الحلقة 4
أسرار التكرار في القرآن الكريم في سورة النساء
د. جمال السيد
سؤال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ (136) النساء) ما الفرق بين نزّل وأنزل؟
كلمة الكتاب أتت في القرآن الكريم بمعاني متعددة منها ما قصد به القرآن وما قصد به الكتب السماوية التي سبقت القرآن ومنها (إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ (41) الزمر) يقصد به القرآن و (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) يقصد به التوراة. والآية بدأت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (136) النساء) النداء بدأ للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) بالصفة الني يحبونها والتي شرفهم الله بها. ثم قال لهم (آمِنوا) قد يسأل سائل لماذا أُمروا بالفعل (آمنوا) مع أنهم آمنوا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ) آمِنوا بالفعل الأمر والآية قد شهدت لهم بالإيمان باستخدام الماضي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) فلماذا يُؤمرون بالإيمان هنا مع أنهم قد آمنوا بالفعل؟ المفسرون قالوا (آمِنوا) هنا بمعنى اثبتوا على الإيمان. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ) اثبتوا على الإيمان وليست بمعنى ادخلوا في الإيمان لأنهم مؤمنون بالفعل، يا أيها الذين آمنوا اثبتوا على الإيمان وافعلوا مقتضيات هذا الإيمان. (آمِنُواْ بِاللّهِ) أول شيء يؤمن المؤمن بالله، (وَرَسُولِهِ) وآمنوا برسله من آمن برسول واحد فعليه أن يؤمن بجميع الرسل (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ (285) البقرة). (وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) هنا القرآن. كلمة (نزّل) على وزن فعّلأ والفعل الثلاثي الذي على وزن فعّل مضعّف يدل على التكثير، نقول قتّل، بدّل، حرّف دليل على أنه قد فعل الشيء بكثرة، عندما يضعّف الثلاثي “زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى”. (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ (49) البقرة) في الكلام على بني إسرائيل وما تعرضوا له من فرعون وقومه (وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) دليل على شدة هذا البلاء، يذبّحون يقتّلون. فكلمة (نزّل) تدل على كثرة التنزيل، وهذه الكلمة بهذه الصيغة توافق ما حدث في نزول القرآن فقد أنزله سبحانه وتعالى على الرسول منجماً مفرقاً في أكثر من عشرين سنة أو ثلاث وعشرين سنة كما يقولون. القرآن تجد في سورة القدر على سبيل المثال (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)) أنزل على وزن أفعل والعلماء يقولون إن المقصود هنا إنزال القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا فجاء (أنزل) ليدل على أنه أنزل مرة واحدة دفعة واحدة جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (105) الإسراء) تدل على مراتب النزول (أنزل) يكثر استخدامه عندما يراد الإشارة بنزول القرآن مرة واحدة، ويكثر استخدام (نزّل) عندما يكون القصد الإشارة إلى أنه وصّل من خلال جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم خلال عشرين أو ثلاث وعشرين سنة. في سورة الكهف قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ (1)) العلماء يقولون أن هنالك ثلاثة تنزيلات: التنزيل الأول من الله إلى اللوح المحفوظ وهذا التنزّل كان مرة واحدة، والتنزيل الثاني من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا هذا التنزّل كان مرة واحدة وأما التنزيل الثالث فكان من بيت العزة في السماء الدنيا على الرسول صلى الله عليه وسلم نزل به جبريل الروح الأمين على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً وفقاً للحوادث ووفقاً لما أراد الله أن يُنزّل آية وآيات وسورة. في سورة الدخان (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ (3)) أي أنزل الله تعالى القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في بيت العزة في ليلة مباركة هي ليلة القدر (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ). ومن السماء الدنيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ (1) الفرقان) (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (82) الإسراء) معظم المرات التي ذُكِر فيها نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم فعل (نزّل) وأحياناً استخدم (أنزل) بصيغة أفعل كما في سورة آل عمران (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (7)) ولكن الغالب (نزّل). أما الإشارة إلى الكتب التي أنزلها الله تعالى على الأنبياء السابقين ففي الغالب كان استخدام (أنزل) (وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ).
