منظومة السماع والاستماع
السماع – الاستماع – الإصغاء – الإنصات-
كنا قد وصلنا إلى حرف الصاد واستعجلنا الحديث عن كلمة صام بمناسبة شهر رمضان المبارك وتجاوزنا الفعل صغى وكان علينا أن نبحث الفعل صغى من الإصغاء نوع من أنواع السماع والاستماع. عندنا صغى وأنصت واستمع أو سمع هذه منظومة الاستماع أو السماع كما سنشرحها. عندنا كلمة سمع (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) المجادلة) (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) القصص) هذا السماع ومن أنواعه الإنصات (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) الأحقاف) لم يقل اسمعوا، وعندنا كلمة أصغى (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) الأنعام). إذن عندنا استمع وعندنا أنصت وعندنا أصغى ونبين الفرق بين هذه الكلمات التي يظن في الظاهر أنها بمعنى واحد والأمر ليس كذلك وما من كلمتين في كتاب الله مترادفتين يكونان بمعنى واحد أبداً وهذا وجه من وجوه الإعجاز وتضاف لقائمة الإعجاز الأخرى.
السماع: تطبيق قانون الأذن (الحاسّة). عندنا حاسة اللمس والذوق والشم والبصر وكلها لها قوانين وهكذا حاسة الأذن وهي أقواها لأنها أولها عملاً فالطفل يسمع من أول يوم لكنه لا يرى ولا يشم ولا يتذوق. كما أن هذه الحاسة مفتوحة دائماً يعني ليس في وسعك أن تتصرف وتتحكم بها طباقي الحواس فأنت تتحكم بها ولهذا فالسمع له وضع خاص من حيث أهميته وآثاره والسمع هي الحاسة التي توقظ الإنسان وتنبّهه كما قال تعالى (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) الكهف) لكي لا يستيقظوا لأن الأذن أداة الإستيقاظ والإيقاظ.
الإصغاء: إذا كان السمع بتلذذ وكنت ميّالاً لأن تسمع وقلبك في غاية الهوى لهذا السماع يسمى إصغاء. (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) التحريم) الذي يتوب من ذنب يتلذذ بسماع ميزة هذه التوبة وما أعد الله تعالى للتائبين وكلنا نجد لذة عندما نسمع النفحات والحديث عنها ونسمع كثيراً مهما طال الحديث عنها كما قال الشاعر:
وترنّم البيت العتيق فصوته نغم السماء وهمسة عذراء
فسلى بها حسّان عن حسنائه وسلت قصيدة صخرها الخنساء
يا همسة الروح الأمين على المدى صُبّي النشيد فكلنا إصغاء.
من الذي يتلذذ بكتاب الله ولا يصغي إليه؟ الإصغاء لكتاب الله عز وجل في غاية اللذة لمن يدرك معانيه ويدرك أسراره ويتقرب به إلى الله عز وجل. هذا هو الإصغاء أي عندما يكون الإستماع بتلذذ وقلبك ميال والميل قد يكون حسياً أو وجدانياً وكل سماع يكيل إليه قلبك سواء كان كلاماً طيباً أو خبراً ساراً وكل سماع تتلذذ به يسمى إصغاء. لهذا أهل الكفر والبِدَع يتلذذون بسماع الطعن على الأنبياء (ولتصغى إليه أفئدة) كل الملحدين يشعرون بلذة عند سماع الطعن في الأنبياء وأهل الإيمان ويتلذذون بذلك من صور كاريكاتورية وأفلام ودعاوي ومقالات ويتفننون في ذلك بشغف هذا كله إصغاء.
