سؤال 231: ما هو حُكم البسملة في الصلاة؟
نحن تكلمنا في الحلقة الماضية على ما يتعلق بالبسملة ونوّهنا بآراء بعض العلماء في هذا المجال ووقفنا عند حديثين في البخاري وتكلمنا عنهما، لكن نريد أن نؤكد ما ختمنا به الحلقة وهو كلام ابن كثير رحمة الله عليه حينما قال: أجمعوا – ويعني علماء الأمة بكل مذاهبهم – يعني أجمع علماء الأمة بكافة مذاهبهم على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسرّ. ولذلك قلنا هي ليست موضع خلاف، إذا سمعت إمام المسجد يجهر بها فهذا على مذهب الذين يقولون بالجهر إعتماداً على الأحاديث، وإذا لم أسمعه معناه أسرّ بها فهناك آراء لكثير من العلماء تقول بالإسرار بها. فالمصلي خلف الإمام يقبل تصرّف الإمام سواء جهر بها أو أسرّ. والتحقيق العلمي والدراسة لها موضوع آخر، لكن نقول أن مصحف المدينة وما طُبِع عليه وكثير من المصاحف القديمة جُعِل الرقم 1 أمام البسملة يعدّونها آية فإذن هي ليست موضع خلاف أساسي في الحقيقة لأنهم أجمعوا على صحة صلاة الذي يجهر بالبسملة والذي يُسِرّ بها وهذا من أمارات وعلامات التسامح بين مذاهب المسلمين.
سؤال 232: ما هي الكتب التي يمكن الاستفادة منها في مخارج الألفاظ والأصوات؟
العناية بدراسة المخارج ودراسة صفاتها جزء من العناية بدقة ترتيل القرآن الكريم ولذلك نجد أن كتب التجويد تُعني بهذا. من الكتب القديمة الأساسية المهمة في هذا الباب كتاب التحديد لأبي عمرو الداني، محقق مطبوع، وكتاب الرعاية لمكّي إبن أبي طالب القيسي وكلاهما من علماء الأندلس. كتب التجويد الحديثة كثيرة وبعضهم يأخذ من بعض وفي المكتبات العشرات من هذه الكتب. الدارسون يقولون: علماء التجويد في هذه الجزئية عيالٌ على علماء العربية وجُلّهم كان من علماء العربية: أبو عمرو ومكّي من علماء العربية وكلاهما من قُرأة القرآن ممن تتصل قراءته بالسند الصحيح إلى رسول الله r، فلا ينقص هذا من قدرهم أنهم استفادوا من علماء العربية الآخرين. فكتب التجويد الحديثة بعضهم يأخذ من بعض ولا أريد أن أشير إلى أي كتاب منها حتى لا تكون وسيلة من وسائل الإعلان عنهم لأنهم أحياء. في كتب العربية عندنا مقدمة كتاب “العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي في الجزء الأول فيها دراسة ممتازة قيمة للأصوات. وعندنا كتاب سيبويه “الكتاب” في الجزء الثاني من طبعة بولاق ونحن دائماً نشير إلى طلبتنا بالرجوع إلى طبعة بولاق لأنها أدق الطبعات لأنه أشرف على تحقيقها عالم كبير من علماء الأزهر وبخِل على نفسه أن يكتب على الغلاف تحقيق فلان ولكن في ذيل الكتاب قال: “وكتبه خادم التحقيق محمود مصطفى” وهو من كبار علماء الأزهر رحمة الله عليه وكان محققاً مدققاً بحيث من جاء بعده واشتغل على كتاب سيبويه واشتغل على التحقيق لم يزد عليه شيئاً حتى الزُبد التي أخذها من شرح السيرة نقلتت كما هي ووضعت في الحاشية ولو جاء الذي من بعده ووضع فهارس لوحدها لقدّم خدمة كبيرة في الدرس اللغوي.
كتاب سيبويه إسمه “الكتاب” في الجزء الثاني من طبعة بولاق لأنها أدق الطبعات، في الجزء الثاني من الكتاب هناك دراسة عن الإدغام قدّم لها سيبويه بدراسة رائعة نفيسة عن الأصوات اللغوية في مخارجها وصفاتها وفي تعاملها حينما يقترب صوت من صوت ماذا يكون؟ متى يُدغم ومتى لا يُدغم؟ متى يتحول الصوت إلى الصوت الفلاني؟ دراسة من أمتع الدراسات التي أعجب بها علماء الأصوات في الغرب أنه أيعقل أنه قبل ألف عام كان هناك علمٌ عند العرب بهذا الشكل؟!.
