وعد الله بالنصر في سورة الروم
إعداد صفحة إسلاميات
د. أحمد نوفل
—————————
(وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿6 الروم﴾)
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴿60 الروم﴾)
في ظلال سورة الروم – سيد قطب
نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معينة . ذلك حين غلبت فارس على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب . وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين . . ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم النصرانية , وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية , فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد , وفألا بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان .
ومن ثم نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرحلها المؤمنون , الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين .
ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد , ولا في حدود ذلك الحادث . إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت . وليصلهم بالكون كله , وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما . وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها . ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا , وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود . ثم يطوف بهم في مشاهد الكون , وفي أغوار النفس , وفي أحوال البشر , وفي عجائب الفطر . . فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها , وتوسع آمادها وأهدافها , وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة . عزلة المكان والزمان والحادث . إلى فسحة الكون كله:ماضيه وحاضره ومستقبله , وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه .
ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير . ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون , وتحكم فطرة البشر ; ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة , وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة ; وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق , ويقوم بها نشاطهم في هذه الأرض , ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة.
وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها – حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها – ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى , وفطرة النفس البشرية وأطوارها , وماضي هذه البشرية ومستقبلها . لا على هذه الأرض وحدها , ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط .
وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد ; ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم ; ويتطلع إلى السماء والآخرة ; ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار , وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر . ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ; ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله , فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة , وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام .
ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات , وتحقيق دلالاتها في نظام الكون , وتثبيت مدلولاتها في القلوب . . يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين:
في الشوط الأول يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما , ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة . ويوجه قلوبهم إلى سنة الله فيمن مضى قبلهم من القرون . ويقيس عليها قضية البعث والإعادة . ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين . ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون , وآيات الله المبثوثة في ثناياه ; ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب . ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك , وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم . . وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول [ ص ] إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح . طريق الفطرة التي فطر الناس عليها ; والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى ; ولا يتفرق متبعوها فرقا وشيعا , كما تفرق الذين اتبعوا الهوى .
وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة . ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء , ويصور حالهم في الرحمة والضر , وعند بسط الرزق وقبضه . ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته . ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية ; فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون . ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم ; ويوجههم إلى السير في الأرض , والنظر في عواقب المشركين من قبل . ومن ثم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستقامة على دين الفطرة , من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه . ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول . ويعقب عليها بأن الهدى هدى الله ; وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك إلا البلاغ , فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم . ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها , منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة , ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها . ثم ينهي هذا الشوط ويختم معه السورة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على دعوته , وما يلقاه من الناس فيها ; والاطمئنان إلى أن وعد الله حق لا بد آت ; فلا يقلقه ولا يستخفه الذين لا يوقنون .
وجو السورة وسياقها معا يتعاونان في تصوير موضوعها الرئيسي . و هو الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس , وأحداث الحياة , وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها , وسنن الكون ونواميس الوجود . وفي ظلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل نأمة , وكل حادث وكل حالة , وكل نشأة وكل عاقبة , وكل نصر وكل هزيمة . . كلها مرتبطة برباط وثيق , محكومة بقانون دقيق . وأن مرد الأمر فيها كله لله: (لله الأمر من قبل ومن بعد). وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله , بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة . الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات ; والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير . .