برنامج بينات

برنامج بينات – آل عمران 5

اسلاميات

آل عمران -5

الآيات 37 – 44

(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿٣٧﴾ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿٣٨﴾ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٣٩﴾ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴿٤٠﴾ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿٤١﴾ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴿٤٢﴾ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿٤٣﴾ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿٤٤﴾)

د. مساعد الطيار: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. انتهينا في اللقاء الماضي من إشارات ولطائف فيما يتعلق بقصة أم مريم وابنتها مريم ولا زال الحديث أيها الأخوة والأخوات متصلاً بهذه الأسرة الشريفة الكريمة أسرة آل عمران. ونبتدئ اليوم بإتمام ما توقفنا عنده فيما يتعلق بقصة مريم. مما تجاوزناه ونبدأ به اليوم ما وقع بين مريم وزكريا بعد كفالته لها. فكونه كان الكفيل فهو الذي كان يدخل عليها ويباشر أمورها فكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل عليها وجد عندها رزقاً فكان يستغرب من أين يأتيها هذا الرزق وهو الذي يأتي بالأشياء إليها وهو الذي يقوم بخدمتها في هذه الأمور فوقع سؤاله استغراباً (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ) وهذه من الكرامات التي ظهرت لمريم عليها السلام هذه المرأة الصدّيقة أن الله سبحانه وتعالى كان يرسل لها هذا الطعام بطريقة من الطرق أن تكون عندها وقيل أنه كانت تكون عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء وكان هذا مدعاة للاستغراب من زكريا عليه الصلاة والسلام. فقالت (هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) العجيب سبحان الله أن زكريا عليه السلام نبي من أنبياء الله لم يكن خافياً عليه قدرة الله سبحانه وتعالى وعلم الله ولكن كأن هذا الحدث أناره وهزّ فؤاده فبعدها قال (هنالك) يعني في هذا الزمن الذي قالت فيه مريم لزكريا (إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء) هنالك تنبّه إلى مسألة وهي قضية الولد. ولعل أبا عبد الله يتحفنا بما لديه في هذا الموضوع.

د. عبد الرحمن: قبل هذا يا دكتور هناك مسالة أريد أن أشير إليها قبل أن أنسى وهي: تذكرون في أول سورة آل عمران ذكر الله تبارك وتعالى الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ووصفهم بأن في قلوبهم زيغ فقال (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ (7)) والمقصود بهؤلاء بالدرجة الأولى هم اليهود لأنهم يتبعون ما تشابه منه ويتبعونه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فكأنهم يريدون بالطعن في عيسى عليه الصلاة والسلام والطعن بالنبي صلى الله عليه وسلم يريدون ثلاثة أمور: الأمر الأول التشكيك في نسب عيسى عليه السلام واتهامه والطعن فيه واتهام مريم عليها الصلاة والسلام وساعدهم على هذا أن كثيراً من العقول لا تدرك سرّ مثل هذا الأمر أن عيسى عليه السلام خُلِق من غير أب فكثير من السُذّج قد يدخل في ذهنه هذا التشكيك الذي يصنعه اليهود أنه لا يمكن أن يُخلق من غير أب. وهذا يساعدهم أيضاً في التشكيك في محمد صلى الله عليه وسلم، التشكيك في صدق النبي صلى الله عليه وسلم وقوله أن عيسى بشر. الأمر الثاني أن اليهود يريدون أن يعتذروا من هذا الشرك الذي دخل في دينه وتوغل في دينهم فيريدون أن يطعنوا بالإسلام بأنه لا يخلو دين الإسلام من الشرك ويذكرون عيسى عليه الصلاة والسلام كمثال بأنه هؤلاء النصارى كانوا يرون أنه إله، كانوا يزعمون أن عيسى عليه الصلاة والسلام إله وأنه يستحق الألوهية لأن له سر خفي على كثير من الناس في خلقه. تلاحظون قصة وسبق أن ذكرتها يا دكتور محمد أن الله سبحانه وتعالى عندما ذكر آل عمران وعندما سميت سورة آل عمران بهذا الإسم للإشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام رجل معروف من أسرة معروفة، معروفة أمه ومعروف آل عمران وجدته ومعروف نسبها وأنه ليس من الألوهية في شيء وإنما هو مخلوق عبد فجاءت هذه القصة التي سردها الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)) وذكر هذه القصة كلها تفنّد هذه الدعوى وهذه الشبهات التي يثيرها اليهود ضد عيسى وضد خلقه واتهام مريم في عرضها ونسبة الشرك إلى دين الإسلام بأن عيسى عليه السلام هو الإله وأنه يعبد من دون الله وكذلك ما دام الشرك موجوداً في دين عيسى وفي دين آبائهم فليس غريباً أن يكون في دين اليهود فكما أنهم يعابون بأنهم مشكرون بالله فكذلك الشرك موجود في أديان أخرى مثل النصرانية. فأنا أتصور أن في صياغة هذه القصة بهذه الطريقة (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) والتفاصيل التي ذكرها الله تعالى في خلق عيسى عليه الصلاة والسلام ورد الله سبحانه وتعالى على هذه الشبهات للرد على اليهود بالدرجة الأولى.