وعندنا “سر صناعة الإعراب” لإبن جنّي وهو كتاب عالج الأصوات اللغوية صوتاً صوتاً في المخارج والصفات والتعامل وقد اعتمد اعتماداً كلياً على كتاب سيبويه وزاد عليه.
في الدراسات الحديثة كتب الأصوات كثيرة جداً في الوقت الحاضر وأيضاً بعضهم يأخذ من بعض. أشير إلى كتابين لأنه توفي مؤلفيهما فليس فيه نوع من الدعاية: الكتاب الأول لإبراهيم أنيس رحمة الله عليه وهو أقدم ما كُتب في الأصوات اللغوية ومن الكتب القيمة الممتازة، وكتاب “علم اللغة” للدكتور محمود السعران رحمة الله عليه وكتابه أيضاً من خيرة ما كُتِب سواء في الأصوات أو في علم اللغة أو اللسانيات بشكل عام وهو قال هذه مقدمة وهذا هو عنوان كتابه ” علم اللغة مقدمة للقارئ العربي”. وهناك دراسات كثيرة لأساتذة من مصر، لأساتذة من السعودية، لاأساتذة من العراق ومن بلاد الشام في الأصوات خلاصتها: الكل عيال على ما كتب القدامى وما ورد عند إبراهيم أنيس ومحمود السعران رحمة الله عليهما وهناك كتب قيمة أصحابها أحياء. وقد نُشِر لي في الأصوات اللغوية ثلاثة كتب تناولت المخارج والصفات لكن بوصفي ممن زال حيّاً لا أشير لشيء مما كتبت ولا أنصح بالرجوع لكتب الأحياء الحديثة وإنما أنصح بالرجوع لكتب المتوفّى لأن المتوفى بذل كل ما استطاع في دراسته قبل وفاته. الإنسان يمكن أن يغيّر فقد تقول في دراسة من دراساتك صوت القاف هو صوت ثابت غير متحول ثم في دراسة أخرى بعد ذلك تقول: ثبت عندي أن صوت القاف متحول أو العكس لكن لما يتوفى الباحث أو الدارس نقول هذا آخر ما وصل إليه. المستشرقون أيضاً لديهم كتب منها كتاب “التطور النحوي للغة العربية” هو كتب في الأصل باللغة العربية ثم جاء أحد الأساتذة – د. رمضان عبد التواب رحمه الله – وأعاد اعتماده على بعض الملاحظات وكتب عليه تحقيق وأثيرت مشكلة والطبعة القديمة صدرت عام 1929م. بعض كتب التجويد فيها صور توضح وضعية اللسان والفك الأسفل عند نطق هذا الصوت فيستفيد منها، المهم لا بد أن يؤخذ التجويد من شيخ وإلا ففائدته تكون قليلة فعلى الراغب في تعلمه أن يشتري كتاباً في التجويد ويقرأه على شيخ.
سؤال 233: ما هو إعراب كلمة (وأرجلَكم) في الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (6) المائدة)؟
القيام في هذه الآية (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) بمعنى الوقوف والتهيؤ للذهاب إلى الصلاة وليس عندما يريد أن يصلي – ينوي وهو على سجادة الصلاة – وإنما حين يذهب ليؤدي الصلاة ينبغي أن يتوضأ. اللغة العربية لغة مُعربة يعني فيها رفع ونصب وجر وجزم بحيث أنك تستطيع أن تعرف الفاعل من المفعول به حتى مع التقديم والتأخير، فلما يقال لك: أكرم علياً محمدٌ تعلم أن الأول أي علي وقع عليه الإكرام بدليل الحركة والإعراب. ويضربون مثلاً من الأسماء والأفعال كيف أن العربية استطاعت بالحركات أن تميز المعاني وعندنا مثالان سنقف عندهما لأنه ينبني عليهما تفسير حقيقة الآية:
لو قيل : ” ما أحسنْ زيد” من غير إعراب سوف تلتبس ثلاثة معاني. يمكن أن يقال: ما أحسنَ زيدٌ أو يقال: ما أحسنَ زيداً أو يقال: ما أحسنُ زيدٍ، ثلاثة معاني. فلما قال: “ما أحسنَ زيدٌ” معناه نفى الإحسان عن زيد أي أن زيد مسيء وليس محسناً، هذا معنى، أن زيداً لم يصدر منه إحسان. ولما يقال: ما أحسنَ زيداً، يكون متعجباً من حُسن زيد وهذا معنى ثاني والحركة هي التي غيّرت المعنى. وإذا قال: ما أحسنُ زيدٍ؟ هذا سؤال عن أحسن شيء في زيد فيقال: علمه، خلقه، حياؤه. إذن هذه مهمة الحركات في العربية. هذا في الأسماء.
