الحقّ– الصدق – العدل – القِسط – الوزن – السواء
ما من كلمات صادفت من اختلاف العلماء والمفكرين والفلاسفة كما صادفت هذه الكلمات الحقّ والقسط والعدل والصدق والوزن. واليوم نستعملها ليس فيما يتبادر الى الذهن من حيث كونها العملية العدليةفي المحاكم والقضاء وإنما من جانب كونها أساساً لهذا الوجود الكوني من خلق الله عزّ وجلّ.
الحق على اختلاف ما قيل فيه وعلى كثرة ما قيل فيه ومن يتتبع الآراء والمقولات في كلمة الحق يضيع بين ذلك الركام التاريخي التراثي الذي لا تخرج منه بصورة واضحة تغنيك او تشبعك لشدة الاختلافات لأن كل واحد أخذ معنى كلمة الحق من زاوية واحدة ذاهلاً عن بقية الزوايا ومعظم الناس ذهلوا عن القاسم المشترك الذي ينتظم جميع المفردات والجزئيات ونخرج من هذا التراكم العظيم والتراث الثريّ إلى أن كلمة الحق هي:
الحقّ باختصار وبدون تعب هو الموجود الثابت الذي يُدرك بالبصر إذا كان مادياً أو بالبصيرة إذا كان نظرية وهو لا يتغير ولا يتزعزع. فالسماء حق والأرض حق والموت حق والعدل حق والصلاة حق وقواعد النحو حق (الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب واسم كان مرفوع وغيرها..) من حيث كونها قواعد ثايتة وحقائق موجودة لا يمكن تغيرها. وكل شيء ثابت موجود مدرك بالبصر أو بالبصيرة وهو لا يتغير فهو حق وهذا الحق أعلاه هو الحق المطلق. وكل حق يخضع لنظريات الحياة من زمان ومكان وظرف وكيف وكمّ وتقدّم وتأخر إلا حق واحد وهو الله تعالى (الحق المطلق) فالله تعالى هو الحق المطلق الذي لا يخضع لزمان أو مكان أو كمّ أو كيف وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وما عدا ذلك فهو الحق الذي يخضع لكل هذه المقاييس. حينئذ هذا الحق إذا كان نظرية فهو حق فإذا طُبّق فهو صدق.
الصدق: الحق والصدق متلازمان من حيث أن الحق نظرية فالصلاة نظرية والموت نظرية (لا بد أن نموت يوماً) والنصر والهزيمة نظريات والصحة والمرض نظريات والمساوات والأرض نظريات أي قوانين وكل هذه القوانين الثابتة التي تحرّك الموجودات قوانين تحرك الانسان والسمع والبصر والبحار والسماوات والأرض والزراعة هذه القواعد الكونية الثابتة هي حقّ وحُسن التعامل معها هو الصدق بعيداً عن مئات التعريفات للحق والصدق وكلها تأخذ جانباً معيناً. عندما نقول قواعد الاعراب (الفاعل مرفوع واسم كان مرفوع والمفعول به منصوب والمضاف مجرور وغيرها) هذا حق لأن هذه القواعد والنظريات ثابتة لا تتغير وهي تدرك بالبصر أو بالبصيرة فالقواعد حق، والصلاة حق وشروطها وأوقاتها وأركانها ومبطلاتها حق لأنها قواعد نظرية ثابتة الى يوم القيامة فكل شيء ثابت بقواعده وقوانينه يُدرك بالبصر إذا كان مادياً أو بالبصيرة إذا كان نظرية معنوية هذا حق والصدق هو في مدى حسن استعمالك وتعاملك معها هذا يعني أن الصلاة حق ولكن أن تُحسن الصلاة بكل شروطها بأركانها ونوافلها ومبطلاتها وخشوعها واطمئنانها وحفظها والمداومة عليها والمحافظة عليها كما أمرنا الله تعالى بذلك يسمى صدقاً فالصدق إذن هو حسن تطبيق النظرية. حتى الآلآت حق وحسن استعمالها يسمى صدقاً والرسول r عندما عاد من غزوة أحد أعطى سيفه لابنته وقال له : اغسليه فقد صدقني اليوم بمعنى حسن استعماله فالسيف حق من حيث كونه قانوناً للقتال وحسن استعماله ظلماً أو عدلاً أو حقاً يسمى صدقاً. والصدق كونك تتكلم ساعتين بدون أن تلحن بكلمة واحدة بحيث أنك لم ترفع منصوباً ولم تنصب مرفوعاً فأنت تتحدث بالعربية بصدق لأنك أحسنت تطبيق النظرية. وهكذا كل نظريات الكون تسمى صدقاً إذا أثمرت حقاً صحيحاً كما فعل ابراهيم u فاستعمل الكون حتى وصل إلى الحق من حيث أن الله تعالى أمرنا أن نتأمل في الليل والنهار (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) آل عمران) وأمرنا تعالى أن نُطلق المجال