الإنصات: نوع من أنواع السماع على شرط أن يسبقه كلام أو ضوضاء. أنت في شغل شاغل في مكان والكل يتكلم فلكي تُحسِن السماع لا بد أن تسكتوا وتصمتوا. هذا السكوت المفاجئ لأجل أن تحسن الفهم يسمى إنصاتاً. (أنصتوا) (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) الأعراف) السماع والإنصات ليسا بمعنى واحد وفالاستماع هو إعمال قانون الأذن لكن الإنصات هو أن تقطع الكلام كلياً إذا كنت تتحدث.لذلك من شروط المغفرة يوم الجمعة أن تُنصِت للخطيب وإذا لغوت فلا مغفرة لك في تلك الجمعة وعليك أن تنتظر الجمعة المقبلة لتتأدب وفي الحديث ” من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طُهر ثم ادّهن أو مسّ من طيب ثم راح ولم يفرّق بين اثنين فصلّى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى” رواه البخاري، “إذا قلت لصاحبك أنصِت فقد لغوت”. يجب أن تقطع الكلام بالكامل هذا يسمى إنصاتاً.
إذن الإستماع وظيفة الأذن مع اشتقاقاتها: سمع، استمع، سماع، مسمع، يسمع. هذه وظيفة الأذن فإذا كان بعد الكلام وقطعت الكلام يسمى إنصاتاً فإذا كنت متلذذاً بهذا السماع يسمى إصغاءً. هذه هي المنظومة وقد استعملها القرآن الكريم بهذه الدقة كشأنه في كل الكلمات المترادفة ولا يمكن لبشر مهما أوتي من فصاحة وبلاغة أت يستمر طيلة 23 سنة ينسج هذا النسيج الدقيق يستعمل عدة كلمات بمعنى واحد بالمكان الذي لا يمكن أن تغني كلمة عن كلمة أخرى، هذا لا يفعله إلا الله عز وجل كما قال تعالى (ومن أحسن من الله قيلا) فالقول أي إستعمال الكلمة في مكانها عندما تتكلم وهذا إعجاز لا يستطيعه البشر.
سمع واستمع: سمع وظيفة الأذن، كل إنسان يسمع حتى لم لم يرد أن يسمع (وإذا سمعوا اللغو) لم يقل استمع لأن استمع تعني أنه جاء خصيصاً ليسمع القول, إذا كان الإنسان يمشي في الشراع وسمع أغنية مثلاً لم يقصد الإستماع إليها يقال له سمع. أما استمع فهو يقصد السماع كما قال تعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ) جاءوا خصيصاً ليسمعوا لذا قال فاستمعوا (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). وعندما يُقرأ القرآن عليك أن تكون قاصداً الإستماع وتريده بعناية ونيّة مسبقة بل ما جئت إلا لأجل ذلك.
استمع له واستمع إليه: استمع له فاستمعوا له يعني أن القرآن يريد أن يلفت نظرك لأهمية القول الذي قيل. أما استمع إليه فالقرآن يلفت نظرك لأهمية الشخص الذي يتحدث إليك. قال تعالى (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (16) محمد) لأهمية النبي r عدّى الفعل بـ (إلى) أما في قوله (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ) يلفت لأهمية القرآن. وحروف الجر أعجوبة اللغة لذا فإن استعمالها يجب أن يكون بمنتهى الدقة على خلاف ما يستعملها الناس جزافاً.
سمّاع: (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) التوبة) كثير الاستماع ويطلق عادة على الجاسوس الذي أذنه مفتوحة ليلتقط الأخبار ليوصلها لمن أوكل إليه هذه المهمة غير الكريمة إلا في مواطن الحق.
استرق السمع وألقى السمع: استرق السمع تقال لمن ليس متفرغاً فيأخذ كلمة من هنا وكلمة من هناك وليس دقيقاً في النقل، الجن كانوا يسترقون السمع وينقلون كلاماً ليس دقيقاً (إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) الحجر) أما إذا استمع وأصغى إصغاء جيداً وما أضاع حرفاً واحداً فيقال: ألقى السمع (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) ق).
سُمعة وسمّع: السُمعة أن تحاول أن تعمل عملاً أو تفعل فعلاً لكي يشيع أنك تفعله لكي يعرف الناس لذا دعاء الذي يخرج لوجه الله يقول: “اللهم أسألك بحقّ السائرين إليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا سمعة وإنما خرت ابتغاء مرضاتك وإتقاء سخطك” يقول r: ” من سمّع سمّع الله به” أي إذا أردت بعمل صالح أن يعرف الناس وكان هذا الرياء فإن الله يسمّع بك أو أن يظهر عيوبك ونقائصك على الناس مما ستره الله عز وجل. فكما أنك أظهرت شيئاً مزيفاً أردت مثلاً أن يعرف الناس أنك من المصلّين لا لوجه الله ولكن ليقال مصليّ كما في حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار: عالم ومنفق وشهيد أرادوا بأعمالهم سُمعة فسمّع الله تعالى بهم يوم القيامة ليظهر زيفهم وسوء أعمالهم.