ليس في الأسماء فقط وإنما في الأفعال أيضاً ومثالهم المشهور من حيث الفعل:” لا تأكل السمك وتشرب اللبن” وأنا غيّرت فيه حتى أتجاوز الكسر بالتقاء الساكنين، فلو قيل: “لا تأكل سمكاً وتشرب لبناً” من غير حركات يمكن أن تلتبس ثلاثة معاني: (وتشربْ) بالسكون، (وتشربَ) بالفتح، (وتشربُ) بالضم. لو تصورنا أن إنساناً دعا ناساً لطعامه ووضع على المائدة الطعام ودخل أول ضيف مستعجلاً وجلس وعلى المائدة سمك ولبن وأشياء أخرى، فإذا قيل للضيف: “لا تأكل سمكاً وتشربْ لبناً” العربي يفهم من هذا أنه ممنوع من أكل السمك وشرب اللبن فليس له أن يأكل وليس له أن يشرب بل ينتظر إخوانه. لكن إذا قيل له: ” لا تأكل سمكاً وتشربَ لبناً” يفهم من هذا أنه إذا رغبت في أكل سمك فكُل بشرط أن لا تشرب اللبن أو إذا أرغبت في شرب اللبن فاشرب بشرط أن لا تأكل السمك وهذا معنى آخر هذا فيه إباحة والأول كان فيه منع، وهذا إباحة أحد الفعلين فأنت بالخيار. وإذا قيل “لا تأكل سمكاً وتشربُ لبناً” يفهم أنه يمنع عليه أكل السمك لكن له أن يشرب اللبن. فالحركات إذن لها أهميتها.
ننظر في هذه الجملة: لو قال لك قائل: “أكرمت خالداً وأعرضت عن زيدٍ” إذن المُكرَم هو خالد وزيدٌ معرض عنه. فإذا جاءت الواو وقال (وصالح) ينبغي أن يحرّكها حتى أفهم هل صالح مكرم أو معرض عنه؟. فإذا قال (وصالحٍ: أي أكرمت خالداً وأعرضت عن زيد وصالحٍ) أفهم أنه أعرضت عن زيد وصالح، وإذا قلت (وصالحاً) معناه أكرمت خالداً وأعرضت عن زيد وأكرمت صالحاً من الإعراب. وهنا الإعراب لا يكون عطفاً ولكن يكون على تكرار العامل كأنه يقول : وأكرمت صالحاً.
في الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) اغسلوا تأخذ المفعول به (وجوهَكم) مفعول به عُطف عليه (وأيديَكم إلى المرافق) ثم قال (وامسحوا برؤوسِكم) جاء بهذه الباء، العلماء يقولون لترتيب الأفعال: أنت تبدأ بغسل الوجه ثم اليدين إلى المرفقين ثم تمسح الرأس ثم مسألأة الأرجل. فلما قال (وأرجلَكم) منصوبة إذن هي معطوفة على منصوب كما في المثال السابق (وصالحاً) منصوبة معطوفة على منصوب إذن صالح مكرم وليس معرضاً عنه. هنا (وأرجلَكم) بالنصب معناه الأرجل مغسولة وليست ممسوحة وليست معطوفة على (برؤوسكم) وإنما وأرجلَكم بالنصب ورتّبها هكذا من أجل الترتيب، وهذه القراءة عدد من القراء السبعة قرأوها بالنصب.
