مقاصد السور
د. محمد عبد العزيز الخضيري
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
سورة الأنفال والتوبة
نتحدث عن سورتين كريمتين قرينتين وهما سورة الأنفال والتوبة وهاتان السورتان الكريمتان العظيمتان قد اختصتا بموضوع الجهاد ولعلكم تذكرون أني أشرت في إحدى اللقاءات الماضية إلى أن سورة البقرة وآل عمران سورتا تأسيس وتأصيل وأما سورة النساء والمائدة فهما سورتا تتميم وتكميل وأما سورة الأنعام والأعراف فهما سورتا خصومة وجدال وأما سورة الأنفال والتوبة فهما سورتا مواجهة وجهاد كأنها مرتبة بهذه الطريقة: تأصيل ثم تكميل ثم خصومة وجدال ونقاش وحوار ثم بعد ذلك المنازلة والمفاصلة والمواجهة والجهاد.
فجاءت سورة الأنفال وهي نزلت في إثر غزوة بدر حتى إنها تسمى سورة الأنفال وسورة غزوة بدر وتسمى سورة الجهاد. وتسمى الأنفال من جهة الغنائم، الأنفال هي الغنائم، لأن الصحابة رضوان الله عليهم لما انتهت الغزوة اختلفوا في هذا المال الذي وجدوه من أموال الكفار ولم يكن لهم به من عهد ماذا يفعلون به؟ فقال الذين قاتلوا نحن أولى به وقال الكبار من الصحابة الذين مكثوا في مواقعهم وصاروا فيئة للمسلمين يفيئون إليهم ونحن أيضًا لنا حق فيه فلولا أنا ثبتنا لأمكن أن يرتد العدو عليكم فلا تجدون أحدًا تفيؤن إليه فاختلفوا فأنزل الله عز وجلّ في بداية هذه السورة الكريمة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) وهذه بداية غريبة كيف يبدأ بقضية عرضية مرت على المؤمنين مرورا عابرا؟! لا، ليس الأمر كما تتوقع. أشير إلى قضية الأنفال والخلاف حولها ليبين أن قضية القتال عندنا والجهاد في سبيل الله ليست قضية منازلة مع الخصوم قبل أن تكون تربية للنفوس، فالنفوس التي ما تربّت لا يمكن أن تجاهد ولا يمكن أن تفلح في ميدان المعركة ولا يمكن أن تنتصر ولذلك جاء في هذه السورة بعامتها بآداب الجهاد وأسباب النصر فلو تأملت السورة من أولها إلى آخرها لوجدتها تدور حول هذين المحورين: آداب الجهاد وأسباب النصر. اقرأوا (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ليست لكم أمرها وقسمتها إلى الله ورسوله، ما الذي يجب عليكم؟ (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) من هم المؤمنون؟ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿٣﴾ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) هؤلاء هم الذين يستحقون اسم الإيمان ويحق لهم أن يجاهدوا وسيُنصروا إذا جاهدوا بإذن الله وليسوا أولئك الذين قلوبهم رقيقة وضعيفة ومتشبثة بالدنيا قاتلوا ساعة أو ساعتين وإذا حصلوا شيئًا من لعاعة الدنيا اختلفوا حولها وتقاتلوا فيما بينهم. ولعلكم تلاحظون أنه في كثير من المعارك التي قامت في العصر الأخير ينتصر فيها أهل الإسلام ثم بعد انتصارهم تبدأ المعارك فيما بينهم، ما السبب؟ هل هؤلاء الذين يذهبون إلى الجهاد إذا ذكر الله وجلت قلوبهم؟ إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا؟ على ربهم يتوكلون؟ يقيمون الصلاة؟ مما رزقناهم ينفقون؟ يستحقون هذا الوصف (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿٤﴾)؟ لا، نعم هم يقاتلون باسم الله ويريدون الغيرة على الدين ويفعلون كل ما يفعلونه لأجل الله ولكن هذه النفوس لم تتربى ولذلك يظهر عليها آثار الأثرة وحب الدنيا من حين ما تضع الحرب أوزارها فيعود الجهاد نكسة على المسلمين. ولعلكم لاحظتم في كثير من المواقع التي حصل فيها جهاد بين المسلمين وبين أعدائهم أن المسلمين يكسبون المعركة مع العدو لكن في نهاية المطاف ترتد آثار هذه الحرب على المسلمين فينقسموا فيما بينهم ويتقاتلوا ثم يأتي العدو ليستولي عليهم مرة أخرى.
