السؤال الأول: ما نوع السؤال في القرآن في قوله تعالى (وما تلك بيمينك يا موسى)؟
الله تعالى يسأل عباده وهو أعلم بهم وفي الحديث القدسي يسأل الله تعالى ملائكته كيف تركتم عبادي؟ وهو أعلم بهم ويسأل قبضتم ولد عبدي؟ وهو أعلم ولكن هذا السؤال هو تقرير أو يقرره الله تعالى لهؤلاء عموماً وعندما سأل موسى u (وما تلك بيمينك يا موسى) أراد أن يتثبت موسى أن ما في يده عصا حتى اذا انقلبت الى حية تسعى يشعر بقوة المعجزة وعظمها ولذا ولّى موسى مدبراً ولم يعقّب بعد ان انقلبت عصاه حية تسعى. فالسؤال هو لتثبيت ما بيده لكن موسى أراد أن يتقرب الى الله تعالى بكثرة الكلام المفيد وهذه فرصة ليتكلم مع ربه فلم يكن جوابه (عصا) وإنما قال (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) طه) فأراد أن يطيل الكلام خوفاً من أن يكون ما حصل معه امتحاناً له وأراد أن يتقرب لله تعالى بكثرة الكلام المفيد وهذا هو الغرض من السؤال والله تعالى يسأل عباده عما هو أعلم به كما سأل عيسى u (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) والهدف هو تقرير الأمر وتثبيته.
سؤال 2: ما الفرق بين الموت والوفاة في سورة الزمر (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42))؟
الوفاة: يقولون وفّى ماله من الرجل أي استوفاه كاملاً غير منقوص أي قبضه وأخذه فلما يقال توفي فلان كأنه قُبِضت روحه كاملة غير منقوصة.
والموت هو مفارقة الحياة وليس فيها معنى القبض ولذلك يستعمل لفظ الموت أحياناً استعمالات مجازياً يقال ماتت الريح أي سكنت وهمدت والذي ينام مستغرقاً يقال له مات فلان اذا نام نوماً عميقاً مستغرقاً. هذا السكون للموت فكأن هذا الشيء الذي يفارق جسد الانسان بالمفارقة موت والذي توفّي تقبضه ملائكة الموت.
عندما نقول مفارقة الحياة او مفارقة الروح يمكن ان ننظر الى نوع من التفريق بين الحياة والروح. (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) لا نعلم ماهية الروح لكن هي يقيناً غير الحياة لأن الحيمن (الذي يتولد منه الكائن الحيّ عند الذكر) حيّ وفيه حياة وبويضة الأنثى فيها حياة وعندما يتم الاخصاب فهذا الشيء المخصّب فيه حياة وأول ما يحصل لهذا الشيء المخصب هو نبض قلبه ونبض القلب حياة لكن بعد شهرين أو أكثر تُنفخ فيه الروح لكن قبل ذلك كان فيه حياة فالحياة غير الروح.