قرأ بعض السبعة (وأرجلِكم) بالكسر لكن القراءات يفسر بعضها بعضاً. عندنا قراءة أخرى بالنصب إذن لما يقرأ (وأرجلِكم) بالكسر لا يعني به المسح على الأرجل كالمسح على الرأس وإنما يعني الإقتصاد في استعمال الماء لأن القدمين مظنّة الإسراف في استعمال الماء. فأنت يمكنك أن تغسل وجهك بكفٍ من الماء وتكتفي به، أن تضع في كفك بعض الماء وتغسل به يدك إلى المرفق وتكفي ولكن لو جربت مرة واحدة ووضعت على قدمك بقدر ما تضعه على يدك لا يكفي فهي إذن مظنة الإسراف. هذه القراءة الثانية (بالكسر) تحدد إستعمال الماء يعني كأنه مسح ومعناه استعمال ماء قليل ويمسح بهذا الماء القليل على سائر قدمه إلى الكعبين لأن عندنا أحاديث صحيحة “ويل للأعقاب من النار” فينبغي أن يتضمن الماء الكعبين.
الفرق بين الغسل والمسح: أن الغسل المفروض فيه أن يجري الماء على العضو أما المسح فيكون بتبليل اليد ويمسح على العضو وليس هناك ماء يجري. والثابت عند جمهور المسلمين كابراً عن كابر، ملايين عن ملايين أنهم أخذوا عن رسول الله r غسل القدمين وإدخال الكعبين فيهما، فلما تردنا قراءة (وأرجلِكم) نفهم أنها تعني الإقتصاد في الماء. فسرها علماء النحو وقالوا: العطف هنا على الجِوار، هو في الحقيقة يجب أن يكون منصوباً ولكن جرّه بالمجاورة كما قالت العرب: هذا جحر ضبٍّ خرِبٍ، ليس الضبّ هو الخرِب وإنما الجحر هو الخرب. عند المجاورة أحياناً يُجرّ، المعنى واضح الجحر هو الخرب فهو يريد : خرِبٌ ولكن قال (خرِبٍ) بالجوار، لأنها جاورت مكسوراً فكسرها للمجاورة، عند المجاورة يجرّ. فسر أن هذه القبائل العربية التي قرأت بالكسر كانوا يغسلون لكن جرّوا بالكسر بالجوار كما جروا: هذا جحر ضبٍ خرِبٍ. وهي في كل الأحوال تُغسل لأنه هذا الذي ورد عن أصحاب رسول الله r وعن آل بيت النبوة رضي الله عنهم جميعاً أن كل ما روي عنهم روي عنهم الغسل.
سؤال 234: ما دلالة (ورسولُه) بالضم في الآية في سورة التوبة (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (3))؟
عندنا (أنّ) التي هي أخت (إنّ) لكن فُتِحت همزتها. (أن الله بريء) إسم الجلالة هو إسم إنّ وبريء هو خبرها وتمّت الجملة. وجاءت (من المشركين) تكملة بريء، بريء من ماذا؟ (من المشركين) متعلقة ببريء. ثم جاءت كلمة (ورسولُه). لو أخذنا هذا المثال: علمت أن زيداً مبتعدٌ عن الأصحاب، ونريد أن نذكر كلمة (وخالد). لنا في هذه الكلمة ثلاث صور: إما أن نقول: وخالداً وله معنى أو نقول: وخالدٌ وله معنى أو نقول: وخالدٍ وله معنى. لما تقول علمت أن زيداً مبتعد عن الأصحاب (وخالداً) تعني وإن خالداً مبتعدٌ عن الأصحاب واضحة وفيها معنى التأكيد لأن (أنّ) فيها التأكيد فكأنك تريد أن تؤكد ابتعاد زيد عن الأصحاب وتؤكد ابتعاد خالد عن الأصحاب. لو قلت (وخالدٌ) انتهى التأكيد وبدأت جملة جديدة يعني: (وخالدٌ كذلك)، وخالد مثله، وخالد مبتعد، جملة جديدة تريد أن تبني شيئاً على إسم خالد، هذا مبتدأ خبره محذوف دلّ عليه ما تقدمه يعني وخالدٌ مبتعد عن الأصحاب وأسقطنا كلمة مبتعد عن الأصحاب لوجودها. فنسبنا إلى خالد الابتعاد عن الأصحاب. لك أن تقول: “علمت أن زيداً وخالداً مبتعدان عن الأصحاب” لكن تتغير الجملة والمعنى يصبح شيئاً آخر لكن أنت تريد أن تجعل لخالد كيانه المستقل (وخالد كذلك) يكون من عطف الجملة على الجملة. أما لو قال (وخالدٍ) معناه زيد مبتعد عن هؤلاء ومبتعد عن خالد الذي دخل في زمرة المبتَعد عنهم فالمعنى تغيّر.
