا مصدر، المصدر الثلاثي قَسَط وأقسط إقساط من الرباعي على وزن أفعل مصدره إفعال، إقساط ليس شائعاً في الاستعمال، أما القِسْط فهو الشائع يعني العدل. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (135) النساء) يعني بالعدل. وقوّامين صيغة مبالغة على وزن فعّالين يعين قائمين بكثرة يعني تدل على كلمتين قائمين بكثرة يعني كونوا قائمين بهذا العدل بكثرة دائمة، قوامين قوّام على وزن فعّال وهي صيغة تدل على المبالغة.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ (8) المائدة) في سورة المائدة منذ البداية يقول الله للمؤمنين أحكاماً وأعمالاً ينبغي أن يقوموا بها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ (1)) (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ (1)) يدعوهم إلى أن الوفاء بالعقود ويدعوهم إلى عدم إحلال الحرام ويدعوهم بعد ذلك وأن يتعاونوا على البر والتقوى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (2)) ويبين لهم ما أُحِلّ لهم وما حُرِّم عليهم (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)) فالآية أحكام فالله يبيّن لهم أن هناك حلالاً وأن هناك حراماً وعليهم أن يفعلوا الحلال، لم يأت هنا ذكر للعدل أو القيام به وإنما أتت أوامر ونواهي إلهية فالأنسب عليكم أن تقوقموا بهذه الأوامر وأن تنفذوا هذه التعليمات ولذلك (قوامين لله) فقُدِّم لفظ القيام على القِسط.
في سورة النساء (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) وفي سورة المائدة (قَوَّامِينَ لِلّهِ) قوامين لله أي قائمين بكل أعمالكم ترجون ما أمركم الله به. اختلاف السياق هو الذي يتحكم.
(شُهَدَاء لِلّهِ) يعني أدوا الشهادة لله، أدوا الشهادة ابتغاء وجه الله ولهذا نجد بعدها (وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ (135) النساء) يعني أيّاً كان المشهود عليه، (إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا) يعني لا يدفعكم فقر فلان إلى أن ترأفوا به فتشهدوا.
وفي سورة المائدة (شُهَدَاء بِالْقِسْطِ) يعني شاهدين بالعدل، شهداء مفردها شهيد أي قائمين بالقسط، شهداء بالقسط أي أدّوا شهادتكم بالقسط. وفي الآيتين دعوة إلى الشهادة بالقسط (شُهَدَاء بِالْقِسْطِ) تكون عليكم أن تؤدوا الشهادة كما هي لا تحرّفوها.
من أغراض التقديم الاهتمام بالمتقدم ولا يُشترط أن يكون التقديم للأفضل بل قُدِّم على سبيل المثال هارون على موسى مع أن موسى عليه السلام أفضل (رب هارون). (رب موسى وهارون) على الأصل لأن موسى هو الأفضل منزلة وهو الأسبق في الرسالة، فالله أرسله ثم دعا الله أن يمده بأخيه فتقديم موسى على هارون هذا تقديم الأصل الأساسي أما تقديم هارون على موسى فهذا له غرض لإظهار فضل هارون حتى لا يظن ظانّ أن هارون ليس له فائدة. (رب هارون وموسى) إشارة إلى فضل هارون والأفضلية لموسى فهو من أولي العزم من الرسل وعندما يقدم هارون في السياق القرآني فهذه إشارة إلى وجوب إحترام هارون عليه السلام ووجوب احترامه ولأن الآيات السابقة تتكلم عن هارون. هناك أغراض بلاغية للتقديم والتأخير يقتضيها السياق، أحياناً يتقدم التالي على الأول في التلاوة مع أنه يتلوه في العمل. على سبيل المثال الآيات في سورة النساء التي تحدثت عن المواريث ذكرت الوصية قبل الدين (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ (11)) (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ (12)) (مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ (12)) ذكرت الوصية قبل الدين في كل المرات والرسول صلى الله عليه وسلم ألا إن الدَيْن قبل الوصية إذن قُدِّمت الوصية في التلاوة بينما الدَيْن يقدم عليها في الأداء لأن الوصية تبرّع أما الدين قضاء واجب وقضاء حقوق آخرين. لماذا ذكرت الوصية في البداية؟ هنا لإشارة مهمة وهي أن الوصية مهمة حتى لا يتغافل الناس عنها في لحظة سدادهم للدَيْن وهي ليست بمنزلة الدَيْن ووجودها مقدّمة على الدَيْن إشارة لأهميتها وترغيباً في فعلها لا دلالة على أنها أفضل من الدين أو أنها تقدم معه أو عليه أو أنها مثله.
سؤال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ (136) النساء) ما معنى الكتاب في القرآن؟
يقول تعالى للمؤمنين (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) الكتاب هنا بمعنى القرآن تحديداً، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ (136) النساء) الكتاب هنا يعني القرآن، (وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ (136) النساء) يشمل كل الكتب السماوية التي أنزلها الله من قبل كالتوراة والإنجيل وما عرفناه وما لم نعرفه، نؤمن أن هنالك كتباً نعرف بعضها ولا نعرف بعضها الآخر. وأحياناً يأتي بمعنى التوراة (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (87) البقرة) ويأتي الكتاب أحياناً بمعنى أن هذا أمر كتبه الله عليكم (كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ (24) النساء) أن هذا أمر كتبه الله عليكم وفرضه وعليكم أن تلتزموا به. والكتاب بمعنى المكاتبة في سورة النور (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ (33) النور) يبتغون الكتاب يعني المكاتبة فهو مصدر للفعل الرباعي كاتب يكاتب مكاتبة وكتاباً، كتاب في آية النور بمعنى مكاتبة يقوم السيّد بكتابة عقد مع عبده أو غلامه أنه يدفع له كذا ثم يحرره. الكتاب يتعدد معناه وقد يعني ما يكتبه الشخص (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) النمل) ملكة سبأ تنادي أعوانها أنها ألقي إليها كتاب كريم تقصد به الرسالة. (كِتَابًا مُّؤَجَّلاً (145) آل عمران) إشارة أن هذا شيء مكتوب عند الله ومسجّل. الكتاب يتغير معناه ودلالته بتغير موقعه في القرآن واللغة العربية ثرية الكلمة تتلاءم مع السياق. اللغويون يقولون الكلمة خارج السياق لا تفي بشيء وإنما يتحدد معناها داخل السياق، لو قلنا مثلاً عين أو طريق أو سبيل أو عمل أو ثواب لا نستطيع أن نحدد هل يقصد بها مكافأة المحسن أو معاقبة المسيء حتى نقرأ السياق. إخوة يوسف قالوا لسيدنا يعقوب (قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) يوسف) وهو ليس بضالّ المفسرون كانوا على وعي كبير من هذه الكلمة كانوا يقصدون إنك تتبع توقعك وظنك في أن يوسف لم يمت وأن هذا في ظنهم وهم وأن هذا في ظنهم شيء لن يتحقق لأنه مر عليه سنوات كثيرة. الضلال هنا يقصدون الظن غير الحقيقي الذي لا يرجى تحققه هذا من وجهة نظرهم هم، أما أنهم يظنون أن أباهم قد ضلّ بمعنى قد كفر لو قالوا ذلك لعدوا كفاراً وحاشا لله أن يكون أبناء النبي قد قالوا هذا. القرآن أنزله الله بلسان عربي مبين فكل من يتصدى للتفسير والحديث في كتاب الله عليه أن يلمّ باللغة العربية بالنحو والصرف والبلاغة بشتّى فروعها حتى يعلم مضامين الألفاظ ودلالتها.
بُثّت الحلقة بتاريخ 4/6/2010م