سؤال 310: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (89) البقرة) (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ (91) البقرة) (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (101) البقرة) متى يرفع كلمة مصدق ولماذا ومتى ينصب ولماذا؟
لعل الذي لفت نظر السائل أو السائلة في بعض المواضع لما يقول مثلاً في قول الله سبحانه وتعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (89) البقرة) وفي موضع آخر قال )وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ (91) البقرة)، كلمة (لما معهم) تتكرر. (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (101) البقرة) فكأنه وجد أن الكلمة تتكرر لكن مرة رآها منصوبة ومرة رآها مرفوعة ولو كان لديه بعض المعرفة بقواعد النحو ما كان أشكل عليه الأمر. عندنا في الأصل النكرة تحتاج إلى وصف أكثر من حاجتها إلى بيان حال ولذلك قالوا الجُمَل – عندما تحدثوا عن الجُمل -بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال. لما نقول رأيت رجلاً يركض، جملة يركض صفة لرجل لأن رجل نكرة لكن لو قال رأيت الرجل يرككض أو رأيت زيداً يركض، يركض ستكون لبيان حاله، فالنكرة تحتاج إلى وصف حتى تتبين أما المعرفة يبيّن حالها. هكذا لما قال الله عز وجل (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (كتاب) نكرة قال بعدها (مصدقٌ لما معهم) فجاء به وصفاً لكتاب وكتاب مرفوع فتكون الصفة (مصدقٌ) مرفوعة، هذا في الآية (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (89) البقرة).
الآية الأخرى في السورة نفسها (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ (91) البقرة)، (وهو الحق) معرفة فقال: مصدقاً، لو قيل في غير القرآن: وهو حقٌ مصدقٌ لأنه كما قلنا نكرة تحتاج إلى وصف لكن لما عرّفه (وهو الحق) يعني هو الحق ولا شك في ذلك والكلام على القرآن، يعني هو الحق لا ريب فيه كأن الحق مجسماً بهذا القرآن الكريم فجاء بالحال يعني في حال تصديقٍ لما معكم أن هذا القرآن يصدق لما معكم، الذي معهم هم كأنهم متلبسون بهذه المعية، الذي معهم هو التوراة وما حولها التوراة وما حولها فيها أوصاف للرسول r بالمكان الذي سيظهر فيه، ببعض صفاته، إذن هذا القرآن يصدق الأوصاف لهذا الرسول r أو مصدق لما معكم من التشريعات التي لم تُنسخ أو التي لم تُحرّف فهو في بيان حال.
والآية الأخرى في البقرة (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (101) البقرة) كأنما هم لم يعلموا أن هذا هو تصديقٌ لما عندهم، كأنهم لا يعلمون، تكلفوا أن يظهروا بهذا المظهر فإذن (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) (رسول) نكرة فقال (مصدق). فإذن تكون القاعدة العامة، قاعدة النحويين وهم لم يضعوا قاعدة من عند أنفسهم وإنما لما استقرأوا اللغة وجدوا أن العرب هكذا تتكلم، إذا كان عندهم نكرة فيُحرص على أن يؤتى بوصف مطابق لهذه النكرة وإذا كان معرفة يؤتى به حال عند ذلك.
سؤال 311: ما الفرق بين بإذن الله وبإذني؟ وما الفرق في استعمال الضمير فيها وفيه؟ وما دلالة إستعمال إذ وعدم إستعمالها في الآيات (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) آل عمران) (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) المائدة)؟
بإذني وبإذن الله:
الكلام كان عن سيدنا عيسى u في الآية الأولى في سورة آل عمران (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)) الكلام على لسان الملائكة ونقل لكلام الملائكة ثم بدأ كلام مريم عليها السلام متجهاً إلى الله سبحانه وتعالى (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48)) وجيهاً في الدنيا والآخرة ويعلمه، هذا العطف. ما زال الكلام على لسان الملائكة لمريم. وجيهاً ورسولاً إلى بني إسرائيل، رسول بماذا؟ (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)) يعني عيسى u هو سيقول هذا الكلام، إذن الكلام صار يجري على لسان عيسى u (حكاية حال ماضية) في الماضي قال هكذا. العلماء يسمونها حكاية حال ماضية أي في الماضي هذه حاله. فإذن الذي بدأ يتكلم الآن سيدنا عيسى u فقال: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) ما هذه الآية؟ بيان هذه الآية؟ (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)) بيان هذه الآية (فأنفخ فيه) يعني أنا لأنه يتكلم عن نفسه فقال (فأنفخ).
