الدقة في اختيار اللفظة في القرآن:
مُخرج ويخرج
قال تعالى في سورة الأنعام (ِإنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)) باستعمال الإسم مع (مخرج) وفي آل عمران (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) استعمل الفعل المضارع (يُخرج):
هناك قاعدة في اللغة وعلم البلاغة أن الاسم يدل على الثبوت والاستمرار والفعل يدل على الحدوث والتجدد نقول هو يتعلم وهو متعلم (ثابت)، هو يتفقّه وهو متفقّه. والقاعدة العامة هذه يُنظر إليها في سياقها البلاغي. والبلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
في سورة الأنعام قال تعالى (إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)) و (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)) من أبرز صفات الحي هي الحركة والتجدد وأبرز صفات الميت الثبوت والسكون والله أعلم عندما ذكر الحيّ ذكره بصفة التجدد (يُخرج الحي) ولما ذكر الميت ذكره بصفة الجمود (مُخرج) أما في الثانية استعملها بالفعل نظراً لسياق الآآية فيجب أن يؤخذ المعنى كاملاً حتى تتضح الصورة (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)) كلها تغيرات بينما في الانعام ليس السياق في ذلك حتى أنه بدأ بالاسم (إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى).
لكن الذي قد يثير السؤال إذا كان الأمر كذلك فلماذا في قوله تعالى (فالق الاصباح) جعلها بالاسم و(جعل الليل) جعلها بالفعل فما الداعي للتغيير؟ لما قال فالق الاصباح هل ربطه بمستفيد أو منتفع؟ كلا سواء كان مستفيداً أو غير مستفيد. جعل الليل سكناً هل ربطه بمنتفع؟ نعم جعله سكناً لكل من يسكن ربطه بصاحب صفة من هذه الصفات لو لم يكن هناك من يسكن ما كان هناك سكن لشيء وكذلك الحسبان. (فالق الاصباح) أطلقها من كل قيد فجاءت بالاسم لأنها أثبت ولو حصل مما يفسده البشر في الأرض ولو أهلكوا الحياة في الأرض سيبقى فالق الاصباح لكن السكن والحسبان لا يبقى لأنه لا يبقى من يسكن ولا من يحسب. ففالق الاصباح هنا أدوم.
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) الأعراف)
الأصل هم الصمت وليس الحديث عندما ينام أو يخلو الانسان إلى نفسه يكون صامتاً هو لا يتحدث إلا إذا عرض له أمر أما إذا لم يعرض له أمر فهو صامت. إذن الصمت هو الحالة الثانية الدائمة لذلك لا يسوي بين الطرفين (أدعوتموهم أو صمتم)
مثال آخر:
قال تعالى في سورة الأنفال (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) كيف نطبق القاعدة؟
وجود الرسول r r بينهم مانع للعذاب لكن هذا المنع موقوت ببقاء الرسول r r فيما بينهم أما الاستغفار فقد جعله الله تعالى مانعاً ثابتاً والاستغفار يدفع العذاب (وما كان الله معذبهم) بقاء الرسول r r بينهم متغير ولو تركهم حق عليهم العذاب. ونلاحظ من كرم الله تعالى ما قال (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) ربنا يدفع العذاب ولو لم يكن الاستغفار صفة ثابتة فيهم لأن رحمته واسعة تسع كل شيء . وفي آية أخرى قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) القصص) إذا كان الظلم صفة ثابتة يفضي بهم إلى الهلاك لكن في الاستغفار حتى لو لم يكن ثابتاً يغفر الله تعالى من رحمته.
مثال آخر:
قال تعالى في سورة الكافرون (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3))
لا أعبد (فعل) للرسول r ثم ولا أنا عابد (إسم) وللكافرين (ولا أنتم عابدون ما أعبد) هل لهذا أثر في المعنى؟
يدخل ضمن القاعدة اللغوية (لا أعبد ما تعبدون) نفى عنه عبادة ما يعبدون بالصيغتين الاسمية والفعلية بالحالة المتجردة (لا أعبد) والثابتة (عابد) لأنه أحياناً الانسان قد يكون على حالة ثابتة لكن قد يخرج عنها أحياناً لكن تكون الصفة الغالبة عليه. إذا قلنا كريم لا يعني أنه كريم طيلة أربع وعشرين ساعة. بالنسبة للرسول r إذا خرج من الحالة الثابتة يكون في الحالة المتجددة التي نفى نعالى عنه العبادة للأوثان فيها، لكن بالنسبة للكافرين نفى عنهم حالة الثبات واو لاحظنا الفعل (تعبدون) في الحال والمستقبل و(عبدتم) في الماضي استوفى كل الأزمنة الماضي والحال والاستقبال .
