إبراهيم، عليه السلام
بقلم: بسام جرار
يمكن تشبيه السلالات البشريّة عبر التاريخ بالشجرة التي تُقلّم بقطع فروعها التي قد تعيق النمو المثالي. وقد سرد القرآن الكريم لنا بعض قصص الأمم التي انحرفت واستعصت على الإصلاح، فأصبح وجودها عبئاً يعيق التطور الإيجابي للأمم فاستحقت الزوال؛ كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأهل مدين، وقوم لوط. وقد ساعد هذا التقليم لشجرة السلالات البشريّة على إخراج أمم أقل فساداً وأكثر قابلية للإصلاح. ومن يقرأ قصة موسى، عليه السلام، مع فرعون يدرك أنّ الخلل كان في النظام السياسي المتمثل بفرعون وأركان نظامه. ومن هنا تمّ إغراق فرعون وجيشه دون باقي الناس، على خلاف ما كان يحصل في الأمم السابقة.
ولما استقامت الشجرة الإنسانيّة على سوقها، ونضجت، وغلبت إيجابياتها سلبياتها، وأصبحت أكثر مرونة فلا تستعصي على الإصلاح، خُتمت الرسالات ووكل أمر الاصلاح إلى المصلحين الذين لن يخلو منهم زمان إلى يوم القيامة.
ويبدو أنّ عصر إبراهيم، عليه السلام، كان يمثل بداية التحول في التعامل مع انحراف الأمم، فأنت تجد أنّ إبادة قوم لوط كان في زمنه عليه السلام. أما قوم شعيب (مدين) فربما كان عقابهم معاصراً لإبراهيم، عليه السلام، أو قريباً من ذلك. ويمكن أن يستفاد هذا من قول شعيب، في الآية 89 من سورة هود، يخاطب قومه:” …وما قوم لوط منكم ببعيد“. أما عصر موسى ففي تقدير البعض يمكن أن يكون بعد ستة قرون من عصر إبراهيم، عليهم السلام.
اللافت أنّ القرآن الكريم لم يُصرّح بعقوبة قوم إبراهيم – بعد محاولة حرقة عليه السلام – كما صرح بعقوبة الأمم الغابرة. وإليك ما ورد في ذلك:
” وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِين” الأنبياء:70
” فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِين ” الصافات: 98
يضاف إلى ذلك الآية 70 من سورة التوبة، والتي تُعتبر الأكثر تصريحاً بعقوبتهم من خلال اقتران ذكرهم بالأمم التي استؤصلت:” أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون”. والآيات (42-44) من سورة الحج:” “وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ. وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِير”.
يستفاد من مجمل هذه الآيات الكريمة أنّ قوم إبراهيم قد نزلت بهم عقوبة شديدة، ولكن الآيات لم تصرّح بحقيقة ما حصل ومداه ولم تفصّل، كما هو الأمر في قصة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب.
وقد نجد تفسيراً لذلك في سلوك قوم إبراهيم الذي اختلف شيئاً ما عن سلوك الأمم التي سبقت، فقد سلكوا طريق المحاجّة؛ انظر قوله تعالى في الآية 258 من سورة البقرة:” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين”. وانظر قوله تعالى في الآية 80 من سورة الأنعام:” وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُون”. بل لقد هددهم عليه السلام فقال:” وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ” الأنبياء 57
أما محاولة تحريقه عليه السلام فكانت بعد تحطيم أصنامهم. ومن هنا يشعر من يقرأ الآيات المتعلقة بقوم إبراهيم أنّهم يختلفون في سلوكهم وردود فعلهم عن الأمم التي سبقتهم. أما اقتران ذكرهم بهذه الأمم فلِما كان من كفر وعناد ثم محاولة قتل وتحريق خليل الرحمن بعد أن أقيمت عليهم الحجة، انظر قوله تعالى في الآية 83 من سورة الأنعام:” وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ …“.