نعود للآية (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) القراءة الموجودة بالضم، ما وجدت قراءة فيما رجعت إليه لا عند القُرّاء العشرة ولا فيما زيد عليهم في الأربعة بغير الضم، كلها (ورسولُه) مع أنه من حيث اللغة يمكن أن يقال (ورسولَه) لكن التأكيد يختلف قليلاً يعني نسبة البراءة من المشركين إلى الله سبحانه وتعالى ولو قلنا في غير القرآن (ورسولَه) سنسب إليه البراءة من المشركين فيه نوع من التأكيد يعني نستحضر إن المؤكدة بينما هنا لم يستحضر التأكيد. (ورسولُه) من غير تأكيد كأنه قيل في غير القرآن (ورسولُه بريء من المشركين) جملة جديدة نسبة البراءة للرسول r من المشركين بجملتها تابعة لبراءة الله تعالى لكنها خالية من التأكيد. براءة الله تعالى مؤكدة (أن الله بريء) يقيناً، (ورسولُه) بريء أيضاً، جملة جديدة لا تحتاج إلى تأكيد يعني فيها نوع من التبعية كأن براءةالرسول r تابعة لبراءة الله عز وجل.
لو قلنا (ورسولِه): الفتح الذي حافظ على المعنى لم يُقرأ به يعني ما أحد من العرب قرأ (ورسولَه) لأنهم أدركوا الفارق الجزئي. يبقى (ورسولِه) يقال سبب تشكيل النحو وهو ليس حقيقة لإقامة النحو العربي لأنه لم يكن في ذهنهم موضوع النحو وإنما الذي كان في ذهنهم أن يضبطوا ألسنة الناس في تلاوة كتاب الله تعالى ويقولون الذي أشار إليه زياد ابن أبيه الذي كان والياً على البصرة والبصرة كان فيها مفاسد كثيرة وخراب فحاول أن يصلحها حتى أنه خطب خطبته العصماء التي قال فيها (لآخذن المقيم بالضاعن) فقال له أحد الأشخاص: أيها الأمير قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، قال: كذبت ذاك نبي الله داوود، لا أريد منافقين. البصرة كانت مختلطة وكانوا يخطئون في كتاب الله عز وجل فأرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وهو من أقدم النحويين – إن صحّ أنه وضع شيئاً في النحو- يقولون هو من دؤل هل هو ملاهم أو كان صليبة والراجح أنه عربي ولا يقدم أو يؤخر أصله-، المصحف لم يكن منقوطاً ولا مشكّلاً وليس فيه صورة الهمزة ولا السكون ولا الشدة وموجودة مخطوطات وإنما جسم الحرف القرآني موجود. لذلك كان الحفظ في الصدور والحفظ على الشيخ حتى لا يقع فيما وقع فيه أحد القُرّاء السبعة وهو حمزة الزيات لما قرأ (ألم ذلك الكتاب لا زيت فيه) لأن أباه كان يبيع زيت القناديل فقال له: دع المصحف وخُذ من أفواه الرجال، فذهب إلى القبائل الفصيحة يسمع منهم القرآن وصار من ممثلي هذه القبائل وصار قارئاً من القرّاء السبعة. فكان لا بد أن يؤخذ القرآن على شيخ حتى تتقنه ويُحفظ. أبو الأسود الدؤلي رفض مع عنفوان زياد وشدته الذي قال له ضع للناس شيئاً يعصم ألسنتهم من اللحن، من الخطأ في القرآن. قال كيف أضع شيئاً ما وضعه صحابة رسول الله؟ فقال: هو والله خير. ألحّ عليه زياد فرفض ولم يقتنع إلى أن وضع زياد إبن أبيه على مدرجته (على الطريق) قارئاً بصوت جميل قال إذا جاء أبو الأسود الدؤلي فاقرأ قوله تعالى (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) وإقرأها بالكسر (ورسولِه) وهذا طبعاً يقلب المعنى. أن الله يبرأ من المشركين ويبرأ من رسوله، فلما سمعها أبو الأسود الدؤلي جاء هو إلى زياد فقال: إبغني كاتباً ووضع علامات الفتحة والكسرة والضمة على شكل نقاط مطموسة – دائرة مطموسة من الأسفل – والذي يذهب للمتاحف يجد نماذجاً من هذه المصاحف بحركات أبو الأسود الدؤلي: نقطة فوق الحرف فتحة، نقطة أمام الحرف يعني ضمة، نقطة تحت الحرف يعني كسرة فوضع بجوار اللام (ورسوله) نقطة ونقّط المصحف كله وقال للكاتب: إذا ضممت فمي في الحرف فضع نقطة بين يديه (نقطه مطموسة)