لما ننتقل إلى الآية الأخرى: الكلام هنا من الله سبحانه وتعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) المائدة) الكلام معه وليس على لسان عيسى u فقال (فَتَنْفُخُ فِيهَا) إذن لما قال هناك (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ) لأن كان u يتكلم عن نفسه، أما هنا (تخلق) (فَتَنْفُخُ فِيهَا) الكلام من الله عز وجل إلى عيسى u. هذا جزء من السؤال لماذا قال فأنفخ وتنفخ، هذه واحدة، يبقى مسألة (فيه وفيها).
فيه وفيها:
هو خلق لهم بمعنى التكوين أو الصنع أو صنع شيء من مواد أولية كان الله سبحانه وتعالى قد جعلها بين أيدينا، الإيجاد على غير مثال سابق هذا لله سبحانه وتعالى من لا شيء، وتوجده حتى على غير مثال سابق من أشياء خلقها الله عز وجل مثل السيارة والنظارة لكن من مواد أولية خلقها الله سبحانه وتعالى هذه يمكن أن يفعلها الإنسان ما فيها ذرة من إيجاد الإنسان من لا شيء (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ (11) لقمان) ماذا أوجدوا من لا شيء؟ أما الإيجاد من أشياء موجودة خلقها الله عز وجل هذا ما قلنا (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) المؤمنون). هو صنع هيئة طير من طين، عندنا هيئة الطير والطين فإذا أريد الإشارة إلى الهيئة قال (فأنفخ فيها) يعني في هذه الهيئة أي في هذه الصورة. هو صنع صورة تشبه الطير فهذه الصورة هي هيئة طير من طين، فإذا أراد أن يشير إلى الهيئة قال أنفخ فيها يعني في هذه الهيئة وإذا أراد أن يشير إلى الطين قال فأنفخ فيه يعني في الطين فمرة نظر إلى الهيئة ومرة نظر إلى الطين الأصل. ولكن يبقى السؤال لماذا هنا نظر إلى الهيئة وهنا نظر إلى الطين؟
نلاحظ هنا (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)) هذا كلام عيسى u (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا) أنفخ في الطين هنا، (فيه) أي في هذا الطين. هيئة الطير من طين فإذا أراد أن يقول إن النفخ صار في الطين يعني ذكر أصل التكوين الذي هو طين حتى يذكرهم أن هذا طين جعلت منه طيراً، عندنا قراءة نافع (فيكون طائراً) يطير أو من الطيور. هنا يريد أن يكلمهم عن معجزة، عن شيء معجز والشيء المعجز إذا قدّمه حالة واحدة تكفي، يأتي بطين يصنع منه كالطير ينفخ فيه فيكون طيراً ويطير، هذه تكفي في الحجة على صدق نبوءته، حالة واحدة تكفي. فلما كان يتحدث عن حاله معهم ذكر حالة واحدة وكان الإشارة إليها بالتذكير (فأنفخ فيه) أي في هذا الطين الموجود بين أيديكم.
الآية الأخرى كانت في تعداد نعم الله عز وجل على عيسى u ولذلك جاءت (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) كله اذكر هذا واذكر هذا، نُظِر فيه إلى الهيئة وجاء التأنيث لأن التأنيث أصلح للتعدد. لما تقول لغير العاقل “الشجرات فيها” لما تقول (فيها) يعني متعددة كأن الهيئة صارت أكثر من حالة فهي إذن في مجال بيان تعداد نعم الله سبحانه وتعالى عليه فاختار التأنيث لأن التأنيث أليق مع جمع غير العاقل. تعداد النِعم كثير يعني هو يذكر له نعماً كثيرة: اذكر كذا واذكر كذا (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي). لما قال (فيها) معناه صارت هيئات متعددة لأن الإشارة بضمير المؤنث (فيها) يشير إلى هذا التعدد، فهذا هو الاختيار. هو من حيث اللغة الأصل أنه إذا نظر إلى الهيئة أنّث وإذا نظر إلى الطين ذكّر فمرة نظر إلى الهيئة ومرة نظر إلى الطين. لكن الذي قوّى اختيار النظر إلى الهيئة أن ضمير المؤنث يشار به إلى المتعدد فجاء بضمير المؤنث في موضع تعداد النعم لأن فيه تعداد للنعم فاختير التأنيث. هذا جزء من السؤال، واتضح الفرق بين (بإذني) و(بإذن الله) لأن جهة الكلام مختلفة.