د. محمد: في سؤالكم يا دكتور مساعد للدكتور عبد الرحمن حول المعنى الجميل الذي نأخذه من اندهاش زكريا ودعاؤه في تلك اللحظة التي وجد فيها الرزق عند مريم عليها الصلاة والسلام هذا يدلنا أن الإنسان يترقى في إيمانه ويترقى في يقينه، فأنا أعلم أن الله يجيب الدعاء وأعلم أن الله على كل شيء قدير ولكن عندما تمثل أمامي آية من آيات قدرة الله سبحانه وتعالى يتجدد لي الإيمان ويتجدد لي الثقة بالله والاتصال به. ولذلك قال (هنالك دعا زكريا الدعاء) سأل الله الرزق الذي لا يُسأله إلا الله سبحانه وتعالى لأنه كونه يأتي بفاكهة الصيف في الشتاء عند هذه الفتاة الخالصة التي أُخلصت لعبادة الله ولخدمة بيت المقدس جعل زكريا عليه السلام يجدد ثقته بربه سبحانه وتعالى ليس لأنه كان غير واثق ولكن كأنه يتذكر هذه العظمة الهائلة لله سبحانه وتعالى والقدرة البالغة له جل وعلا فيسأل الله شيئاً قد انقطع الأمل به عند أمثاله عن رجل كبير في السن وامرأته عاقر لا يمكن أن تلد وإذا به يقول (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) هذا يبعث الأمل في نفسي وفي نفسك وفي نفس كل مسلم أن لا نيأس من روح الله مهما اشتدت الأمور وادلهمت الخطوب وكثرت المعيقات أن تسال الله تعالى حتى الذين عمره ثمانين سنة لو أراد أن يقول يا رب أسألك أن تعينني على حفظ القرآن، طبعاً بعض الناس تقول أنا لست أهلاً لذلك لكن يمكن أن يوفقك الله فتحفظ القرآن ويمكن أنه باقي في عمرك أربعين سنة وهناك نماذج عملية لهذا. يا رب ترزقني ذرية صالحة.

د. مساعد: إذن اليقين في هذه الأمور مهم جداً:

