قصص القرآن

قصة آدم

اسلاميات
بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. اللهم لا سهل إلا سهلته، ولا يسير إلا يسرته. نسألك علمًا نافعًا، وقلبًا خاشعًا، ورزقًا واسعًا، ويقينًا صادقًا ثابتًا، وعملا صالحًا مرفوعًا متقبلا، وشفاءً من كل داء، وارزقنا الفقه في ذلك الكتاب يا رب العالمين، واجعلنا من أولي الألباب يا أكرم الأكرمين.

إخواننا المشاهدين، أخواتنا المشاهدات: حياكم الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فالرحلة المباركة الطيبة الميسرة ـ إن شاء الله ـ مستمرة مع قصص هذا الكتاب المبين العظيم، انتهينا بشكل موجز من المقدمات، وهذه الحلقة ندخل في صميم قصص القرآن الكريم، وقصة آدم أول ما تطالعه العين من قصص هذا الكتاب العظيم الكريم.

ومنهجنا في التعاطي مع القصص في هذه الحلقات هو أن نأخذ قصص سورة سورة. كان يمكن أن        نأخذ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في القرآن كله، نأخذ موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في القرآن كله، أو نأخذ قصص سورة سورة واخترت أن يكون هذا هو المنهج، أن نأخذ سورة سورة ونستعرض قصص سورة سورة، فنبدأ بقصص سورة البقرة.

أعطيكم فكرة أولا عن سورة البقرة التي تُسمى فسطاط القرآن الكريم. يعني أيه فسطاط؟ يعني الخيمة الكبيرة في هذا المخيم العظيم، هذه الخيمة العظيمة هي سورة البقرة، كل عبادات الإسلام

في سورة البقرة. الصوم لم يرد إلا في سورة البقرة، 286 آية هذه السورة الكريمة، أول سورة نزلت في المدينة المنورة بعد مرحلة الاستخلاف. هذه السورة على طولها فيها الصلاة، والصوم والزكاة والحج، يعني الإسلام كله في هذه السورة، الصوم لم يرد إلا هنا، ولكن على طولها المستغرق ثلاثة أجزاء تقريبًا لها موضوع واحد. نعم، كل سورة كالعنقود لها موضوع واحد، ولله المثل الأعلى ولكلامه، قد نجد عنقود عنب يبلغ اثنين كيلو أو ثلاثة كيلو، ولكنه عنقود واحد، وإن كان فيه أيضًا عناقيد فرعية، هذه السورة وسطها بالضبط الآية رقم 143 {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}(البقرة: الآية143)  ضمت جناحيها هذه السورة العظيمة على طائفة عظيمة من القصص، استعرضت بعضها في المقدمات لما قلت: أنه هناك تناسق وذكرت أمثلة على هذا التناسق قصص سورة البقرة التي فيه معنى الإحياء بعد الموت إن كنتم لا زلتم تذكرون، و أظنكم تذكرون ـ إن شاء الله تعالى ـ.

أيضًا من ملامح قصص هذه السورة أنه يدور في نطاق بني إسرائيل، جله أو كله في نطاق بني إسرائيل. قلت أن موضوع هذه السورة على اتساعه ورقعتها ومساحتها موضوع واحد هو تربية أمة لا إله إلا الله، تربية أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ الأمة الوسط. لذلك تجد أول السورة (الم{1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{4}) آخر السورة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) إذاً مرتين في أول السورة (يؤمنون)، ومرتين في آخر السورة (آمن) يعني كأنه الفعل المضارع أول السورة تطلع إلى الأهداف التي نريد إنجازها من هذه الأمة، آخر السورة فعل

ماضي، الأهداف أُنجزت، مثل آيات الصيام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة: الآية183) في أول آيات

الصيام، وآخر آية (لعلكم تتقون) رجع لها من جديد كأنه ما وضعناه نصب العين من أهداف رجعنا نعيده لأنه تحقق وأُنجز وهكذا.

