قصص القرآن

قصص القرآن – الحلقة 16

اسلاميات

الحلقة 16:

 

مشروعية التوبة، أركانها وشروطها

 

(إنه هو التواب الرحيم):

إضافة الرحيم إلى التواب بهذه الطريقة تحتاج إلى تدبر. الله تعلى ساعة خلق آدم u وقبل أن يخلق آدم هو سبحانه التواب الرحيم. كل صفات الله تعالى أزلية فهو تواب قبل خلق آدم. نضرب مثلاً في صفة من صفات الله تعالى (غفار) هناك في القرآن غافر وغفور وغفار أما تواب فلا يوجد في القرآن تائب (لا يوجد صيغة فاعل) وإنما صيغة توّاب صفة مبالغة من الصفة نفسها. البديع في الأمر أن تواب تؤخذ على إحتمالين: تقول فلان أكول مثلاً له احتمالين إما أنه يأكل ثلاث وجبات لكن يأكل كميات كثيرة وإنما يأكل عشر مرات أو أكثر في اليوم، والاثنين يقال عليهما أكول. الله تعالى تواب لأن الواحد منا يخطيء ويتوب ويخطيء ويتوب أو تواب لأننا نحن كثيرون. المعين لذلك أنه رحيم. لأني لو كنت أخطيء وأتوب وأخطيء وأتوب فلو كان لديك شخص يعمل عندك وأخطأ مرة ثم تاب ثم أخطأ ثانية وتاب تقول له هذه آخر مرة ثم إذا أخطأ ثالثة تقول له انتهى الأمر أما الله تعالى فالعبد يخطيء ويتوب بما لا نهاية لذا فهو تواب رحيم لأنه رحيم تواب أخذت حقه الديمومة والاستمرار لأنه رحيم لا يرد توبة التائب.رحيم تعطي إطمئناناً أكثر للتائب. وباب التوبة مفتوح لم يُغلَق 24 ساعة ومن عظمة التوقيع يعلّمك رسول الله r في الحديث القدسي أن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده النهار ليتوب مسيء الليل. فلو سألت أحد الخطائين : إذا أخطأت في الليل فهل تنتظر إلى النهار لتتوب؟ كلا لأن الحديث يدل على أن الله تعالى يداه مبسوطتان ليل نهار ليتوب مسيئي الليل والنهار متى أخطأوا. وعندما يسأل الناس هل للتوبة وقت فيقول البعض أنه لا وقت للتوبة وهذا القول يجب أن يُفهم على أنه لا وقت للتوبة تعني سارع بها لا أنه لا وقت لها لأن التوبة كما جاءت في القرآن لها وقت كما في قوله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) النساء) (إنما) تدل على الحصر و(على الله) تدل على الإلزام وإن كان سبحانه وتعالى لا يُلزمه شيء. والحديث يدل على أن الله تعالى يده مبسوطة في الليل والنهار. ما الذي يضمن للعبد أن يحيا حتى يتوب ويغفر الله تعالى له والله تعالى قال في كتابه العزيز (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) فموعد التوبة هو المبادرة بها بعد وقوع المعصية فوراً لأنك لا تضمن عمرك. من قريب بمعنى بسرعة يبادر العاصي بعد المعصية فوراً لأنه لا يضمن عمره. وهناك حديث ضعيف في سنده لكن متنه سليم “هلك المسوفون” الذين يقولون سوف أصوم في رمضان القادم أو سأصلي بعد كذا لكن من يضمن عمره؟ لذا سمى الله تعالى نفسه التواب الرحيم لأن التواب فيها مفاعلة وهي صيغة مبالغة وعدد التوابين كبير من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة فكم شخص أذنب وتاب وكم مرة تاب هذا الشخص. وعلى كل خطاء أن لا يخاف أن يرجع إلى الله تعالى ويتوب مهما أذنب لأنه سبحانه تواب رحيم.