واستخدام المفرد هنا والمفرد هنا (وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ) إشارة إلى أن كل الكتب تعتبر واحداً، وحدة المصدر ووحدة الرسالة. لم تقل الآية “والكتب التي أنزل من قبل” وإنما (وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ) إشارة إلى أن كل هذه الكتب كتاب واحد. الآية استخدمت المفرد هنا لتشير أن الكتب كلها مهما كثُرت فهي كتاب واحد. كما نرى في الحديث عن الأنبياء (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) الشعراء) لم يأتهم إلا رسول واحد، قال المرسلين لقد كذبوا مبدأ الرسالة لم يقتنعوا بأن هناك رسول فلو جاءهم محمد أو نوح أو موسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام أو أي نبي لكذبوه فهم لم يكذبوا نوحاً لأنه نوح وإنما كذبوا مبدأ الرسالة. يقول تعالى على لسان موسى وهارون (فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) الشعراء) قال رسول ولم يقل رسولا استخدم صيغة المفرد مع أنهما اثنان للدلالة على أنهما وإن كانا اثنين في الحقيقة فهما لهدف واحد في الواقع وحدة المصدر ووحدة التشريع ووحدة الرسالة (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ (19) آل عمران) الدين واحد والشريعة تختلف. سيدنا موسى دينه الإسلام وشريعته اليهودية وسيدنا عيسى دينه الإسلام وشريعته النصرانية وسيدنا محمد دينه الإسلام وشريعته الإسلام، الدين الإسلامي دين واحد عقيدة واحدة ولكن أحياناً هناك أشياء تُحرّم في زمن وتُحلّل في زمن تختلف الشرائع فالأنبياء كلهم أولاد أبٍ واحد (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)البقرة) مع سيدنا موسى، (وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) الأعراف) (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) آل عمران) فلما جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ (19) آل عمران) (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ (85) آل عمران).
سؤال: القرآن الكريم يقوم بإلباس بعض الكلمات دلالة خاصة، فاستخدم كلمة الطريق والسبيل فما معناهما من حيث اللغة؟ وكيف استخدمهما القرآن؟
الطريق والسبيل أغلبية الناس تستخدمها كأنهما مترادفين. يقولون السبيل هو الطريق وإذا قالوا السبيل هو الطريق فلم يبعدوا كثيراً ولكننا ننظر إلى القرآن فنجد أن القرآن استخدم كلمة (طريق) أربع مرات منها في سورة النساء (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (169)) كلمة الطريق وردت مرتين، وإذا ذُكرت الطريق تذكر بصفة (طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ). من خلال استقراء المرات التي ذُكِرت فيها كلمة الطريق في القرآن نجد أنها لم تستخدم كمدح للطريق ولم تستخدم كإشارة إلى تفوق مَنْ سلك هذا السلوك إلا عندما وُصِفت بكلمة مستقيم (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) الأحقاف) أما في غير ذلك فالنص القرآني لم يستخدم كلمة طريق إلا أربع مرات. بينما كلمة السبيل استخدمت في القرآن كثيراً جداً ويلاحظ أنها في الغالب تستخدم للخير، نجد (في سبيل الله) تملأ القرآن (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ (190) البقرة) نجد “في سبيل الله” آيات كثيرة جداً فكأن كلمة (السبيل) المذكورة في القرآن فضّلها القرآن الكريم بالتأكيد لدلالة، نظرت في لسان العرب فوجدت ابن منظور يقول: “السبيل هو الطريق الواضح” إذن هو مخصص، مُعدّ وواضح. (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ (108) يوسف) طريق واضحة معبّدة وظاهرة. كلمة (على بصيرة) جاءت متناسبة تماماً مع كلمة (سبيل) فمعنى أنه على هذه السبيل فهو على بصيرة أي على سبيل الله سبحانه وتعالى. كلمة “سبيل” جاءت في القرآن عشرات المرات وزادت عن عشرين مرة في سورة النساء. كلمة “سبيل” فُضِّلت في هذا النص القرآني (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) النساء) لماذا استخدمت كلمة سبيلا هنا ولم يستخدم طريقا؟ لأن السبيل تدل على الطريق الواضح فهؤلاء لما آمنوا عرفوا الطريق فما كفروا تركوا الطريق الواضح فلما عرفوا الطريق الواضح وتركوه إذن ذهبوا إلى طريق غير واضح، ثم عادوا إلى الإيمان مرة أخرى (ثُمَّ آمَنُواْ)، (ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا) هؤلاء بعد أن يعرفوا الوضوح مرتين ثم يتركوا الوضوح مرتين ثم يزيد كفرهم وضلالهم أيهديهم الله إلى طريق واضح؟ الله عاقبهم عندما تركوا الوضوح عاقبهم الله بأن لا يروا الوضوح بعد ذلك، هؤلاء إذا استحبوا العمى على الهدى يعميهم الله عز وجل (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) طه) هذه بتلك. (وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) النساء) لأنهم بعدوا عن الطريق الواضح الصحيح وهو سبيل الله فعاقبهم الله. السبيل هو الطريق الواضح (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) الأحزاب) أي أبعدونا عن الطريق الواضح. معنى ضللت يعني أنا ضللت عن الطريق الواضح وذهبت إلى غيره. نقول ضلّ فلان إذا ترك الواضح وذهب إلى المُبهم الغامض (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي أبعدونا عن السبيل. لاحظ قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في طريقه إلى الهجرة لقيه رجلٌ أعرابي مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال من هذا يا أبا بكر؟ قال هذا يهديني السبيل، إستخدم كلمة السبيل لأنه لا يريد أن يقول هو الرسول فيُعرف فيلاحقه الكفار ولا يريد أن يكذب فاستخدم التعريض والتعريض مندوح عن الكذب فقال “هذا يهديني السبيل”. والطريق هو يصلح للمشي فيه لكنه ليس معبّداً كالسبيل وليس واضحاً فإذا أريد طريق واضح يوصف فيقال هذا طريق واضح. وفي الحديث “ إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. الراوي: أبو سعيد الخدري المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 2121، خلاصة حكم المحدث: صحيح”. إذن الطريق له حقوق لم يقل أعطوا السبيل حقه لأنهم لو كانوا على السبيل لبعدوا عن هذا الأمر فاستخدم الكلمة التي تناسب المعنى. يقال فلان عابر سبيل يعني هو ذاهب إلى طريق معيّن وابن السبيل يعني معروف للناس هو يريد أن يذهب إلى طريق معين. إذن السبيل طريق معبّد وواضح من وإلى مكانين محددين والطريق يحتمل، الطريق من طُرِق فهو مطروق وسُميَ طريقاً لأن الناس تطرقه لكن ليس له بداية معينة ونهاية محددة يصل إليها مثل السبيل إذا أطعنا الله والرسول نصل إلى الجنة هذه نهاية ثابتة لا تتغير. أي كلمة في القرآن جاءت لمعاني واللغة ثرية. كلمة سبيل جمعها سُبل وأسبُل وأسبِلة وهذه جمع قلة وسُبُل هي الأكثر استعمالاً والطريق تُجمع طرق فإذا قيل طرقات تكون بالمؤنث. كلمة صراط هو أيضاً طريق واضح، لا يقال الصراط إلا إذا كان واضحاً وتحيط به طرق أخرى من بَعُد عنه ضلّ. الصراط يُطلق على طريق واضح وله بداية ونهاية موصلة إلى الحق، يقولون جلس الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه يوماً فرسم خطاً مستقيماً ثم رسم خطوطاً جانبية ثم قرأ الآية (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ (153) الأنعام) لا تتبعوا السبل الأخرى غير الصراط، السياق وضّح معنى السبل في الآية (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) لأن الذي يتّبع طريقاً ويبعد عن الصراط المستقيم يكون عنده تأويل (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) السبيل استخدم في هذه الآية لأن من يبعد عن طريق الله متعمداً يبحث لنفسه عن حجة فيصوّر لنفسه أنه على حق. فالآية استخدمت كلمة السبيل لتكشف عقله ولتبيّن أنه متصور أنه على صواب (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) الكهف) فهو نفس الكلام تصوروا أن هذا سبيل.