بالنسبة للرسول r نفى عنه عبادة ما يعبدون في الماضي والحال والاستقبال الثابتة والمتجددة بينما هم نفى عنهم (ولا أنتم عابدون ما أعبد) في الحالة الاسمية فبقاؤه r على عقيدته أقوى وأثبت وأدوم من بقائهم على عقيدتهم.
الهداية والضلالة:
فعل الهداية والضلالة: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) ابراهيم) (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) الفرقان) (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) المائدة)
الهداية جاءت بالاسم والفعل أما الضلالة فجاءت بالفعل (ويضل الله من هو مسرف مرتاب) أما في الحديث عن الشيطان (إنه عدو مضل) (إنه يضل) (لأضلنّهم)
صفة الله تعالى الثابتة والمتجددة هي الهداية (وكفى بربك هادياً ونصيرا) وهو يهدي حالته الثابتة والمتجددة هي الهداية ولا يضل إلا مجازاة للظالم. أما صفة الشيطان الثابتة والمتجددة هي الإضلال فجاءت مضلّ بالاسم الثابت وبفعل التجدد. ولم يقل تعالى عن نفسه مُضلّ وإنما قال (يُضل الله الظالمين) مجازاة لهم.
سلاماً وسلام
قال تعالى (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ {24} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ {25} الذاريات) وقال تعالى (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ {51} إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ {52} الحجر) الأولى منصوبة والثانية مرفوعة؟
يدخل هذا في حيّز ما ذكرناه، سلامٌ هو جزء من حملة اسمية (سلام) إما مبتدأ لخبر محذوف (سلام عليكم) أو خبر لمبتدأ محذوف.
القاعدة: المرفوع يفيد الاسمية والمنصوب جزء من جملة فعلية . إذا قلنا (ويل) فهي جملة إسمية (ويل له) وإذا قلنا ويلاً فهي جملة فعلية. قال تعالى (فضربَ الرقاب) جملة فعلية.
قالوا سلاماً أي حيّوه بالجملة الفعلية وابراهيم u ردّ التحيى بخير منها عن طريق الجملة الاسمية قال سلام السلام الثابت الشامل الدائم ولذلك قال تعالى أن تحية أهل الجنة سلام يحيّون فيها بالجملة الاسمية (سلام عليمن بما صبرتم) وقال تعالى (وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) زابراهيم u لم يردّها وإنما حيّاهم بأحسن منها.
وفي قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)) لم يقل ويلاً لأن هذا هلاك دائم لا ينقطع لذا قال في خاتمة الآية (إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة) ولو قال ويلاً ثم قال في الخاتمة نفس الآية فلا يتناسب الأمر لغوياً.
عجيب، عجاب
قال تعالى في سورة ق (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)) وفي سورة هود (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)) وفي سورة ص (أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5))
أولاً صيغ العربية ودلالتها ثم التوكيد وعدمه. عجيب تدخل في صيغ المبالغة أو صفة المشبّه(فعيل، فعال، فُعّال) صيغة فُعّال من حيث المبالغة أكثر من فعيل نقول هذا طويل فإذا أردنا المبالغة نقول طوال. فعيل صفة مشبهة أو مبالغة، فعال أبلغ من فعيل باعتبار مناسبة لمدّة الألف ومناسبة لمدّة الصوت أحياناً صوت الكلمة يناسب المعنى فمدّة الألف أكثر من الياء فجعلوها للصفة الأبلغ. عُجاب أبلغ من عجيب.
مسألة التوكيد وعدم التوكيد أخبر عن العجيب لكنه غير مؤكد في الأولى ثم الثانية آكد.
لو عدنا إلى الآيات في الأولى (بلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)) عجبوا أن جاءهم منذر منهم فجاء بلفظ (عجيب) والثانية أن امرأة عقيماً وعجوز وبعلها شيخ فكيف تلِد والعقيم أصلاً لا تلِد ولو كان رجُلُها فتى فهي عقيم وعجوز وفي الآية من دواعي العجب ما هو أكثر من الآية الأولى لذا دخل التوكيد بـ (إنّ واللام) تأكيدا العجب ناتج عن أن مُثير العجب أكثر. أما في سورة ص (َجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)) هم عجبوا أن جاءهم منذر منهم أولاً ثم عجبوا أن جعل الآلهة إلهاً واحداً فصارت دواعي العجب أكثر من سورة ق التي تعجبوا فيها من أن جاءهم منذر منهم فقط. إضافة إلى ذلك في سورة ص هناك أمر آخر هو جعل الآلهة إلهاً واحداً وهو مشركون عريقون في الشرك فقاتلوه بسبب كلمة التوحيد فالعجب أكثر بعد وصفه بأنه ساحر وكذّاب فجاء بلام التوكيد وجاء بالصفة المشبهة المبالغة عُجاب.