النفس فيها معنى الشيء المحسوس لأن لها علاقة بالنَفَس والحركة. هل النفس هي الروح؟ لا ندري. قوله تعالى (الله يتوفى الأنفس حين موتها ) يمكن ان تكون الروح والتي لم تمت في منامها. يتوفّى: أي يقبضها كاملة غير منقوصة عندما تفارق جسدها أما الموت فهو مجرد مفارقة الروح للجسد والوفاة اشارة الى قبضها وأخذها. وكلام العرب لما يقولون توفى فلان دينه من فلان أي قبضه كاملاً أما مجرد الموت فليس فيه اشارة للقبض. يبقى سؤالان :
الأول لماذا استعمل الأنفس ولم يقل النفوس؟
قال الأنفس وهي جمع قِلّة على وزن (أفعُل) لكن جمع القلة إذا اضيف أو دخلت عليه أل الاستغراق ينتقل الى الكثرة بمعنى لكل الأنفس. والفرق بين أل الاستغراق وأل التعريف أن أل التعريف تكون عادة للشيء المعهود فتقول مثلاً هذا كتاب جيّد ثم تقول قرأت الكتاب أي هذا الكتاب المعهود الذي تعرفه. أما أل الاستغراق فليس المقصود منه تعريف شيء معين وإنما للدلالة على شيء عام ( والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) الانسان تدل على أنه ليس انساناً معيناً بذاته وانما استغراق الانسان كجنس فيحسب كل انسان أنه خاسر فيتطلع الى الانقاذ فيأتيه الانقاذ في قوله تعالى(إلا الذين آمنوا). إذا أريد ذاتاً معينة تكون أل للتعريف كأن تكون لعهد ذهني أو عهد ذكري (يقال سأل عنك رجل ثم تقول رأيت الرجل تقصد به الرجل الذي سأل عنك) عُرِف من العهد المذكور سابقاً هذا العهد الذكري أما العهد الذهني فهو في الذهن حاضر كقوله تعالى (ذلك الكتاب لا ريب فيه) الكتاب اي الكتاب المعهود في الذهن أنه الكتاب المقروء أي القرآن فهو حاضر في الذهن فيسمون العهد الذهني مُخصص. (واستعمال اسم الاشارة ذلك بدلاً من هذا تدل على التمييز ورفع شأنه وهي للاشارة للبعيد أما قوله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) استعمال اسم الاشارة هذا للقريب يدل على موطن الحدث الآني).
لما دخلت أل الاستغراق على أنفس نقلتها من جمع القلة الى الكثرة أما كلمة نفوس فهي ابتداء للكثرة فلماذا لم تستعمل إذن؟ لما رجعنا الى المواضع التي وردت فيها كلمة أنفس وكلمة نفوس في القرآن الكريم وفق ما جاء في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وجدنا أن كلمة أنفس وردت في 153 موضعاً على النحو التالي: معرّفة بأل الاستغراق في ستة مواضع ومضافة في المواضع الأخرى 147 موضعاً وجميعها للكثرة (49 أضيفت الى (كم) و91 أضيفت الى (هم) و4 مواضع اضيفت الى (هنّ) و3 مواضع اضيفت الى (نا)). صيغة الكثرة في نفوس وردت مرتين فقط ونسأل لماذا؟
نحن نقول دائماً أن كتاب الله عز وجل ليس من عند بشر والذي يقول أنه من عند محمد r فهو لم يقرأ القرآن الله تعالى عالم أن هذه اللفظة واردة في كتابه 150 مرة وسيقرأها العرب فاختار لهم اللفظ الخفيف (أنفس) للمواطن الكثيرة لأنه أخف من لفظ (نفوس). قد يقول قائل كيف؟ نقول أن الفتحة هي أخف الحركات والضمة أثقلها فيقول قائل من قال هذا الكلام؟ نأتي الى الجانب التجريبي فلما نأتي الى ولادة الحركات نجد أن الفتحة تولد باسترخاء اللسان في الفم فيه شيء قليل من ارتفاع مع اهتزاز الوتيرين الصوتيين وتلفظ بمجرد انفتاح اللسان لكن الضمة أثقل الحركات يقول علماؤنا القدماء أن الضمة أثقل الحركات لأنها تكون باستدارة الشفتين والعلم الصوتي الحديث يقول أنه وصل الى أنه اضافة الى استدارة الشفتين تلفظ الضمة بارتفاع اللسان من أقصاه الى أقصى نقطة يمكن أن يرتفع اليها من الخلف ولو صعد فوقها لصار هناك احتكاك مسموع مع اهتزاز الوترين الصوتيين فالضمة اذن ثقيلة. المقطع الصوتي نواته (السائط) أي الحركات ونواة المقطع الحركات الطويلة والقصيرة إذا كانت الحركات ثقيلة يكون المقطع ثقيلاً وإذا كانت الحركات خفيفة يكون المقطع خفيفاً. وإذا نظرنا في كلمة أنفس ونفوس نجد أن كلمة أنفس فيها مقطعين الأول خفيف وحركته خفيفة (أَن) والثاني ثقيل وحركته ثقيلة ضمة (فُس) أما كلمة نفوس ففيها مقطعين كلاها فيه ضمة ثقيلة الأول (نُ) والثاني مبالغ في ثقلة (فُُوس) فإذن أنفس أخف من نفوس فاستعمل الخفيف للكثرة ونفوس للمرتين ونسأل لماذا استعملها للمرتين؟
ننظر في الآيتين التي وردت فيهما كلمة نفوس وردت مرة في سورة الاسراء (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)) وفي سورة التكوير (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)) ولم ترد كلمة نفوس في غير هذين الموضعين. في الأولى نجد أن الآية استعملت صيغة أفعل التفضيل للعلم (أعلم) ننظر في النظم والتركيب والبنية نجد أنه لم يذكر أعلم من أي شيء وأعلم من ماذا؟ قانون القواعد حقيقة خارج لغة العرب لأن هذا القانون في جمهور لغة العرب أنه يجب عندما تستعمل أفعل التفضيل أن تقول أفعل من ماذا. قال الفرزدق:
إن الذي سبك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول
فسأله النحوي قال أعز من ماذا وأطول من ماذا؟ فأُحرج الفرزدق لأنه كان عربياً بالسليقة ولم يعرف ماذا يجيب فأراد تعالى أن ينقذه فسمع المؤذن يقول (الله أكبر) فأمسك بالنحوي وقال ويلك أكبر من ماذا؟
يمكن ان نستخدم أفعل التفضيل عندما نريد أن نجعل هذا الشيء أفضل من كل ما عداه مهما كان الذي عنده في ذهنك وعندما نقول (الله أكبر) فهو تعالى أكبر من كل ما يخطر في ذهنك والفرزذق كان يقصد أعز وأطول من كل ما سواها. و(أعلم) في آية سورة الاسراء تعني أعلم من كل ما سواه وحينما يكون أعلم معناها في النظم من حيث وصف الله تعالى من حيث صفاته فلو قلنا: (أعلم، عالم ، عليم، يعلم) كل الصيغ تعني أنه تعالى علِم دقائق أموره وعظائمها بلا شك لكن من حيث نظم الألفاظ لو خرجنا خارج القرآن يمكن أن نفرّق بين علم وعالم وأعلم (العالم يمكن أن يفوته شيء) أعلم لا يفوته شيء. فلما استعمل في هذا النظم كلمة أعلم معناه كل هذه الدخائل ستكون منكشفة أمام الله تعالى وفقاً لنظم الكلام وهذا يثقل على المؤمن والكافر أن يستخرج الله تعالى كل دخائله فلما كان في المعنى شيء من الثقل على المخاطب استعمل اللفظ الثقيل (النفوس).
وهناك شيء آخر خارج مسألة المعنى وإنما يتعلق بالصوت: الانكشاف واضح في كلمة نفوس ليس فيها ادغام ولا اخفاء وكل حروفها ظاهرة مظهرة (نفوسكم) لكن لو في غير القرآن (أعلم بما في أنفسكم) أنفسكم هنا إخفاء فيها خفاء والخفاء لا ينسجم بأنه أعلم بالدقائق حتى من حيث الصوت.
