الفقر– العُسر – الحاجة- المسكنة- العيلة – البؤس – الضنك – الضرر
وهذه هي المنظومة الكريهة إلى نفوس الناس لقوله تعالى (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) الفجر) وقد فُطِر الإنسان على هذا من حيث أن الله أراد بهذا المال أن يعمر هذا الكون (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (61) هود) والذي يُعمِّر الأرض ويعمرها هو المال. فالمال ذو وظيفة عظيمة في الكتاب والسنة وهذا لا يعني أن الفقر محبوب لذاته كما يزعم بعض الناس من أن الفقر وضع مقدس والفقير داخل الجنة لا محالة، هذا تصور خاطئ. إذا أصابك الله بالفقر حينئذٍ أنت عليك أن تصبر أما أنك أنت تتعمد الفقر هذا شيء خطأ. وهناك فرق بين الفقر وبين الزهد، الفقر أنت لا تملك شيئاً ولم تسعَ إلى أن تكون غنياً وكان عليك أن تفعل، أما الزهد فإن المال بين يديك وأنت الذي تستعمله استعمالاً محدوداً محدداً بُعداً عن الدنيا أو كراهة في التنعم هذا هو الوضع القدسي. والكلام في هذه المنظومة يطول.
نتكلم عن الفروق بين الكلمات التي جاءت في كتاب الله تدل على الفقر وهي: الفقر، العسر، الحاجة، المسكنة، العَيْلة، البؤس، الضنك، والضرر. هذه هي مجموعة الكلمات، وكل كلمة تعطي معنىً لا تعطيه الكلمة الأخرى وهذه هو شأن كتاب الله عز وجل من خلال قوله تعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً (122) النساء) وكل كلمة في كتاب الله لا تغني عنها أي كلمة أخرى وهذا من الإعجاز اللغوي.
الفقير والمسكين: الفرق بين الفقير والمسكين أن المسكين لا يملك قوت يومه والفقير لا يملك قوت عامه ليس لديه مال يكفيه عاماً فهو فقير، فهناك من لديهم مال يكفيهم عامان ثلاثة أو أربعة فهم أغنياء. الذي لا يملك مال يكفيه إلى عام يسمى فقيراً والذي لا يملك مال يكفيه يوماً واحداً يسمى مسكيناً. هذا هو الفرق بين الفقير والمسكين كما قال تعالى (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ (273) البقرة) فهؤلاء أناس هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن عندهم من الطعام ما يكفيهم إلى أقل من عام أو عام لكن لديهم شيء يكفيهم أسبوع أو شهر أو شهرين أو أربعة فهؤلاء فقراء، المسكين ليس لديه قوت يوم وهذا هو الفرق بين الاثنين.
المُعسِر: العسر (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) الطلاق) العسر هو الفقر الذي سببه شِدّة وقسوة المهنة أي تحصيل للرزق عسير كأن تكون المهنة شاقة كأن يكون عاما بناء، مهنة شاقة فلاح في الحقل ليل نهار أو حارس أو جندي في الجيش شرطي في الشرطة فالعمل شاق ففيه دراسات ومطاردات وأخطار والمرتب محدود ورزقهم قليل ولكن العمل صعب وفي غاية المشقة يقف على رجليه طول النهار فهذا يسمى عسراً وهو ليس قلة مال فقط بل قلة مال مع مشقة في المهنة يسمى عسراً.
الحاجة: هو أن تكون فقيراً إلى شيء تحبه فقد يكون لديك مال ولكن هناك شيء تحبه حباً عظيماً ولم تحصل عليه كأن لا يكون لديك بيت وأنت تحبه حباً عظيماً تتمنى أن يكون عندك بيت فهذا فقير لأنه محتاج فيسمى محتاجاً ولا يسمى فقيراً. أو أن يكون هناك شخص يعيش على مرتب يكفيه ولكن ليس لديه سيارة وحينئذٍ هو محتاج لهذه السيارة يحب هذه الحاجة محبة عظيمة ويحتاجها احتياجاً كاملاً يسمى محتاجاً. فالمحتاج غير الفقير وغير المسكين وغير المعسر فهو الذي يفتقد شيء يحبه الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي هو من ملوك الجنة “الذي يموت وحاجته في صدره” فهو طوال عمره يتمنى أن يكون لديه بيت ولم يحصل هذا البيت أو يكون يتمنى سيارة ولم يحصله يسمى هذا محتاج.
العيلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) التوبة). إذن المسكنة: الفقر المدقع، والحاجة: الفقر إلى الشيء مع محبته، والعسر: الفقر لصعوبة المهنة، والعَيْلة: الفقر من كثرة العطاء كأن يكون هناك شخص لديه مال وكان غنياً لا بأس لكن بابه مفتوح واشتهر بين الناس أنه معطاء فيوم بعد يوم، شهر بعد شهر لم يبق لديه شيء كما يقول الشاعر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يُفقِر والإقدام قتّال
حاتم الطائي هرب في النهاية ونحن نعرف في حياتنا بعض الأجاود الأسخياء لأن دخلهم محدود وأعطوا كل شيء ولكن الناس تكاثروا على أبوابهم هربوا من أماكن إقامتهم واختفوا لأنه لا يستطيع أن يرد أحداً حتى باع كل ما يملك ثم هرب لأنه لا يستطيع أن يرد أحداً. هذا الذي يفتقر لكثرة عطائه وسخائه يسمى عيلة (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) الضحى) من هو أسخى من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أسخى الخلق رسول الله r كان كالريح المرسلة ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر فلم يكن يُبيِّت شيئاً ويقول: “أنفق يا بلال ولا تخشى من الله إقلالاً” لا تضن بشيء فهو عائل أي أنه أصبح فقيراً من شدة ما يعطي يسمى هذا العائل.
البائس: من البؤس وهو الفقر مع الذُلّة، شخص ذليل، مهين، مرذول، كما في الحديث “إن الله جميل يحب الجمال” وفي رواية “ويبغض البؤس والتبؤس” أنت فقير ولكن لماذا تكون مذلولاً تافهاً أمام الأغنياء أنت في غاية المهانة؟ ورب العالمين امتدح الفقراء الذين يظهرون كأنهم أغنياء (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) البقرة) فهو فقير لكن شامخ ” إن الله يحب العبد العفيف المتعفف ذا العيال” فهو فقير لكن عفيف لا يسأل ولا يستجدي وشامخ ولا يبدو عليه أنه فقير، هذا الوضع المثالي الإنساني في الإسلام فعليك أن تظهر بهذا المظهر وألا تكون ذليلاً. فإن الرزق ليجري وراء أحدكم كما يجري وراءه أجله. الكرامة في هذا الدين مصونة والمهانة والذلة مرفوضة إلا لله عز وجل وإلا للمؤمنين بعضهم على بعض (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ (54) المائدة).
فالبؤس إذن الفقر مع الذُّل سواء كان أفراد أو شعوب. هناك شعوب أصابها الفقر وذلت بالاحتلال والقهر والسلطان الغاشم وما أكثر الدول التي كانت غنية كالعراق ومصر وليبيا وكثير من الدول فيها من أسباب الثراء ما فيها ولكنها ابتليت بنظام سياسي سيء، أو الروس روسيا بلد غني ابتليت بالشيوعيين وحينئذٍ كل بلد يبتلى بمن يفقره يسمى هذا بلداً بائساً فلا تقول هذا بلد فقير ففقير أي أنه ليس لديه موارد لا معادن ولا مياه ولا زراعة ولا صناعة فهو بلد فقير. لكن أن يكون فيه هذه الموارد وشعبه يتضور جوعاً لحاكم مستبد مَحَقَ الثروة ومزقها وعبث بها وقسمها على أتباعه وهذا معروف الآن هناك حزب يحكم أو جماعة تحكم أو فلسفة تحكم أو تيار مذهبي يحكم يُقسِّم الثروة على أنصاره المعدودين ويترك الشعب يموت جوعاً. فلا نقول شعب فقير ولكن نقول شعب بائس لأنه شعب مع الذل، هذا الفرق بين البؤس والفقر إذن.
الضنك: عندنا الضنك وهو الفقر مع الكآبة. الضنك (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا (124) طه) ضنك: الفقر لكن كئيب فهناك من عندما يصبح فقير يصبح انعزالياً وكئيباً وحزيناً وفي غاية الحزن فهو فقر نفسي بالإضافة إلى المادي. فالضنك الفقر المادي يؤدي به إلى فقر نفسي يسمى ضنكاً لأنه حُرِم ذكر الله، هذا الضنك.
الضر: هو الفقر مع المرض. عندنا بأساء وضراء: البأساء الفقر مع الذل وضراء الفقر مع المرض كما قالوا أخوة يوسف (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) يوسف) أي كنا نحن أيضاً فقراء ومرضى من الفقر فأعطونا شيئاً. إذاً هكذا هي دقة القرآن الكريم. وكذلك سيدنا أيوب عليه السلام أصابه الفقر والمرض فقد حورب وأُفرِز ولم يعد يراه أحد ولا يرى أحد إلا زوجته رحمة رضي الله عنها لشدة وفائها وهي حُجّة على كل امرأة تترك زوجها إذا مرض فقد كانت مثلاً للمرأة الصالحة.
هكذا هي هذه المنظومة منظومة الفقر كل كلمة في كتاب الله عز وجل تعطيك فقراً خاصاً موصوفاً بصفة معينة لا تملكها ولا تدل عليها الكلمة الأخرى إذن فلا تغني كلمة عن كلمة في القرآن الكريم وما أفدح خسارة من يظن أن في القرآن مترادفاً وبقي المسلمون خمسة عشرة قرناً يعتقدون هذا وما أسهل ما كانوا أن يصلوا إلى ما وصلنا إليه بفضل الله عز وجل بتأمل كما قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) محمد). فالتدبر إذن بكتاب الله عبادة من أعظم العبادات المتعلقة بالقرآن الكريم حفظاً أو تفسيراً أو أحكاماً أعظمها أجراً التدبر لأن فيها علماً شديداً وغزيراً وباقياً إن شاء الله إلى يوم القيامة. الكلام في الفقر كثير: أولاً للعلم أن هذا الكون يقوم على الزوجية والازدواجية (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) الذاريات) الليل والنهار، خير وشر، صحة ومرض، ومن ضمنها غنى وفقر فلا يمكن أن يتصور عقلاً أن مجتمعاً يخلو من فقير. والآن في أمريكا وهي أغنى دول العالم اليوم بما تفعله أو بما تستولي عليه أغنى بلاد العالم لأن باحتلال العراق والخليج صار في إمكانها أن تتحكم في العالم لأن البترول هو عصب الحياة اليوم، وأمريكا سيطرت على بترول العالم كله ما عدا فنزويلا. حينئذٍ هي أغنى دول العالم ويزداد غناها يوماً بعد يوم عندما بدأت وقد بدأت فعلاً الشحة في استخراج النفط والموجود منه صار غالي الثمن بحيث أصبح 92 دولاراً للبرميل الواحد. حينئذٍ أمريكا الغنية جداً تقول الإحصائية أن فيها 30% تحت خط الفقر فهذا قانون فلا تغضب. فهؤلاء الروس الذين أرادوا أن يزيلوا الفقر وطبعاً روسيا كانت من أغنى دول العالم عندما كانت روسيا القيصرية ثم عندما قام الشيوعيون بالاستيلاء على كل الجمهوريات الإسلامية التي حولهم، هذه الجمهوريات كما هو واقعهم اليوم غنية جداً بأنواع المعادن والبترول والخ ولكن بعد أن أرادوا القضاء على الفقر هم قضوا على الغنى، انتهى الإتحاد السوفييتي البائس وليس في الإتحاد السوفييتي كله الـ200 مليون ليس فيهم من يملك قوت يومه أيُّ عبثٍ هذا بملكوت الله عز وجل؟ أرادوا إلغاء الفقر ولكن هنالك دول استطاعت أن تقرب بين الأغنياء والفقراء كثيراً وأبرزها دولتان في العالم: الإمارات وماليزيا. هاتان الدولتان بالخطط الحكيمة وبالنظرة الواسعة وعدم التشنج ضد شعبها، الحكام يتشنجون عندما يكرههم الشعب الحاكم عندما يشعر أن الشعب يرفضه ويلفظه يبدأ يكيد له ويقسو عليه وشيئاً فشيئاً فهم لديهم هذه النظرية “جوِّع كلبك يتبعك” وهذه النظرية خائبة سخيفة تدل على حمق أهلها وبالتالي سوف يقتلونه لا محالة أو يلفظونه لفظ النوى. هذان البلدان أحبا شعبهما وشعبهما أحبهما وحينئذٍ وضعوا له البرامج حتى ساد الرفاه وسادت النعمة ومع هذا هناك فقر في حدود 3% أو 4% وهذا من صنع الله عز وجل ليس في وسعك أن تكون في مجتمع مهما كان غنياً إلا وفيه فقر فإذا كان نسبة العالم الإسلامي تزيد على الخمسين معظم البلاد الإسلامية الذين هم تحت خط الفقر 53% – 54% ونحن 3% وهذا كله من عدل السلطان. ومن أسباب الغنى أسباب مادية القرآن حث عليها وقال (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) الملك) وازرعوا واعملوا واصنعوا والخ، وهناك أسباب من اللامعقول “من أحب أن ينسأ له في أجله ويبسط له في رزقه فليصل رحمه” فما العلاقة بين كونك أنت تكرم أهلك وأعمامك وأخوالك وأخواتك وأرحامك تكرمهم رب العالمين يفيض عليك بالرزق؟ وإذا قترت عليهم نقص رزقك. السخي “أنفق ولا تخشى من الله إقلالاً” إن الله يحب السخي وإذا أحبه أعطاه “ما نقص مال من صدقة” (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) البقرة) كما قال صلى الله عليه وسلم ” يا عائشة لا توكي فيوكي الله عليك ولا تحسبي فيحسب الله عليك أنفقي هكذا يعطيك الله هكذا”، هذا من اللامعقول. إذن من ضمن ذلك ما قال تعالى (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) الأعراف) واقرأ التاريخ كله عندما تجد الحاكم عادلاً مع شعبه يوفر الله له الرزق، وعندما تجده ظالماً يمحق الله الرزق في ذلك البلد والتاريخ شاهد على ذلك. عندما كان حكام المسلمين عادلين في يوم من الأيام، في عصر الإسلام وما بعده والأمويون والعباسيون وكان الناس يحبون خلفائهم وحكامهم وكان حكامهم رحيمين بهم كان خيرهم بحيث كانت العواصم كبغداد ودمشق والقاهرة لا تجد فيها من يقبل الزكاة لأن العدل فيها سائد (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) هود) إذا كانوا يحققون العدل والعكس صحيح. فالبلد الطيب البلد العادل الذي يحب شعبه حاكمه ويحب حاكمه شعبه وإن كانت صحراء قاحلة كما في الإمارات. هذه الصحراء انقلبت إلى خضراء فيها خمسين مليون نخلة وقبل عشرين عاماً من يصدق أن هذا البلد سيكون فيه ألف نخلة؟ والآن فيه خمسين مليون نخلة وكما قلنا الخير فيه سائب لعدل سلطانه والمحبة المتبادلة. فما الذي جعل أوروبا بهذا الرخاء؟ ولنكن واقعيين. من الشعوب القلائل أو الفريدة في العالم التي الفرد فيها لا يخاف من السلطان هم الأوروبيين لكن الآن بدأ يظلمون خاصة إذا كان الرعايا مسلمين بدأوا يضربون كما قالت الأمم المتحدة أن هناك تمييز عنصري شديد ضد المسلمين ومن شعوبهم وهذا سيخل بهذه المعادلة. المهم كل شعب مع حكومته في محبة متبادلة فهذا هو البلد الطيب. وهو طيب لأن الإنسان ممكن أن يتأقلم مع المرض فهناك من هو أعمى أو مقعد أو حتى مصاب بالسرطان ولكن تأقلموا مع مرضهم وتعودوا عليه إلا الظلم فالظلم لا يمكن أن يحتمل ولهذا رب العالمين يقول (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) النساء) فمهما كان بك من ألم أو مرض أو إعاقة فلا تشكو لأحد إلا الله واستمر في حياتك إلا من ظلم عليه أن يرفع صوته لأن الظلم لا يمكن أن تتأقلم معه أقسى شيء على نفسك أن تُظلَم ولهذا الظالم يوم القيامة- والعياذ بالله- آيس من رحمة الله. من أجل هذا إذا زال الظلم في مجتمع من المجتمعات فلم يعد ظاهراً، فهناك دول عربية الظلم فيها هو الأصل السجون تقطع فيها الأوصال والرقابة على كل شيء والسجون مليئة والإجحاف والاستيلاء على الثروة لمجموعة من الناس أو لحزب أو جماعة أو ما شاكل ذلك الناس يتضورون جوعاً. لما جاء هولاكو إلى بغداد ومعروف أن بغداد كانت لا تغيب عنها الشمس وفيها من الخير ما فيها الآن الذي دعاها أن تُحتَل فليس هنالك بلد في العالم فيه من الخير كالعراق: فيه من المياه بقدر مياه الدنيا كلها ومن المعادن كالذهب والفوسفات واليورانيوم وغاز وكبريت وفيها زراعة كاملة وصناعة كاملة ومع هذا في زمن هذا الخليفة التي جاءه المغول كان الناس يتضورون جوعاً وكانت خزائنه مليئة وفعلاً هولاكو عثر على الكنوز والخزائن فأخذها وأتى بالخليفة وقال: إن جنودك كانوا يستجدون من جيشي لقمة خبز وأنت عندك كل هذا المال. فرب العالمين سلط عليهم المغول وهذا شيء معروف. فالغنى والفقر على مستوى الجماعة عقاب أو إكرام وحينئذٍ كما قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96) الأعراف) (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) البقرة) (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) الصافات) (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) النحل) كانت مطمئنة فيها عدالة ثم كفرت بأنعم الله وأصبحت ظالمة فأصيبت بالبلاء. حينئذٍ هذا الغنى وهذا الفقر الجماعي على مستوى شعب أو دولة يتبع سلوكيات الفرد: منع الزكاة يقطع المرض، شيوع الزنا يقطع الرزق، كما أن السخاء بصلة الرحم، بالإنفاق، بالتراحم، وحينئذٍ هذه الأمور علينا أن نفهم الفرق بينها وبين أن تتغزل بالفقر. لكن هناك أحاديث عن الفقر.
