الحلقة 90
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32) الأنعام) – (وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (169) الأعراف) – (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) يوسف) (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) النحل)
د. نجيب: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد. باسمكم جميعًا نرحب بشيخنا الجليل الأستاذ العلامة الدكتور أحمد الكبيسي حفظه الله في هذا البرنامج آملين من الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في دورتنا الجديدة مستكملين الآيات القرآنية وأخواتها في كتاب الله تعالى فليتفضل شيخنا في هذا البرنامج.
د. الكبيسي: بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلًا ومرحبًا بكم من جديد. وكنا قد توغلنا في سورة الأنعام ومن سورة الأنعام نبدأ هذه الحلقة أيضًا في قوله تعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32)) وللدار، وقال (للذين يتقون) وليس اتقوا، في الأعراف (وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (169)) (والدار) وليست (وللدار) حذف لام التوكيد، في يوسف (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109)) والنحل (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)). كلكم تعرفون – وأنتم أهل العلم – أن (الدار الآخرة) صفة وموصوف، الدار مبتدأ والآخرة صفة وخير خبر، و(لدار الآخرة) مضاف ومضاف إليه، مجرور (ولدار الآخرة خيرٌ) دار مبتدأ وخير خبر، ولدار مضاف ولكن الآخرة مضاف إليه معنى ذلك أن الآخرة إما أن تأتي صفة للدار أو تأتي مضافة إلى الدار، والدار إما وحدها مجرّ>ة (والدار) وإما فيها لام التوكيد (وللدار الآخرة) أو فيها لام واحدة (ولدار الآخرة) وكل واحدة تشير إلى معنى مختلف عن المعنى الآخر بالكامل.
الدار الآخرة يوم القيامة، كلها دار. قبل أن نبدأ يستحسن أن نفرّق بين دار وبيت ومنزل ومسكن هذه كلمات قرآنية.
الدار البيت الذي نشأت فيه أنت وأبوك وأجدادك وأصلك وفصلك وأنت بين مضارب قومك وأهلك وقبيلتك وعشيرتك هذه دارك ويقولون (من فات داره قلّ مقداره) داره يعني أصله ونسبه، حولك أهلك وأعمامك وأخوالك وعشيرتك هذه دارك. فدار الدنيا دار بيتك أما في الآخرة يعني نشأتك، أين نشأت؟ نشأتك دار في الدنيا التي هي بين قومك والآخرة دارك لأنها نشأتك أول ما تبعث تنشأ في تلك الدار فهي دار أيضًا. إذن الدار مكان النشأة التي هي أصلك وفصلك وأنت تعتز بها وتمدحها وكل الشعراء يبكون على دارهم الأصلية، هذه دار.
البيت أيّ مكان إذا نمت فيه تنام فيه آمنًا (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ (127 البقرة) لماذا بيت؟ ما قال دار لأنه (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا (97) آل عمران) كل مكان تنام فيه وأنت مستقر ولا تخاف عدوًا فهو بيت من البيتوتة، بات الإنسان في حزن، بات في فرح (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ (108) النساء) وأنتم تعرفون أن الليل غدّار وإذا أمنت في الليل فأنت آمن قطعًا إذا كنت تنام في بيتك آمنًا في الليل فأنت في النهار من باب أولى آمن فالمكان الذي تأمن فيه يسمى بيتًا.
المسكن واسع قصر فيه أثاث فيه خدم أنت فيه ملك، هذا مسكن، (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ (58) القصص) هذه قصور، (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ (149) الشعراء) يعني قصور خيال ولهذا رب العالمين قال (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ (81) القصص) خسف بقارون وبداره الأرض، هذا مجده الذي تربى فيه، فالدار أصلك وفصلك وبيتك الذي ولدت فيه وولد فيه أبوك وجدك هذه دارك لأن نشأتك فيه، والجنة دارك باعتبارك مؤمنًا باعتبار نشأتك الأخرى لأنك لما تبعث من جديد تنشأ هناك والنار دار الكافر لأنه ينشأ فيها من جديد، هذه دار. والبيت هو الذي تنام فيه آمنا والمسكن أثاث ورياش وكما في الحديث: أربعٌ من السعادة “والمسكن الواسع واسع وكبير وأثاث ولهذا قال على النمل (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) النمل) مساكن النمل تحت الأرض دروب وأنفاق واسعة جدًا خيال لا تراها.