كثرة ورود كلمة أنفس في القرآن الكريم (153 مرة) يعززالقول بأن كثرة ورود لفظ (أنفس) في القرآن دون كلمة (نفوس) هو لاختيار اللفظ الخفيف وليس الثقيل الذي هو (نفوس). فكلمة (أنفُس) مؤلفة من مقطعين والحركة أو حرف المدّ هو قمة المقطع أو نواته والفتحة خفيفة (أن) خفيفة و(فُس) بالضم ثقيلة أما كلمة (نفوس) فمؤلفة من مقطعين ثقيلين أولهما (نُ) ثقيل لأن حركته ضمة ثقيلة والمقطع الثاني (فُوس) قمته واو مدّية وهي في غاية الثقل لذلك وجدنا أن القرآن الكريم يستخدم الكلمة الخفيفة عندما يكثر تردادها (أنفس: 153 مرة) ويستعمل الكلمة الثقيلة عندما يقل تردادها (نفوس: مرتين)، أي أن استعمالا لخفيف يكون للكثير، والعكس صحيح. وهذه سُنّة من سنن العرب في كلامها وعندما نأتي الى تعليلات الخليل بن أحمد الفراهيدي ونجده يقول: مثلي في هذه التعليلات والتفسيرات كمثل رجل دخل داراً مبنية فقال إن البنّاء وضع النافذة هنا للعِلّة الفلانية ووضع الباب هنا للعلة الفلانية فقد يصيب العِلّة وقد لا يصيبها وهذا الذي نقوله في الألفاظ يندرج في هذا.
وعندما يسألون: العرب ترفع الفاعل وتنصب المفعول به فالضمة علامة الرفع والفتحة علامة النصب يقولون فلماذا اختاروا الضمة للفاعل والفتحة للمفعولات؟ قالوا للتفريق بين الفاعل والمفعول به والعربية فيها تقديم وتأخير نقول مثلاً (أكرم زيداً خالدٌ) فنعرف من الحركة والعلامة أن خالدا هو الفاعل وحدث تقديم وتأخير. ثم قالوا ولِمَ لم يعكسوا وهذا موطن الشاهد عندنا فيتحصّل الفرق؟ قالوا لأن المفعول متعدد فهناك مفعول به ومفعول لأجله ومفعول معه ومفعول فيه) وكلها منصوبة أما الفاعل فواحد لكل فعل فأعطوا الحركة الثقيلة للواحد والخفيفة للمتعدد وكما قال الخليل هذا الذي نراه في اللغة هو شيء مقنع لكن هل فكّر به العرب؟ لا نستطيع أن نجزم بذلك.
لما يقال لشخص مثلاً (أفعِل- ُيفعِل، أكرم-يُكرِم، أخرِج- يُخرِج، أنجد- يُنجِد) وقلنا له: (ابنِ من الخوف على وزن أفعِل يفعل) فالمفروض أن يقول أخوِف يُخوِف لكن العرب قالوا أخاف يُخيف. فتّش العلماء في هذه النماذج فوجدوا أنه اذا التقى حرف العِلّة وهو متحرك وقبله صحيح ساكن قالوا (وهذه فيها وجهة نظر لا أريد أن أدخل فيها هنا) تُنقل الحركة الى الساكن لأنه أولى بالحركة من المعتلّ ويقٌلب المعتل الى مجانس للحركة المنقولة: تُنقل الفتحة من الواو في أخوَف تقلبها ألفاً فتصبح أخاف وفي يُخوِف تقلب الكسرة ياءً فتصبح يُخيف هكذا قال العلماء هذه القاعدة مضطردة في كل اللغة إلا في أماكن قليلة يقولون كأن العربي أبقاها إشارة الى الأصول وهذا شيء فيه دقة. فعلاً لما يلتقي في البناء أي عندما تبني كلمة جديدة كما فعلنا مع كلمة الخوف (أخاف – يخيف) تتمثل هذه الظاهرة. فمسألة أن العربي اختار الضمة للفاعل والفتحة للمفعولات هل كان العربي يعرف ذلك ويفكر فيه؟ لا نستطيع أن نقطع بذلك إذا كان العربي يعرف ذلك أو جاء هكذا ذوقاً ويمكن كما قال كثير من علمائنا أن العربية إلهام (أي من الله سبحانه وتعالى) وهذا قد لا تجده في لغة أخرى لأن هناك سمات في اللغة العربية لا تجدها في لغات أخرى. لما تأتي الى الفعل الثلاثي في تقليباته التي هي (نظرية الاشتقاق الأكبر عند ابن جنّي) ونستفيد منه كثيراً. نحن كلامنا عن الثقل والخفة والعرب تتجنّب الثقل فاختاروا الحركة الخفيفة للمتعدد والثقيلة لقليل التعداد وقد ذكرنا سابقاً الفرق بين حركتي الفتحة والضمة من حيث النطق .وجود الثقل وتجنب الكلمة الثقيلة دليل على ان العربي له ذوقه – الفاعل مرفوع والضمة ثقيلة والفعل له فاعل واحد ومفعولات متعددة (أكرم محمد علياً إكراماً جيداً يوم الجمعة أمام اخوانه) فالمنصوبات كثيرة والمرفوع واحد- من يقول إن الضمة ثقيلة والفتحة أخف؟ قال العلماء فالفتحة بمجرد انفتاح الفم وارتفاع اللسان ارتفاعا قليلا من وسطه نحو الآخر قليلا، والضمة بانضمام الشفتين وارتفاع أقصى اللسان ففيها حركتان، أما الفتحة فهي مجرد انفتاح الفم. العربي لما استعمل كلمة أنفس ونفوس قطعاً كان يحس بأن هذه أثقل فجاء القرآن فاستعمل له الخفيف في المتعدد والثقيل في غير المتعدد لكن يبقى سؤال لماذا استعمل الحركة الثقيلة في (نفوس) مرتين بدل أن يستعمل أنفس فيصبح عدد استعماله 155 مرة بدل 153 مرة لكلمة أنفس ومرتين لكلمة نفوس؟ ولماذا لم يأت بكلمة أنفس دوماً؟
قلنا إن كلمة نفوس وردت مرتين في القرآن الكريم مرة في قوله تعالى (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)) كلمة أعلم هي صيغة تفضيل لم تستعمل إلا في هذا الموضع مع جمع النفس ولما تستعمل صيغة التفضيل هنا من غير ذكر المفضّل عليه فمعنى ذلك أنها تشمل الدقائق والعظائم والصغائر والكبائر من حيث التركيب وإلا فالله سبحانه تعالى يعلم الصغير والكبير سواء استعمل في القرآن علم ، يعلم، عالم، أعلم، علام أو أي صيغة من صيغ العلم لكن ( أعلم) من حيث البنية التركيبية معناها أنه أشعر العربي بمعرفة الصغير والكبير، والعربي يفهم هذا قطعاً فإذا قال تعالى يعلم ما في نفوسكم قد لا يعطي معنى علم العظائم والدقائق بالنسبة المقصودة وهي غير (أعلم بما في نفوسكم) ولم يذكر أعلم من ماذا؟ بدون تحديد المفضّل عليه. كل كلمة في القرآن مستخدمة في موضعها والله تعالى استعمل كلمة يعلم، عليم، علام، علِم والعربي يفهم هذا الكلام ويستعمله في لغته من غير أن يدرك على وجه الدقة لماذا يستعمله ويأتي عنده عفو الخاطر (كما ذكرنا سابقاً أن الفرزدق لم يدرس العربية ولكنه كان يتكلم بفطرته). استعمل تعالى (نفوسكم) اللفظ الثقيل بدل (أنفسكم) لأنه يثقل على المرء أن تُعلَم كل دخائل نفسه ولهذا قال تعالى (نفوسكم) ولم يقل (أنفسكم) وهي اللفظة الخفيفة، واختار اللفظة الثقيلة في المعنى الذي يثقل على النفس. الكلمة تُختار كما نلاحظ في قوله تعالى (تلك إذاً قسمة ضيزى) كلمة ضيزى ثقيلة لأن المعنى ثقيل فاختار اللفظة الثقيلة.
