مقاصد السور
د. محمد عبد العزيز الخضيري
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
سورة البقرة
السورة الثانية من سور القرآن هي سورة البقرة وهي أكثر سور القرآن آيات وما فيها من الأحكام والمقاطع كثيرة جدا حتى ليظن من يقرؤها أنها سورة منوعة وأنه لا يوجد رابط لهذا التنوع الكبير الموجود في هذه السورة الكريمة. ولكني سألخص لكم حقيقة هذه السورة وما ترمي إليه. سورة البقرة هي سورة الاستجابة والطاعة تريد من العباد وتريد من الناس أن يستجيبوا لله وأن يأخذوا أحكام الله بجدّ وقوة، هذه خلاصة هذه السورة.
افتتحت هذه السورة بذكر أقسام الناس في الاستجابة لله عز وجلّ وطاعته. قال الله عز وجلّ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾) ثم ذكرت من هم هؤلاء المتقون (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿٣﴾ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿٤﴾ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥﴾) ثم ذكرت من لم يستجيبوا أساسًا وهم الكفار وأعلنوا ذلك صراحة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٦﴾ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٧﴾) ثم ذكرت صنفًا ثالثًا وهم الذين أظهروا الاستجابة وأبطنوا الكفر وهم المنافقون (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴿٨﴾ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿٩﴾ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿١٠﴾) وأطالت في أوصافهم لأن أمرهم يخفى على كثير من الناس فهم لا يُعرفون بأسمائهم ولا بأشكالهم وألوانهم وإنما يعرفون بسيماهم وأوصافهم.
لما تقرر هذا في هذه المقدمة الجميلة المختصرة ذكر بعد ذلك ثلاثة نماذج في غاية الوضوح لتحقيق هذا الأمر:
النموذج الأول قصة آدم عليه الصلاة والسلام لما خلقه الله وأسجد له ملائكته وكرّمه بهذه الكرامة العظيمة ثم أسكنه جنته وأغرى به إبليس يوسوس له ويزيّن المعصية فعصى فلما عصى أهبطه الله من الجنة. فانتبه! هذه الأوامر المذكورة في هذه السورة لك إن أخذت بها سعدت ونلت أعلى المراتب وإن تخلّفت نالك ما نال أباك.
القصة الثانية ليست قصة لفرد وإنما قصة لأمّة حتى لا يظن أحد أن هذا خاص بالأفراد دون الأمم. قصة بني إسرائيل افتتحت بقول الله عز وجلّ (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿٤٠﴾ وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴿٤١﴾ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٤٢﴾ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿٤٣﴾ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿٤٤﴾ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴿٤٥﴾) إلى آخر ما هنالك. فذكر الله في قصة بني إسرائيل أنه آتاهم الكتاب وكلّفهم وأنعم عليهم بالنعم الكثيرة ولكنهم قابلوا ذلك بالعضيان والتمرد الاختلاف على الأنبياء وكثرة التشقيق ومحاولة التخلّف عن طاعة الله عز وجلّ (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿٦٠﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿٦١﴾)
ثم جاءت قضية بني إسرائيل في قصة أكثر وضوحا وهي قصة البقرة التي سميت بها هذه السورة كرمز لهذا المعنى العظيم الذي لخّصنا به السورة وهي الاستجابة لله ورسوله والطاعة التامة والتسليم المطلق (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) يقولون لنبي لرسول من أولي العزم أتتخذنا هزوا! أتهزأ بنا يا موسى؟! (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿٦٧﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴿٦٨﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا) عجلوا لا تتأخرون ولكنهم مستمرون لم يستجيبوا عندهم عادة في التأبي والتملص من الأحكام كحال كثير من المسلمين في هذا الزمان تقول له قال النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: هذا فرض أو واجب؟ تقول له واجب، يقول: هل هو واجب مؤكد يكفر الإنسان إذا تركه؟ يعني كبيرة أو صغيرة؟تقول صغيرة، يقول إذن يمكن إذا صلى الواحد صلاة يكفّر عنه! بهذه الطريقة نحن نتعامل مع النصوص كحال بني إسرائيل (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿٦٩﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿٧٠﴾ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴿٧١﴾) يا بني إسرائيل احذروا أنتم الآن على شفا هلكة، أنتم بهذه الطريقة تتملصون من أحكام الله وتتوارون عن طاعة الله لا يليق بكم ذلك. النهاية أن الله عز وجلّ كان قد فضلهم على العالمين فسلبهم التفضيل وجعل منهم أمة قردة وخنازير وضرب عليهم الذة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله.