أما النزل والمنازل هي استراحة، نصف ساعة، ساعة ساعتين وترحل عنها، هذه المنازل، (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ (39) يس) كم يبقى القمر في مكانه؟ خمس دقائق ويمشي، هكذا هي الاستراحات في الطريق وأنت مسافر هناك نُزُل تشرب فيها شاي وقهوة وتمشي، هذه منازل. إذن أفخمها وأعظمها الدار
قف بالديار التي لم يبلها العدم بلى وغيّرها الأرياح والديم
كل الناس تبكي على الديار
د. نجيب: في المغرب العربي يسمون الفنادق نُزل
د. الكبيسي: هذه كلمة عربية دقيقة وبالمناسبة لغة المغرب وقد عشت فيها أيامًا فيها كلمات عجيبة. يقول تعالى (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) الغاشية) الزرابي هي السجاد وليس هناك عربي يقول زربية إلا المغاربة ولما تسمع نشرة الأخبار من إذاعة المغرب تجدها قطعة أدبية.
د. نجيب: والغريب أن الألفاظ التي يستعملونها في البادية من مسميات الصحراء والإبل والنباتات هي نفس ما نستعمله نحن في الجزيرة العربية.
د. الكبيسي: لأن اختلاطهم بالأجانب قليل. هذا الفرق بين دار وبين بيت وبين منزل وبين مسكن. إذن الدار هي الدار والدار تطلق على المكان الذي نشأت فيه وعلى مدينتك دارك، وعلى الدولة التي أنت فيها، هذه كلها دور. أنت بين قومك تقول أنا من بني فلان
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
إذا سافرت إلى غير مدينة تقول هذا من دبي وأنا أقول من رأس الخيمة وآخر من الفجيرة أو من أبو ظبي، دارك دبي، يقولون دبي دار الحيّ، هذه ديار. لما تسافر خارج الإمارات تقول أنا من الإمارت هذه داري، إذن كلمة دار تطلق على كل مكان تسكن فيه وأنت تفتخر به. رب العالمين لما تكلم عن الآخرة مرة قال (وللدار الآخرة) عمومًا لكل من يدخل الجنة ممن قال لا إله إلا الله مصدقًا بها قلبه وإن زنى وإن سرق (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) البقرة) فدارهم تلك دار الجنة. الجنة دار الكل ثم أنت في هذه الدار الكبيرة لك دار خاصة هذه لما قال (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ). (والدار الآخرة) هذه للكل، (وللدار الآخرة) هذا قسم، في القسم الثاني من الحلقة سنتكلم عن الفرق بين الذين اتقوا والمتقين، إذن الدار الآخرة الجنة ولهذا قال (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) ص) هي الآخرة. رب العالمين سبحانه وتعالى يقسم قسمًا عظيمًا (وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32) الأنعام) قسم بالواو ولام التوكيد (وللدار الآخرة) والآخرة صفة هذه هي الجنة ككل، ثم قصرك العجيب الذي يساوي الدنيا مئات المرات، قصرك وأنت آخر واحد يدخل الجنة بقدر الدناء مائة مرة، ما هذا الملك؟! (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) الإنسان) هذه دارك (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الرعد) انظروا ماذا أعطاكم الله تعالى! ولهذا كلمة (ولدار الآخرة) هذه خاصة ببيتك أنت وأهلك لأن كل أهلك فيها مجموعون وهذا من كرم الله لشريحة من عباد الله المتقدمين يجمع لهم كل أهلهم ما داموا موحدين وإن لم يعملوا مثل عمله
د. نجيب: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ (21) الطور)
د. الكبيسي: إذن هذا الفرق بين (والدار الآخرة) هذه عموم الجنة و(للدار الآخرة) هذه الفردوس الأعلى (ولدار الآخرة) هذه دارك أنت يعطيك الله دارا بقدر الدنيا مائة مرة وفي رواية عشر مرات ولو أعطاك بقدر الدنيا مرة واحدة (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) الإنسان)، هذا الفرق بين (والدار الآخرة) و(للدار الآخرة) و(ولدار الآخرة) كل واحدة تتكلم عن موضوع، الدار الآخرة الجنة وما فيها من درجات و(للدار الآخرة) الفردوس الأعلى مقصورة الرحمن (فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا (69) النساء)، (ولدار الآخرة) ملكك أنت والله يمدح مُلكك أنت (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) هذه لكل من يدخل الجنة سيرى ملكًا يعجب له، فيقول رب العالمين للعبد لما يرى ملكه في الجنة يقول يا رب لمن هذا؟ يقول تعالى هو لك، هذا الفرق بين (الدار الآخرة) كل الجنة، (وللدار الآخرة) الفردوس الأعلى، (ولدار الآخرة) ملكك أنت في الجنة ملكك الذي تراه كله في آن واحد هذا الذي هو بقدر الدنيا مائة مرة عينك ترى كل ما فيه هذا بقوانين الآخرة التي لا يمكن لخيالنا أن يدركها وما خطر على قلب بشر.