نستفيد من الآية، الإعراب وكيف بدأ أول عملية في التشكيل. والقول المشهور (انحُ هذا النحو) منسوب إلى الإمام علي رضي الله عنه أعطاه ورقة فيها أن الكلمة إسم وفعل وحرف وقال: انحُ هذا النحو يا أبا الأسود فزاد عليها أبو الأسود لكن أول كتاب في النحو فيه مادة نحوية وصل إلينا هو كتاب سيبويه وقبله لم يصل إلينا أي كتاب نحوي لا من أبي الأسود الدؤلي ولا من عيسى ابن عمر ولا من أبي عمرو بن العلاء الذين تقدموا سيبويه ولا حتى من الخليل لكن علم الخليل في كتاب سيبويه. أبو الأسود كان له ما كان ولا من عبد الله بن اسحق الحضرمي كان لديه مماحكات مع الفرزدق ومع ذلك لم يصل إلينا شيء منه وما عندنا أي شاهد يثبت أن أبا الأسود حتى لما قالت له ابنته: ما أجملُ السماء، قال: نجومها، قالت أردت أن أتعجب، قال: قولي ما أجملَ السماء وافتحي فمك باللام، هذه حكايات وحكايات كتب النحو والأدب يقف الإنسان منها موقف الحذر ولا يقبل كل ما ورد. بالمناسبة المستشرقون نشروا لنا كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وهو يضع الأسانيد حدثني فلان عن فلان عن فلان لكن محمد بن الحسين قاضي قضاة بغداد قال: ما رأيت أكذب من أبي الفرج الأصفهاني كان يدخل دكاكين الورّاقين ينسخ منها ويقول حدثني فلان عن فلان!.فيجب أن نحتاط.
سؤال 235: ما حصل بين العبد الصالح وموسى في سورة الكهف لم يعترض عليه إلا موسى فهل كانت الأمور خفية بحيث لا يراها إلا موسى؟
تكلمنا عن هذا سابقاً ، لكن باختصار نقول لا نشك من خلال الواقعة أن الخضر كان غير مرئي وإنما كان مرئياً. بعض الروايات تقول أن أهل السفينة عرفوا الرجل معنى ذلك أنه نزل في مكان في السفينة بحيث لم يشاهده إلا موسى u وإلا لاعترضوا عليه أو كانوا يأخذون على يده، واضح أنه الذي يقلع لوحاً قج يغرق الجميع يأخذون على يده. فالظاهر أنه جاء في مكان بحيث لم يكن معه إلا موسى u وقلع اللوح. في قتل الغلام يقيناً لم يكن معه غير موسى وإلا كانوا أخذوا على يديه. أما الجدار فهم حتى إذا رأوه لن يعترض عليه أحد لأنه عمل خير أما موسى u فاعترض عليه لأنه جائع.
سؤال 236: قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) الأحزاب) مم برّأه الله تعالى؟
الآيات لا تقول لنا مم برّأه ولا ما الذي قالوه لكنها تدعوا المسلمين أن لا يكونوا كهؤلاء الذين آذوا نبيّهم. أي يا أيها الذين آمنوا لا تؤذوا محمداً r بشيء، أي نوع من الإيذاء، وذكّرهم أن موسى u آذاه قومه فبرّأه الله من هذا الأذى فهو نهي عن إيذاء محمد r. لم يحدثنا ما هو. عندنا روايات في الكتب: يمكن أنهم قالوا له “اذهب أنت وربك فقاتلا”، أو عندما عبروا وقالوا “اجعل لنا إلهاً: وهذا أشد إيذاءً. هم مشوا على أرض وكانت الأرض مغطاة بماء بأمر الله سبحانه وتعالى وبمجرد أن خرجتم يا بني إسرائيل رأيتم أناساً يعكفون على أصنام لهم أردتم صنماً تعبدونه؟!، هذا أذى. هناك روايات أخرى بعضها يذكر أربع صور من الأذى مختلفة قيل كذا وقيل كذا، أشاعوا عنه شيئاً يتعلق ببدنه وهذا كلام لا ينفعنا لكن المهم أن المؤمنين منادون بأحب الأسماء إليهم (يا أيها الذين آمنوا) أن لا يرتكبوا ما يؤذي رسول الله r فالمسلم يتفكر إلى قيام الساعة أنه هل كلامي هذا أو فعلي هذا يؤذي رسول الله r؟ لأنالرسول r يقول: إني مباهٍ بكم الأمم، مفاخرٌ بكم الأمم، هل هذا العمل يؤدي إلى إيذائه r؟ إن كان يؤدي إلى ذلك يفترض أن لا أفعله.