للعقل لأداء وظيفته حتى يصل إلى الحق لأن وظيفة العقل الأساسية هي الوصول إلى الحق (أفلا تعقلون) فعلينا أن نطلق لعقولنا الفرص الكاملة وأن لا نقيّد العقل بقيودنا النفسية والعاطفية وأن نكون تابعين له لا هو تابع لنا فمهمة العقل الرئيسية هي الوصول إلى الحق كما فعل ابراهيم u أطلق لعقله العنان حتى وصل إلى الحق (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) الأنعام) هذا الحق وهذا الصدق (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) الأحزاب) لأنه أحياناً نستعمل النظرية استعمالاً خاطئاً كما جاء في سورة المنافقون (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)) هؤلاء لم يكونوا صادقين النظرية ثابتة فالنبي r حق من حيث كونه مرسل من عند الله تعالى لكنهم استعملوا النظرية استعمالاً خاطئاً منافقاً. حينئذ كل نجاح مثل الطيران والغواصات والانترنت وغيرها عندما خُلقت مرّت بتجربة لبيان مدى صلاحيتها للتطبيق فإذا صلحت في النهاية للتطبيق الكامل للنظرية فهذا هو الصدق (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) البقرة). هذا هو الفرق بين الحق والصدق والصدق هو حسن التعامل مع الحق والحق هو الموجود سواء كان ديناً أو فلسفة أو قانوناً أو نظرية أو مُختَرعاً مادياً أو معنوياً كالموت والنصر فالله تعالى قال لنا كيف ننتصر ووضع شروطاً للنصر فإذا استعملنا شروط النصر فنحن من الصادقين كما فعل المسلمون في بدر صدقوا الله وطبقوا شروط النصر بالكامل فصدقهم ونصرهم (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) آل عمران) أما في اُحد فلم يكونوا صادقين من حيث أنهم أخطأوا في تطبيق النظرية (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) آل عمران) فالصدق هنا ليس الذي ضد الكذب وإنما هو بمعنى حسن التعامل أو عدم حسن التعامل أو الخطأ في التعامل مع النظرية. ولو طبّقنا الذي قلناه على كل كلمة جاءت بمعنى حق لفهمنا المعنى فالحق إذن هو الشيء الموجود الثابت والصدق حُسن استعمال النظرية (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) الزمر).
العدل: التقسيط على سواء العدل هو أنك إذا أردت أن تخلق شيئاً فلا بد أن تكون أجزاؤه مستوية بدون تفاوت ولا ينبغي أن يكون هناك تفاوت بين ركن وركن. العدل من حيث أن خَلق الله تعالى غير متفاوت (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) الملك) والمخلوقات كلها موزونة وتخضع لقوانين في غاية الدقة تتحكم في هذا الكون كقوانين الأرض والسماء والشمس والقمر وغيرها ولم تتغير ولم تتبدل. فالمخلوقات حق (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) الأنعام) وكلمات ربك هي مخلوقاته وكل مخلوقات الله تعالى خُلِقت بكلمة كن فيكون فهي كلماته. هذه الكلمات هي التي وُزنت وزناً دقيقاً فأصابها الوزن من حيث الصدق والعدل. والله تعالى خلق الفكرة والنظرية قبل أن يخلق المخلوقات فأوجد وظيفة الشمس قبل أن يخلقها ووظيفة الانسان فبل أن يخلقه فعندما خلقه كان منضبطاً انضباطاً تاماً كما أراد الله تعالى ومطبقاً تطبيقاً كاملاً للنظرية التي أوجدها الله تعالى له قبل خلقه (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)) صدقاً من حيث أن النظرية جاءت منطبقة بالتطبيق تماماً وعدلاً أي ليس فيه تفاوت (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) الانفطار) الإنسان جاء كا أراد الله تعالى وهذا صدق خلق الانسان على وفق ما أراد الله تعالى (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) لقمان) والعدل هو عدم التفاوت من حيث خلق الله تعالى فالانسان هو انسان بكل وظائفه ليس هناك انسان يتفاوت على انسان من حيث الخلق وما يحدث من تفاوت يكون نتيجة الانسان نفسه ومن صنيعه.