تكرار (إذ):
تكررت في آية سورة المائدة ولم تذكر في آية سورة آل عمران لأنه في المائدة كان هناك تعداد لنِعم الله سبحانه وتعالى عليه، أما في آل عمران ما كان هناك نوع من التعداد للنعم وإنما كان نوع من بيان حال عيسى u وهو يتكلم فقال (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)) يعني أنا أفعل هذا وأفعل هذا فلا مجال فيه للتذكير. أما في الآية الأخرى في المائدة كان الله تعالى يذكّره بدأ بكلمة (اذكر) ثم صارت تُقدّر (إذ أيدتك) يعني إذكر إذ أيدتك و(إذ علمتك) يعني اذكر إذ علمتك، إذ أيدتك، إذ تخلق. (إذ) هي لبيان حال الماضي (إذ فعلت كذا) لكن يقدّر فيها اذكر يعني إذ كذا يعني اذكر حين كان كذا. (إذ) هي ظرف للماضي من الزمان بخلاف (إذا) التي هي لما يُستقبل من الزمان. (إذ) لِما مضى من الزمان. فهذا هو الفارق بين الموقعين.
لماذا تكرار (إذ)؟ لما يكرر (إذ) كأنه يكرر (واذكر حين كان هذا الأمر) يعني نوع من التأكيد، اذكر حين كان هذا الأمر، فهو بيان لنعم الله سبحانه وتعالى.
استطراد من المقدم: قد يقول قائل العرب تكره التكرار وتكره توالي الأمثال فكيف نفسر هذا التكرار هنا؟ هي ليست واحد بعد الأخرى مباشرة لكن بينها وبين الأخرى مجالاً للتأمل (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) المائدة) أي اذكر يا محمد لهؤلاء عندما قال الله سبحانه وتعالى لعيسى r، عندما يتحدث الله عز وجل عن المستقبل يتحدث بصيغة الماضي لأنه واقع في علم الله، هذا الكلام في يوم القيامة لم يقع لكنه في علم الله سبحانه وتعالى واقع (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ) اذكر حين سيقول الله سبحانه وتعالى لعيسى u إلزاماً لقوله بالحجة حتى يعترف أمامهم بأنهم حرّفوا دين الله عز وجل، حرّفوا هذا الشرع (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ) هنا ذكر الفعل ثم بدأ بتفصيل النعمة، ما هذه النعمة؟ قال (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي حين أيدتك بروح القدس، هذه صورة، ثم انتقل إلى صورة أخرى (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) هذه صورة أخرى مستقلة، (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ). التكرار أحياناً فيه معنى التأكيد وبناء كأنها كُتل قائمة بذاتها. ألم يقل الشاعر:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
هذا تكرار محمود لأن علماء البلاغة يقفون وقفة طويلة عند هذه العبارة الرائعة الرائقة بهذا التكرار. فكل نعمة تستحق أن يوقف عليها وحدها. (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) هنا لم يقل (وإذ تبرئ) وإنما ربطها مع ما قبلها حتى يكون نوع من التباعد، فالقرآن الكريم يلوّن أو ينوّع في هذا الاستعمال (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ).
سؤال 312: المستعاذ به في سورة الناس (الربوبية، الألوهية والملك) والمستعاذ منه واحد أما في سورة الفلق فاستخدم صفة واحدة وهي الربوبية للمستعاذ به والمستعاذ منه أربع فما الفرق؟
هذا التقابل:
سورة الفلق |
سورة الناس |
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) |
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6) |
للعلماء وقفة طويلة في الموازنة. عندنا نص قبل أن أدخل إليه أقول الخلاصة. الخلاصة أنه في كلمة (قل أعوذ برب الفلق) استعاذ برب الفلق والفلق هو بداية الفجر، إنفلاق الضوء، من ماذا؟ من شر ما خلق بصورة عامة، من شر غاسق، من شر النفاثات في العقد، من شر حاسد إذا حسد، هذه الشرور جميعاً تمس الإنسان في ظاهره، في جسمه، في الظاهر، ولا تمس إيمانه أو اعتقاده فكانت الإستعاذة بلفظ واحد من هذه الشرور المتعددة التي هي تتعلق بالشيء الظاهري، بظاهر الإنسان وليس بعقيدته أو بباطنه أو بإيمانه.