سؤال: القرآن الكريم ينماز باستخدام كلمة عن كلمة مثلاً كلمة بشّر معناها الدلالي أنها من البشارة وهذا شيء طيب لكن يستخدمها القرآن مع المنافقين (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) النساء) (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) التوبة) فكيف نفهم معنى البشرى لغوياً واضطلاحياً هنا؟ وما اللمسة البيانية في الآيتين؟
بشّرته بالشيء في الغالب نقلت إليه خبراً سارّاً ونلاحظ في سورة يوسف الغلام الذي أدلى دلوه قال (قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ (19)) فرح، (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ (12) الحديد) (لَهُمُ الْبُشْرَى (64) يونس). بشّرته يعني نقلت إليه خبراً ساراً فظهر البِشْر على وجهه، بشِّره يعني انقل له خبراً جميلاً يُظهر السرور على وجهه، هذا المعنى الأصلي لكلمة (بشِّر). أحياناً يستخدم القرآن هذه الكلمة (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ) (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) الإنشقاق) يستخدم بشّر للتهكّم عليهم والسخرية منهم والاستهزاء كما تقول الزبانية لمن في جهنم (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) الدخان) والتهكم موجود في اللغة العربية بكثرة والقرآن ذكر التهكّم. بشِّر تستخدم للسخرية والتهكم المرّ، هذا جرياً على لغة العرب لأنهم كانوا يستخدمون التهكم كثيراً، كما يقول الشاعر:
قبيلةٌ لا يغدرون بذمّة ولا يظلِمون الناس حبّة خردَل
الحطيئة، عمر بن الخطاب احتكم لسيدنا عليّ فقال لم يهجو وإنما سرح عليه وفي رواية سلح عليه. وهناك كلمات كثيرة للتهكّم. يقول الشاعر أنهم ضعفاء وعاجزون وأعجز من أن يفعلوا ذلك، وريما قد تكون المبالغة في المدح مبالغة في الذم والهجاء، أحياناً الشاعر الهجّاء مثل الحطيئة كان يعرف أن الناس ستهجوه للخلفاء فأحياناً كان يستخدم كلمات ربما تُحسب لصالحه أو ربما يكون هنالك تأويل وله بيت مشهور يهجو به البزرقان:
دَعِ المكارم لا تخرُجْ للقيتها واقْعُدْ فإنك أنت الطاعِم الكاسي
فشكاه الزبرقان لعمر بن الخطاب فقال له عمر رضي الله عنه ما أظنه هجالك فقال سل حسّاناً بن ثابت لأنه شاعر فقال إنه سلح عليه أي أنه قد بالغ فيه، شتمه، استخدم الفاعل بمعنى المفعول يقصد إنك أنت المطعوم المكسو أي أن الناس تطعمه وتكسوه. يقول له أنت لست من الذين يناسبون الصعود للكرم والمكارم فاقعد فإن هناك من يطعمك ويكسوك، يعني لا همّة له.
ويستخدم القرآن الكريم بشّر أيضاً مع المؤمنين على معناها الحقيقي ففي سورة الملك على سبيل المثال (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)) هؤلاء المؤمنون خافوا وخشوا الله سبحانه وتعالى فالله يجازيهم ويبشرهم بأن لهم مغفرة وأجر كبير.
كلمة بشّر مع المؤمنين ومع الكافرين ومع المنافقين بنفس الدلالة منها البشارة ولكن مع الكافرين والمنافقين بتهكم مُرّ وسخرية أما مع المؤمنين فتأتي بمعناها الحقيقي (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) يس) هو آمن واتبع الذكر وخشي الرحمن وعمل صالحاً فبشره بمغفرة لأنه التزم وفعل الحق. يأتي أيضاً كلمة (بشّر) في آية أخرى (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59) النحل) يتوارى ويتخفى من القوم من سوء ما بُشّر به، يأتي الناس فيقولون له أبشِر لقد أنجبت والقرآن استخدم بُشّر هنا. واستخدم القرآن أيضاً (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ (71) هود) (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) الذاريات) استخدم البشارة مع الذي يُنجِب والذي يُنجَب له مع الأنثى ومع الذكر، بشّر الله تعالى إبراهيم عليه السلام عن طريق الملائكة بغلام هذا شيء عظيم جداً ومفرح ففرح بدليل الآية (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) الذاريات) فالبشارة هنا كانت عالية في جانب إدخال السرور والفرح.