انظروا إلى هذه الآداب: يقول الله عز وجلّ في أدب من آداب الجهاد (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴿٥﴾ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ﴿٦﴾ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) تريدون الفريق أو الطائفة التي ليست ذات شوكة وهم عير قريش، القافلة التي كانت بقيادة أبي سفيان تودون أنها لكم لكن الله يود ويريد شيئا آخر (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴿٧﴾ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴿٨﴾) ويذكر أدبًا من آداب الجهاد (إ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) وهذا أدب من آداب الجهاد الاستغاثة بالله كاستغاثة الغريق واللجوء إليه والانطراح بين يديه حتى ننال نصره لكن أن ندخل المعركة ونحن واثقون أن النصر حليفنا لا يمكن أن يأتي النصر هنا ولو جاء نصرٌ فلن نهنأ به!
أدبًا آخر من آداب الجهاد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴿١٥﴾ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿١٦﴾) تحريم الفرار عندما يلتقي الصفّان وجعل هذا من أعظم الآثام بل هو من السبع الموبقات لما يحدث بسببه من الوهن والإرجاف في صفوف المؤمنين.
من آداب القتال اعتقاد أن النصر من عند الله وأنا نحن أسباب فقط، ليس بيدنا نصر ولا قوة ولا غلبة وإنما الأمر كله بيد الله قال الله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿١٧﴾).
ويبين لنا أيضًا أن من أعظم أسباب النصر طاعة الله وطاعة رسوله فيقول (يا ايها أطيعوا تسمعون) ويقول مؤكدًا هذا الأمر (أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿٢٤﴾ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) لا تحتقروا ذنبًا تحدثه طائفة منكم فإن هذا قد يبوء عليكم جميعًا بالخسران كما حصل في غزوة أحد، من هم الذين عصوا؟ ثلة من المؤمنين كانوا على الجبل فعصوا أميرهم فجاء الأثر على جميع المؤمنين وحصلت النكسة في غزوة أحد فإياكم!
واحذروا أن تخونوا الله ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٢٧﴾ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿٢٨﴾)
وتستمر السورة على هذا المنوال في ذكر آداب الجهاد إلى أن تصل إلى قول الله عز وجلّ في الآية 45 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٤٥﴾ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هذا السبب الثالث من أسباب النصر (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا) الأدب الخامس (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿٤٦﴾ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴿٤٧﴾) واحذروا في حربكم وجهادكم لعدوكم أن تسمعوا للشيطان وتخضعوا لوسوسته (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿٤٨﴾).
ثم تستمر هذه الآيات مبيّنة أهمية الإعداد للجهاد فيقول الله عز وجلّ فيها (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) وهذا في الآية 60 ويقول جلّ وعلا مبينًا أهمية الألفة بين المؤمنين وأنه لا يمكن لنا أن ننتصر على أعدائنا إذا كنا نحن مختلفين، ألم يقل في أول السورة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) عاد إليها مرة أخرى فقال (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٦٣﴾ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٦٤﴾) كافيك الله فهو الذي يتولى نصرك وهو الذي بيده كفايتك وإعانتك فلا تعتمد قوتك ولا على أصحابك فالكفاية كلها والمدد والعون من عند الله عز وجلّ وأنت مهمتك أيها النبي أن تحرض المؤمنين على القتال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) ثم ذكر في حقهم شيئًا فقال إن الواجب على المؤمنين أن يثبتوا لعشرة أمثالهم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴿٦٥﴾) وهذا في أول الإسلام ثم لما علم الله عز وجلّ أن في المؤمنين ضعفًا أراد أن يخفف عنهم فقال (الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) معناه إذا كان عدد العدو ضعفكم وجب عليكم أن تثبتوا فإذا زادوا عن الضعف لم يجب عليكم أن تقاتلوهم وجاز لكم أن تنسحبوا من المعركة. في المرة الأولى قال وجب عليكم أن تثبتوا لعشروة أمثالكم، إذا كان عددكم ألفًأ وعدوكم عشرة آلآف وجب عليكم الثبات، إذا كان عدوكم 12 ألف وأنتم ألف لم يجب عليكم الثبات، هذا في أول الإسلام ثم خفف عنا ولله الحمد والمنة فألزمنا الله أن نثبت لضعفينا فقط فإذا كانوا أكثر من ذلك جاز لنا أن ننسحب ونستعد لنلاقيهم وقد كان عددًا قريبًا من عددهم أو يساوي نصف عددهم..