هناك استعاذ بالربّ، المربي (رب الناس) المتعهد بالتربية والتكوين، ملك الناس المالك لكل شيء، إذن هو ذكر صفة التربية وصفة المُلك والإله المعبود دون غيره والمُلجأ إليه المحبوب فذكر ثلاث صفات. من شر الوسواس، هذا يكون في داخل الجسم، ونتيجة الوسوسة إنحراف في العقيدة وانحراف في الاعتقاد وانحراف في الدين. هذه القضية أخطر من قضية أن إنساناً يرى شيئاً في الظلمة يؤذيه أو أن يكون هناك سحرة يؤذونه في جسمه أو حاسد يحاول أن ينال منه أو أن يضره. لا يقارن هذا بهذا، فاستعاذ بثلاث صفات لله سبحانه وتعالى مما يتعلق بقضايا الاعتقاد وقضايا الإيمان لأن الوسوسة تؤثر في الإيمان.
لماذا بدأ بالرب؟ بدأ بالرب لأنه يربي الإنسان منذ صغره والملِك يكون له وهو كبير يملكه والإله الذين يعبدون الله عز وجل يكونون قد صاروا في مرحلة العقل والوعي كأن هناك تدرج وكلها استعاذة من أن يدخل شيء في قلب الإنسان. أما هناك (رب الفلق) الفجر الذي يضيء من الشرور والشرور كلها دنيوية.
النص لأحد علمائنا هو إسماعيل البروسوي في كتابه “روح البيان” يقول:
“وفي هذا المقام لطيفة بالغة وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق. – (يعني السؤال الذي خطر في ذهن السائل خطر في ذهن علمائنا القدماء ووقفوا عنده) – والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات وهي الغاسق والنفاثات والحاسد وأما في هذه السورة (أي سورة الناس) فالمستعاذ به مذكور بثلاثة أوصاف وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة ومن المعلوم أن المطلوب كلما كان أهم والرغبة فيه أتمّ وأكثر كان ثناء الطالب قبل طلبه أكثر وأوفر. (هنا التفت إلتفاتة أخرى نحن ما أشرنا إليها وهي أنه لما يكون المطلوب أعلى يكون الثناء أكثر فلأن المطلوب يتعلق بالإيمان زاد في الثناء). والمطلوب في السورة المتقدمة (الفلق) هي سلامة البدن من الآفات المذكورة وفي هذه السورة (الناس) سلامة الدين من الوسوسة فظهر بهذا أن في نظم السورتين الكريمتين تنبيهاً على أن سلامة الدين من وسوسة الشيطان وإن كانت أمراً واحداً إلا أنها أعظم مرادٍ وأهم مطلوب وأن سلامة البدن من تلك الآفات وإن كانت أموراً متعددة ليست بتلك المثابة في الاهتمام. سورة الناس مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة وسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شرٌ من خارج فالشرّ الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه والشر الثاني يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي”.
Normal 0 false false false MicrosoftInternetExplorer4 /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:”Table Normal”; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:””; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:”Times New Roman”; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;}
أسئلة المشاهدين خلال حلقة 24/1/2007م:
ما المقصود بالكتاب في الآية (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) آل عمران)؟
ما الفرق بين السنة والعام في الآية (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا (14) العنكبوت)؟
ما دلالة تكرار (ويجعل) في الآية (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) نوح)؟
ما الفرق بين السُوء والسَوْء؟
ما دلالة تقديم (لك) في الآية (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) الفتح)؟
(إلا) أداة إستثناء وجاءت في القرآن على غير هذا المعنى في الآية (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) الأنبياء) وفي الآية (إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) طه) فلماذا جاءت على غير معناها؟
ما دلالة استخدام كلمة ربهم والرحمن في الآيات (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) الأنبياء) و(وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) الشعراء)؟
بُثّت الحلقة بتاريخ 24/1/2007م
2009-01-27 18:18:47