معنى البشارة الحقيقي عندما تكون نقل الخبر بمعناه الحقيقي المفرح للشخص، هذا الاستخدام الحقيقي للكلمة التي وضعت له أما إذا استخدمت بمعناها السيء فهو نقل دلالي للكلمة من معناها الحقيقي إلى معنى آخر بسبب مجازي والغرض البلاغي يكون للسخرية والتهكم. على سبيل المثال لما جاء الرجل برأس الزبير بن العوام إلى علي بن أبي طالب بعد معركة صفّين يتصور أن عليناً سيعطيه جائزة على رأس الزبير لأنه قُتِل فيقول له إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بشّر قاتل ابن صفية بالنار، (بشّر) لأن هذا عمل فظيع مشين يتناسب له نقل الكلمة من دلالتها الحقيقية إلى دلالة مجازية ليقال له أن ما ظننته مفرحاً صار محزناً. ونفس الأمر في الآية (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى) الله تعالى استخدم كلمة بُشِّر مع أنهم كانوا تغتاظون من الأنثى والله أراد أن يقول أنهم لو فهموا لعرفوا أن هذا الأمر جميل وأنه بشارة وأن الله قد أعطاهم ورزقهم وصار لهم نسل.
سؤال: استخدام لفظ العزّة يختلف من آية إلى أخرى فمرة يقول (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا (139) النساء) قصر العزة لله تعالى ومرة يقول (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) المنافقون) ومرة يقول (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا (10) فاطر) كيف نفهم هذا التكرار؟
كل تكرار هنا له دلالة. الله تعالى ذمّ من يبتغون العزّة عند العباد (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ) استفهام إنكاري، لماذا يذهب العباد إلى الكافرين؟! الآية تتحدث عن قوم يلجأون إلى عباد أمثالهم فتذمهم وتقول لهم (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ) فناسبها (فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) ولم يُذكر هنا المؤمنون ولم يُذكر الرسول، أفردت العزة لله وقُدّم لفظ العزة (فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) بينما في الآية الأخرى (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) قدّم لفظ الجلالة وأُخر لفظ العزة. قدّمت العزة في آية سورة النساء (فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) لأنهم يبحثون عنها وهي موضوع النقاش. أصل الجملة : العزّة لله مبتدأ وخبر فأُدخل عليها (إنّ) فصارت (فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ) فصارت العزّة إسم إنّ، وجاءت الجملة على الأصل اللغوي بينما لما قال (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) صار فيها تقديم وتأخير قدّمت شبه الجملة لتفيد القصر فلو قالت الآية “العزة لله” معناها صحيح لغوياً ولكن قُدّم لفظ الجلالة للقصر. وفي آية النساء قُدِّمت العزة لأنها محل الاهتمام ولو أُخّرت لكان المعنى صواباً أيضاً “فلله العزة”. قدّمت العزة في آية النساء (فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) لشيئين: أولاً لأن الكلام على العزّة فقدّمت العزّة والشيء الثاني ربط النحو بالدلالة، النحو يقول الأصل أن يأتي المبتدأ أولاً والأصل أن يأتي إسم إنّ قبل الخبر والدلالة في هذه الآية قالوا والأصل أن العزّة لله فقُدّمت كلمة العزة، الأصل أن العزة لله فقدمت العزة والأصل أن الكلام على العزة فقُدِّم الأصل. جاء الكلام في آية سورة النساء مطابقاً للأصل.