عرفنا الفرق بين الدار الآخرة وللدار الآخرة ولدار الآخرة.
(خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ) – (خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ)
يقول تعالى (خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ) – ومرة قال (خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ) ما الفرق بين الذين يتقون والذين اتقوا والمتقين؟.
الذين اتقوا هم أهل لا إله إلا الله (إن الله مع المتقين) (إن الله مع الذين اتقوا) الذين اتقوا هم أصحاب البلاء. ما من عظيم إلا ولا بد أن يثبت جدارته لذلك المكان العظيم، تعيّن قائد جيش، تعين وزير، سفير، ناهيك عن أن تعين ملكًا أو رئيس دولة لا بد أن يمر باختبار (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) العنكبوت) هناك فرق بين الذين اتقوا والمتقين، الذين اتقوا مروا بتجربة قاسية يقول صلى الله عليه وسلم “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله” وذكر منهم “رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين” يوسف عليه السلام راودته التي هو في بيتها عن نفسه، زليخا كانت حسن الكون في وجهها وهذا يوسف شطر الحسن وعاش في بيتها سنين وراودته وغلّقت الأبواب قصر الفراعنة كان لديهم خمسين سياجًا فهي غلّقت خمسين بابًا لكي تختلي به فقال يوسف عليه السلام (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) يوسف) قال تعالى (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف) كل واحد منا مرّ في حياته بامتحان، سجنوك أناس مشركون كفرة وقالوا تعال اشتم فلانًا أو اكفر فلم تفعل أنت ناجح، هذا من الذين اتقوا. بعدها رب العالمين معك يثبتك في كل مكان “الصبر عند الصدمة الأولى” هذا الذين اتقوا، يعني ثبت. واحد جاءته رشوة وهو موظف كبير وقدمت له رشوة مليارات ورفض أن يأخذها في حين أن هذا للأسف الآن غير موجود كما قال صلى الله عليه وسلم “لا تقوم الساعة حتى ترفع الأمانة من صدور الرجال حتى يقال إن في بني فلان أمين” ونحن نعرف دولًا ليس فيها أمين لا عالم ولا شيخ ولا صالح ولا طالح الكل فيها يلهف. قد يكون هناك واحد او اثنان تقدم لهم رشوة فيرفضوا أن يأخذوها، هذا مع الذين اتقوا، هذا يستمر إلى أن يصبح من المتقين بتوفيق الله حتى يصبح بطلًا في التقوى (إن الله مع المتقين) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) العنكبوت) عمل صالحًا حتى صار بطلًا، هذا الفرق بين مع الذين اتقوا، الذين يتقون والمتقين، المتقون صاروا شريحة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) وأعظم أنواع التقوى الأخلاق. التقوى أنواع وإذا نجحت في الامتحان ولا بد أن تفتن (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) والكل معرّض للفتنة وفي الفتنة إما أن تنجح وإما أن ترسب.