هذه السورة قلت أول سورة نزلت بعد مرحلة الاستخلاف التي أعقبت مرحلة الاستضعاف، ستجد المشهد الوحيد فيه عن آدم (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )(البقرة: الآية30) هذه السورة، ليه؟ لينسجم الاستخلاف مع الاستخلاف، يعني بالعربي استخلاف آدم والكلام عنه ينسجم مع الأمة في مرحلة الاستخلاف، والله شيء عظيم، هذا التناسق العجيب.

(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً )(البقرة: الآية124) إذًا جاعل في الأرض خليفة، وهنا يقول إني جاعلك للناس إماما، ولا تنسوا أيضًا أنه في هذه السورة الكريمة (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً)(البقرة: الآية247) ثم عن داوود (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)(البقرة: الآية251) وفي معنى الخلاف والاستخلاف أن هذه السورة كلمتنا عن أمة استخلفت فتخلفت عن شرائط الاستخلاف. أمة بني إسرائيل، تكلمنا عن أمة جاء عليها وقت استخلفت في الأرض لينظر الله تعالى ماذا يصنعون، فتخلفوا عن مواصفات الاستخلاف وشرائط الاستخلاف، فنُزعت الخلافة منهم، وجاء بدلهم أقوامٌ آخرون، وهذه الأمة بالذات لأنه الأرض لله يرثها عباده الصالحون.

ففي هذه الأجواء تأتي قصة آدم، في جو استخلاف الأمة، استخلاف إبراهيم، استخلاف طالوت، استخلاف داوود، استخلاف بني إسرائيل. رأيتم التناسق، ألوان لا تنتهي والله، وأنا ما ذكرته ما هو إلى قطرة من بحر ليس أكثر، أو غرفة من هذا البحر.

على كل حال، هذه فكرة عامة عن سورة البقرة وقصصها، قصصها أغلبه مر معنا مفصلا في الأعراف وغير الأعراف. فهنا جاء بشكل ومضات أو فلاشات سريعة جدًا، فتح ملف أو تقليب صفحات موجز جدًا. لذلك كثير من قصص هذه السورة القصة في آية، أو آية في قصة، يعني موجزة، قصص هذه السورة ومضات سريعة خاطفة، وكلها متعلقة ببني إسرائيل. يعني يا بين إسرائيل ملفاتكم عندنا، لا تتطاولوا على هذه الأمة، ولا تمكروا، وتثبطوا، ولا تقعدوا لها بكل صراط لأنه ملفاتكم معنا، سنفتحها لكم ملف ملف. أنتم الذين فعلتم، أتذكرون اعتدائكم في السبت؟ فاكرين عبادتكم للعجل من دون الله؟ فاكرين لما آذيتم موسى؟ أتذكرون لما أخذتكم الصاعقة، وهكذا ملفات سريعة تقلبها سورة البقرة.

قصة آدم أعدها وهي كذلك ـ إن شاء الله ـ حجر الزاوية في قصص القرآن، وحجر الأساس في قصة هذا الإنسان على هذه الأرض على هذا الكوكب. قصة آدم مهمة جدًا، تعرفنا بأنفسنا ما وظيفتنا، ما نحن، ما نقاط ضعفنا، يعني أنتم شايفين أول امتحان رسبنا فيه في هذه القصة، امتحان المعدة امتحان الطعام. لا تأكلوا من الشجرة، أكلوا من الشجرة، رسبنا، لكن فيه إكمال، فيأتي الصيام في هذه السورة بالذات. يعني أول امتحان رسبنا فيه امتحان الطعام، فأفرض عليكم الصيام حتى تقووا هذه النقطة الضعيفة والجبهة التي يخترقها العدو يجب أن تقووها، كانت فريضة أو ركن الصيام. انسجام لهذا الكلام، ألوان من الهارموني والتناسق عجيبة جدًا. لكن اعمل عقلك يطلع مع من الكنوز الشيء الكثير ـ إن شاء الله تعالى ـ وإياك والإسرائيليات فإنها تعطل ملكاتك، وقدراتك، ومواهبك وعقلك، فإياك، وليه؟ ما تمشي على التحليل بدل ما تمشي على روايات بني إسرائيل و القال والقيل مثل ما قلنا قبل قليل.