هذه الفروق بين هذه الكلمات. ونتكلم عن فوائد السمع وأهميته وتفاوت الناس في حسن الإستماع وأن السمع أول وسيلة من وسائل التعليم فأول ما وجد البشر في جنة التدريب الأرضية التي نشأ فيها آدم علّمه تعالى الأسماء عن طريق السمع (وعلم آدم الأسماء كلها).
فلسفة السمع: كلمة سمع شاع استعمالها وكما نعرف أن الاستعمال يخصص اللغة والرعب استعملت السماع على الغناء فعندما تسمع في كنب اللغة والفقه والعقائد كلمة السماع فهي تعني الغناء والمغنين وهذه قضية شغلت أذهان الفقهاء كثيراً.
السماع الذي شاع بين الفقهاء وفيه حوار عظيم ولا أظن أن مسألة من مسائل الحلال والحرام نالت رعاية واختلافاً بين الفقهاء كما حصل في مسألة السماع (الغناء) وهذا العصر الناس فيه مزاجيون وليسوا موضوعيين وكل واحد من أهل العلم له مزاج ثبت عليه وليس مستعداً لسماع الرأي الآخر بينما هذا الدين قائم على الرأي والرأي الآخروالشيء الوحيد الذي لا يقبل الخلاف هو التوحيد لا إله إلا الله (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) إبراهيم) ما عدا ذلك فكل شيء فيه رأي آخر وهذا من سعة هذا الدين. في هذا العصر أُخبِر الناس عن طريق دعاتهم وعلمائهم على أن الغناء من الذنوب الخطيرة العظيمة التي تنكر وتستنكر على صاحبها وهكذا شن الدعاة والعلماء بغَيْرة على الدين أن الغناء مصيبة المصائب وقد أصبح الآن من عموم البلوى في كل مكان وعموم البلوى يجعل لها حكماً خاصاً. لا شك أن الصوت الجميل من نِعَم الله تعالى على البشر كالوجه الجميل (الله جميل يحب الجمال) الله تعالى لم يخلق القبح وإنما القبح من أيدي الناس (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) ما أذن الله لنبي حسن الصوت كما أذن لنبي يتغنى بالقرآن. (ويقولون هو أُذُن) أي سمّاع.
الغناء قضية تاريخية كما يسمع الإنسان البلابل والطيور وخرير المياه وصوت ريح الصبا كلها تصل للإنسان فيشعر بلذتها فكما أن العين لذتها بالنظر للأشياء الجميلة واليد لذتها لمس الأشياء الناعمة والذوق لذته الأشياء الحلوة الأذن لذتها سماع الصوت الجميل ويفرق بين الصوت الجميل والصوت المنكر (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير). الأذن أول الحواس عملاً في الطفل. هذا الذي يسمونه السماع في كتب الفقه والعقائد والذي لاقى من الاهتمام والحوار في الكتب المنكرين له في هذا العصر تغلبوا على المبيحين له سواء إباحة مطلقة أو جزئية. البعض قال أن الغناء ليس كله حرام لكنه شُتّع عليه فسكت وهذا من بلايا العصر أن الناس ليسوا موضوعيين ولا يذعنون للدليل وإنما للمزاج. الدعاة والعلماء ومن يتكلمون في العلم ليسوا بالضرورة أذكياء أو حكماء وإنما يرددون أموراً حفظوها عن ظهر قلب وتبنوها بحماس وهذا ما يجري الآن.