إذن المثال الأول لشخص وهو أبونا آدم والمثال الثاني لأمة وهم بني إسرائيل والمثال الثالث لإبراهيم عليه السلام. بدأت قصة بني إسرئيل بقول الله تعالى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿٤٠﴾) وختمت بنفس البداية (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿١٢٢﴾) فلما انتهى من قصتهم في ثمانين آية تقريبًا قال (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) ماذا فعل إبراهيم بالكلمات التي ابتلاه بها؟ (فَأَتَمَّهُنَّ) افعلوا مثل أبيكم. (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) طمع إبرهيم عليه الصلاة والسلام قال ما دمت ستجعلني إمامًا فاجعل ذريتي كذلك يا رب (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال الله (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) حتى أمة محمد متى تخلفت عن إتمام الكلمات ولم تقم بها ولم تستجب لله ولا لرسوله فإنهم لا ينال عهد الله الظالمين. ونفّذ إبراهيم ما أُمر به بكل قوة وصدق، هذا نموذج لمن أطاع الله عز وجلّ وأخذ أمره بقوة وجدّ.
بعدما انتهى من تقرير هذه النماذج الثلاث وإيضاح النماذج بين أيدينا بدأ بنا نحن وأمرنا بأوامره سبحانه وتعالى فبدأ بالتوحيد في قوله (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴿١٦٣﴾ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿١٦٤﴾) إلى آخر تلك الآيات يقرر فيها عقيدة التوحيد.
وبعد أن انتهى من التوحيد بدأ بالشرائع في قوله عز وجلّ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴿١٧٧﴾) هنا جملة الشرائع، هذه الآية جامعة لكل ما يريده الله من عباده وذكر فيها من أركان الإسلام الخمسة: الصلاة والزكاة. بقي الصيام والحج جاء بعدها (يا أيها كتب عليكم الصيام تتقون) وبعدها (وأتموا الحج الهدي) فرتبت أركان الإسلام في هذه السورة كترتيبها في حديث ابن عمر: بني الإسلام على خمس: التوحيد (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴿١٦٣﴾) ثم (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿١٨٣﴾) (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
وبعد أن انتهى من قضايا أركان الإسلام انتقل إلى القضايا الاجتماعية وهي أحكام النكاح والطلاق والعدد والحيض وما يتصل بها مما يحتاجه الناس في حياتهم الاجتماعية.
وبعد أن انتهى من الحياة الاجتماعية انتقل إلى القضايا المالية وبدأها بقول الله عز وجلّ (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿٢٦١﴾) ورغّب الناس في الصدقة في آيات لم يُرى مثلهن في القرآن ولما انتهى من الترغيب في الصدقة ذكر ضديدها الربا (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿٢٧٥﴾) ولما قرر هاتين القضيتين الصدقة وضدها وهو الربا ذكر أحكام البيوع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٢٨٢﴾) إلى آخر آية الدَيْن.
وبهذا أصبحت هذه السورة هي كلية الشريعة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: التوحيد، أركان الإيمان، الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد كلها موجودة في السورة (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴿١٩١﴾) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴿٢٤٣﴾ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿٢٤٤﴾)، قضايا الأسرة والحياة الاجتماعية، القضايا الاقتصادية، أحكام القصاص وما يتصل بها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿١٧٨﴾) الوصايا وما يتصل بها (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴿١٨٠﴾)
بيّن لك في هذه السورة كل شيء وما الواجب عليك فاسمع وأطع وسلّم أمرك لله وإياك أن تتخلف عما أوجب الله عليك أو تحاول أن تتملص من أحكام الله عز وجلّ فإنك إن تملصت صار مصيرك مصير أبيك آدم أو مصيركم بني إسرئيل الذين فضلهم الله على العالمين فتملصوا فسلبهم الله ذلك التفضيل وضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب الله. إن استجبتم وأطعتم صار مصيركم مصير إبراهيم إمام الحنفاء وأبو الأنبياء وخليل الرحمن وأحد أولي العزم من الرسل والذي يؤكد هذا أن آخر السورة قال الله عز وجلّ مبينًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد استجابوا وآمنوا وأطاعوا وامتثلوا أمر الله (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) لكن يا رب أحيانًا تزلّ بنا القدم (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) قال الله من رحمته بنا (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) لا يكلفك الله شيئا لا تطيقه ما لا تطيقه من أوامر الله فإنه الله عز وجلّ يسقطه عنك (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿٢٨٦﴾).
تقرأ سورة البقرة فتظن أنك في كل لحظة تأتي إلى قضية لا تتصل بالقضية الأخرى ولكن عندما تنظر إليها هذه النظرة الكلية العامة ستجد أنها سورة قد رُتبت ترتيبًا بديعًا ونظمت نظمًا عجيبًا وأحكمت آياتها إحكامًا في غاية الإتقان وهذا شيء يسير من فيوضها وأنوارها وإلا فالمجال يطول لو أردنا أن نسبح فيما احتوته هذه السورة من البدائع والعجائب والعبر العظات والدروس والحِكَم.