فيما يتعلق بالآية الثانية التي وردت فيها كلمة نفوس وهي في سورة التكوير (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)) في هذه الآية ثقل على النفس أيضاً لانه كثير من الناس يتمنوا لو أنهم لم يبعثوا أحياء في يوم القيامة فلما تُزوّج النفوس أي عندما تعود الى أجسادها هذا معناه أن الحساب سيبدأ وسيحاسبون وهذا يثقل على النفس فلآن المعنى فيه ثقل استعمل اللفظ الثقيل (النفوس).
شيء آخر كما قلنا في الآية السابقة الأصل هو المعنى ومع ذلك من حيث اللفظ جاء فيه نوع من الثقل ولو رجعنا الى الآيات في سورة التكوير من بدايتها سنجد أن اختيار كلمة نفوس هنا ينسجم مع لنقُل الايقاع الداخلي للآيات لأن كلام الله تعالى وفق لغة العرب التي فيها جمالية عندما تُبنى الألفاظ ويناسب بعضها بعضاً ولا تتعارض ولا تتشاكس لذلك عندما يأتي لفظ مع لفظ حتى يتم التوافق يحصل ادغام لتظهر الجمالية فعندما نقول (قد تعلمون) فيها ثقل لو لفظنا كل الحروف لكن التاء تسحب الدال اليها ونلفظها بالادغام على الفطرة وكذلك في كلمة أنباء جمع نبأ فيها ادغام على الفطرة.
نأتي الى سورة التكوير أولاً وقبل أن نبدأ كلمة موجزة بالنسبة للمقاطع الصوتية فهي تدرّس في مدارس الامارات لطلبة الصف الأول ابتدائي لكن لا يقال لها مقاطع وانما يقال له تحليل. نضيف شيئاً للمتعلم الأكبر ونقول له وأنت تحلل إذا وجدت أن ما حللته من حرف واحد تسميه مقطعاً قصيراً وإذا وجدته من حرفين تسميه مقطعاً طويلاً فإذا حلّلنا كلمة مدرستنا نجدها مكونة من المقاطع التالية (مد/ر/س/تُ/نا) مقطع طويل ثم 3 مقاطع قصيرة ثم مقطع طويل. ولما نأتي الى الآيات في سورة التكوير منذ بداية السورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)) نجد أنها جاءت على خمس مقاطع متناسقة كتلة ايقاعية موسيقية استفاد منها علماء الشعر العربي في بيان أوزان الشعر العربي هذا ليس من أوزان الشعر العربي ولكن الكتل موجودة. هذه المقاطع الخمسة مكونة من مقطعين قصيرين ثم مقطع طويل ثم مقطع قصير ثم مقطع طويل (وإذا الجبال، وإذا العشار وإذا النجوم، وإذا الوحوش وإذا البحار على وزن مستفعل) وجاءت (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)) بنفس المقاطع ولو قلنا وإذا الأنفس زوجت لاختلّ المقطع.صار عندنا تقديم وتأخير ولا نقول أن الايقاع كان مقصوداً هنا لذاته لكنه جاء التقاطاً والأصل أنه اختيرت كلمة النفوس لمعنى الثقل ولكن التقاطاً يأتي مناسباً لما قبلها. كل الأحداث في الآيات الأولى من سورة التكوير في وقوع مشاهد يوم القيامة وهي ذات ايقاع واحد وضربات واحدة بما ألِفته الأذن العربية على ايقاع مستفعل وما يدخل عليها: مستعل، متفعل ومتعل والكلام في الآيات الأولى من السورة تتحدث عن اضطراب الكون يوم القيامة من بداية السورة الى الآية أما في الآية (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)) فاختلف الايقاع لأن الآية تشير الى أن الحساب بدأ.
في تصوري أن العربي كان يحسه لكن لم تكن القواعد قد وُضِعت وضُبِطت كما كان يرفع وينصب ولا يدري لماذا وكان إذا نُصِب مرفوع يحس أنك خالفت لغته لكن جاء العلماء ونظروا في كلام العرب وضعوا هذه القواعد والقواعد دائماً متأخرة عن اللغة لأن الانسان يتكلم ثم تُقعّد القواعد.