————–فاصل———–
د. الكبيسي: نعود لحديثنا، كل البشرية تنوح على الدار، النبي صلى الله عليه وسلم داره مكة مضارب قومه وأخرجوه ولما خرج منها وقف يقول “والله إنك من أحب البلاد إليّ ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت” ولهذا قال له تعالى (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ (85) القصص). كل العرب وكل مشاهير الشعراء في التاريخ تكلموا عن الديار
أمُرُّ على الديار ديار ليلى أُقَبِّلُ ذا الجدار وذا الجدارا
وما حُبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حُبُّ من سَكَنَ الديارا
كل القصائد والمعلقات تبدأ بالنواح على الديار. جاء أحد الصحابة مهاجرًا إلى المدينة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله كيف تركت الناس هناك؟ قال والله يا رسول الله تركت الإذخر وقد أعذق والنمّام وقد أورق نبتتان معطَّرتان ومعطِّرتان تنبتان في مكة، فاغرورقت عينا النبي صلى الله عليه وسلم بالدموع شوقًا إلى دياره. تأمل كيف رب العالمين لما تكلم عن الدار كم أنك ستكون مالكًا لمُلْكٍ عزيز تفخر به وتنعم به وتحنّ إليه حنين المرضعات إلى الفطيم من حيث أن ملكك يوم القيامة دار ليست مسكنًا ولا منزلًا ولا بيتًا إنما دار عريق نشأتك فيه كيف أن أباك وأمك يحكون لك عن آباءك وأجدادك الذين عاشوا في هذا البيت الذي أنت فيه فأنت هنالك في أضعاف ذلك مما لا يمكن تخيّله. فكلمة الدار تطلق على بيتك (ولدار الآخرة) مضاف ومضاف إليه، هذا بيتك أنت، و(اللدار الآخرة) هذا بيت الجميع يعني الدولة كلها، الدولة دار كلها للمواطنين بيتك أنت دار بني فلان أي وضارب قومهم. يقولون من علامات الرُشد أن تكون النفس إلى ديارها توّاقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة، وسيدنا يوسف طلب أن يُدفن في مضاربه، والاسكندر المقدوني طلب أن تحمل رفاته بعد موته إلى مسقط رأسه.
من أجل ذلك لما جاء تعالى بكلمة دار تأمل كم أن المسكن والمًلك الذي سوف تعطاه يوم القيامة له قيمة معنوية عالية إضافة إلى قيمته المادية العالية
فاطمة من دبي: كيف يسمع الإنسان هذا الحسن والجمال عن الجنة ولا يتمنى الموت؟!
د. الكبيسي: أحسنت يا فاطمة! يقول النبي صلى الله عليه وسلم “من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه” قالوا يا رسول الله من يحب الموت؟ قال ليس ذاك. كما قالت فاطمة لما تسمع الجنة ونعيمها تشتاق لها وكل من يتقدم في السن وهو من أهل الصلاة وأهل القبلة ويسمع الأحاديث عن الجنة يشتاق إليها وإلى أهلها وإلى الذين سبقوه إليها شوقًا عظيمًا. وإذا اشتاقت نفس الإنسان المؤمن إلى الجنة فقد بلغ الإيمان في صدره كماله.
رشا من دبي: سؤال في الصلاة هل تجوز صلاة المرأة إذا ظهر إصبع قدمها؟
د. الكبيسي: لا تجوز إلا الوجه والكفان، كل الجسد يجب أن يكون مغطّى إلا الكفان والوجه.
د. الكبيسي: نتداول ما قيل في الديار
د. نجيب: وقد ألّف الشيخ أسامة بن منقذ كتابه “المنازل والديار”
إتصال من الأخ علي : قوله تعالى (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) مريم) هناك أناس سيدخلون الجنة بغير حساب فكيف نفهم الآية؟
د. الكبيسي: ما قال تعالى وإن منكم إلا داخلها، نحن تكلمنا في برنامج الكلمة وأخواتها كلامًا عجبًا وفرّقنا بين داخلها وواردها، واردها يعني مرّ عليها كما قال تعالى (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ (23) القصص) ما شرب ولكن مرّ عليها رآها وهو مار على الطريق، لما تمر الطائرة فوق دبي يقال فلان ورد دبي وهو في طريقه إلى القاهرة يعني مرّ بها بالطائرة ولا تعني دخلها.
د. نجيب: وقد استثنى تعالى قومًا آخرين في قوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) الأنبياء) لا يسمعون حسيسها مع أنه يُسمع من آلآف السنين الضوئية.