سنبلات وسنابل
قال تعالى في سورة البقرة (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {261}) باستعمال سنابل وفي سورة يوسف (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ {43}) باستعمال سنبلات
جمع المذكر السالم والمؤنث السالم من جموع القِلّة خاصة إذا كان معه جمع آخر يدل على الكثرة فإذا لم يكن معه جمع آخر يستخدم للقليل والكثير. مثلاً جمع ساجد ساجدون وسُجّد وسجود . عندنا أكثر من جمع فتكون ساجدون للقلة لأنه يوجد مجموع للكثرة والجموع في العربية 47 منها 4 للقلّة (أفعُل، أفعال، فِعلة، أفعِل) والباقي للكثرة.
سنبلات قِلّة وسنابل للكثرة. العدد واحد سبع وسبع في الآيتين فلماذا استعمل القِلة مرة والكثرة مرة؟ من حيث المتكلم العربي قد يقع الكثرة مكان القِلة والعكس حسب المقام. في سورة البقرة المقام في مضاعفة الأجور () والله يضاعف لمن بشاء. السياق أصلاً في مقام تكثير الأجور والمضاعفة، بينما في آية سورة يوسف هو رأى رؤيا ونقلها كما هي (سنبلات) فالسياق في مقام ذكر حادثة كما هي.
أنعُم ونِعَم
قال تعالى في سورة النحل (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)) شاكراً لأنعمه وفي سورة لقمان (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)) نِعمه هل هي نِعَم واحدة؟
أنعم جمع قِلّة على وزن أفعُل، نِعم جمع كثرة. ونعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تُشكر ولا نستطيع شكرها فالله تعالى مدح ابراهيم u على أنه شكر الأنعم أي القليل من النِعم فمدحه على ذلك لأنه لا يمكن لأحد أن يشكر نِعَم الله تعالى التي لا تُحصى فأثنى على ابراهيم u لأنه كان شاكراً لأنعم الله تعالى. والله تعالى لم يسبغ علينا أنعماً ولكنه أسبغ نعماً ظاهرة وباطنة لا تُحصى.
والاسباغ هو الإفاضة في ذكر النِِعم. قال تعالى في سورة الإنسان (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) شاكراً اسم فاعل والكفور مبالغ في الكفر. وتوجد نِعم مستديمة منها ما نعلم وما لا نعلم والله تعالى أفاض علينا بالنعم الكثيرة ولو شكرنا نشكر باللسان وهو بحد ذاته نعمة.
خالدين وخالداً
قال تعالى في سورة النساء (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)) وقال (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ {14})
للعلم ربنا تعالى لم يذكر مرة واحدة في القرآن عن أصحاب الجنة خالداً فيها أنما جاءت بالجمع (خالدين) أما في النار فيستعمل خالد وخالدين وهذا خط عام في القرآن. (من) تدل على الواحد والكثير لكن هو بالنسبة لأهل النار عذّبهم بالنار وبالوحدة والانفراد والوحدة لا تُطاق ولو كنت في قصر. إذن بينما أصحاب الجنة فيها السعادة والتنعم بالاجتماع على الأرائك ولذلك يذكر في أهل الجنة بأنهم خالدين للدلالة على الجماعة ثم إن حالدين مناسبة للجنّات وهي جمع وللمؤمن أكثر من جنة (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) الرحمن) أما تلك فهي نار. عندما ذكر الجنّات قال خالدين وعندما قال نار قال خالداً وقد تأتي خالدين.
سارعوا وسابقوا، عرض وكعرض
قال تعالى في سورة آل عمران (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)) سارعوا وعرض وقال في سورة الحديد (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)) سابقوا وكعرض فما اللمسات البيانية في الآيتين؟
السماء في القرآن وفي اللغة كل ما علاك حتى سقف البيت وفي القرآن يستعمل السماء لكا ما علا الأرض (السحاب ما أنزل من السماء ماء) (الطيور مسخرات في جو السماء) والسماء قد تستعمل واحدة السموات (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) الصافات) تستعمل للسموات عموماً ولكل ما علا الأرض (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) الحج) والسموات جزء من السماء (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) الملك).