لماذا جاء لفظ الأنفس في موضعين فقط؟ هل هناك فارق دلالي؟
قلنا هذان الموضعان هما موطن الثقل أما المواطن الأخرى فليس فيها ثقل. كلمة أنفس جمع قلة (عادة من 3 الى 10) وجمع الكثرة فيه قولان (من 3 فما فوق يتجاوز العشرة) وهذا ما نختاره ومنهم من يقول من أحد عشر فما فوق لكن من خلال استقراء كلام العرب وجد العلماء أن جمع القلة إذا أضيف أو دخله أل انتقل من القلة الى الكثرة. لم تستعمل كلمة أنفس مجردة من الاضافة أو بدون أل في القرآن (قد جاءكم رسول من أنفسكم) كثرة . وهنا يرد سؤال أجبنا عنه سابقاً لماذا حوّل جمع القلة بادخال أل أو الاضافة ولم يستعمل جمع الكثرة ابتداءً؟ لأن وزن أنفس أخف من نفوس ولكمة أنفس استعملت بكثرة في القرآن فاختير اللفظ الخفيف في جميع القرآن ولم يختر اللفظ الثقيل والخفة والثقل معتبران عند العرب فيرتاح اليه. (اضيفت من حلقة يوم 29/11/2005م)
سؤال 3: لماذ حذف كلمة ربهم في قوله تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) في سورة الزمر وذكرها مع الذين اتقوا؟ وما دلالة وجود الواو وحذفها في قوله تعلى (وفتحت) (فتحت) (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73))؟
ذكر ربهم مع الذين اتقوا ولم يذكرها مع الذين كفروا وذكر وحذف الواو في (فتحت) و(وفتحت) يتعلق بالحذف والذكر . في هذه الآية من سورة الزمر ذكر تعالى الذين كفروا عندما يساقون الى النار فهؤلاء لا يستحقون أن يرد معهم اسم الله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يذكر اسم الرب (ربهم) الذي يعني المربي والرحيم العطوف الذي يرعى عباده فلا تنسجم كلمة ربهم هنا مع سوق الكافرين الى جهنم وعدم ذكر كلمة ربهم مع الذين كفروا هو لسببين الأول أنهم يساقون الى النار وثانياً أنهم لا يستحقون ان تذكر كلمة ربهم معهم فلا نقول وسيق الذين كفروا ربهم الى جهنم لأن كلمة الرب هنا :ان فيها نوع من التكريم والواقع أنه كما قال تعالى (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) لكن مع المؤمنين نقول (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة) ذكر كلمة ربهم هنا تنسجم مع الذين اتقوا. وفعل كفر يتعدّى بنفسه أو بحرف الجر وهنا لم يتعدى الفعل وهذا يدل على اطلاق الذين كفروا بدون تحديد ما الذي كفروا به لتدل على أن الكفر مطلق فهم كفروا بالله وبالايمان وبالرسل وبكل ما يستتبع الايمان.. (وسيق الذين كفروا الى جهنم زمراً) لم تذكر كلمة (ربهم) لأن الربوبية رعاية ورحمة ولا تنسجم مع السوق للعذاب ولا يراد لهم أن يكونا قريبين من ربهم لكنها منسجمة مع سوق الذين اتقوا ربهم الى الجنة فهي في هذه الحالة مطلوبة ومنسجمة. كلمة الرب فيها نوع من التكريم فلا تذكر مع الكافرين لكن مع المؤمنين تكون مطمئنة ومحببة اليهم (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا) .