سؤال: هل يضيّق الله تعالى رزق العبد المخطيء؟

الرزق ضمنه الله تعالى لمن آمن ولمن كفر لكنه قد يضيّق على الإنسان بمعصيته. والتضييق ليس في كمّ الرزق الذي قُرّر لأن ما أقرّه الله تعالى أزلاً لن يقلّ لكن تُنزع البركة من الرزق. ذهب رجل الى الحسن البصري في مجلس علم فقال أجدبت السماء ولم تمطر فدلني ما أفعل فقال له الحسن البصري استغفر الله وأتاه آخر فسأله مسألة أخرى فقال استغفر الله وأتته امرأة فقالت أنا امرأة لا أُنجب فقال لها استغفري الله فتعجب أحدهم وسأله سألك كل واحد مسألة وقلت لهم جميعاً استغفروا الله فقال الحسن البصري أما سمعت قوله تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) نوح) فالاستغفار إذا فطنا إلى ما قاله r وحاولنا تطبيقه فقد كان r يستغفر بعد الصلاة وفي بداية ونهاية كل شيء. فالاستغفار والتوبة يسبب الرزق ولا يكون العبد في ضيق فما من دابة إلا على الله رزقها والكافر يعمل في الأرض فيأخذ حقه والله تعالى لا يضيع حق أحد من خلقه.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) الطلاق) نحن قلبنا العقد الإيماني في هذه الآية. نحن للأسف في يومنا هذا نريد أن يكون لنا المخرج أولاً ثم نتقي الله تعالى. وهذا خطأ لأن الناس لم تعد تصبر. وهم حتى يريدون تعديل مفهوم الصبر. الصبر ليس له حدّ وإذا ضجر الصابر يضيع أجره لأن الصبر تحتاجه أول ما تشعر بالضجر. إذا كان شخص يقوم بما يرضي الله تعالى ثم يأتيه ابتلاء يصبر وينتظر حتى يأتيه المخرد لأن المخرج يأتي مع الصبر على مراد الله تعالى وليس على مراد الناس. الدين والمنهج وضع لنمشي وراءه لكن الناس الآن للأسف يريدون أن يتبعهم المنهج لا أن يتبعوه هم. كلام الله تعالى وقضاؤه لا يتبدّل ولا يتغيّر (ما يبدّل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) الله تعالى لا يظلم أحداً ولكن نحن ظلمنا أنفسنا بعدم الصبر.

سؤال: آدم نسي فعصى فنزل وابليس عصى فطُرِد. التوبة تمثلت لآدم فلماذا لم يتمثل جانب الخير لإبليس؟

ابليس لن يعود لأنه كفر وسبق أن قلنا أن هناك فرق بين معصية آدم ومعصية إبليس لأن معصية آدم معصية زلّة قدم ونسيان أما معصية إبليس فهي استكبار. يقول العلماء: رُبّ معصية خلّفت ذلاً وانكساراً خير من طاعة خلّفت استكباراً. مؤمن طائع إغترّ بإيمانه قد يقع في معصية كبرى لكن الذي عصى يخاف ويعيش مترقباً دائماً كي لا يقع في معصية أخرى فيجب علينا أن لا نأمن أنفسنا ولا نغتر بإيماننا.

آدم u لم يكن يعرف التوبة لكن الله تعالى علّمه التوبة. فما هي الطقوس التي أخذها آدم ليتوب إلى الله تعالى؟

لأنه أول معصية ولأنه بها شُرِ‘ت التوبة. آدم تلقى كلمات  لما نسمع (فتلقى آدم من ربه كلمات) أفهم أن آدم لم يكن يعرف أن يتوب ينفسه. فلما تسمع (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) البقرة) آدم وزوجه يقولون كلاماً واحداً وهذا يدل على أن الكلام الذي تلقاه آدم وزوجه من مصدر واحد، آدم تلقى كلمات من ربه ثم علّمها حواء فقالاها معاً ولم يقل أحدهما كلمات غير الآخر. هما لم يعرفا أن يتوبا من أنفسهما فتلقى آدم من ربه كلمات وآدم الذي تلقّى لأنه هو الذي عليه التكاليف وهو الذي سيشقى (فتشقى) وتلقّى بوصفه زعيم البشرية.