قال الله عز وجلّ مبينًا أمرًا من أمور الجهاد (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٦٧﴾) وهذا أدب من آداب الجهاد وهو أنه لا يجوز للمؤمنين أن يتخذوا أسرى حتى يثخنوا في الأرض ويكون لهم علو فيها أما قبل ذلك فيجب أن يفاصلوا أعدائهم ويكونوا أصحاب قوة وتمكن من رقاب الأعداء وأن لا يرغبوا فيما عند الأسرى من المال حتى لا يأخذوا الفداء.
ثم ختمت السورة بذكر قضية الولاء والبراء وأن الجهاد مبناه على الولاء والبراء لأن الذين يقاتَلون هم المشركون لأنهم ليسوا أولياء لنا والذين يقاتلون هم المؤمنون وهؤلاء هم الذين يجب أن تكون ولايتنا لهم وأن تكون نصرتنا التامة لهم وأما الذين آمنوا ولم يهاجروا فما لهم علينا من الولاية من شيء، قال الله عز وجلّ (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) إن طلبوا منكم النصرة وجب عليكم أن تنصروهم إلا إذا كان قتال هؤلاء مع قوم بينهم وبينكم ميثاق فلا تنصروهم لأنهم قد أخلّوا بشيء من الدين فتركوا الهجرة فلا يستحقون النصر الكامل.
سورة برآءة
هذه السورة أيضًا موضوعها الجهاد في سبيل الله لكنها تتحدث عن الجهاد من زاوية غير الزاوية التي تتحدث عنها سورة الأنفال. سورة الأنفال نزلت في أعقاب غزوة بدر في السنة الثانية وسورة برآءة نزلت في أعقاب غزوة تبوك في السنة التاسعة، هذه في أول الهجرة وهذه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعام وبضعة أشهر.
هذه السورة نزلت بعد أن تمكنت دولة النبي صلى الله عليه وسلم ومكّن له من جزيرة العرب وفتحت مكة فالخطاب فيها مختلف، الخطاب قوي وصارم مع أعداء الإسلام وظاهر في الدلالة على وجوب اتخاذ أسباب القوة حتى يخضع الكفار للإسلام ولذلك هذه السورة أشد سورة في القرآن من حيث قوة الآيات مع الخصوم وأسماؤها بلغت فيما أحصيت 18 اسمًا وهذا لا يوجد لأي سورة من القرآن إلا لها: برآءة، التوبة، الفاضحة، المبعثِرة، البَحوث، المقشقشة، الحافِرة، المنقِّرة، كلها تدور حول البراءة من المشركين وفضح المنافقين والتشقيق عن قلوبهم وإبراز صفاتهم ومكنونات نفوسهم وإغراء المؤمنون بهم ولذلك افتتحت بغير بسملة لأنها نزلت بالشدة ونزلت بالسيف والسيف لا يتناسب مع الرحمة الموجودة في قول الله عز وجلّ (بسم الله الرحمن الرحيم) لذلك بدأت بقول الله عز وجلّ (بَرَاءَةٌ) فإذا قرات أن تقرأ سورة التوبة تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١﴾)، كيف تقول: بسم الله الرحمن الرحيم (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)؟! الرحمن الرحيم لا يتناسب مع هذا! لا بد أن ننظر إلى المناسبة بين أسماء الله وصفاته والأحكام التي تتلى فيها تلك الأسماء ولذلك جاءت هذه السورة بالشدة والغلظة على الكفار وعلى أهل الكتاب وعلى المنافقين، هذه الأصناف الثلاثة ذكرت في هذه السورة بشكل موسع وبإغراء شديد لأهل الإيمان عليهم.