أم نائل من أميركا: تم أن المنازل مؤقتة لكننا ندعو الله تعالى “اللهم أنزلني منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين” ما معنى الآية؟ وسؤال آخر مرة واحدة ذكر تعالى عن الدار الآخرة ووصفها بالحيوان وليس الحياة (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ (64) العنكبوت)
د. الكبيسي: أما المنازل فلو تعرفين المسافة بين المكان الذي تبعثين فيه من البرزخ وتحشرين فيه ثم تساقين إلى الصراط ثم تردين الحوض وتدخلين الجنة، ثم في الجنة هذا الملك الكبير، كم تمرين في الطريق من كواكب حتى تصلين إلى بيتك، في الطريق منازل عجب. مثلًا نحن الآن في نهاية رمضان الصائمون المثاليون يمرون من باب يسمى الريّان لو تعرفين ما في هذا الباب من منازل! المطار فيه استراحات للملوك والرؤساء يستريحون في أفخم مكان تقدم لهم الحلوى والقهوة والشاي وهكذا يُستقبل أهل الجنة (أنزلني منزلا مباركًا) عندما تدخل الجنة فيها منازل واستراحات خاصة الباب الخاص بالصائمين باب الريّان كم به من نِعم وكم به استراحات واستقبال حافل وتذهبين في موكب رسمي إلى دارك. فهناك عدة منازل في الطريق. كان لخلفاء بني العباس بين بغداد ومكة منازل لا حصر لها والآن لو ذهبت من دبي إلى أبو ظبي أو رأس الخيمة كم منزل في الطريق!. عندما تأتين كرئسة دولة أو امرأة مرموقة تدخلين إلى أي دولة كم منزلًا تمرين به إلى أن تستقري في دار إقامتك؟! هكذا هو الفرق.
د. نجيب: أنزل يُنزل مُنزّلًا فالله تعالى الذي أنزل غير الذي نزل بنفسه.
د. الكبيسي: عرفنا الآن أنه لا بد من امتحان لكي تكون من المتقين أو من الذين اتقوا أو من الذين يتقون، لا بد من امتحان كما ذكرنا كيف كان امتحان سيدنا يوسف. ولا بد من بداية من برهان. الأعمال كثيرة وسأذكر الآن أن أعظم أنواع التقوى هو الإحسان للآخر, يقول رب العالمين (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) المائدة) أنواع التقوى تدرّجت وأقواها الإحسان (والله يحب المحسنين) وأنتم تعرفون أن امرأة بغيّ سقت كلبًا فأدخلها الله الجنة، ماذا لو فعل هذا رجل صالح؟! كم يُعتق الله تعالى من الرقاب لعمل واحد؟! إذا كنت في يوم من الأيام وفقك الله عز وجل أن تعتق رقبة من النار وتكسبها في جوارك في الجنة فقد نجوت وأصبحت تجتمع إليك كل صفات النعيم، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث “لأن يهدي الله لك رجلًا واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها” لماذا؟ رب العالمين يعتق رقبتك أنت وأهلك من النار لأنك أنت تسببت في أن تعتق رقبة هذا الإنسان من النار، كان يعبد الأصنام، كان شيوعيًا، كان ملحدًا، ثم أعتقت رقبته من النار بأن قال لا إله إلا الله الله ربي ولا أعبد إلا إياه، فتأمل كم سوف يعتق الله رقبتك من النار. في العيد وصلتني رسالة نصية من أحد العراقيين ذكرتني بشيء جميل، يقول الأخ محمد حسن الجبوري وأعتقد أنه من الموصل يقول هذا حاتم الطائي كان عنده عدد من العبيد وكان منهم من يوقد النار ومنهم من يحضر الطعام ومنهم من يرعى الإبل، الذي يوقد النار يسمونه المُوقِد وكانت ليلة باردة جدًا وحاتم لا يأكل وحده فقال لعبده:
أوقد فإن الليل ليل قرٌّ والريح يا موقد ريحٌ صرُّ
عسى يرى نارك من يمرّ إن جلبت ضيفًا فأنت حٌرُّ
حاتم الطائي يقول لعبده إن أحضرت لي ضيفًا فأنت حر، أعطاه أعظم هدية وهي الحرية، فكيف برب العالمين يوم القيامة؟! فبعثت للذي ارسل الرسالة وقلت فتح الله عليك. رب العالمين يقول لنا إذا أحضرت لي ضيفًا كان مشركًا لا يصلي كان فاسقًا، قاتلًا بعيدًا عن رب العالمين وأنت جئت به فإن الله يعتق رقبتك من النار. فإذا كان حاتم الطائي وهو عبد من عباد الله يعتق عبده لمجرد أنه يأتيه بضيف بردان وجائع وعطشان فما بالك برب العالمين وأكرم الأكرمين ولله المثل الأعلى إذا جئته بعبد من العباد، بضيف من ضيوفك وهو تعبان وكافر ويهتدي على يديك وينصلح فتأمل ماذا سيعطيك رب العالمين!