والأحاديث التي جاءت عن الفقر ليست حثاً على الفقر فهناك من فهمها أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث على أن نكون فقراء من قال هذا؟ وأي فهم غبي هذا؟ النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم فيما لو أصابك الله بالفقر. أنت حاولت وأردت أن تكون غنياً وبعد أن حبب الله لك الغنى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) آل عمران) هذا من صنع الله لكي تعمر هذه الدنيا فهي لا تعمر إلا بالمال والثروة ولهذا هذا النقاش الفلسفي العظيم عند كثير من فلاسفة الإسلام كالإمام الغزالي أيهما أحب إلى الله الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ فنقول لا بل الغني الشاكر لأن الفقير ليس لديه شيء إلا الصبر لكن الغني الشاكر هو الذي أعطاه الله الثروة فاستعملها استعمالاً يرضي الله أخذ منها شيئاً قليلاً فالثروة في يده وليست في قلبه نفع بها الناس، الفقراء، المشاريع، أعان الدولة، أعان الأمة، رفّه عن المعسرين، فرج عن المكروبين، إلخ. حينئذٍ هذا أفضل من الفقير الذي قال الحمد لله وأنا راضي بقدر الله ونعم أنت صابر ولك أجرك لكن هذا الغني الذي أصبحت الثروة في ملكه وبين يديه فاستعملها استعمالاً يرضي الله ولهذا قال سيدنا عمر رضي الله عنه “ابتلينا بالبلاء فصبرنا وابتلينا بالنعماء فلم نصبر” أنت قد تصبر على الفقر ولكن لا تصبر على الغنى فقد تصبح باطشاً وبخيلاً وحقوداً وتأخذ ربا وتستحوذ على أموال الناس وأموال الآخرين ولهذا إذا كنت غنياً صالحاً فهذا أشد وطأة من الفقير الصابر. وهذه الأمة من أغنى الأمم في العالم ووهبها الله من الثروات ما لم يهبه لأمة أخرى ولكن ابتليت بالحاكم الواحد الذي لا يناقَش أنا ربكم الأعلى أي عشرون فرعون في عشرين عاصمة. حينئذٍ أشاع الظلم والفساد وأفسد الذمم ولديه جماعته يتلصصون على الناس كالأحزاب وما شاكل ذلك وحينئذٍ ابتلاهم الله بالفقر على شدة غناهم. وحقيقةً هذه قضية مضطردة كما قلنا قبل قليل أوروبا من الدول التي تعدل بين حكامها ولكنها ظلمت الشعوب الأخرى وهذا لن ينجوا منه وهؤلاء أصحاب مكر وذكاء خارق. الدول الأوروبية الآن وحتى أمريكا لكي لا يتهموا بأنهم لصوص ويسرقون أموال العالم أنشأوا شركات كبرى بحيث لا يكون للحكومة علاقة بها وهذه الشركات ضربت أطنابها في العالم كله حتى لا يستطيع أحد أن يقيم اقتصاداً إلا من خلالها واستولوا على مقدرات الدنيا وبعض هذه الشركات أقوى من الدول وأقوى من الحكومات وهي كلها شركات حكومية بالأصل ولكن أعطوها هذه الصبغة لكي لا تتهم تلك الدولة بأنها تستحوذ على أموال الناس والعولمة – هذه الشريرة – وهناك عولمة شريرة وعولمة خيرة والسائد العولمة الشريرة التي أشاعت الفقر لحساب فئة محدودة وهذه لن تمر لأن الله عالم بالخفايا. من أجل هذا ما يصيب أوروبا وأمريكا من نكبات وأمراض ومصائب ليس بعيداً عن صنع الله عز وجل ثأراً وتطبيقاً لقواعده وقوانينه من أن للظالم يوماً كما قال الشاعر:
لا يأمنُ الدهرَ ذو بغيٍ ولو ملكاً جنوده ضاق عنها السهل والجبل
ما يجري في العالم الإسلامي من اضطهاد وتهديم وسرقة أموال واستيلاء واستحواذ لا يمكن أن يمر هكذا كأن الله غافل ورب العالمين يقول (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) إبراهيم).