إذًا تبدأ قصص السورة الكريمة البقرة بقصة آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وها نلاحظ أنه أُعلن عن الوظيفة قبل الموظف. يعني لسه آدم مش موجود، لكن يُعلن في الملأ الأعلى احتفاءً به،

وإكرامًا له وتهيئة للأجواء لاستقباله. أنت أيها الإنسان الوجود كله يُبشر بك قبل أن توجد،

واسمك يُسمى قبل أن تولد، وظيفتك تحدد قبل أن توجد على الأرض.

(َإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)

كيف نتعامل هذا النص الكريم؟ إذ كما تعلمون من اللغة العربية إذ ظرف لما مضى من الزمان. يقول علماء اللغة أنه دائما متعلق بفعل محذوف (اذكر إذ) ولكن (إذ) إذا زادت ألف صارت ظرف لما يُستقبل من الزمان (إذا) إذا جاء نصر الله والفتح.

لكن هنا (َإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)

لسنا مع الكاتب ولن نسميه الذي قال: [هذه القصة أو هذا المشهد بالذات يعلمنا الشورى والديموقراطية] يا سيدي خفوا على الناس، ارحموهم، الله تعالى مالك الكون، مالك الملك والملكوت ـ سبحانه وتعالى ـ ما يستشير، أمرنا نحن بالشورى كبشر لأننا ناقصون، أحتاج إلى عقلك وتحتاج إلى عقلي وكلنا محتاجون لبعض. لكن هو الغني، هو القوي، هو العليم المطلق، هو الباقي، وكله ماشي، أيستشير، هداكم الله، نحن نحمل النص فوق ما يمكن أن يحتمل، لماذا؟ وأنا قلت هذا الكلام حتى إذا مر بنا أو صادفناه لا نلقي له بال، ونتجاوز عنه وكأننا لم نتوقف عنده ولم نطلع عليه ولم نقرأه، الله تعالى أمرنا بالشورى أمرًا، ولم يُلمح إليها، لا إنما أنزل لنا سورة اسمها سورة الشورى حتى يربي أمة محمد على الشورى وتتميز بهذه الميزة، التي هي للأسف معطلة في هذا الزمان، على كل حال. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ)

كاف الخطاب لسيد المُخاطبين ـ صلى الله عليه وسلم ـ النبي وإذ قال ربك، يعني المضاف، فرب مضاف والكاف مضاف إليه، رب النبي يقول له (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ) طيب ربنا يخبرهم ليه ما دمنا قد استبعدنا موضوع الشورى، يخبرهم لأنه سيكون للملائكة مع هذا الخليفة سيكون له وظائف، تسجيل أعماله، توزيع أرزاقه، نصرته، حفظه وحراسته، هناك وظائف، ثم حمل الرسالة له لما يُبعث النبيون فيه بعد شويه؟ يعني هذا الإنسان له وظائف، الملائكة التي لها الارتباط بهذا المخلوق ووظائف مع هذا المخلوق، ولذلك جاء ذكر الوجود لهذا الخليفة قبل وجوده أُعلن به الملائكة. إخبار للعلم وليس للمشورة، يا ملائكة سأجعل في الأرض خليفة، ما معنى خليفة؟ والأرض لولا الإنسان فيها الأرض في الفضاء في الكون صفر، لا شيء، لكنها غدت بهذا المخلوق المتفرد غدت لها قيمة، ولولا هذا الإنسان على الأرض فالأرض لا شيء، ولكنها أصبحت شيئًا كبيرًا وكثيرًا ومهمًا وخطيرًا بوجود هذا الإنسان، ليه؟ ما ميزة هذا الإنسان الذي عمره 60 سنة ولا كم عمره، و60 كيلو وزن، ولكن سبحان الله هذا الإنسان المحدود يقوم بما لم تقم به السماوات والأرض، نعم.