الفسط والتقسيط: بعد رحلة العدل تنقلب الأشياء إلى أقساط والقسط هو النصيب. القسط هو نتيجة الحكم العادل الذي يُنتج أقساطاً فأي حاكم أو قاضي يوزع الأقساط على مستحقيها فهذا يسمى العدل عندما تصبح أقساطاً إذا استولى أحد على قسط الآخر فهو قاسط فأحياناً يكون القاضي قد وزّع الأقساط على الناس لكن أحدهم قوي والآخر ضعيف قيستولي القوي على قسط الضعيف كما يفعل المرابون والحبارون (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) الجنّ) والمقسط هو الذي يعطي صاحبه قسطه (أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة) (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) الحجرات) (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) المائدة) ولو وُزّع المال توزيعاً عادلاً لما حصل تفاوت في الثروات بين البشر ولما وجدنا أناساً في منتهى الثراء وآخرون في منتهى الفقر. كل المخلوقات منضبطة في أن كلاً منها يأخذ نصيبه أو قسطه فقط ولا يستولي على أقساط الآخرين إلا الإنسان يستولي على أقساط الآخرين فيحرمهم منها. معنى هذا أن القسط هو تنفيذ الحكم حينئذ جعل الله تعالى لهذا الكون ميزاناً عظيماً بحيث يأخذ كل واحد نصيبه وقسطه بعد حكم الله تعالى به (وهو العدل سبحانه) فالشمس والأرض فالماء يأخذ نصيباً من القمر والبرودة والصيف والشتاء والمشرق والمغرب وكل المخلوقات تأخذ قسطاً محدوداً مما حكم الله تعالى له به بعدل الله تعالى ولا يستولي على أقساط الآخرين فالكون كله يمشي على هذا النسق إلا الإنسان فهو ظلوم جهول لأنه استبد به حُبّ الظلم والتكلّك والظلم من شيم النفوس (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) الأحزاب).
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ (النساء)) قال بالقسط ولم يقل بالعدل لأن العدل سهل فإذا حكمت المحكمة بشيء فهذا عدل أما القسط فهو صعب التنفيذ. العدل نظرية ثابتة يتفق عليها العقل البشري ولا تحتاج إلى قوة وأي حاكم أو قاضي يجلس وراء كرسيه فيقول حكمت المحكمة (العدل) لكن المشكلة في التنفيذ (القسط) هذا القسط كما قلنا موجود في الكون كله من حيث قوانينه قائم على عدل والعدل بنتج قسطاً وكل المخلوقات تعرق قسطها من الشمس والماء والهواء ما عدا الانسان يستولي على أقساط غيره. والقسطاس هو الميزان الذي يزن هذه الأقساط.
الوزن: وهو الأمر العام.