نتحدث قليلاً عما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في مدحه أو في ترجيته وبث الرجاء في نفوس الفقراء الذين أراد الله سبحانه وتعالى لهم أن يكونوا أقل من غيرهم في متع الدنيا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما هو عن أبي سعيد الخدري “من قلّ ماله وكثرت عياله وحسنت صلاته ولم يغتب المسلمين جاء يوم القيامة وهو معي كهاتين”. تأمل هذا الفوز وهذا المجد يوم القيامة لمجرد كونك فقيراً ولكن مع فقرك فأنت تصلي خمس أوقات ولا تغتاب أحد فأنت يوم القيامة مع النبي كهاتين أي مجدٍ هذا؟! ويقول صلى الله عليه وسلم كما هو عن أبي الدرداء “إن بين أيديكم عقبة كئوداً لا ينجو منها إلا كل مُخِفّ” وهنا يتكلم عن شدة الحساب ونحن نعرف كما قال صلى الله عليه وسلم “من نوقش الحساب هلك” وحينئذٍ من الذي يحاسَب؟. وفي حديث آخر عن النبي عندما يوقف مجموعة من الناس للحساب ويقال لهم قفوا للحساب كيف تذهبون للجنة فيقولون لهم والله ما تركنا شيء نحاسب من أجله فيدخلون الجنة. معنى ذلك أن الحساب من كثرة الغنى والإنسان يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ والفقير نجا من هذا السؤال ولنكن واقعيين إذا كنت تسبح في البحر كم تصبر من الأيام؟ تسبح يوم، يومين، أسبوع، شهر، لابد أن تغرق في النهاية. وحينئذٍ هذا الغني المليونير رغم أن هناك صالحين بالطبع لكن هذا المال له ضريبة التعامل مع الناس فالناس يقبلون عليك ويحتاجون إليك ويتملقونك وقد تضيق بهم بل في الغالب أنت تضيق بهم ذرعاً كما قال سيدنا على لسيدنا الحسن والحسين “إياكم وهؤلاء الفقراء فإنهم لا يرضون منكم إلا أن تكونوا مثلهم”. رأينا كثيراً من الأجواد والأسخياء فعلاً أُفقِروا فمنهم من ضاقت به الدنيا ومنهم من وسعته السماحة والحلم. إذن فالغني محاسب محاسب لا محالة ولهذا اجتمع رجلان أحدهما غني والآخر فقير على باب الجنة فقيل للفقير أدخل والغني تأخر سنوات فسأله الفقير: أين كنت؟ خفت عليك والله فقال الغني: والله لقد حوسبت حساباً سال مني من العرق ما لو كان لكان نهراً، مع أنه رجلٌ صالح، غني صالح. إذا كان الغني الصالح بهذا العذاب فهناك عدة أحاديث عن الغني الصالح كيف يحاسب فما بالك بالغني الطالح ولهذا نعمة المال في الدنيا بقدر ما توفر لصاحبها من المتعة والرئاسة والجاه عليه أن يتذكر أن وراءه عقبة كأداء لا يجتازها إلا كل مخف إذا كنت قد أديت حقه. وحقه كما أنت تعرف الزكاة وقضاء حاجات الناس قدر الإمكان وأن تسخره في منفعة الناس ومنفعة أهلك ولا يلزم أن تكون فقيراً. ونحن قلنا الغني الشاكر أحب إلى الله من الفقير الصابر. ولكن كيف تُقنع هذا الغني أن يكون شاكراً؟ وأنا أعرف أحد الناس وأنا أحسبه على خير يصلي ويصوم ويعطي ولكن الله أعطاه ثراءاً خيالاً فأسأله عن زكاته فيقول أن زكاته خمسين مليون وأنه لا يستطيع أن يعطي خمسين مليون زكاة لا يقدر وبالتالي هذه فتنة فالمال فتنة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم “إذا أحب الله عز وجل عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء” لشدة ما يحاسَب فعندما رب العالمين يحب فلان الفلاني فلكي لا يفتنه في هذا المال إذا كان ثرياً ثراء فاحشاً فهناك ثراء فاحش وفقر مدقع والفقر المدقع هو المسكين الذي لا يملك قوت يومه وثراء فاحش لا يعرف كم هو فهناك أناس من الأغنياء لا يعرف كم لديه؟ حينئذٍ إذا أحب الله عبده لم يعطه هكذا لأنه لا بد أن ينزلق ولابد أن يقصر وهناك (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) الكهف). عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء” وهذا في البداية أول ما يدخل الناس الجنة يكون أكثر أهلها الفقراء لأنهم دخلوا من غير حساب فهو يحاسب على ماذا؟ والأغنياء محبوسون للحساب والحساب قد يطول. حينئذٍ النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الجنة في أول دخول الناس فيها كان معظمهم من الفقراء لأنهم لا حساب عليهم. وفي حديث آخر “يدخل فقراء أمتي قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً” وهذا الكلام عن الأغنياء الصالحين الذين هم من أهل الجنة. فرب العالمين حكم على هؤلاء الفقراء والأغنياء بالجنة لكن الفقراء دخلوا من غير حساب لأنهم خفافاً ليس لديهم شيء يحاسبون عليه وهؤلاء الأغنياء بقوا أربعين خريفاً حتى أتى دورهم ويدخلون الجنة. وهذه قضية وكأنها قاعدة فرب العالمين له فعل ورد فعل فأنت غني في الدنيا تكون فقيراً في الآخرة، فقير في الدنيا غني في الآخرة. الله سبحانه وتعالى قدّر مقادير الزكاة وهو يعلم أنها تكفي الفقراء ولكن من أسباب وجود الفقراء هو الخلل في دفعها والخلل في إيصالها. ولو أن هذه العملية نظمت وقد كانت الدولة من قبل تشرف على هذا الأمر لكانت من أهم الأسباب التي قضت على الفقر ناهيك عن بقية الحقوق التي في المال. يروي الخطيب البغدادي في كتاب تاريخ ” تاريخ بغداد” أن في السنة الفلانية ما وجدوا في العراق من يقبل الصدقة فذهبوا بها إلى مصر وأيضاً لم يجدوا فذهبوا إلى أفريقيا. عن عبد الله بن عمر قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “يجتمع الناس يوم القيامة فيقال: أين فقراء هذه الأمة؟ فيقال لهم: ماذا عملتم؟ فيقولون: ربنا ابتُلينا فصبرنا ولّيت الأموال والسلطان غيرنا فيقول الله عز وجل: صدقتم قال: فيدخلون الجنة قبل الناس ويبقى شدة الحساب على ذوي الأموال والسلطان، قالوا: فأين المؤمنون يومئذ؟ٍ قال: يوضع لهم كرسي من نور ويظلل عليهم الغمام ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة نهار”. لا يجتمع على العبد أمنين ولا خوفين. النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه قال كما في الترمذي عن أنس أنه قال: “اللهم أحييني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين” هذا لا يعني أفقرني ولكن دعني أعيش عيشتهم واحشرني معهم. أي أن هذا الغني عيشته عيشة مسكين سيدنا عمر بن عبد العزيز وهو يملك كل الدنيا كان طعامه وجبة واحدة قطعة خبز شعير وماء فهو مسكين وسيدنا عمر يمر اليوم واليومين من دون أكل. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يشد الحزام على بطنه من الجوع وهو يملك أموال الدنيا. حينئذٍ هذا الحديث لا يعني أن تصبح مسكيناً ولكن أنت كُن غنياً وذا ثروة وقم بمشاريع وانفع الأمة وقوي هذه الأمة بالمال والجهاد بالمال كما نعرف مقدم على الجهاد بالنفس (وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ (41) التوبة) ولكن أنت عِش عيشة المساكين وهناك من الأغنياء على قلتهم من لا يأكل إلا وجبة واحدة ولقيمات لا يجمع لونين وهو يملك الملايين، لا عن بخل لأنه ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر ولكن يحب أن بعيش عيشة بسيطة. وهذه مرتبة عالية عظيمة أن يكون المال سائب بين يديك وتعطي باليمين وبالشمال وعلى أهلك فسيدنا عمر رضي الله عنه كان أهله يتضورون جوعاً وكانت زوجته تطلبه أن يعطيها من بيت مال المسلمين فيرفض ويقول لها “ليس لآل الخطاب منه شيء”. وكل هذه الأحاديث تبين أن المساكين الذين لا يملكون قوت يومهم هم يوم القيامة ملوك الجنة والنبي r إستعاذ بالله من الفقر. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اللهم توفني فقيراً ولا تتوفني غنياً فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة”. وهذه مصيبة أن يكون الإنسان فقيراً في الدنيا وهو عاصي فاجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة وهذا أشقى الأشقياء. ولهذا من أدب الفقر ألا تسأل فالمسألة مذمومة في الإسلام ولو أنه جاء ذِكر قال أعطي السائل ولكنه مذموم. عليك ألا تسأل الناس وألا تتظاهر بالمسكنة وألا تكون ذليلاً وأن يراك الناس وكأنك غني لشدة عِفّتك (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) البقرة) وهذه عبودية لله عظيمة كأنك راضٍ بقدر الله وقضائه رضىً عظيماً ولا تحتاج إلى الناس أبداً برغم شدة حاجتك لشدة التوكل.