د. محمد: جداً. أنا أذكر قصة في هذا اليقين عجيبة جداً يذكر لي أحد المشايخ يقول عندنا امرأة لا تنجب فلما بلغت 35 قالت لزوجها تزوج علّ الله يرزقك ولداً يكون لنا جميعاً بدل أن نموت هكذا فأبى هو لشدة محبته إياها وبعد إلحاح منها بحثت له عن امرأة وزوّجته والناسء بطبعهن الغيرة ولكن هي كان عندها مزيد من العقل وغلبت العاطفة على شهوتها واستئثارها بزوجها. وفي تلك السنة لما زوجته تلك المرأة حملت المرأة وأنجبت وهذه التي أنجبت صار عندها نوع من الطغيان صاحبة ولد والأولى ليس عندها شيء فقالت لزوجها طلّقها فإنه لا حاجة لك بها فقال لها لا أطلقك أنت أنت لا تستحقين أن تبقي تلك امرأني من عشرين سنة وهي التي زوجتني بك فاشتدت الخصومة بينهما وطلق الثانية أم الولد وأخذ الولد فصار الولد من حق الأولى سبحان الله. كبر الولد وبلغ الخامسة عشرة قالت لأبيه زوّجه قال لها ما زال صغيراً قالت أخشى أن يأتينا الموت وأنا وأنت لم نر ذريته فما زالت به حتى زوّجته بابنة أخيها تزوجا وهما صغيران لكنهما في سن البلوغ في السنة الأولى حملت هذه الصغيرة فسبحان الله كأنما جاءها شيء من الغيرة وهي في الخمسين، هذه حملت وهذه حملت، هذه العجوز العاقر التي لا تلد منذ 35 سنة لم يأتهل ولد حملت وجاءها ولد بعد 35 سنة زواج فجاءت بولد ثم آخر ثم آخر ثم آخر ثم خامس خمسة في خمس سنوات، من يصدّق هذا؟ إلا الذي يعلم أن الله على كل شيء قدير. فأقول هذا تذكير. وجاءني بالمناسبة شخص كان لا يولد له قال له الأطباء الأمل في أن يولد لك ضعيف جداً وذلك لأنه تعرض لعمليات في الصغر وإشعاعات قتلت الحيوانات المنوية عنده فجاءني وفيه يأس كثير جداً وقال الآن زوجتي تهددني أو تعرِّض بأنها ستطلب الطلاق مني لما علمت أنه لا أمل في أن يولد لي فما ترى؟ قلت يا أخي لا تيأس من روح الله في القرآن ذكر عدة رجال ونساء قد بلغوا اليأس ومع ذلك ولد لهم مثل ابراهيم وسارة وزكريا، قلت يا أخي ذكرهم الله عز وجل لنا من أجل لا يقع في قلوبنا شيء من اليأس وهم صفوة الخلق إبراهيم كان في المائة وسارة قالت (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) هود) وهم من صفوة الناس. ومع ذلك سبحان الله الأخ امتلأ قلبه فرحاً وخرج من عندي وبعد فترة جاءني وقال لي يا ابا عبد الله أبشرك أن زوجتي حامل قلت له كيف؟ من أين لك هذا؟ قال والله استعملت الأدوية والأنابيب وتركت ذلك كله واستمرت على الدعاء فما شعرت إلا والزوجة تخبرني بأنها حامل وقد نذرت إن أخرجه الله حياً أن أفرش مسجدك هذا فقلن الله يتمم لك وإن شاء الله نستقبل هذا النذر بقبول حسن. بعد أسبوع جاءني وقال أخشى أني أموت وعلي نذر فقل لي كم تكلفة فرش المسجد وأعطيك إياه الآن فقلت أسأل الله أن يجعل هذا سبباً في سلامة الطفل وجئنا بالسعر وأخبرناه وأعطانا عشرين ألف ريال فولد له ثم ولد له ثم ولد له. وأنا أعرفه شخصياً وهو جاري.

د. عبد الرحمن: ما شاء الله. هذا مناسب لقصة زكريا ومريم.

د. محمد: في قوله (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) العجيب إجابة الدعاء جاءت مباشرة (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ) الفاء يعني مباشرة فجاء النداء من الملائكة.