الحكم الموضوعي فيما يتعلق بالغناء ولن أتكلم عن رأي المحرّمين لأنهم هم الصوت الوحيد في الساحة فهم يعتبرون الغناء بكل أشكاله حرام ةيشنّعون على المغنين. العلم علم والحكم الشرعي حكم شرعي وما أكثر الموضوعية في هذ الأمة. كل كتب الفقه فيها موضوعية في المذهب الواحد فيها رأي ورأي آخر مثل لمس المرأة: هناك من يقول أنه ينقض الوضوء مطلقاً ومنهم من يقول لا ينقض الوضوء مطلقاً ومنهم من يقول ينقض الوضوء إذا كان بشهوة. حتى الصلاة فيها رأي ورأي آخر لكن بعض الحالات تُغلق لأنها تتعلق بالعبادة والسلوك بل بالمزاج. هذه الأمة من بركة الله عز وجل فيها من عباد الله الصالحين من لا تجد له مثيلاً في المجتمعات الأخرى لوقاره وحديثه وخشيته من الله عز وجل ودقته في اتّباع الأحوط والأفضل حتى يصير قرآناً يمشي على الأرض “يذكركم الله وجهه” هذا موجود في كل عصر إذا رأيتهم قل لا إله إلا الله يملؤك رهبة ووقاراً وخشوعاً عندما تنظر إلى وجهه تقول مستحيل أن يسمع هذا الرجل أغنية. هذا الذي فعله أبو بكر عندما دخل إلى بيت النبي r وهو مستلقي ووجهه إلى الجدار وكانت هناك جاريتان تغنيان فغضب أبو بكر وقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله. واستهول الأمر فقال له النبي r دعهما لتعلم يهود أن في ديننا فسحة. وكذلك عمر بن الخطاب لما دخل المسجد ووجد الأحباش يرقصون فضربهم بالحصى فقال النبي r إستمروا ونبهه أن هذا جائز في أيام العيد. إن أمثال أبي بكر وعمر الأمة مليئة بأصحاب الوقار تبعاً لهذا السلف العظيم. حينئذ هذا الذي يشنع على الغناء والمغنين من هذا القبيل لكن هذا لا يمنع أن هناك رأي آخر. الخلاف في الغناء بين محرّميه ومبيحيه لا ينطبق على هذا الغناء الذي نحن فيه يعني منذ اكتشاف التلفزيون إلى هذا اليوم والغناء محرّم بالإجماع، الغناء الذي تطور إلى الحد الذي نشاهده اليوم على الشاشات ونسمعه بالشكل الذي نسمعه قطعاً حرام في مطلقه من حيث يصاحبه مناكير لا حصر لها، النساء عاريات والجمهور مختلط والعراة كثيرون والرقص والتصفيق وغيره وما من أمة محترمة تجيز ذلك. ولا تجد في إعلام الغرب مثل هذا الذي نجده عندنا.
الغناء الذي اختلف فيه الفقهاء والذي نريد أن نثبت أن بعضه حلال هو رجل صوته جميل يقرأ شعراً جميلاً ليس فيه شيء من الخنا وبيده آلة يعزف عليها والكلام بليغ نظيف لذا لما نقول السماع والغناء والمختلف فيه نعني الغناء التاريخي ومثله اليوم الأغاني الوطنية وأغاني البدو وبعض الأعراس.