سواء: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) آل عمران) الحق أو العدل أو القسط ينبغي أن لا يكون أحد أولى به من أحد. كل شيء الناس شركاء فيه وليس النبي r أولى من غيره وليس الصالح أولى من الطالح وليس الحاكم أولى من المحكوم (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) الكلمة السواء هي شهادة أن لا إله إلا الله كل من يقولها مصدقاً بها قلبه يتساوى مع كل من يقولها غيره. فكلمة سواء تعني أن الله تعالى جعل من أنظمة هذا الكون أن الناس فيه سواء فجعلها مرادفاً للعدل والقسط والحق. والكلام في هذه الكلمة يطول والسواء يكون حتى في المكان كما جاء في قصة موسى u وفرعون (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) طه) سوى أي مكان يكون الكل فيه متساوون فاجتمعوا يوم الزينة في ساحة العيد حيث يحتفل الكل بالعيد سواء ولا فرق بين المحتفلين بحيث لا يستبد أحد بأحد ولم يجتمعوا في قصر فرعون حتى لا يستبد فرعون ولم يجتمعوا عند قوم موسى وإنما في مكان يستوي فيه الناس. وورد في القرآن الكريم (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) ص) (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) المائدة) وهو الطريق السريع والعام الذي يشترك فيه كل الناس وليس مخصصاً لأحد من الناس أو لطائفة أو جماعة أو مرتبة والكل يسلكه. (فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) الصافات) حيث يتواجد كل أهالي النار لا فرق بين واحد وواحد ويوجد أماكن خاصة في جهنم مثل ويل للهمزة اللمزة وثبور وجب الحزن للزناة وأماكن خاصة للظَلَمة والمشركين وغيرهم كما في الجنة أماكن خاصة والجنان متفاوتة وجهنم متفاوتة أما سواء الجحيم فهو المكان الكبير الذي فيه أهل النار يتعارفون بينهم. وكل كلمة سواء تعمي عدم التفاوت بين الناس
الحق: كل موجود حقيقة على صعيد الواقع قوانينه وأنظمته مُدركة بالبصر أو بالبصيرة لا يتغير فهو حق فإذا أحسنت استعماله فهو الصدق . جعل الله تعالى العقل موظفاً وظيفته واحدة وهي الوصول إلى الحق المطلق وهو الله تعالى وإلى الحق الآخر وهو كل الموجودات وكل ما اختُرع من قوانين على الأرض سماء وأرض وما بينهما (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران) والباطل وهم والوهم والخرافة باطل والباطل عكس الحق (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) الرعد) هذا الزبد يحاول كل جيل أن يفرز الحقيقة من الوهم وكل ما هو باطل فهو وهم وكل ما هو ثابت موجود مدرك بالبصر أو بالبصيرة لا يتغير فهو حقّ والقرآن الكريم شاهد على ذلك كما جاء في الآية: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) فصلت) فمهمة العقل البشري ومهمة الأنبياء والمرسلين أن يصلوا بالناس للحق بعد أن كانوا في ضلال ووهم وخرافة كما فعل ابراهيم u وكل الأنبياء.ونلاحظ ختام الآيات في القرآن الكريم فنجدها تدل على أنشطة عقلية لنصل بالعقل إلى الرُشد: أفلا تعقلون (من خلال تجميع الأشياء) أفلا تبصرون (من خلال ربط الأشياء) أفلا تتفكرون (التفكر من خلال قياس الغائب على الحاضر) . قال تعالى (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) الأنبياء) إذا وصل العقل البشري إلى الرشد اهتدى إلى الله عز وجل وإلى أن تحب الناس ولا تحقد على بشر وتأمل خيراً في كل الناس حتى لو كان مجرماً وتؤمن بكل الرسالات وتعلم أن الطريق إلى الله تعالى يتسع للجميع (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) العنكبوت) فكل النزاعات في التاريخ بين الناس وبين المسلمين أنفسهم على كلمة أو فكرة أثبت التاريخ أنها نتيجة سخافات العقل من حيث أنه لم تتح له الفرصة الكافية للوصول إلى الحق فكل من يقول ربي الله يتسع له الطريق والله تعالى لما خلق العقل ما خلق خلقاً أكرم عليه من العقل لأنه هو الذي يوصل إلى الحق ويفهم ما جاءت به الكتب السماوية حتى يتوصل إلى الناس إلى الحق المطلق وهو الله عز وجل.
الحق المطلق: هو الله عز وجلّ والحق الأعلى هو توحيده سبحانه وتعالى وهو النظرية الكبرى في هذا الكون. (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) النحل) فكلما قال تعالى كن فيكون يكون قد خلق حقاً آخر وهي قوانين هذا الكون. (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت) أي قوانينها التي يكتشفها الناس جيلاً بعد جيل.
خلُصنا إلى أن الحق هو الأمر الثابت الذي لا يزول ولا يتغير ولا يتزحزح والصدق هو حسن التعامل مع الحق. نتكلم عما قاله بعض العلماء في الصدق وكل منهم عرّفه من جانب واحد :
يقول بعض الصالحين في تعريف الصدق : (الصدق هو الوفاء بالعمل) الله تعالى أعطانا شرعاً فإذا وفّيت الله تعالى بالقوانين تكون قد صدقت.
وقال آخر (الصدق هو استواء السر والعلانية) يعني أنك إذا صلّيت وسرّك ليس في الصلاة تكون قد أسأت تطبيق النظرية ولا تكون صادقاً لأنه لا بد في تطبيق النظرية من أن يكون السر والعلانية سواء.