بدأ بالمشركين فقال (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١﴾ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴿٢﴾ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿٣﴾ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿٤﴾ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) التي وضعها الله عز وجلّ لكي تكون فسحة للمشركين الموجودين في جزيرة العرب، أربعة أشهر بدأت من يوم النحر في العام العاشر واستمرت أربعة أشهر بعدها لا يسمح ببقاء مشرك في جزيرة العرب (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٥﴾) تلاحظون أنه مع شدّة هذه الأحكام إلا أن التوبة تبرز لنا في كل موطن، ذكرت التوبة في هذه السورة 17 مرة لم تُذكر ولم تجتمع في سورة في القرآن إلا في هذه السورة، في هذه الصفحة يقول الله (فإن تبتم، فإن تابوا فخلوا سبيلهم). ثم يبين لنا لماذا لا نهادن هؤلاء ونعاملهم بالحسنى (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿٧﴾ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) كيف أنتم ترفقون بهم؟! هم لا يرفقون بكم ولا يرقبون فيكم إلّا ولا ذمة ولذلك عليكم بهم إذا تمكنتم منهم.
بعد ما انتهى من ذكر المشركين عاد إلى الجهاد مرة أخرى في سياق عجيب ليبين فضائله. يقول الله عز وجلّ معاتبًا هؤلاء المشركين الذين يقولون أنهم أهل الحرم فكيف يدّعي محمد أنه خيرٌ منا؟ (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿١٩﴾) ثم يذكر فضائل الجهاد:
- (الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ)
- (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)
- (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ)
- (وَرِضْوَانٍ)
- (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ)
- (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
هذه الفضائل ما اجتمعت في سورة وفي مكان مثلما اجتمعت في هذا المكان.
ثم يؤكد على أمر الولاء والبراء الذي هو سبب الجهاد فيقول الله عز وجلّ: انتبهوا لا تأخذكم رأفة بهؤلاء الكفار بحجة أنهم أقارب لكم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ) لا توالوهم ما داموا قد استحبوا الكفر على الإيمان. ثم قال مهددًا (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿٢٤﴾) ثم يبين سبحانه وتعالى أن النصر من عنده وأننا قد نُخذَل بسبب إعجابنا بعددنا أو عدّتنا قال (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴿٢٥﴾).
بعدما انتهى من قتال المشركين انتقل إلى قتال أهل الكتاب، قال في الآية 29 (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ذاك قتال المشركين وهذا قتال أهل الكتاب. (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) الجزية ما ذكرت في حق المشركين، ما لهم عندنا إلا السيف، إما أن يسلموا أو السيف، أما أهل الكتاب فلأن لهم شبهة كتاب جعل الله لهم مناصًا بالجزية: أسلِموا، قالوا: لن نسلم، نقول لهم ادفعوا الجزية وستكونون تحت حمايتنا وفي دولتنا ندافع عنكم ولكم حقوق معينة يحفظها المسلمون لكم، قالوا: ما ندفع الجزية، قلنا: ما لكم بعد ذلك إلا السيف. ثم يغري الله المسلمين بأهل الكتاب لماذا نقاتلهم؟ لأنهم قوم كفار مشركون (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) ولذلك يجب علينا قتالهم وجهادهم وأن النصر بإذن الله سيكون حليفنا لأنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿٣٢﴾ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴿٣٣﴾) ويبين ربنا لنا أن هؤلاء من أهل الكتاب فيهم أحبار ورهبان لكنهم كذابون أكالون للمال بالباطل قال الله عز وجلّ (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ) ويقول (كثيرا) حتى لا يظلم البقية (لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) هذا في حق أهل الكتاب لأنهم كانوا يأخذون الأموال من النصارى ومن اليهود ويكنزونها وهم معروفون بهذا وإلى اليوم.