فريق الذين حرّموا الغناء المحترم أما هذا العري والإشارات والحركات والرقص الذي تتنافس فيه الفضائيات الآن هذا ليس من اللهو الذي يناقش فيه. أما اللهو الذي ورد في القرآن والسُنّة فهو من اللهو الحلال. عندما يقال باطلاً أي لا فائدة منه فالباطل لا يعني حراماً وكلامنا معظمه بلا فائدة (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) محمد) أكثر أعمالنا في النهار تدخل في الباطل لكنها ليست حراماً لكنها ليس فيها فائدة. والحُرمة معروفة حيث لا تقوم الساعة حتى يأتي قوم من أمتي يستحلون الحرير والمعازف. دليل على أن الغناء حرام. الغناء الذي كان يسمعه أبو بكر والصحابة والتابعون: دخل عبد الرحمن بن عوف على عمر بن الخطاب في بيته فسمعه يغني وكان صوته جهورياً ففوجئ عمر بعبد الرحمن فسأله: أسمعتني؟ قال نعم، قال عمر إنا إذا خلونا في بيوتنا فعلنا ما يفعله الناس، بيت من الشعر تترنك به بدون آلآت ليس فيه إشكال أما المعازف التي بها أوتار هذه حرام. وفريق قال الحرمة محصورة بآلتين من آلآت الموسيقى. الذي أباحوا الغناء المحترم إنسام صوته جميل يغني أو امرأة صوتها جميل، فريق المبيحين منهم عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير وحمزة بن عبد المطلب والحسن بت الحسن بن علي وسكيبنة بنت الحسين ومن عموم الصحابة عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقاص وعبد الله بن مسعود وعقبة بن عمر وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن عمر وعمران بن بشير وسلمى بن الأكوع وحسان بن ثابت وأسامة بن زيد وفوات بن الجبير وابو عبيدة بن الجراح كلهم كانوا يسمعون الغناء ومن تباعي التابعين سعيد بن المسيب والقاضي شُريح وعطاء بن رباح وعمر بن عبد العزيز وسالم بن عمر وهذا ما عليه مذهب الشافعي وأكابر أصحابه والإمام أحمد والبخاري ومسلم والحاكم وغيرهم, قالوا الغناء المباح مما ليس فيه منكر أو فحش وأن لا يلهي عن واجب وهو غناء العرب وأصواتها وليس ما نسمعه الآن في الفضائيات. غناء العرب شعر جميل كلام منمق فيه رقة وليس فيه تهييج عواطف. قال حافظ بن رجب الحنبلي: المراد بالغناء المحرّم ما كان من الشعر الرقيق الذي فيه تشبيه النساء مما توصف فيه محاسن المرأة من تهييج الطباع بوصف محاسنه. فهذا الغناء المهني عنه إذا لُحِّن هذا الشعر على وجه يزعج القلوب ويخرجه من الاعتدال فهو المنهي عنه وما ليس فهي شيء من ذلك فليس بمحرم وإن سُميّ غناء. ووافق على هذا البغوي الذي قال: الغناء بذكر الفواحش والمجاهرة بالمنكر من القول فهو المحظور وليس غير ذلك. ومن المفتين بجواز الغناء الإمام ابن حزم وله رسالة في الغناء والإمام أبو الفضل المقدسي والإمام أبو الفضل الشافعي وله كتاب الإمتاع بأحكام السماع والإمام أبو قتيبة وأبو الفتوح الغزالي وعز الدين بن عبج السلام والإمام ابن العربي في تفسيره أحكام القرآن والإمام شلتوت إمام الأزهر والشيخ علي الطنطاوي والغزالي من المعاصرين ومحمد عمارة ومن المؤلفات التي أفردت في إباحة الغناء والمعازف إذا لم يصاحبها فحش أو منكر أو مأثم من إختلاط كتاب تعبير السماع للشيح إبن عطية الأندلسي وإباحة السماع للإمام أب منصور التميمي البغدادي وكتاب لابن دقيق العيد وكتاب حادي الفنون وسلوة المحزون وكتاب الكفاية في أحكام الغناء وإيضاح الدلالات في سماع الآلآت لعبد الغني النابلسي.
هذه مجرد أمثلة والكتب التي تنحو نحو هذا كثيرة جداً التي تقول في الغناء رأيين متوازيين فلا ينبغي التشدد والتشديد والنكير على هذا النحو الذي يصادف به من يسمع الغناء وكذلك من هذه المسائل كثيرون ذهبوا هذا المذهب مثل أبو القاسم القشيري والإمام البيهقي والإمام المارودي وابن النحوي وبذلك تتضافر الأدلة على رأي يثبت جواز السماع الخالي من المحظورات إلى الغناء المباح.
كل شيء في الدين له رأيان إذا كان كل هذا الرعيل من العلماء الموثقين من فرقوا بين الغناء والغناء وأباحوه في حالات كثيرة بالتالي لم يعد الغناء ذلك المنكر الذي يشنع به غلى الناس فلماذا خذا الذي حدث بحيث لم يعد للرأي الثاني مجالاً لأن يقال وإنما تغلب الرأي الذي يحرم الغناء تحريماً مطلقاً.