(اهبطوا): بعدما تلقى آدم من ربه كلمات (فتاب عليه) تبين أن التوبة لا تُردّ فلا يقول أحد تبت إلى الله والتوبة لم تُقبل. الآية التي بعدها (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) البقرة) تشير إلى إمارات قبول التوبة لأن فيها تكليف آخر ومنهج توبة ومنهج بقاء في معيّة الله تعالى. هذا التكليف الذي نزل به آدم هو بداية نبوّته u. وأغلب العلماء يقولون أنه أخذ النبوة بعد التوبة لأن المنهج نبوة. قال تعالى (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وفي آية أخرى (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) ومقابلها (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) طه) يبيّن أن هذا منهج.

(جميعاً): إذا كان البوط الأول على بعض الآراء هو لآدم وحواء فالهبوط هنا للكل آدم وحواء وإبليس. الهبوط الأول كان هبوط مكانة والثاني هبوط مكان. كل من عصى حتى من عصى وتاب يهبط منها لأن التقرير في البداية (إني جاعل في الأرض خليفة). قال تعالى: (جميعاً) هم ليسوا ثلاثة فقط  لأن آدم ساعة ما خُلٌِ خلق من صلبه بنو آدم إلى يوم القيامة بدليل الآية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) الأعراف)  فآدم u لا يمثّل نفسه فقط وإنما يمثل نفسه وجنسه. وإبليس يمثل نفسه وجنسه. (اهبطا) في الآية الأولى تدل على مثنى الجمع وتعني فريقين آدم وذريته فريق وإبليس وذريته فريق. آدم هو أبو البشر على رأس الجنس وإبليس على رأس جنس الجنّ. آدم إسمه آدم وجنسه البشر وإبليس إسمه إبليس وصفته شيطان وجنسه الجنّ فهو على رأس الجنس.

سؤال: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) البقرة): كيف يأتي الهدى بالتوبة؟

قرر المولى تعالى أنه سيكون في المنهج هدى. قرر التوبة قبل أن يقرر نزول الهدى لأن آية التوبة جاءت قبل آية الهدى والمنهج. هذا الترتيب جاء لأن الحياة من رحمة الله تعالى أنها بدأت بالمعصية ليشرع التوبة التي هي مناط كل فعل بشري. إذا أخطأ أحدهم وليس هناك توبة ماذا يفعل؟ لذا لم يقفل الباب حتى أمام من كفر. قال تعالى في آية (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) البقرة) وفي آية أخرى (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) طه) الذي يتبع الهدى لا يتعب وإن كان في شقاء هذا في معيّة الله والذي يُعرِض عن ذكر الله لو أراد أن يرجع يُقبل لذا التوبة جاءت أولاً.

سؤال: ما هي شروط التوبة وأركانها؟

أولاً هي مسألة تتسق بعملية ليس بكلام لا ينفع أن أقول تبت إلى الله وأنا جالس. يجب أن أرى ماذا فعلت أولاً ثم أستعظم الذنب واستكبره لأنه فعلت بهذا الفعل كارثة أنني استترت من الناس ولم أستتر من الله تعالى. لذا يجب أن نتفادى أن نسمع يوم القيامة قوله تعالى : عبدي لم جعلتني أهون الناظرين إليك إستحييت من الناس ولم تستحي مني. فالعاصي يخطط ويعمل حساب كل الناس ويخاف أن يروه لكنه لا يستتر من ربا العالمين الرقيب. هذه صقة نسيناها ونجح الشيطان في أن يجعلنا ننساها. الرقيب أنه عندما تقفل الأبواب وتستتر من الناس فهو يراك سبحانه. واقعة يوسف u مع إمرأة العزيز فيها درس وعبرة، هي غلّقت الأبواب وليس باباً واحداً وغلّقت العديد من الأقفال وليس واحداً ظنّاً منها بأنها بذلك تستتر عن الناس لكن يوسف u فقال (معاذ الله إنه ربي) وهذا هو الوعي. فيجب على الذي يريد التوبة أن يستعظم الذنب ويندم عليه ندماً شديداً لأنه عندما سيفعل هذا لو عرضت عليه معصية أخرى يرفض لأنه تعب حتى تاب. يجب أن تستحضر العظمة الإلهية أن المولى تعالى يراك على المعصية فتستعظم الذنب.