بعد ما انتهى من هذا انتقل إلى حضّ المؤمنين على الجهاد في سبيل الله في الآية 28 وأنهم إذا استُنفروا للقتال كما استنفروا في غزوة تبوك فإن عليهم أن ينفروا وهذه أول آية في هذه السورة تتحدث عن غزوة تبوك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ) لاحظوا (اثاقلتم) حتى طريقة اختيار الكلمة جاءت مناسبة جدًا لتصوير الحال الذي كان عليها المسلمون عندما أُمروا بالجهاد. أمروا بالجهاد في غزوة تبوك لغزو عدو قوي وهم الروم وهذا تخافه النفس مثل لو قيل لنا الآن ستقاتلون الصين أو أميركا لن يكون حالنا كما لو قيل ستقاتلون دولة من الدول الصغيرة سيصيبنا شيء من الخوف والرهبة. ثانيًا المكان بعيد، من المدينة إلى بلاد الشام قريب من ألف كيلومتر. ثالثًا: فرض على المسلمين في شدة الحر وطيب الثمار، الثمار بدأ يرطّب والحياة تتيسر والناس تريد الأظلة والسكون والدعم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول انفروا فهنا بدأ بعض الناس تراوده نفسه في عدم الطاعة والله عز وجلّ يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿٣٨﴾ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٣٩﴾ إِلَّا تَنْصُرُوهُ) إن لم تنصروا محمدًا فقد نصره الله، الله سينصره وأنتم لا دور لكم بالنصر لكن الله ابتلاكم بطاعته. ثم يحثهم على النفير دائمًا فيقول (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٤١﴾ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ) لو كان شيئا يسيرًا ما عارضوا، لا، هنا جاء البلاغ لما كان شيئًا بعيدا، وشيئا قويًا وعزيزًا على أنفسكم قال الله عز وجلّ (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) جاء أناس استأذنوا من النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لهم فعاتبه الله جاء العتاب بطريقة في غاية العجب، قدّم العفو على العتب تقول لأي إنسان تعاتبه: يا فلان فعلت كذا وكذا لكن الله يسامحك، وهنا لكرامة النبي على ربه وخشية الرب أن ينفلق صدر محمد صلى الله عليه وسلم من شدة الوحشة للعتاب قال له (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) فقدّم العفو على العتب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) استعجل النبي صلى الله عليه وسلم من رحمته وشفقته وعذره للناس فعذر من اعتذر منهم ولكن الله قال له: لو صبرت لأخبرتك من هو الصادق من الكاذب ممن اعتذر منك يا محمد ولم يرحل معك إلى الجهاد ولم يستجب لاستنفارك.
ثم بيّن أن الناس صنفان في قبول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للنفير إلى غزوة تبوك: أما المؤمنون فهم لا يستأذنون (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿٤٤﴾) من الذي يستأذن؟ (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴿٤٥﴾) هؤلاء هم الذين يأتونك ويقولون يا محمد إئذن لنا لدينا أشغال وبيوتنا عورة ونخاف على أولادنا وأنا معي عارض بسيط ويبدأ يعتذر لأجل أن يتملص هؤلاء هم الذين يستأذنونك ويتخلفون عن الجهاد. ولما ذكر استئذانهم بدأ بفضيحتهم الفضيحة الكبرى، أكبر فضيحة في التاريخ للمنافقين جاءت من بداية هذه الآية (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴿٤٦﴾ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) الله خّذلهم حتى لا يخرجوا فيكم فيثبطوكم (وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿٤٧﴾ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) كانوا يحتالون عليك ويمكرون بك (حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) ثم قال (ومنهم) وبدأ يعدد: ومنهم، ومنهم، ومنهم.. قرابة ثمانية أوجه في هذه السورة كلها فضائح في هؤلاء المنافقين بما لم يجتمع مثله في القرآن كله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي) كما روي عن أحدهم قال يا محمد إني أخشى أن أذهب معك لبلاد الروم فأفتتن ببناتهم، بنات بني الأصفر فاعذرني أنا أريد السلامة لديني. قال الله عز وجلّ (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ). ثم قال الله عز وجلّ (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿٥٣﴾ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿٥٤﴾ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿٥٥﴾) يقول فاضحًا إياهم (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴿٥٦﴾). ثم يبين أن منهم من يلمز النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصددقات وقسمتها (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴿٥٨﴾) ثم يذكر صنفًا آخر (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) يعني يسمع لكل من يكلمه ولا يسمع منا نحن أصحاب الرأي والجاه والمنزلة. ثم قال الله عز وجلّ (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٦٢﴾ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴿٦٣﴾) ثم يكشف عن خفايا نفوسهم (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴿٦٤﴾). ثم تسترسل الآيات إلى أن يأتي إلى قول الله عز وجلّ في الآية 73 (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) بالسيف سواء منهم مشركي العرب أو أهل الكتاب (وَالْمُنَافِقِينَ) هؤلاء الذين أصفهم لك يجب أن تجاهدهم، كيف يكون جهاد المنافقين؟ إن كانوا مستقلين عن أهل الإسلام في دولة أو جماعة أو طائفة وجب قتالهم كسائر الكفار وأما إن كانوا داخل الصف الإسلامي فقتالهم يكون بفضحهم وكشف مخططاتهم وذكر خبايا نفوسهم وتلاوة الآيات التي تفضحهم وكشف ما ينوونه ويعزمون عليه وبيان صفاتهم المذكورة في القرآن فهذا أعظم جهاد في حقهم ومنه الرد على الليبراليين والعلمانيين فهذا من أعظم الجهاد لأنه لا ينبري له إلا العلماء والعالمين بحالهم. (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٧٥﴾) إلى آخر ما ذكر من صفاتهم.
بعد ذلك في الآية 90 بيّن الله من هو الذي يُعذر بترك الجهاد فقال سبحانه وتعالى (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٩٠﴾ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٩١﴾ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴿٩٢﴾) فهؤلاء معذورون يا محمد. ثم يبين الله من هم الذين لا يُعذرون قال (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٩٣﴾ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) مع الخوالف أي مع النساء، إذا رجعتم من الجهاد اعتذروا تمنينا نكون معكم لكنكم تعلمون ما لدينا من العذر! (قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) ويقول كاشفًا عما في نفوسهم (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿٩٥﴾ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿٩٦﴾) ثم يبين أن أشد المنافقين نفاقًا هم الأعراب فيقول (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) ولما ذكر منهم هؤلاء قد يُظنّ أن الأعراب كلهم على هذه الشاكلة، قال الله: لا، قال (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٩٩﴾) وأيضًا ممن يدخلهم الله في رحمته (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) هؤلاء ممن سيدخلهم الله في رحمته (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) نسأل الله أن نكون منهم، السابقون الأولون قد فاتوا لكن نحن لنا حظ إن اتبعناهم بإحسان (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). ثم يبين أن حول المدينة وحولكم أيها المؤمنون منافقون فقال (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴿١٠١﴾ وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) جاؤوا إليك يا محمد وقالوا نحن تخلفنا عن الجهاد وما كان لنا من عذر ونحن اليوم جئنا نعتذر ونعترف نسألك يا محمد أن تدعو الله أن يتوب علينا قال الله عز وجلّ في حقهم (وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿١٠٢﴾) وعسى من الله واجبة ولذلك قال الله في آخر الصفحة (وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١٠٦﴾) وهم هؤلاء الذين اعتذروا وهم من أهل الإيمان. وذكر صنفًا من أهل النفاق عندهم مؤامرة خبيثة جدًا، يبنون مسجدًا ما يريدون به أن يكون معبدًا يُعبد به الله وإنما يريدون أن يكون مكانًا للمؤآمرات ضد المؤمنين فالله عز وجلّ حذّر النبي من أن يذهب إلى مسجدهم أو أن يصلي فيه أو يشهد ذلك المسجد (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿١٠٧﴾ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) ولا تذهب إليه ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم من يذهب إلى مسجد ضرار فيحرّقه فحرق هذا المسجد لتذهب بذبك منشآت النفاق، المنشآت التي يضعها المنافقون لأنفسهم ليتآمروا على المسلمين داخل الصف المسلم في الدولة المسلمة.
ثم ذكر الله بعد ذلك عاقبة المجاهدين أن الله عز وجلّ يرغبهم بالجهاد ليحصولوا على الجنة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) أعظم صفقة وقعت في العالم المشتري هو الله والبائع هو المؤمن والسلعة نفس المؤمن والجزاء الجنة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) من لم يحصل على هذه الشهادة، ما حاله؟ يُحرم؟ قال الله عز وجلّ هناك ضنف من المؤمنين لم يحصلوا على الشهادة ولكن حصلوا على شيء آخر (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١١٢﴾)
بعدما انتهى من هذا عاد مرة أخرى ليذكّر بأمر الولاء والبراء الذي ظهر كثيرا في هاتين السورتين الكريمتين سورة الأنفال وسورة براءة ويذكّر بأن الجهاد صورة من صور البرآءة من هؤلاء المشركين وأننا لا نتلاقى معهم في شيء لأننا نوحد الله وهم مشركون بالله ولذلك قال الله (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿١١٣﴾)
ثم تأتي السورة بالبشارة لأولئك الذين أرجئ أمرهم جاؤوا يعتذرون ويعترفون بذنبوهم وسبب تخلفهم عن الجهاد ويصدقون في كلامهم (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿١١٧﴾) هذا الصنف الأول ممن تاب الله عليهم والصنف الثاني (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وهم الذين تخلفوا ثم جاؤوا لرسول الله وأبلغوه الحقيقة ولم يكذبوا، تاب على الثلاثة (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿١١٨﴾) تكرار كلمة التوبة في هذه السورة الشديد القوية المقشقشة الحافرة المبعثرة الكاشفة سورة العذاب يأتي التذكير بالتوبة لئلا يقطع الله بين عباده وبين رجائه والفوز برحمته. ولما ذكر حال هؤلاء الصادقين الذين صدقوا مع رسول الله رغّبنا نحن أن نكون مع الصادقين فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴿١١٩﴾) الذين يصدقون ولو كان في الصدق ضرر عليهم لكن في الصدق في الباطن هو قربة من الله.