والسموات موطن الملائكة فإذن السماء أوسع من السموات أولاً ولذلك نلاحظ عندما ذكر تعالى الجنة قال عرضها السموات والأرض لكن عندما ذكر السماء وهي واسعة هائلة جاء قوله (كعرض) لأنها أوسع بكثير فجاء بها للمقاربة. والسموات السبع جزء من السماء جاء بالتشبيه (عرضها يشابه هذا العرض). وقد بُني على هذا الأمر عدة أمور:
نلاحظ الداخلين الذين ذكرهم الله تعالى في الآية الأولى (المتقين) وفي الثانية (الذين آمنوا) لمّا قال السموات قال المتقين (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وفي الحديد قال الذين آمنوا بالله ورسله الأكثر عدداً من المتقين لأن المتقي جزء من المؤمن وكل متقٍ مؤمن لكن ليس كل مؤمن متقي. فالمؤمن أوسع دائرة من المتقي وهم أكثر حتى أنه لم يذكر العمل أصلاً ولم يقل وعمل صالحاً فالأكثر هو المؤمن فلما كثر الداخلون اتسع المكان فقال (عرضها كعرض السماء). أما المتقين وينفقون في السراء والضراء والعافين عن الناس هم دائرة أضيق فذكر المكان بصورة أقل فقال (عرضها السموات).
ثم عندما كثر الداخلون أعدت للذين آمنوا ورسله ذلك فضل الله تفضل عليهم فأدخل الذين آمنوا بالله ورسله إلى الجنة أما في الأولى فلم يذكره.
في بداية الآات قال تعالى (سابقوا) والمسابقة هي المسارعة والزيادة في السرعة وعندما يكون هناك خلق كثير في مكان فهذا يقتضي المسابقة أما في جماعة قليلة فيقتضي المسارعة.
في آية سورة الحديد جاء بالمسابقة وهي مسارعة وزيادة وجاء بالسماء وهي السموات وزيادة وجاء بالذين آمنوا بالله ورسله وهم المتقون وزيادة وزاد (ذلك فضل الله).
ولا يصح أن نضع إحدى الكلمات مكان الأخرى. والفارق ليس بين السماء والسماوات وإنما بين كل المفردات والقرآن بناء عجيب متكامل في البلاغة والفنّ.
أخوهم شعيباً وشعيب
ذكر تعالى في آية سورة الشعراء هود ولوط وصالح وُصِفوا بالأخوة (أخوهم هود وأخوهم لوط وأخوهم صالح) أما أصحاب الأيكة فقال شعيب بدون أخيهم (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ {176} إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ {177})؟
شعيب ليس من أصحاب الأيكة وإنما هو من مدين لذا قال في آية سورة هود أخوهم شعيب (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ {84}) وشعيب أُرسِل إلى قومين مدين وأصحاب الأيكة. أما الباقون من الأنبياء فهم من نفس القوم فوصفهم بالأخوة. . والشيء بالشيء يُذكر لم يرد في القرآن مرة وإذ قال عيسى لقومه لكنه يقولها مع موسى أحياناً واحياناً لا يقولها وذلك لأن عيسى ليس له أب فيهم والقوم يُنتسب إليهم بالأبوة فيخاطبهم با بني اسرائيل فلم يخاطبهم مرة بيا قوم ولم يوصف بالأخوة.
دارهم وديارهم
قال تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، الأعراف) وقال تعالى (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَـ هود) جاثمين والأخذ والإصباح واحد فلماذا اختلاف في البنية بين دارهم وديارهم؟
أنا في ذهني لم يقل الصيحة مع دارهم ولا مرة لأن الصيحة يبلغ مداها أكثر من الرجفة فأنت تسمع صوتاً لم تكن فيه كانفجار أو زلزال يحصل في مكان لكن الصوت يُسمع في مكان آخر. الصوت لما كان يُسمع في مدى أوسع قال ديارهم أما الرجفة فهي أقل مدى فقال دارهم وهذا عائد إلى طبيعة العقاب الموجود.
صديق
لماذا جاءت شافعين بالجمع وصديق بالمفرد ولماذا قُدمت شافعين على صديق في قوله تعالى (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) الشعراء)؟
الشافعين كُثُر والصديق أقل. الصديق من حيث اللغة يقال للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث هذا من حيث اللغة.
فلو أنت في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديقي
الشافعين قد يكونون كُثُر ويتقدمون للشفاعة ولو لم يكونوا أصدقاء لكن الصديق أقل والصديق الحميم أقل (من صدق في المعاملة والإخلاص وإمحاض النُصح والمحبة والمودة والإيثار) . فالشافعين أكثر من الصديق والتقديم لا يكون بالضرورة على الأفضل. ولم يوصف الصديق فقط وإنما صديق وحميم وهذا أقل وهي دائرة صغيرة جداً أن تجد صديقاً حميماً.
يضيف المحاور: الإعجاز ليس أن تُضحي بصديق حميم لككن أن تجد صديقاً يستحق أن تُضحي من أجله.
ويختم المحاور حواره بأحاديث عن الرسول r :
-
إن لله أهلين من الناس قالوا يا رسول الله من هم؟ قال هم أهل القرآن وخاصته أهل الله.
-
اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه.
-
يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتقي ورتّل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها.
2009-02-01 11:32:12الدكتور فاضل السامرائي>برنامج لمسات بيانيةpost