بعض جُهّال هذا الزمان يقولون لمن أذنب كثيراً: مم تتوب؟ أنت عملت ذنوباً كثيرة فيحاولون أن ييئسوه من التوبة ومن رحمة الله تعالى ومغفرته. والبعض يقولون إن عملت السوء بجهل فليس عليك توبة وإذا عملت ذنباً بعلم عندها تحتاج للتوبة وهذا خطأ كبير فالآية تقول (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) النساء) والجهل غير الجهالة. الجهل هو عدم العلم بالعقوبة أما الجهالة فهي العلم بالعقوبة لكن تفعلها سفهاً وحماقة. المنهج موجود لا يستطيع أحد أن يقول لم أقرأ القرآن ولم أعرف العقوبة لأن هذه بحد ذاتها مصيبة وعندها ستعاقب على كفرك لأن كفرك بالكتاب هو عدم قراءته. الجهالة يعلمون العقوبة ومع ذلك عملوا المعصية ومع ذلك لهم توبة. هم يقولون الذي يجهل يتوب الله عليه بدون أن يتوب هو أما الذي يعلم فلا توبة له وهذا خطأ كبير.

قد يخطيء الإنسان مرات ويتوب مرات ولا حدود لتوبته لأنه طالما تاب يتوب الله تعالى عليه مهما كرر المعصية وكرر التوبة لكن يجب أن ينتبه العاصي إلى أمر مهم وهو هل لديه وقت للتوبة؟ لا أحد يضمن متى ستكون نهايته فقد لا يكون لدى العاصي وقت ليتوب فيموت على المعصية وهذه أعلى أمنيات الشيطان فإياكم أن يمنعكم الشيطان أو أي من الناس عن التوبة وإياكم أن تستعظموا الذنب وفلا تتوبوا وتقولوا كيف يغفر الله تعالى لي ويتوب عليّ وقد فعلت هذا الذنب العظيم؟.

ومن شروط التوبة الإقرار بالمعصية والندم عليها والعودة إلى الله تعالى والتوبة باللسان والقلب والجوارح وليست التوبة كلمة تقال باللسان فقط لكن يجب أن يكون القلب مقرّاً لها وحزيناً عليها. هذا إذا كان الذنب في حق الله تعالى. أما إذا كان الذنب في حق أحد من الناس فيجب إضافة إلى شروط التوبة رد الحقوق إلى أصحابها إن أمكن كالحقوق المادية. أما في الأمور التي لا يمكن رد الحقوق فيها كحالات الزنا وغيرها فيلجأ العبد إلى الدعاء فيقول: اللهم إنك لك حقوقاً علي كثيرة ولعبادك علي حقوقاً كثيرة، فما كان بيني وبينك يا رب فاغفره لي وما كان بيني وبين عبادك فتحمّله عني” لكن بعد أن تتوب إذا استطعت أن ترد الحقوق لأصحابها فافعل. وعلينا أن لا ننسى حديث المفلس ” حدثنا قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر. قالا: حدثنا إسماعيل (وهو ابن جعفر) عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “أتدرون ما المفلس؟” قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال “إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثم طرح في النار (صحيح مسلم) “. لا توبة للعاصي إلا برجوع المظالم إذا كان قادراً على ردها لأصحابها. أما في الزنا كما قلنا فيسأل العاصي ربه أن يتحمله عنه لأنه إذا أخبر أصحاب الحقوق يكون فيه خراب بيوت فنقول له تب ومصيرك إلى الله تعالى. مهما كانت المسألة صعبة أو معقدة نقول للعاصي تب أولاً وافعل ما يمكنك لتصحيح الخطأ دون الإضرار بحقوق الناس. هناك آراء تقول أنه يجب على العاصي أن يعلن عن معصيته ولكن نحن نقول كل مشكلة تُحلّ بحسب حالتها لأنه في الفقه تُدرس كل حالة لوحدها لكن نقول أنه لا شيء يمنع العاصي من التوبة. تُب أولاً وإذا كنت تستطيع إرجاع الحقوق أرجِعها وإذا لم تفعل فالله تعالى يتحملها عنك ويحاسبك.

وسبق أن تحدثنا عن توبة العاجز وقلنا لو أن هناك سارقاً شُلّت يده لسبب ما فامتنع عن السرقة فقال تبت إلى الله فيقول له بعضهم أنت تتوب لأنك عجزت وهذا خطأ لأن توبته تُحسب لأنه يتوب إلى الله العلاّم العليم المقتدر فيحاسبه بما سبق في علمه كُنه هذا الرجل ومن إحاطته بالعلم أنه سبحانه وتعالى علم ما كان وما يكون وما سوف يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؟ فعلم سبحانه أن هذا العبد لو كان بعد هذا العجز قادراً هل سيسرق أم لا؟ فيحاسبه تعالى على ما سيكون منه لو صار قادراً لأن علمه تعالى محيط. فمثلاً الأخت التي تتحجب لأنها مصابة بمرض ما ثم بعد أن تشفى تخلع الحجاب فهذه لم تتب في المرة الأولى. أسأل الله تعالى أن تكون توبتنا توبة نصوحاً. والنصوح يقال نصُح العسل إذا لم يُغشّ من النحلة إلى يدك يدون أي غشّ فيه. وكذلك التوبة لا يكون فيها شائبة غش أو انفلات قلب ، توبة بصدق القلب والجوارح متحركة مع اللسان بالتوبة. عندما تقول تبت إلى الله باللسان جوارحك وقلبك يشارك اللسان التوبة.

سؤال: هل التوبة يمحو الله تعالى بها الخطيئة؟

هذا سؤال حيّر أهل التفسير. أخبرني الدكتور رمضان عبد التواب رحمه الله تعالى أن مستشرقاً قال لأهل اللغة غفر أي محى والله تعالى حاشاه يضحك عليكم ففتحوا المعجم ووجدوا أن غفر بمعنى ستر يعني الذنوب موجودة. فقلّبت القرآن فوجدت أنه من مصلحتنا أن غفر يعني ستر وليس محى. فقلت: أستغفر الله ستر إلى غاية ما أقول تبت إلى الله عندما تتبدل السيئة حسنة. فلو لم تكن مستورة لما بدلت حسنات. فمن مصلحتنا أن تكون مستورة.

قال تعالى (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) الفرقان) هذه عملية التوبة ليست توبة باللسان والقلب. النتيجة (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) أفهم هذه الآية على مناطين: إما يبدّل سيئاتي التي فاتت حسنات لذا كان عمر رضي الله عنه يقول لأبي بكر حسناتي أكثر من حسناتك لأن سيئلتي كانت أكثر من سيئاتك والسيئات تبدل حسنات. أو يبدل سيئاتهم حسنات في المستقبل التي كانت ستكون سيئات ما داموا تابوا وصاروا في معية الله تعالى ستكون حسنات أو يكون المناطين مع بعضهما: السيئات القديمة تتبدل حسنات أو السيئات في المستقبل يكون حسنات. الرسول r يقول في الحديث الشريف ” وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: “أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ”. فإذا الرجل يأخذ حسنة لجماعه إمرأته لأنه عصم نفسه وعفّ زوجه فيأخذ حسنة على ذلك.

قال تعالى (إلا من تاب وآمن) هل الرجل الذي يقول أستغفر الله وأتوب نقول له آمن؟ نعم لأنه ساعة فعل المعصية خرج من الإيمان ليس خروجاً بكُفر بدليل الحديث عن رسول الله r “”لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن”. مع أنه مع المؤمنين يصلي لكنه تخلى ساعة المعصية فليس مؤمناً لذا قال تعالى (إلا من تاب وآمن). نقول له جوّد إيمانك. يقترح أهل العلم أن يغتسل التائب غسله من الجنابة (الطهارة) لأن الله تعالى يحب المتطهرين. فلو أردت أن تتوب توبة صحيحة إغتسل غسلاً كغسل الجنابة وتوضأ وصلي ركعتين التوبة وقل: أستغفر الله، تبت إلى الله، ورجعت إلى الله وندمت على ما فعلت وعزمت عزماً أكيداً صادقاً أن لا أعصي الله إن شاء الله، آمنت بالله العظيم وكفرت بالجبت والطاغوت واستمسكت بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. هكذا تكون تبت وأنبت وأدركت التوبة وأنت على قيد الحياة.

سؤال: نربط الكلام عن التوبة بقصة آدم u: أواخر سورة الفرقان قدمت بعض الحالات الخاصة فما دلالة ربط التوبة بهذه الذنوب؟

الله تعالى ضرب أروع الأمثلة بهذه الآية بأكبر ثلاثة ذنوب (الزنا، الشرك، القتل) والتوبة ليست من هذه المعاصي فقط ولكن نستدل من الآية أن الله تعالى إذا قبل التوبة لهذه الذنوب العظيمة فمن باب أولى أن يقبل الذنوب الأصغر. الزنا، الشرك والقتل في آيات سورة الفرقان هي أمثلة. (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ) مقابلهم (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)) يلقى نارين أثاما ويضاعف له لأن القاعجة القرآنية (ولمن خاف مقام ربه جنتان) يعني من لم يخف مقام ربه له نارين. فالذي فعل ذنباً من الذنوب الثلاثة يكون قد تجرّأ على الله تعالى ولم يخف مقامه فله نارين.

(إلا من تاب) هذه تنبهك لما لم تقله الآية أن الذي يضاعف له العذاب يكون لم يتب لأنه من تاب بالصيغة التي ذكرناها وعمل عملاً صالحاً وأهم عمل صالح أن لا يعود للذنب الذي فعله.

سؤال: آدم علّمه الله تعالى التوبة فهل حصل صراع بينه وبين إبليس على الأرض؟

هناك الثير من الأقوال من الإسرائيليات حول مكان هبوط آدم وحواء البعض يقول في الهند أو مكة أو غيرها وهذا كله كلام لا يفيد. لكن نسأل هل جاء إبليس لآدم مرة ثانية ووسوس له؟ لم يرد في القرآن الكريم وحتى لو حصل لكان آدم u عرف كيف يتعامل معه لأنه جرّب. لكن الشيطان لم يوسوس له أبداً لأنه أخذ النبوة وتعلّم درساً مهماً. تجمّد نشاط إبليس مع آدم لكنه يعمل مع الذرية. نحن علينا أن نطبق هذا الأمر أن إبليس لم يوسوس لآدم بعد هبوطه إلى الأرض وعلينا أن نتعلم من آدم u الذي أخذ الدرس واستوعبه وكان خطأه أصلاً خطأ نسيان وسكت القرآن عن ذلك يعلمنا أنه إذا تبنا إلى الله تعالى علينا أن نسدّ منافذ الشيطان. إبليس لا يتعرض للأنبياء لأنهم معصومون من وسوسة الشيطان.

بعد أن تنتهي قصة آدم في السور السبع التي ذكرت فيها جلءت قصة قابيل وهابيل (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) المائدة) ثم خاطب القرآن الكريم بني آدم (يا بني آدم) يعني اصحوا يا أبناء من المفروض أنكم استوعبتم درسه.

توجيه:

علينا أن نلتزم بما علمنا إياه رسولنا محمد r فقد كان يقول بعد كل صلاة: أستغفر الله ثلاث مرات ويقرأ آية الكرسي وقل يا أيها الكافرون والإخلاص والمعوذتين لأن هذه السور تعلّم التوحيد الذي يعلِّم التقوى ثم الإيمان ثم الإحسان ثم مطلق الإسلام ثم نتوب إلى الله تعالى بعد كل صلاة ويا حبذا أن تكون توبتنا عن توبة كما علمنا رسول الله r.

بُثّت الحلقة بتاريخ 22/5/2006م