الحلقة الخامسة
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ) (على) فيها معنى العلو المطلق وفيها عظمة من أُنزِل عليه القرآن وفيها التكليف والإنزال (على عبده) إلزام من الله عز وجل ذي الجلال لعبده أن يا عبد اِحمل هذه الرسالة ووصِّل وبلِّغ هذه الرسالة أعظم مهمة يمكن أن تحملها أكتاف بشر “أمانة الدعوة”. الناس في حالة من الضيق ومن الغرق والمعاناة والبؤس يحتاجون إلى علاج سريع الخلود في جهنم مصيبة المصائب، من ينقذ الناس من الخلود في جهنم إن لم تنبري أمة محمد صلى الله عليه وسلم لاستنقاذ الناس. كلمة (على) فيها اِنزال واستعلاء. (الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) إضافة العبد إلى السيد المطلق تشريف، نسبه إلى نفسه.
(الكتاب) حرف إلى حرف كلمة، كلمة إلى كلمة جملة، جملة إلى جملة آية، آية إلى آية سورة، سورة إلى سورة، الكتِب بمعنى الضمّ ومنه الكتيبة. جندي إلى جندي صاروا حظيرة، حظيرة إلى حظيرة صاروا سريّة، سرية إلى سرية صاروا كتيبة. إذن معنى الكتب الضم والتأليف. (أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) هذا الكتاب العظيم الجليل، سورة الإسراء ركّزت على القرآن، سورة الكهف ركّزت على الكتاب إذن هو محفوظ في الغيب فيُقرأ فهو قرآن ولكنه مسطور أيضاً فهو محفوظ بالكتابه فالتقت وسيلتا الحفظ: القرآءة عن ظهر قلب مصاحفنا في صدورنا إن شاء الله ومصاحفنا محفوظة في سطورنا إن شاء الله تعالى.
(الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) ما معنى الكتاب؟ هل القصد هذه السورة أو ما نزل حتى هذه السورة أو ما نزل وما سينزل؟ أقول (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) باعتبار ما سيؤول إليه أمر التنزيل أن سيكتمل هذا الدين وسيكتمل نزول هذا الكتاب وسيظهر هذا الدين بأمر مولانا الملك الحق المبين سبحانه وقد حصل. إذن (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) باعتبار اكتمال النزول، القرآن يتكلم عما سيكون أن سيكتمل نزوله. هذه السورة في ترتيب النزول يمكن أن تكون في وسط النزول فهي من حيث العدد أوسط ما نزل، تتكلم عن الكتاب باعتبار تمامه وكماله.
(وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) العوج ضد الاستقامة، انحراف عن سواء السبيل عن الصراط السوي. (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ) هل (له) بمعنى (فيه)؟ بعض العلماء يقول أن حروف الجر تنوب بعضها عن بعض لكن القرآن لما قال (لم يجعل له) يقصد هذا الحرف للجر بالذات، كأن العوج لن يجد سبيلاً لهذا الكتاب وأنّى يجد العوج سبيلاً لهذا الكتاب وهو محمي محروس. لو قال يجعل فيه عوج ينفي أن يكون العوج في داخله. (له) أبلغ لأن العوج لن يجد له طريقاً يسلك بها إلى الكتاب فكيف يكون فيه عوج والطريق لبلوغ العوج لهذا الكتاب مسدودة ومستحيلة. إذن (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) أبلغ في النفس من (يجعل فيه). العوج المتعرج كثير التعاريج، نفى عنه العوج ثم أثبت له الاستقامة (قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) قيّماً من الاستقامة وقيّماً من القوامة (ابن القيّم كان والده قيّماً ناظر مدرسة فسمي ابن القيم). هذا الكتاب مهيمن وقيّم على كل الكتب. إذن (قَيِّمًا) مستقيماً تأكيد لنفي العوج (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) نفى عنه العوج ثم أثبت له الاستقامة (قَيِّمًا) لأن نفي العوج بحد ذاته نفينا السلب لكن لا بد أن نثبت الإيجاب، نفى العوج وأثبت الاستقامة وأثبت مع الاستقامة القوامة والهيمنة لهذا الكتاب على سائر الكتب. إذن وصف الكتاب، امتنّ بهذا الكتاب على الرسول، أُنزل كنز على هذا الرسول ألا وهو القرآن فيا أيها المناوؤن هل تناوؤن نبيي وتجادلونه وتعرقلون سبيله صلى الله عليه وسلم وأنا أمتن عليه بأني أنزلت عليه أعظم كتبي وخاتم رسالاتي؟!! فليكن موقفكم من هذا الكتاب ما يكون فهذا الكتاب قيم على الوجود كله ومستقيم لا عوج له.
لِمَ كان نزول هذا الكتاب؟ (لينذر) لام التعليل هذا القرآن العظيم ينذر الناس أنه إن لم يتّبعوا هذا الكتاب يوشك أن يصيبهم البأساء واللأواء والضراء والبلاء وينزل عليهم من السماء ما لم يكونوا يحتسبون من أنواع العقاب. (لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ) من عنده سبحانه. الكتاب من عنده فمن لم يحترم الكتاب الذي أُنزل من عنده يتوقع أن يأتيه من عنده سبحانه بأس شديد في الدنيا وباس شديد واشد مطلقاً في الآخرة. لكن على طريقة القرآن في كفتي ميزان لا بد أن يكون كل شيء متوازن والكفتين متعادلتين، ذكر البأس الشديد فلا بد أن يبشر (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا). (قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ) هذا المنذَر به فأين المنذَر؟ المنذَر محذوف. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) المبشَّر موجود والمبشّر به موجود. (لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ) أنذرهم البأس الشديد من لدنه، من هم؟ الكافرون لكن لم يذكرهم. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) لا بد للإيمان من أن يكون مقترناً مع العمل الصالح، شجرة لا بد أن تطرح ثمراً، شجرة من غير ثمر يكون فيها عيب. إيمان بلا عمل فيه خلل، لا بد تلقائياً أن الإيمان يخرج وينبت ويفرز العمل الصالح فالإيمان والعمل الصالح قرينان لا ينفكان لا يفترقان بل هما دائماً يلتقيان. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) أجرا حسناً وإذا كان رب الوجود يقول عن هذا أجر حسن فسيكون شيء هائل جداً وعظيم جداً لأنه ملك الكون العظيم لا يقول عن شيء حسن وعظيم إلا إذا كان عظيماً جداً. إذا قال لك بليونير اليوم ربحنا من فضل الله مبلغ وافر، ماذا تتوقع؟ يكون ربحه بالملايين! هذا بشر فكيف برب البشر! إذا قال (أَجْرًا حَسَنًا) لك أن تتصور أن الحسن في هذا الأجر هائل عظيم جزل مطلق (أَجْرًا حَسَنًا). وأعظم من مجرد هذا الأجر ديمومة هذا الأجر (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) أعظم النعيم خلود النعيم وأجزل أوجه هذا النعيم البقاء في هذا النعيم لأنه مهما كان النعيم إن كان له أمد أو نهاية سيكون منغّصاً وستحسب حساب هذه النهاية. رزقنا الله وإياكم النعيم المقيم
http://www.youtube.com/watch?v=T_CF3mDEVW0