وقد وردت كفروا ربهم في مواطن أخرى في القرآن لكن في هذا الموقع لم ترد لأنه لا تنسجم مع سوق الكافرين الى النار ولا بد أن ننظر في سياق الآيات فقد قال تعالى (ورتل القرآن ترتيلا) والترتيل في القرآن ليس هو النغم وإنما النظر في الآيات رتلاً أي آية تلو آية متتابعة لأنها مرتبطة ببعضها فإذا اقتطعت آية من مكانها قد تؤول وتفسّر على غير وجهها المقصود لكن إذا أُخذت في داخل سياقها فستعطي المعنى المطلوب الذي لا يحتمل وجهاً آخر. والبعض يتداول آيات خارج سياقها فتعطي معنى وفهماً غير دقيق للآية ولو أُخذت الآيات في سياقها لفهمناها الفهم الصحيح ولذا يجب أخذ الآيات في سياقها.
بالنسبة لذكر وحذف الواو في كلمة (فتحت) و (وفتحت) حذف الواو مع النار وهذا نوع من اذلال الكافرين والمضي في عقابهم لأن الذين كفروا عندما يساقون الى جهنم كأنهم ينتظرون ثم تفتح لهم الأبواب عندما يصلون اليها وهم في خوف ولكن تفتح الأبواب عند وصولهم وتفاجئهم النار بينما المؤمنون يرون أبواب الجنة مفتحة لهم من بعيد ويشمون رائحتها من بعد ورائحتها تشم من مسافة 500 عام وهذا نوع من الاكرام لهم لأن الأبواب مفتحة لهم قبل وصولهم اليها فيكونون في حالة اطمئنان في مسيرهم الى الجنة. والواو في (وفتحت) هي واو الحالية أي وقد فتحت أبوابها أي وهي في حالة انفتاح أي سيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمراً حتى اذا جاؤها حال كونها مفتّحة ابوابها. فالنار اذن ابوابها موصدة حتى يساق اليها الكافرون فتفتح فيتفاجؤن بها وهذا نوع من الاذلال لهم واخافتهم وارعابهم بما سيجدون وراء الأبواب أما الجنة فأبوابها مفتوحة وهذا نوع من التكريم للمؤمنين.
سؤال 4: ما هو العلم اللدُّنّي (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) الكهف)؟
العلم اللدني هو مصطلح للمتصوفة يستعملونه بينهم ويشيرون بذلك الى أن هذا الصوفي أو هذا المتصوف بلغ من مراتب التقرب الى الله سبحانه وتعالى والانصراف اليه أن الله تعالى أطلعه على علم لم يطلع عليه غيره ونحن لا نخوض في مقدار صحة هذا الاعتقاد وأثره. وهم يبنون هذا على ما جاء في سورة الكهف في قصة موسى u مع صاحبه الرجل الصالح الذي ارسله الله تعالى الى موسى u والشيطان في كثير من الأحيان يدخل الى الانسان ويوحي له بأشياء بحيث يظن أنه وصل من أجلها الى العلم اللدني أو العلم الذي لم يعطى الى الآخرين حتى الى الأنبياء وبعض الصوفية يصل بهم الحال الى هذا الحد إذا لم يكن عارفاً بالشريعة (وهناك قسم يفرقون بين الشريعة والحقيقة) وبعضهم قد يستزله الشيطان بحيث يعطّل عباداته فيتوقف عن العبادة بحجة أنه وصل الى درجة لا يحتاج للعبادة لأنه عنده علم لدني هذا بالنسبة للمصطلح نوافق على هذا الكلام أو لا نوافق هذا أمر لا نريد أن نخوض فيه. وكلمة لدني (من لدن الله تعالى) أي أن هذا العلم من عند الله تعالى وليس من الكسب الشخصي ويقال لدني أي من لدن الله كلمة لدني منسوبة الى لدن الله تعالى عز وجل (والياء ياء النسب) كما في قوله تعالى (وعلّمناه من لدنا علما).
بُثّت الحلقة بتاريخ 19/11/2005م وتاريخ 22/11/2005م
2009-01-30 16:36:31