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) واحد، والآية الثانية في سورة الأحزاب

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ}الأحزاب72)

أنت أيها الإنسان حملت أمانة ثقلت على السماوات والأرض والجبال، فما هي الأمانة؟ هل الأمانة هي العبادة؟ خطأ… ليه؟ لأنه العبادة تقوم بها السماوات والأرض والجبال و الذرات كل الوجود محراب للعبادة، فماذا؟ الأمانة هي العبادة بالإرادة، إن لم تذكر كلمة الإرادة فالجواب خطأ. العبادة بالإرادة هي الأمانة، نعم. ولذلك يا سماوات تعبدين باختيار؟ قالت: لا يا رب، أنا أعبد بالتسخير لا بالتخيير، أنا أعبد بالاضطرار لا بالاختيار، أنا هكذا استعداداتي وخليني ماشي مع ملكاتي واستعداداتي. أنت يا إنسان تعبدني باختيارك؟ نعم يا رب، أعبدك باختياري، وهذه عظمة الإنسان يا إخوانا، من هنا نفهم قيمة الحرية، لولا هذه الحرية ما كان لك هذه الأهمية أيها الإنسان.

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)

آية عظيمة في الحقيقة، ما معنى خليفة؟ هل هو نائب عن الله؟ معاذ الله، تعالى الله، حاش لجلال الله… ما أحد ينوب عن الله ـ عز وجل ـ فهل هو كما يقول الثيوقراطيون في الأمم الأخرى لما كان يقول الحاكم عن نفسه أنا ظل الله في الأرض، أو أنا نائب عن الله؟ ليس عندنا هذا إطلاقًا، وغير وارد في ديننا أبدًا. وإذا انحرف واحد فالوزر عليه هو يحمله على أكتافه هو، لكن من ديننا لا. هذا الكلام ليس موجودا، إذًا ما معنى خليفة؟ خلائف يخلف بعضهم بعضًا، جيلا جيلا، قوم قومًا، أمة أمة، مثل ما قال هود ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعاد، جعلكم خلفاء من بعد نوح، وصالح يقول لثمود جعلكم خلفاء من بعد عاد، وشعيب يقول لقومه استخلفكم في الأرض، أي من بعد ثمود ومن بعد عاد ومن بعد قوم نوح، يعني يخلف جيل جيلا، يخلف قوم قومًا، أو خليفة يقوم على منهج الله في الأرض ويقيم الأرض على منهج الله ـ تبارك وتعالى ـ وهذا جزء من معنى خليفة.

(قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{30})

نبسط هذه الآية. ليس هذا درسا في التفسير ولكن نسير مع قصص القرآن الكريم وليس موضوعنا درسًا في التفسير، ولكن لا فكاك بين أن نعي القصص وأن نفهم معاني النصوص والآيات. السؤال هنا البديهي والمتبادر إلى الذهن، كيف علم الملائكة أنه سيكون لهذا الجنس من الخلق من يفسد في الأرض ومن يسفك الدماء في الأرض، كيف علموا؟ نعرض الاحتمالات ونستبعد احتمال إلى أن يظل الاحتمال الذي هو لا غير، احتمالات. في الكتب وفي التفاسير والمؤلفات أنه كان الجن قبل الإنس في هذه الأرض، فأفسد الجن في الأرض و سفكوا الدماء. فالملائكة قاسوا مثل ما صنع الجن قبل الإنس سيصنع الإنس من بعدهم إفسادًا وسفكًا للدماء، ولكن أقول هذا الكلام مستبعد واحتمال مردود ومرفوض، لماذا؟ أولا من قال أن الجن كانوا موجودين في هذه الأرض؟ إلا إبليس كان من الجن من حيث السبق الزمني، لا من حيث السبق المكاني على الأرض، فهذا ليس دليلا، القرآن لم يقل، قال إن إبليس كان موجودا قبلنا من حيث الزمان، ولم يكن موجودًا على الأرض قبلنا من حيث المكان. على كل حال فهذا احتمال مردود، ثانيا: في الرد من قال أن الملائكة عندهم العقل بالملكات التي عندنا، يعني عقل يمسك المعلومة ويستنبط ويحلل ويقيس، من قال أنه وظيفة العقل لدى الملائكة هي ميزة العقل الذي أعطانا الله إياه ومنحنا إياه، من قال هذا، فهذا احتمال استبعدناه.