د. نجيب: وخاصة إذا كان كريمًا مع عباده
د. الكبيسي: كل أنواع العبادات في القرآن أعظمها تتعلق بإكرام الآخر (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) آل عمران) يعطون سواء كان عندهم أو ليس عندهم حتى اللقمة يعطيها للسائل والكاظمين الغيظ لو أحد سبّه أو شتمه لا ينتقم وإنما يسامحه ويكرمه بعد ذلك (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ولهذا رب العالمين قال (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) العنكبوت) واو القسم واللام وإنّ كل التوكيدات مثل (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) القلم) النبي صلى الله عليه وسلم عنده ألف صفة لكن الله امتدحه (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) لا تغضب حليم (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (159) آل عمران). رب العالمين قال (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) المائدة) من أجل هذا عليك أن تعلم أن الله يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل. إذا أردت أن تنال الرضا أكرِم عباد الله عز وجل.
د. نجيب: لذلك الإمام مالك إذا خُيّر في الكفّارات بين العبادة الذاتية لله وما يتعدى للآخرين يفضّل ما يتعدى للآخرين.
د. الكبيسي: طبعًا، السخاء خُلُق الله الأعظم.
————فاصل————
د. نجيب: نعود لشيخنا الجليل والتفريق بين هذه الكلمات القرآنية.
د. الكبيسي: هذا الفرق بين الدار الآخرة عامة كل من يقول لا إله إلا الله حتى إن قتل وسرق في النهاية كل من قال لا إله إلا الله مصدّقًا بها قلبه دخل الجنة وإن زنى وإن سرق بعد أن يُعذّب، أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، في يوم من الأيام قال لا إله إلا الله، هذه والدار الآخرة. (وللدار الآخرة) هذه للمتقين أصحاب الدرجات العليا، عندنا الجنة مائة كوكب كل كوكب بقدر هذه الأرض تريليونات المرات. أما (ولدار الآخرة) هذه ملك أنت وحدك مع أولادك وأهلك (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الرعد) دارك أنت التي أنت فيها.
أم محمد من العين: ما معنى التقوى وأين محلها هل هو القلب أم الروح أم العقل؟
د. الكبيسي: القلب والعقل جهازان أحدهما يكمل الآخر وهذا أثبته العلم الآن. والنبي صلى الله عليه وسلم قال “التقوى هاهنا” وأشار إلى قلبه، فالعقل والقلب يتضافران في كل حركة الإنسان فالتقوى في القلب معناها أن تجعل بينك وبين غضب الله وقاية، الوقاية كما لو كنت تريدين أن تحملي جمرة من النار لا تحمليها بيدك وإنما تتوقيها بشيء هذه وقاية. التقوى إذن أن تجعل بينك وبين غضب الله وقاية بكل حركاتك وسكناتك من ساعة ما تستيقظ إلى ساعة ما تنام (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (197) البقرة)، أنت لا تأكلين نوعًا واحدًا كل عمرك وإنما تأكلين أنواعًا عديدة وهذه التقوى والزاد أنواع وأشكال وألوان ولذلك التقوى زاد متنوع هناك تقوى لسانية، وتقوى مع الجيران وتقوى الغضب وتقوى العدل وهناك تقوى الإحسان حتى للكلب المرأة البغي التي أحسنت للكلب اتّقت الله به “إتقوا الله ولو بشقّ تمرة” التقوى هذه كل شيء يفرح الله به ويرضيه، لساني، تفكير، كظم غيظ، إكرام جار، كل شيء يرضي الله تعالى ويحبه وما أكثر هذا. إذن التقوى أنواع لكن أعلاها الإحسان إلى الآخر، ما يتعلق بالآخر قال تعالى (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) المائدة) ولهذا الإحسان أول ما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال “أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام” هذا هو الإحسان ولذلك كل عمل قد يُحبَط كم من مصلٍّ ليس له من صلاته إلا القيام والقعود والصيام قد يُحبَط، إلا الإحسان للآخر، هذه البغي سقيا الكلب لم يحبط، أن تكظم غيظك لا يُحبط، يقول يؤتى بالعبد وما له حسنة فيقول الرب خذوا عبدي إلى الجنة فتقول الملائكة بِمَ يا رب وليس له حسنة؟ قال إنه كان يرحم أهله. زوجته وأقرباءه وأعمامه وأخواله ويعفو عن مسيئهم ويحبهم ويحبونه، وآخر نفس الشيء قال كان يسامح في البيع ما عنده حسنات لكنه كان يبيع ويشتري ويسامح الذي عليه دين، الإحسان إلى الآخر هذا الميزان يوم القيامة. ما قال تعالى لنبيه أنت أصدق خلق الله ولا قال له أنت أكرم خلق الله مع أنه هكذا ولا قال له أنت أعظم الخلق عندي وإنما قال (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). بل السامري جاء بعجل ليعبده بنو إسرائيل (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) طه) والمرتد عن الدين يُقتل في كل الأديان لكن رب العالمين قال لموسى لا تقتل السامري فإنه سخيّ وأنا أحب الأسخياء والسخاء من الإحسان والإحسان أن تعطي من حرمك وأن تعفو عمن ظلمك وأن تصل من قطعك، هذه أخلاقيات ليست سهلة (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) فصلت) رأينا رجالًا من آبائنا وأجدادنا جبال تمشي على الأرض لا يهزهم شيء أما نحن جيل ركيك جدًا، ولذلك يقال:
لا يغرّنك من مرءٍ قميصٌ رُقّعا وإزار فوق كعب الساق منه رفعا
وجبين لاح منه أثر قد قُلِعا فلدى الدرهم انظر غيّه من ورعه
كريم؟ سخي؟ أم بخيل؟ يعطي الضيف؟ ينفق على أهله؟ على أرحامه؟ على أصدقائه؟ هل يأكل حرامًا؟ هل يغضب؟ هل يعفو عن الناس؟ هل يصل من قطعه؟ هل يعطي من حرمه؟ هذه أخلاقيات (وإنك لعلى خلق عظيم) “أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا” وإن الرجل لينال بحسن خلقه ما لا يناله الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر. واحد طول عمره صائم وطول عمره يصلي الليل هذا عظيم وأنت بخلق عظيم واحد مثلًا عندك مائة درهم ما عندك غيرها وجاءك واحد قال أنا محتاج فقلت له خذها، أو عندك طعام قلت له خذه، جارك تعدى عليك وأنت ساكت لا تؤذيه، أهلك يحبونك وأنت رحيم بهم، وقس على هذا مما قال (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) هذه التي تنقذك يوم القيامة. القرآن كله صفات أخلاقية (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه) تصور فرعون هذا الطاغية الذي قال أنا ربكم الأعلى وقال (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي (38) القصص) يقول تعالى (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا) الله الكبير! ولهذا لكبر الله عز وجل لا يضع عبده المؤمن في النار وهو يقول لا إله إلا أنت إلا إذا سفك دمًا حرامًا “لا يزال المؤمن بخير ما لم يصب دمًا حرامًا” وليسمعني هؤلاء المسلمون الإسلاميون الذين يذبحون الناس ويفجّرون الناس “إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار”. حينئذ ما عدا ذلك بأخلاقية حلوة، بكظم غيظ، بإعطاء عشائك إلى جارك الجائع، بعفوك عن مُعسر تدخل الجنة بغير حساب، هذه هي (إن الله مع الذين اتقوا).