د. عبد الرحمن: قصة طلب الولد وطلب الذرية في القرآن الكريم والآيات التي وردت فيها في قصة مريم وتكررها وقصة زكريا عليه الصلاة والسلام وقصة مريم عليها الصلاة والسلام عندما رزقت بعيسى على غير نكاح هذه القصص تستوقف المؤمن المتدبر في أمثال مثل هذه القصص التي ذكرها الدكتور محمد من البشر من المسلمين ومن غيرهم لا يرزقون بالأولاد أو يتأخر رزقهم بالولد إلى عمر متقدم أو لا يزقون مطلقاً كما ذكرهم الله تعالى في قوله (وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا (50) الشورى) فأنا أتدبر وأقول انظر إلى هذه النماذج التي ضربها الله تعالى من كبار الأنبياء وخاصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام على فضله ومكانته العلية عند ربه وهو خليل الرحمن وهو مجاب الدعوة ورغم ذلك يبتليه الله بهذا الأمر فلا يولد له إلا على كبر وعندما ولد له رزقه الله تعالى بنبيين رزقه إسحق ابو أنبياء بني إسرائيل وإسماعيل عليه الصلاة والسلام أبو خير البشر محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. لكن انظر إلى هذا الفضل العظيم وبالرغم من ذلك يبتليه الله تعالى فيتأخر الولادة له إلى هذه السن المتقدمة جداً. من هو في الناس الذي إذا بلغ مائة سنة لا يزال عنده أمل أن يرزق بالولد؟! لا شك أنه قليل من الناس وكثير من الناس يدخل اليأس قلبه وهو في بداية حياته ويجوع ويياس ويتحسر كما ذكر الدكتور محمد وما أكثر هؤلاء الناس. مثل هذه القصص في هذا الجانب بالذات المفروض أن تُبرز لمثل هؤلاء وأن يتدبروا ويتأملوا فيها، فمن نحن مقارنة بهؤلاء الأئمة عليهم الصلاة والسلام؟

د. مساعد: في الحلقة الماضية ذكرتم بعض الأوصاف التي ذكرت لهذه الأسرة الكريمة. يحيى عليه السلام لما بشر به ظكريا قال الله سبحانه وتعالى عنه (وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) السيادة معروفة ولكن حصوراً وقع فيه خلاف بين المفسرين في مفهوم حصوراً طبعاً بعضه داخل في اختلاف التنوع لكن بعضه لا يكاد يصح من جهة مقام يحيى عليه الصلاة والسلام والظاهر في معنى حصوراً هو الممتنع عن النساء عفّة مع قدرته وهذا لا شك أليق بحال يحيى عليه السلام ولكنه خاص بيحيى عليه السلام، هذا جزء من شرعه هو ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل لكن المقصد أن هذا الوصف جاء في حق يحيى عليه السلام من باب المدح والكمال.

د. محمد: والمدح لا يكون في شيء يمنع منه الإنسان منعاً لا عبرة فيه.

د. مساعد: بعض المفسرين رأى أوصافاً في يحيى أنه لا يستطيع أن يأتي النساء، أنه خُلِق على هذا، ما يكون هذا مدحاً وقد اعترض عليه جملة من المفسرين والعلماء منهم القاضي عياض تكلم على هذا وذكر أن الصواب أنه كان عنده قدرة ولكنه امتنع من ذات نفسه. وأيضاً ملحظ قال (وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) فالصالحين أعمّ من الأنبياء فكل نبي صالح وليس كل صالح نبياً فهذا أيضاً مفيد في معرفة أن الصلاح وصف حسن يعني من وصف بالصلاح فإنه اتصف بوصف وصف به الأنبياء.

د. محمد: في قوله (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) وفي قوله في حق مريم (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) هذه من أفعال الله البشارة والحقيقة أن المسلم ينبغي أن يسارع إلى البشائر, كلما سمعت ببشارة بخير وقع لأخيك أنت تسارع إلى التبشير وقد كان ابو بكر من أسرع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيصال المعلومات المبشرة للصحابة، عنما يسمع ثناء من النبي عليه الصلاة والسلام على واحد من الصحابة أول من يأتيه حتى إن الصحابة يأتون أحياناً ليسبقوا ابو بكر فيجدون أنه قد سبقهم وأخبر الرجل هذا يدل على أنها عبادة وأنه شيء مما يدخل به السرور على المسلم وعلى أن الإنسان يحرص على المبشرات يحرص عليها، لما تأتي إلى إنسان فيه شيء من الياس أو يقول لك أنا إنسان ما قدمت شيئاً تعطيه بعض البشرى ألست أنت الذي فعلت كذا وكذا؟ تعطيه شيئاً يحيا به ويأمل، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، تجعله يأمل وأنه إنسان منتج وأنه إنسان طيب وإنسان خرج منه خير كثير فتبشره وتفسح له المجال في العمل.

