الحلقة التاسعة
مشهد دعاء فتية الكهف، بعد دعائهم اعتراض منهم على قومهم يقولون (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً(15)) (هؤلاء) اسم إشارة مع أن المشار إليه غير موجود، هذه إضاءة، أحياناً أشير إلى موجود وأحياناً أشير إلى معهود وإن كان غير موجود. هؤلاء قومهم لهم في الذهن حضور وأذاهم للفتية حاضر فقال (هؤلاء قومنا) يقولونها بمرارة وألم لأن ظلم ذوي القربى مؤلم خاصة إن حاربوك في دينك فيكون الألم مضاعف أضعافاً كثيرة. (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً(15)) أي من دون الله عز وجل (آلهة) للتكثير، آلهة كثيرة، كل قبيلة من قبائل العرب كان لها إلهاً، العقلية الشركية والكفرية عند الناس عقلية واحدة، مبدأ واحد، ومن العرب من كان يتخذ إلهاً فإذا جاع أكله، وبعض الناس الآن يتخذ مصالح وبعدما ينتهي من مصالحه يأكلها بعضهم يتاجر بالوطن وبعدما ينتهي من المتاجرة بالوطن يأكله! آلهة تُعبد من دون الله ثم تؤكل. (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا) لولا هنا بمعنى (هلّا) غير (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ(24) يوسف) لولا هنا حرف امتناع لوجود. بينما في آية سورة الكهف بمعنى (هلّا) مثل (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ(116) هود) يا بني لولا درست. (لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) منهجية الفكر والعلم والنظر منهجية هذا العقل خطير جداً إما أن يزلك ويضلك وإما أن يقودك إلى الله سبحانه، العقل نفسه إما أن تستخدمه في المكر والدسّ والوقيعة والشر والعربدة في الأرض وإما تستخدمه في إدخال النور والعقل إلى الناس، العقل هو العقل لكن توظيفه توظيفاً خاطئاً أو توظيفه توظيفاً إيجابياً. تعلّمنا السورة بطريقة مباشرة وغير مباشرة بدلالة النص وبإشارة النص تعلمنا قيماً كثيرة جداً من ضمنها كيف نرشّد هذا العقل، لا تقل قضية إلا وعليها برهان.
(لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) دليل واضح، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) جعلوا نهاية الكلام صياغة بشكل قانون عام (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) الجواب لا أحد. أقصد قومنا الذين افتروا على الله كذباً وزعموا أن له أنداداً وشركاء وآلهة أخرى معه، من أظلم ممن افترى مثل هذه الفرية على الله عز وجل؟ الجواب لا أحد (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) كلام فتية الكهف متواصل (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) إذ ملازمة في العرض القرآني القصصي في أثناء هذه المشاهد والعروض القصصية. (اعتزلتموهم) اعتزلوا قومهم – وليسوا من المعتزلة – سمي المعتزلة بهذا الاسم لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري من أكبر التابعين والخاسر من اعتزل مجلس الحسن البصري. الفتية اعتزلوا قومهم اي أخذوا لنفسهم منهجاً غير منهج قومهم وطريقة حياة غير طريقة قومهم. (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) التحوّط في الكلام، اعتزلوا عبادة قومهم إلا عبادة الله على فرض أنه قد يكون أحدهم يعبد الله عز وجل احتياطاً (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) هم لم يعتزلوا عبادة الله ولم يعتزلوا من يعبد الله، نعتزل كل عبادة سوى عبادة الله ونعتزل كل من يعبد سوى الله عز وجل. (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) إذا اعتزلتموهم انحازوا إلى هذا الكهف واجعله مأوى لكم مأوى مؤقتاً ويشاء الله عز وجل أن يناموا ثلاثمائة وتسع سنين، دخلوا مأوى مؤقتاً فمرت أجيال وراء أجيال وهم ممددين في الكهف لا يشعرون بالزمن. (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا) قبل آية ذكرت الرحمة، أنت أيها العبد في رحمة الله عز وجل فلا تخرج من رحمة الله، دعك في رحمة الله عز وجل دنيا وآخرة. (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا) نقول مرافق البيت أي ما يُنتفع به من جوانب البيت وأجزاء البيت وتجهيزات البيت، نسميه مرافق (مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا) تنتفعون به تقضون حوائجكم به.
الآن مشهد جديد (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم لكل مخاطب من بعد النبي صلى الله عليه وسلم الخطاب عام لكن أول المخاطبين سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم. (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ) طريقة السرد الطبيعي المألوف بالنسبة لنا لكن منهج القرآن في العرض والسرد غير منهجنا نحن، (وترى الشمس) جعلك جزءاً من القصة، كأنك مشارك في أحداث القصة وكأنما اسقط فاصل الزمان والمكان الذي يحجبك ويحجب القصة عنك (وترى الشمس) فصرت تعاين ما يُقصّ عليك. ورحم الله من قال القصص القرآني يقع في القلب عن طريق العين قبل أن يصل القلب عن طريق الأذن كأنما تشاهد قصة مصورة ولا تسمع حكاية مروية.
(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) هل هو الكهف الذي في جنوب عمان أو الكهف الذي في سوريا أو الكهف الذي في تركيا؟ كل هذا لا يعنينا ولا يعني منهج القصة القرآنية وهذا لا يعني أننا لا نبحث ولا ندرس ولا نأتي بخبراء آثار ويدرسوا الكهوف ويرجّحوا أي كهف هو، لا مشكلة لدينا في الدرس والبحث فلينشط الباحثون والدارسون لكن لا ينبني شيء على كون القصة وقعت هنا أو هنالك ولا يعول عليه كبير تعويل وليس من مقاصد القصة الرئيسية أن يقول لك موضعهم في كيت وكيت من الأماكن.
(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) الشمس نورها يصل إلى الكهف، يستفيد النائمون من شعاعها ولا تؤذيهم بمباشرتها لهم، فهي مائلة عنهم إذا طلعت جهة اليمين وإذا غربت مائلة عنهم تقرضهم يقع شعاعها منكسراً لا مباشراً لأن الجسم يحتاج للأشعة ففائدها تصلهم وأذاها محجوب غير واصل لهم.
(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا(17)) الرشد مر بنا سابقاً والآن مر ثانية وسيمر بعد هذه الآية.