فريق قال: إنما علموا واستنبطوا هذا القول لأنهم استنبطوه واستخرجوه من طينة هذا الإنسان، ما دام أصله من الطين فيشده أصله، وتجذبه جاذبية عنصره وطينته، طيب جذبني عنصري الأرضي، فمن قال انجذابي لعنصر الأرض أنه سيجعلني أسفك الدماء وأُفسد في هذه الأرض، ليه؟ ليس بالضرورة، ثم ثانيًا مثل ما قلت من قال أن الملائكة عندهم العقول التي تستنبط، ولذلك نستخرج هذا الاحتمال.

خلاصة الكلام، الاحتمال الذي هو بمعنى أنه في نظري الضعيف لا يحتمل إلا هو الذي سأقوله الآن ـ إن شاء الله ـ.  فأنا في تقديري أنه عندما أخبر الله تعالى الملائكة عن هذا المخلوق القادم قال لهم: هذا لما حصل في الواقع فوق، قال لهم (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) وبين قوسين محذوف للذهن والعقل [وجاعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء والصراع سيحتدم بين الفريقين وسأنصر الخليفة على المفسد] فهم سكتوا عن أمر الخليفة واستفسروا عمن يفسد، لأنه يا رب تجعل خليفة يعبد ويصلح ليه؟ سؤال مش وارد، ولكن السؤال الوارد (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) دليلي على ما أقول النص ذاته، فين؟ لما الملائكة قالوا: (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{32}) فمن أين معلومات الملائكة؟ مما يعلمهم الله ـ عز وجل ـ هل لهذا الكلام قياس؟ نعم، له قياس، أين؟ في نفس القصة، أين؟ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ) وربنا في الأعراف يقوله: (ما منعك أن تسجد إذ أمرتك) يعني كأنه النص لما صدر في الملأ الأعلى في الزمن الأول كان على النحو التالي (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وقلنا لإبليس بين قوسين، وهو محذوف قدره الذهن، اسجد أنت أيضًا لآدم لأنه لا عقوبة إلا بنص، ولا مؤاخذة ولا محاسبة إلا بقانون، فإذا القانون ما نزل الحساب ما يكون، فرب العالمين يقول له (إذ أمرتك) وإبليس يقول لم أكن لأسجد، يعني هو فاهم أنه مأمور، وهكذا فهذه قياسها على هذه أن إبليس كان مأمورا بالنص مع أنه لما سرد النص وقص علينا ما حصل لم يذكر الأمر بالسجود لإبليس احتقارًا له، ولم يذكر أنه وجاعل فيها من يفسد تقديرًا لهذا الإنسان فاكتفى بذكر الخليفة لكن جاء استفسار الملائكة عمن يفسد.

كمان سؤال. (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء)

السؤال أليس يفسد فيها متضمنة سفك الدماء، بلى ولكنه خاص بعد عام لأهميته.

أيها الأحباب الدماء عند الله عظيمة جدًا، غالية جدًا، سفك الدم، سفح الدم خطير جدًا، وجريمة هائلة كبيرة جدًا. حرام أن تقع فيها أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حرام أن نعطي عن هذا الوجه الجميل على هذا الدين العظيم صورة قبيحة بما تسفك أيدينا من دماء بعضنا بالباطل والظلم والعدوان، حرام، إياكم وسفك الدماء، الملائكة خائفة من سفك الدماء، فالله الله في الدماء.

هذه بعض معاني قصة آدم في سورة البقرة لكن معانيها غزيرة. أسأل الله تعالى أن نوفق إلى تفكيك الألفاظ لاستخراج الكوامن من الدرر واللآلئ والمعاني من هذا النص الكريم، فإلى الملتقى

بكم بحول الله في حلقة قادمة ـ إن شاء الله ـ سائلين الله لنا ولكم القبول والتسديد والتوفيق

والفضل كله والخير كله يا رب العالمين.

إلى الملتقى أستودعكم الله. حياكم الله.