الآية الثانية (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) المنافقون) بعد أن نذكر أن الله أفرد نفسه في آية النساء فقال (فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) ولم يقل فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولو قالها لم تكن مناسبة وتصبح كلمة (جميعاً) لا محل لها ولا قيمة لها فجاءت (جميعاً) لتبيّن أن العزة كلها لله ولو كانت هناك عزة للمؤمنين وللرسول لكانت ممنوحة من الله عز وجل. في الآية الثانية (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) في سورة المنافقون هي رد على المنافقين، لماذا ذكر الرسول والمؤمنون في آية سورة المنافقون ولم يذكر في آية سورة النساء وآية سورة فاطر (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)؟ هنا قانون إلهي من يريد أن يبتغي العزة فإنها من عند الله، من يريد أن يطلب العزة فهي من عند الله، هذا قانون عام (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) هذا خبر لا شك فيه، هذا أسلوب حقيقي خبر هدفه التقرير والإثبات والحقيقة توضح كما هي بلا زيادة.
قد يقول قائل ممن يعملون عقولهم وليس لهم دراية باللغة ربنا تبارك وتعالى يقول في سورة النساء وفاطر أن العزة لله قصراً وحصراً فكيف يقول في آية المنافقين (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)؟ “فلله العزة جميعاً” هذا هو أصل المعنى وهذا ما يعتقده المسلم فالعزيز هو الله والعزة لله عز وجل ومن نازع الله عزّته ألبسه الله الذل والصَغار فالآية في سورة فاطر جاءت على الأصل (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) العزة لله فمن أراد العزة فليطلبها من الله عز وجل فليطع الله والله يعزّه والله يعطيه المكانة والمهابة ويرفع شأنه وقدره. أما في سورة المنافقون السؤال لماذا جيء بلفظ الرسول والمؤمنين (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (8))؟ لأنهم نسبوا العزة إلى أنفسهم، من يقول هذا الكلام يشير إلى نفسه، عبد الله بن أبي بن سلول في العودة من غزوة بني المصطلق حدث خلاف بين غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى غلام المهاجرين “يا للمهاجرين” ونادى غلام الأنصار “يا للأنصار” فخرج الفريقان وكاد أن يحدث مشاحنات وكاد أن يحدث شجار بينهم – لا نقول حرباً- فالصحابة أنزه من ذلك في وقتها رضي الله عنهم في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فهدّأهم الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم كانت المفاجأة أن هذا الرىجل قد قال لما شهد الموقف قال: مثلنا ومثل هؤلاء أي المهاجرين كالمثل القائل سمِّن كلبك يأكلك يعني نحن آويناهم وأطعمناهم فهم يكافئوننا بأنهم يهينونا ويتمادون علينا ثم تمادى في غيّه فقال (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) وكان يعني بنفسه الأعز وكان يعني بالرسول صلى الله عليه وسلم الأذلّ ففوت القرآن عليه هذه الفرصة. فردّ عليه القرآن بإبطال ما أراد (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) لله العزة لأنه مالكها ولأنه صاحبها ومن صفاته العزيز. ولرسوله وللمؤمنين بفضله عليهم يرفع شأنهم ويعطيهم فيعزّهم. قال ابن عبد الله بن أبي بن سلول قال تُخرجه أنت يا رسول الله أنت الأعزّ وهو الأذلّ. فمجيء لفظ الرسول والمؤمنين عطفاً على لفظ الجلالة هنا لفائدة اقتضاها السياق.
سؤال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) النساء) ما معنى الخداع والمخادعة؟
خدع الرجل أي أوهمته، فعلت شيئاً يتصور أنه صواب فأغرر به لأنال هدفاً آخر.
سؤال: القرآن مرة يقول (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) يستخدم مرة فعل ومرة إسم فاعل فلماذا وما اللمسة البيانية؟
الآية هنا استخدمت الفعل المضارع مع المنافقين. (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) الآية استخدمت الفعل الرباعي (يخادع) ولم تستخدم (يخدع) الفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار فهم مستمرون في الخداع، هم يحاولون أن يفعلوا شيئاً يبدوا أمام المسلمين أنه إيمان. الآية تتحدث عن المنافقين (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) جاءت بالتوكيد بـ (إنّ)، يخادعون الله في تصورهم يفعلون أشياء يتصورون بهذا أنهم يخدعون الله وليس يخادعون الله أن الله انخدع بهم، يخادعون الله فيما يظنون من وجهة نظرهم هم (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ) الآية وصفتهم بأنهم (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء (143) النساء) معناه أنهم في حالة تذبذب. والقرآن قد فضح المنافقين في مواطن عديدة (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ (10) البقرة) بيّن أن من صفاتهم المخادعة (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (14) البقرة) ففضحهم الله ورد عليهم قال (اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) البقرة). فهنا (إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) إستخدم القرآن يخادعون ولم يقل يخدع لأنه يخادع (يفاعل) تدل على شدة المفاعلة كأنهم يحاولون أن يُظهِروا أمام المسلمين إظهاراً شديداً أنهم مسلمون فيذهبون إلى المسجد ويتظاهرون أنهم يسمعون القرآن، يقولون كان عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين إذا شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم بين الناس قال هذا رسول الله فاسمعوا له وأطيعوا فإذا انصرف وجلس مع أصحابه بدأ يبثّ سموم الكذب والنفاق، يضمرون عكس ما يظنون ويحسبون أنهم يخادعون الله.
(وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) يظنون أنهم يخادعون الله في ألفاظهم (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) المنافقون) (وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (30) محمد) هم يلحنون أقوالهم ويظنون أنهم بالكلام يخدعون الله.
سؤال: لماذا استخدم (يُخَادِعُونَ) بالصيغة الفعلية و(خَادِعُهُمْ) بالصيغة الإسمية؟ وما الفرق بين استخدام الإسم والفعل؟
الجملة الإسمية تدل على الثبوت قانون، إذن الإسم آكد من الفعل في التعبير، نقول الحق قوة أي هذا مبدأ ثابت لا يتغير في زمن دون زمن، (يُخَادِعُونَ) هم يتصورون هذا في أفعالهم ومخادعتهم في الزمن، (وَهُوَ خَادِعُهُمْ) جملة إسمية والجملة الإسمية آكد في المعنى وتدل على ثبات المعنى كأنه قانون ثابت لا تغيّر فيه لا في الزمن الماضي ولا في المستقبل. (وَهُوَ خَادِعُهُمْ) البعض يقول هل الله يخدع؟ نقول لا، الله لا يخدع وليس من صفاته الخداع، ولكن اللفظ جاء مشاكلة للفظ يخادعون، يخادعون وهو خادعهم. وهذه يظنها البعض إشكالية مثل (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) الأنفال) كيف يمكر الله؟ علماء اللغة وعلماء التفسير يقولون هناك مشاكلة في اللفظ، الله تعالى لما عاقبهم على مكرهم فذكر أن هذه العقوبة كانت مكراً كما جاء في القرآن (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا (340) الشورى) هل الله يفعل السيئات؟! لا، وإنما اعتبرت السيئة الأخيرة سيئة على المجاز يعني سمي العقاب سيئة ليتناسب مع عملهم (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) يعني العقاب من جنس العمل ولكن الله لا يفعل السيئات. (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي الله يعاقبهم بمكرهم فيمدهم في غيّهم ويجعلهم في طغيانهم يعمهون (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) هذا هو المقصود بمكر الله عز وجل. (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) يعني الله يترك لهم الفرصة لا يفضحهم من أول لحظة وهم يتصورون أنهم نجوا ثم يكشفهم بعد ذلك ويأتيهم من حيث لم يشعروا ولم يحتسبوا.
سؤال: هل لنا أن نقول مثلاً (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ) (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) أن المكر والخداع يليق بجلال الله سبحانه وتعالى وبالطريقة التي يريدها سبحانه وتعالى فيهم؟ هل المعنى مختلف أم المعنى متفق؟
ما فهمته وما فهمه الناس، الله سبحانه وتعالى لا يخادع كما نتصور نحن بالأسلوب الذي نتصور نحن حاشاه ولا يمكر بهذا الشكل والكلمة هنا كلمة مجازية بدلالة مجازية وهناك مجاز في اللغة (وهناك من ينكر المجاز) المجاز موجود ولكنه غير موجود في العقيدة وغير موجود في الفرائض، (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ (19) الأنعام) لا مجاز فيه، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (56) النور) لا مجاز فيه وإنما المجاز في الأسلوب لا في الحقيقة، لا يغيّر الحقيقة.
بُثّت الحلقة بتاريخ 5/6/2010م
من قسم الفيديو