ثم عاد مرة أخرى كما بدأ في أول السورة ذكر فضائل الجهاد وذكر في آخر السورة فضائل الجهاد على طريقة القرآن في المثاني يذكر الشي ثم يعيده مرة أخرى لأن طبيعة النفس الإنسانية تنسى وتغفل قال الله عز وجلّ (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) لماذا لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه؟ لأنهم سيحصل لهم من الأجور ما لا يحصلونه في غير الجهاد (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) إذا خرجوا معك (لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) من حين ما يخرج المجاهد من أول ما يغادر باب بيته يبدأ عداد الحسنات حتى لو يجلس يعمل شاي أو قهوة ليشرب تكتب له حسنات عند الله، يصعد جبلا يكتب له، ينزل واديًا يكتب له يستريح يكتب له عداد الحسنات مستمر حتى يرجع إلى بيته مرة أخرى أو ينال ما كتب الله له من الشهادة. قال الله عز وجلّ (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٢١﴾) وهذا الحثّ قد يجعل كل المؤمنين ينفرون في الجهاد سبيل الله فلا يبقى أحد، قال الله لا، انتبهوا، أنا حثثتكم على الجهاد وأمرتكم به وبيّنت لكم فضيلته لكن لا يسعكم جميعًا أن تخرجوا إليه لأنكم لو خرجت إليه جميعًا لتعطلت المصالح وغزيت البلدان وحصل ضرر ببقية أهل الإسلام (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) تبقى طائفة تتفقه في الدين تتعلم تحمي البلاد حتى إذا رجع المجاهدون فقهوا إخوانهم وعلموهم دينهم.
ولما ذكر قتال أهل الكتاب في هذه السورة قد يظن أن هذا القتال لمن كان داخل جزيرة العرب، قال الله عز وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) يعني الروم وغيرهم من أهل الكتاب، يلونكم، ليسوا داخل جزيرة العرب (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) ولذلك لما نزلت هذه الآيات شرع النبي صلى الله عليه وسلم في تجهيز جيش أسامة بن زيد ومات عليه الصلاة والسلام ولم ينطلق جيش أسامة فكان أول قرار اتخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه تسيير جيش أسامة لأنه لواء عقده رسول الله لا يمكن أن يُحل وخرج أسامة رضي الله عنه إنفاذا لهذه الآية.
انتهى من الجهاد وذكره بدأ يبين أن هذا القرآن الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من يزداد به إيمانًأ ومنهم من ينقص. أود أن تتأملوا أن كل سورتين تشكل قضية واحدة، البقرة وآل عمران، النساء والمائدة، الأنعام والأعراف، الأنفال والتوبة، ارجعوا إلى الأنفال ستجدون (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) هذا في أول الأنفال وفي آخر التوبة (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿١٢٤﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴿١٢٥﴾ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿١٢٦﴾ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) هؤلاء المنافقون (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) قال الله عز وجلّ مبيًنا كيف أن هذه السورة الشديدة الغليظة على هؤلاء جاءت مع رسول رحيم رفيق فاتبعوه لتدركوا الرحمة من جميع وجوهها (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) عزيز عليه عنتكم ومشقتكم (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿١٢٨﴾ فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان (فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)
هذه إطلالة على هاتين السورتين نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لفهمها وكم تمنيت لو جعلنا هذه الإطلالة قبل أن نستمع إلى الآيات لأننا عندما نفهم جو السورة العام ونستمع إليها سنتلذذ بها أكثر.