أسباب هذا هناك تيار أو ظاهرة في هذه الأمة جدية والورع (الورع ترك ما لا ذنب فيه مخافة أن يكون فيه ذنب) هذا التيار له طلاب منهم أكرمهم الله بشيخ من الشيوخ يذكرهم الله وجهه بأدبه وأخلاقه وتعلّم طلابه منه هذه الصرامة وهذا الاجتهاد والمراقبة الدقيقة لكن هذا لا ينبغي أن يعمم والامتياز دأب القِلّة (وقليل من عبادي الشكور). الناس تتفاوت وليسوا كلهم 100% ولا كلهم صفر بالمائة وإنما هم بين بين. الفاجر قليل والصديقون قليل ومعظم الناس بين بين وهذا دين الأعرابي الذي قال عنه r: أفلح الأعرابي إن صدق. هؤلاء ليسوا مثل أبو بكر وعمر. قال علي بن أبي طالب: نحن أهل بيت لا نقاس على أحد ولا يقاس علينا أحد. وقال أبو بكر ما نزل قرآن في أحد كما نزل في عليّ. حتى في زمن النبي r أصحابه اختلفوا في الدرجات فيخاطب النبي r خالد بن الوليد قائلاً: دع عنك أصحابي بعد أن رفع خالد صوته على عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين وقال r: لو أنفق أحدكم مثلي جبل أُحُد لم يبلغ ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيبه. هذا خالد فأين أنا وأنت؟ والله تعالى قال (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) فكُن مع الرعية. نحن أناس بسكاء نذنب ونتوب ونستغفر “إن اله يحب كل مفتّن تواب” (إن الله يحب التوابين) هذا عامة الناس لأجل هذا كل ما ذكرناه إذا سمعت أن أحدهم لديه آلة موسيقية يدندن بها في بيته مع أولاده وزوجته أو رجل مسافر بعيد عن أهله يدندن أغنية لا تشنع عليه فنصف الأمة تقول هذا جائز ونصفها تقول حرام. الشافعي يتوضأ إذا لمس امرأة والحنفي لا يتوضأ وهذه صلاة وهي الركن الأساسي وليس غناء.
(والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة) يصلي ويصوم وهو خائف. البعض يقول هذا من باب سد الذرائع وربما تطور هذا الغناء المباح ليصبح حراماً فيسد الذرائع. أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم. هناك أناس تصلي فقط وهناك أناس تصلي وتخشع وتنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر. فلا تحجّروا واسعاً فإذا رأيت إنساناً يسمع الغناء لا تظن الدنيا قامت والرسول r قال لأبي بكر دعهما فإن اليوم عيد لتعلم يهود أن في ديننا سعة.
الناس ليسوا جميعاً أولياء وصالحون فالذي يذهب إلى التشدد له رأيه وبعضهم ليس في بيته تلفزيون ولا راديو وهم قِلّة. وهذا الغناء الذي شاع حرام بالإجماع لأنه دعارة. أنا الغناء العربي القديم في الأفراح ليس فيه عري ولا دعارة وإنما كلام جميل. والشافعي يقول الغناء ليس محرماً بيّن التحريم. وقال الحنبلي في المغني: لا نسلّم أن الغناء محرّم. الشوكاني قال: إذا تقرر هذا يتبين للمنصف العارف بكيفية الإستدلال العالم بصفة المناظرة والعدل أن السماع بآلة أو غيرها من مواطن الخلاف بين أئمة العلم والمسائل التي لا ينبغي التشديد في التنكير على فاعلها. أما إتهام الناس بالشرك والضلال والبدعة كلام يغضب الله ورسوله كهذا الذي قال لأخيه ليدخلنك الله النار فقال تعالى: من ذا الذي يتألى عليّ والله لأدخلنه الجنة وأدخلنك النار.
بُثّت الحلقة بتاريخ 27/10/2006م