وقال آخر (الصدق هو القول في الحق في مواطن التهلكة) هذا نظر الى الصدق من جهة واحدة وهناك مئة تعريف وكل واحد شغله أمر في زمانه ففسر الصدق بما يتناسب مع ما شغله. وفي زمن الجنيد مثلاً انتشر الكذب فقال في تعريف الصدق :أنت لا تكون صادقاً إلا إذا كنت في مكان لا يُنجيك إلا الكذب أي أن تقول الحق في مكان لا ينجيك ألا الكذب. والصدق بشكل عام هو حسن استعمال النظرية والحق هو انطباق الواقع مع النظرية والصدق هو انطباق النظرية مع الحق وعليك أن تطبق النظرية بحذافيرها ونسبة صدقك تتناسب مع زيادة أو نقص ودقة وعدم دقة مدى تطبيقك للنظرية. في القرآن الكريم كلام عن الحق عجيب منه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) آل عمران) فالتقوى حق والايمان حق (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) الأنفال) كلمة حق تعطي كلاماً يدل على أن هذه النظرية فيها تطبيق عام متساهل وفيها الحق الكامل الذي يكون التطبيق فيه هو الصدق بعينه وهذا ما يتفاوت فيه الناس يوم القيامة (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) الأنعام) طبقة كاملة تؤدي الحق وطبقة تؤدي بصدق متناهي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) التوبة) ليس كل الناس صادقين في تطبيق النظرية كما جاء في الحديث القدسي “لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم” كلما حسُن الانتاج دلّ ذلك على أنك تطبق نظرية الانتاج بشكل أفضل.
الايمان العام هو الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره أما الإيمان الخاص فلا تجده عند كل الناس وإنما عند بعضهم الذين سهروا على الايمان حتى وصلوا به إلى الايمان الحقّ فصار إيماناً ثابتاً لا يتغير ولا يتبدل ولا يضعف ولا ينقص فذلك هو الايمان الحق (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الأنفال) فكم واحد فينا وصل إل هذا الحد؟ وكم واحد فينا يتوكل على الله تعالى حق التوكل؟ نحن إيماننا إيمان عام وبعض الناس هم أهل الإيمان الخاص. ثم قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) آل عمران) التقوى العامة هي المطلوب العام كما جاء في أوائل سورة البقرة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة والذين يؤمنون بالقرآن وبما أُنزل من قبل محمد r ويؤمنون بالآخرة هؤلاء هم متقون عامون أما المتقي الحق فهو أن تصل إلى مرحلة ثابتة لا تتغير مرحلة الثبات فلا تتذبذب والطاعة فلا تعصي والاستقامة فلا تنحرف والمداومة على العمل كما قال r:” أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ” حينئذ وبهذا يصبح الرجل صادقاً بالتطبيق بهذا الحد الأدنى لحق التقوى.
جاء في القرآن الكريم لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق ومدخل صدق ومخرج صدق ومبوأ صدق:
لسان صدق: الصدق في الأقوال فهو لا يكذب أبداً يقول الحق ولا يخشى في الحق لومة لائم ولم يحدث مرة أنه قال غير الحق (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) مريم) (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) الشعراء).
قدم صدق: الصدق في الأعمال وقدم الصدق هو النبي r يوم القيامة من حيث أن الله تعالى أعطاه الشفاعة وهي ثابتة فيستعملها r أعظم استعمال حتى يُنقذ آخر رجل من أمته من النار “شفاعتي حق لأهل الكبائر من أمتي” وما من أحد يوم القيامة سيستعمل نظرية الشفاعة استعمالاً كاملاً بالجودة التي سيتسعملها الرسول r يوم القيامة والأدلة في الكتاب والسُنّة تدل على أنه r سيستعملها استعمالاً كاملاً ويقول r : لن أرضى وواحد من أمتي في النار” ويقول له مالك خازن النار : “يا محمد ما أبقيت لغضب ربك من أمتك أحد” (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) يونس). فقدم الصدق هي شفاعة الرسول r وهي مصداقاً لقوله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5))
مقعد صدق: الصدق في الأحوال (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) القمر)
مخرج صدق ومدخل صدق: لما هاجر الرسول r بأمر من الله تعالى قال (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) الاسراء) وكان المفروض أن يقول أخرجني مخرج صدق أولاً لكن الرسول r عندما خرج من مكة كان هدفه هو الدخول إلى المدينة وليس الخروج من مكة .معنى مخرج الصدق هو عندما يكون خروجك من بيتك أو عملك لوجه الله تعالى لهدف أسمى من بقائك فيه، من هنا فأن يستقيل حاكم مثلاً لمعرفته أنه صار عاجزاً عن خدمة هذا المنصب هو من أعظم العبادات وجاء في الحديث الشريف عنه r :” ما آمن بي من وُلّيَ من أمر المسلمين شيئاً وهو يعلم أن غيره أفضل منه” هذا هو مخرج الصدق أن يتبرع رجل أن يترك المهمة أو المنصب الذي هو فيه لأنه عاجز عن خدمته هو في غاية الروعة يوم القيامة.