هل هناك مواءمة دلالية بين برّأ وآذى؟ التبرئة من هذا الأذى كما قالوا (أنا برءاء منكم) أي بريئون من هذا الذين تفعلونه، نحن خارج هذه المنظومة، خارج هذا الإطار فهؤلاء قالوا كلاماً، موسى ما سمع هذا الكلام أخرجه الله من هذا الإطار، جعله الله تعالى بريئاً مما قالوا وأقوالهم المؤدية متعددة وليست قولاً واحداً والله سبحانه وتعالى لطف بهم كثيراً جلّت قدرته لأنهم كانوا في زمانهم أتباع الرسول r المرسل فلطف بهم مع أنه عاقبهم في التيه لما اتخذوا العجل بمجرد أن غادرهم موسى (هذا إلهكم وإله موسى).
ما القيمة التعبيرية في استعمال إسم الموصول (الذين) في (كالذين آذوا موسى)؟ لم يقل كبني إسرائيل مثلاً؟
هذا فيه نوع من الابعاد لهم فلو ذكرهم لقرّبهم. عندما يخاطبهم أو يبكّتهم أو يدعوهم أو يذكرهم في الأحكام الشرعية يقول: يا بني إسرائيل، لكن هنا في موطن الأذى لا يستحقون الذِكر فقال (لا تكونوا كالذين آذوا موسى) الإعراض عن ذكر اسمهم مقصود. وتكون أيضاً مواءمة بين (الذين آمنوا) و(الذين آذوا) كما قال في سورة يوسف (وراودته التي هو في بيتها) الاستعانة بإسم الموصول لأداء هذا الغرض البلاغي.
سؤال 237: ما القيمة الفنية لقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) و(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)؟
هذه فيها مقالات طويلة حتى كتب مصطفى صادق الرافعي “كلمة مؤمنة في الرد على كلمة كافرة” بعضهم قال العرب تقول: القتل أفنى للقتل، فكتب في الفرق العظيم بين قولهم القتل أفنى من القتل التي فيها دماء وبين قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) التي فيها حياة وتلك فيها دماء. والسيوطي ذكر عشرين فرقاً في كتابه المزهر في اللغة والرافعي زاد عليه.
الآية بتمامها (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) البقرة). كلمة القِصاص مأخوذة من فعل قصّ يقصّ. في الأصل بعض العلماء قال أصل القص هو القطع، وبعضهم يقول أصل القص تتبّع الأثر تحديداً، الأثر الذي قد يكون خطاً ومنه قصّ الثوب لأن الثياب لم تكن تُقصّ إلا بعد أن يوضع عليها خط أين يقص. فكأن هذه الآلة التي هي المقص وإن قال بعضهم مقصان كل جزء مقص لكن سيبويه قال مقص. الذي يقص بالمقص هو يتتبع أثراً. القِصاص من قصّ يقص قِصاصاً مثل قولك عاقب يعاقب عِقاباً ومعاقبة، قصاصاً ومقاصّة. فعقاب مثل قِصاص هو المصدر. المصدر هو الحدث المجرّد من الزمان لأن الفعل عادة فيه حدث وزمن. مثل ذَهَبَ، فيه حدث الذهاب، وزمن ماضي فلما تلغي الزمن أن يكون ذهاباً بدون زمن يكون مصدراً، وهذا معنى قولهم المصدر هو هذا الحدث المجرد من الزمن. القِصاص لكم فيه حياة. حياة لكم أي للمجتمع. وكلمة (حياة) جاءت نكِرة فأخّرها على سُنّة العرب في كلامها. (لكم في القصاص حياة) الإسلام يريد مجتمعاً هانئاً، آمناً فذكر القِصاص. أما مقولة (القتل أنفى للقتل) هذه كلمة، مقولة عربية يوازنوها أحياناً بـ (ولكم في القصاص حياة) ويبينون معايب هذه الكلمة التي تبدو لأول وهلة جميلة (القتل أنفى للقتل) ولكن عندما ندقق في الآية