في إجابة لسؤال ورد من أحد المشاهدين يطلب نصائح للحجاج أجاب الدكتور الكبيسي:
يا أخوان الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وهذه فرصة العمر. هناك شروط وأنت في الحرم في المناسك وشروط وأنت عائد لأهلك. في الحرم يا أخوان اعلم أن جميع القادمين هم ضيوف الرحمن فإياك أن تعتدي على ضيف من ضيوف الرحمن، هذا ضيف كما أنك ضيف فعليكم بالحلم والصبر ولا رفث ولا جدال ولا فسوق واحتملوا فإذا زاحمك على الحجر فإنهم مشتاقون كما أنت مشتاق، وإذا زاحموك على الروضة الشريفة فإنهم مشتاقون كما أنت مشتاق. أعرِف رجلاً جلست إلى جانبه وكان مكانه في الروضة الشريفة في مكان مرور الناس مر عليه العشرات والمئات وكل واحد يقفز فوق رأسه ويضربه وكان يبتسم ويقول هم مشتاقون كما أنا مشتاق فأنا أكرمني الله بالجلوس. فحينئذٍ عليك أن تكون بهذه الوداعة فالحج المبرور هو أن تكونوا حليمين تليق زيارتكم بملك الملوك ماذا لو وفدت على ملك في قصره؟ كيف تكون مهذباً ومؤدباً وخفيضَ الصوت ومنضبطاً في مأكلك وفي جلستك وفي مشيتك هكذا كُن مع الله وأنت ضيفه. وحينئذٍ ستعود إلى ديارك والله راضٍ عنك والملائكة يذكرونك بخير والحجاج يذكرونك بخير وأنفِق ما تستطيع على الفقراء وما أكثرهم هناك وآثِر الآخر بتقبيل الحجر، بالجلسة، بالروضة، كن وديعاً، عامِل الناس كأنهم أخوتك أو أبنائك. هذا هو البر عدم التدافع، عدم التزاحم، عدم الشح. وإذا عدت إلى بلادك فلتكن عبادتك أحسن من عبادتك قبل أن تذهب إلى الحج لم تكن تصلي في الليل صلِّ في الليل، لم تكن تصوم الخميس صم خميساً، لم تكن تنفق انفق في الشهر ولو مبلغاً. جدِّد لك عبادات جديدة لم تكن لك قبل أن تذهب إلى الحج. وحينئذٍ هذا هو الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة. واعلم أن ملايين يتمنون أن يكون مثلك وفي مكانك في الحج وما يسر الله لهم ذلك وأنت يسره لك وأنت الآن في ضيافة الله عز وجل فكن ضيفاً عزيزاً وكن جديراً بهذه الضيافة لكي تعود موقراً بالهدايا من عطاء الله عز وجل والملك تكون هداياه وعطاياه على قدر تقديره لك. كل ما كان ضيف الملك عزيزاً على الملك أجزل له العطاء والهدايا وهكذا أنت عند ملك الملوك. كلما كنت عزيزاً عند الله بأدبك ورحمتك بالناس ورأفتك بضيوفه وبضيوف الرحمن ستعود موقراً بأجر لا يعلمه عقلك ولا يحصيه. والأخذ بالتيسير في الحج والتيسير هو الأصل ويسروا على الناس وأحسنوا الظن بهم. والمسلمون اليوم بينهم شقاق عظيم والمكان الوحيد الذي يوحِّدهم اليوم هو هذا المكان (لبيك اللهم لبيك) فكونوا أخواناً وعودوا أخواناً وتقبل الله منا ومنكم. وخاصة ونحن في هذه الأيام في العشر الأوائل من ذي الحجة التي تعدل العشر الأواخر في رمضان وقد سئل العلماء أيهما أفضل العشر الأوائل من ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟ فقالوا: إن العشر الأوائل من ذي الحجة أيامها أفضل والعشر الأواخر من رمضان لياليها أفضل .
بُثّت الحلقة في 22/12/2006م وطبعتها الأخت نوال جزاها الله خيراً من السعودية وتم تنقيحها