أما مدخل الصدق فهو أن تدخل إلى وظيفة وأنت متأكد من صلاحيتك لها ومن أهدافها النبيلة وهكذا فإن الرسول r كان يعلم أنه سيكون في المدينة وعلم أنه مهمته على خير وجه وسيحقق هدفه النبيل فأخرجه الله تعالى من مكة من بين أعدائه فلم يروه وهيأ له الغار والعنكبوت إلى أن وصل إلى المدينة سالماً غانماً لذلك الهدف النبيل ثم دخل المدينة فاستقبله أهله بالدفوف ورأى المدينة وقد أصبحت مجتمعاً اسلامياً ثم في المدينة عمّ نوره r على الأرض وأشاع التوحيد فما من خروج كان صدقاً وما من دخول كان صدقاً كما حصل مع الرسول r والذي أعطاه إياه الله تعالى وهو خارج من مكة إلى المدينة.
مبوأ صدق: قال تعالى (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) يونس) لما امتحن الله تعالى موسى وهارون وأنجاهم وأتباعهم وجمّد الماء لبني اسرائيل فهذا مبوأ عظيم وإكرام هائل ثم عبر بنو اسرائيل البحر وأغرق الله تعالى عدوهم ثم عاد بنو اسرائيل إلى مصر واستولوا على الحكم فيها بعد أن أصبح فيها فراغاً دستورياً ثم كانوا في التيه أربعين عاماً ينزل الله تعالى عليهم المنّ والسلوى ولم يروا فيها عدواً ولا هلاكاً يأتيهم الماء الزلال من العيون ثم مات الجيل الجبان الذي كان يخاف من فرعون ونشأ جيل آخر قوي شجاع فذهبوا وفتحوا الدنيا فهيأ الله تعالى لهم بيئة عظيمة.
وكل ما يجري الآن في العالم من استيلاء على حقوق الغير والاستحواذ على أقساط الناس والأمم والشعوب مع أن هذا الكون مليء بالاقساط وقد جعل الله تعالى لكل أمة قسطها ورزقها من النعيم والمياه والزراعة من عطاء الربوبية وعطاء ربوبية لا يفرق بين مؤمن وكافر لكن العقل البشري ما زال عاجزاً عن الوصول لنظرية الحق من حيث أن هذا الحق لا بد له من العدل والمقسطين الذين يوفرون لكل امرئ ولكل أمة وشعب وفرد قسطه الذي وهبه الله تعالى له.
وما من نظرية على وجه الأرض يمكن أن تنفع في هذه الباب إلا الاسلام ولهذا المسلمون هو وحدهم الموحدون ولأن المسلمين لا يعتدون على أقساط غيرهم ولم يستعمروا أمة أو شعباً لم يحتلوا شعباً أو أمة وكان المسلمون هم الأمة الوحيدة من بين الفرس والروم والشرق والغرب التي لم تستعمر ولم تستولي على أقساط غيرها من الأمم من حيث أنها أمة تعرف العدل والقسط. ولذلك فإن الكتاب العظيم (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) يوضح ذلك أما الآن عندما انحطّ المسلمون شاع الظلم بين الأمم واحتل الناس بعضهم بعضاً واستعمر الناس بعضهم بعضاً نهباً لثرواتهم ومصائرهم لأمنهم ولا يعود الناس لأمنهم إلا أن يسود الحق ولن يسود الحق إلا إذا حُكّم العقل.
بُثّت الحلقة بتاريخ 26/11/2004م