أبو محمد من السعودية: ما هو تفسير قول الله تعالى (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ (282) البقرة)؟ هل هناك ربط بين هذه الآية والآية (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) العلق)؟
د. الكبيسي: العلم هذا هو أشرف ما يتقرب به العبد إلى الله. للأن تغدو إلى بيت من بيوت الله تتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة. (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (28) فاطر) (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) آل عمران) هذا العلم لا يعطيه الله تعالى إلا لمن يُحب. لهذا يقول الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأعلمني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يُهدى لعاصي
هناك فرق بين قارئ وعالِم، كلنا نقرأ كتب ونتكلم، أما العالِم أمثال مالك والشافعي والغزالي وأحمد والرفاعي هؤلاء الذين يخرج العلم من مخّهم لا من الكتب نحن أكثرنا قُرّاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول “أكثر منتفقي أمتي قُرّاؤها” يقرأ الكتاب ويتكلم، هذا يكفّر هذا وكل واحد يتكلم كما يحصل الآن والمساجد مليئة بهؤلاء القُرّاء. العالِم شيء آخر ولهذا فعلًأ نور الله لا يُهدى لعاصي. الشافعي كان لا يصلي التهجد فلم يفتح الله عليه العلم فشكى إلى أستاذه فسأله هل تقوم الليل؟ قال لا، قال كيف تكون طالب علم وأنت تنام طول الليل فصار يقوم الليل ففتح الله تعالى عليه وصار الشافعي. (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) الكهف) العلم بقدسيته يعطى لك بتوفيق الله بالتقوى وهذه ليست سهلة. بالتقوى تصبح عالمًا وبالقرآءة تصبح قارئًا والنبي صلى الله عليه وسلم ذمّ القُرّاء ومدح العلماء كما مدحهم القرآن الكريم. عالِم موسى كان قارئًا (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ (176) الأعراف) وما أكثرهم في هذا العصر إلا من رحم ربي! إذن هذا العلم وليس القرآءة كما نحن نقرأ، العلم من توفيق الله ومن فتوحات الله ومن فيوضات الله، هذا الذي يقول كلامًا لم نسمعه من قبل، هذا عالِم، وهذا العلم ر يأتي إلا بالتقوى، وقد يكون خطّاء وقد تأتيه فترة، سنة سنتين يبتعد لكنه يعود نشأ صالحًا واستمر صالحًا واستمر تقيًا وإن خالطته بعض الامتحانات التي هي من قوانين هذا الكون “لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر الله لهم”. ولكن إذا علم الله صلاحك ومراقبتك له وسرعة توبتك إليه وأوبتك له يفتح لك العلم بيوم ما لا تتعلمه بمائة سنة.
د. نجيب: ولذلك بعض العلماء مثل ابن المبارك والفضل بن عياض تابوا عما كانوا فيه بعض أن كانوا قطاع طرق بعد الأربعين من أعمارهم
د. الكبيسي: فتح الله عليهم بالتوبة.
د. نجيب: دعني أختم بحادثة قبل أيام دخلت إلى مطعم فوجدت نادلة تعمل هناك وتبكي فسألتها لماذا تبكين؟ قالت انظر إلى هذه الأسرة العربية قد ملأوا المائدة بالطعام أشكالًا وألوانًا والخادمة بجوارهم أجلسوها في مكان آخر وهي تتضور جوعًا لا يسمحون لها أن تتناول من هذا الطعام الموجود الذي يكفي لمائة شخص لقمة واحدة ولا يشرب معها شرابًا ويسمون هذا دينًا والمرأة منقّبة والرجل ما شاء الله!
د. الكبيسي: أنا رأيت حالة كهذه يحرمون على الخدم أن يأكلوا لقمة واحدة!
د. نجيب: نسأل الله العافية. شكرًا جزيلًا لشيخنا الجليل الأستاذ الدكتور أحمد الكبيسي على هذه العلوم الإيمانية اللدنية والفيوضات الربانية التي افتتح بها هذه الدورة الجديدة فتحًا عظيمًا وكريمًا داعين المولى سبحانه وتعالى أن يوفقه للمزيد في الحلقات القادمة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) العنكبوت) شكرًأ لكم جميعًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بُثّت الحلقة بتاريخ 17/9/2010م
على