نجد سمو التعبير (ولكم في القصاص حياة). أما (القتل أنفى للقتل) يقول بعضهم أنها كلمة جاهلية وحتى لو كانت جاهلية تحمل رائحة الدم وليس فيها رائحة بناء المجتمع. أما كلمة (القصاص حياة) كلمة موجزة. القصاص فيه حياة للمجتمع. القصاص لم يحدد القتل وإنما هو عدالة. لما تقول قصاص أي أنت تتتبّع الذي فعله المخالِف (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) تقصّ فعله، تتتبع فعله حتى تعاقبه بمثل فعله، اختصرت بكلمة قصاص مهما كان الشخص الذي قتل أميراً أو حاكماً أو سيداً في قومه فيقتل وحده وليس عشيرته كلها. الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما ضربه الأعرابي الجلف وقال: فزت (أي فاز بقتله أمير المؤمنين)، قيل له ماذا نصنع؟ قال إن أبقاني الله فأنا وليّ دمي (أعفو عنه أو أقتله) وإذا مت فضربة بضربة. وفعلاً ضربوا القاتل ضربة واحدة ولم يمثّلوا به. وتروى أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ضُرِب قال: ضربة بضربة. ما عندنا هذا الحقد حتى وهو يجود بنَفَسِه وجرحه يَثْعُبُ (يتفجر) دماً ما كان عنده هذا الحقد. وأخذ الفقهاء منه جواز الصلاة مع خروج الدم لأنه صحابيان عمر وعلي كلاهما صلّى بدمه. يتبِّع ماذا فعل؟ كسر إصبعاً منه إما أن أدفع عدل الإصبع (الأرش) – الأرش مقابل الفعل لما دون القتل – لأنه بعد ذلك رُخِّص للمسلمين بقبول المقابل أو العدل. أما الدية فهي مقابل القتل. بينما القتل أنفى للقتل هذه مقولة تتكلم فقط عن القتل وما ذكرت بقية الأحوال التي يصار بها في المجتمع بينما القصاص شامل ذكر كل هذه الأشياء، فضلاً عن أن كلمة القتل أنفى للقتل كما يقول علماؤنا خطأ لأنه ليس دائماً القتل ينفي القتل ففي بعض الأحيان القتل يجلب قتلاً (قتل الظلم، قتل التعدّي) كما يقولون (ومن يظلم الناس يُظلَم) وليس هكذا مفهوم الإسلام.
أحياناً هناك أشياء ثابتة في المجتمع لا تستطيع أن تمحوها لكن تستطيع أن تعدّل وجهتها. (لا يسألون أخاهم حين يندهم في النائبات على ما قال برهانا) وقال رسول الله r: “انصر أخاك ظالماً أو مظلوما” فتعجّب الصحابة فقالوا: ننصره مظلوماً فيكف ننصره ظالماً؟ قال: أن تأخذ على يديه فذلك نصرك له، إمنعه من الظلم. هذا هو النصر، فتعديل بعض القيم الثابتة تعدل بما يناسب الإسلام. ثم كلمة (حياة) نكرة والنكرة لا تؤدي معنى واحداً في كل موضع وإنما لها في كل موضع معنى. في هذه الآية (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) هل هي حياة سيئة أو حياة عظيمة؟ حياة نبيلة، عظيمة، قيمة لما نسمع السياق تعطي معنى الحياة السعيدة الهانئة، حياة صِفوها بما شئتم من أوصاف الخير. ولكن لما تكلم على اليهود (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) من السياق تعطي معنى حياة تافهة مع أنها نكرة في الحالتين لكن التنكير في الآية الأولى يحمل صفات العظمة من خلال السياق ولا أحد يستطيع أن يجادل في هذا لأن السياق يقول ذلك، وفي الآية الثانية واضح أنها أي حياة، تافهة مهما كانت.
بُثّت الحلقة بتاريخ 2/9/2006م
2009-01-27 19:21:44