في قوله (قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) وفي قصة مريم قال (قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء) لفتة جميلة هنا، قالوا لما كان خلق عيسى على غير العادة المعروفة عند البشر خارق للعادة جعله خلقاً وأما ما حصل لزكريا فإنه شيء ليس خارقاً للعادة وإنما مستبعد وإلا فهو من رجل وامرأة عبر عنهم بفعل أقل من فعل الخلق فقال (يَفْعَلُ مَا يَشَاء)،

د. مساعد: الخلق أخص والفعل أعم.

د. مساعد: الحقيقة وأنت تتكلم عن البشارة في (نبشرك) كان في ذهني برنامج في رمضان للشيخ صالح المغامسي برنامج البشارة والنذارة وكان برنامجاً جميلاً جداً وكان فيه لطائف ولو عندنا فرصة نسمعه فهذا جيد. أيضاً لو تأملنا في نفس القصة لما قال (قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) أنت دعوت فكيف تستغرب؟! وهذا يدل على أن هناك طبيعة بشرية قد تغلب على الإنسان أحياناً مع ما يوجد عنده من اليقين وهذا ليس منافياً لمعرفة العبد لقدرة الله وأن الله فعال لما يريد ولكن حالة الاندهاش تجعله يقول مثل هذا. ولهذا أنه ينبه أنه بلغه الكبر علامة على أنه لا يولد منه وامرأتي عاقر علامة أنه لا يولد منها فاجتمعا فيها هذا وهذا فقال (قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) فرد عليه (قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) إطلاق. طلاقة في المشيئة أنه يفعل ما يشاء فيمن شاء متى شاء ففعل هذا الشيء سبحانه وتعالى في حق زكريا فكان ما كان وأذن الله سبحانه وتعالى بوجود هذا الغلام.

د. محمد: وهذه مقدمة لأمر آخر نحن قد نصدقه أو نراه شاهداً في الأمور المادية الآن مثلاً أمور الدعوة والمغالبة والمدافعة التي تكون بين المؤمنين والكافرين. أحياناً لشدة طغيان الكفار وهيمنتهم على المؤمنين قد يصيب الناس نوع من اليأس أن أهل الإيمان لا يمكن أن يتغلبوا على الكفار ولذلك تأتي مثل هذه القصص لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتقول لهم إن الله يفعل ما يشاء. قصة إبراهيم مع سارة في سورة هود جاءت هي نوع من أنواع البشارة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنك يا محمد الآن في هذا الوضع المكي الذي قد آذاك فيك المشركون وفعلوا فيك الأفاعيل لا تيأس من روح الله فأن الله يفعل ما يشاء.

د. مساعد: لأنه في سورة هود ذكر عقابات الأمم وفي قصة إبراهيم ليس لها علاقة بها. أبو عبد الرحمن ألا تلاحظ أن قصة زكريا وما جاءه من ولد تقدمت علىة قصة خلق عيسى، ألا تكون تنبيهاً أو إرهاصاً لما سيأتي؟

د. عبد الرحمن: من قصة عيسى هذا صحيح مع أنها كانت متأخرة عنها في الحقيقة أليس كذلك؟

د. محمد: هي متأخرة عنها في الحقيقة وذكرها كأنه مقدمة لها

د. عبد الرحمن: زكريا رزق بيحيى بعد أن رزقت امرأة عمران

د. مساعد: من خلال النظر في القصة يبدو خلاف ذلك لأنه قال (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) هو رأى ما عندها فدعا الله فجاءه الولد

د. عبد الرحمن: عفواً، صدقت.

د. محمد: ورد في الحديث تقول زوجة زكريا إني أرى الذي في بطني يسجد للذي في بطنك.

د. عبد الرحمن: أنا فهمت ولادة مريم نفسها عن ولادة يحيى ولم أقصد ولادة عيسى ولا شك أن ولادة عيسى ابن مريم متأخرة عن ذلك.

د. مساعد: يكون هذا من باب ماذا؟

د. عبد الرحمن: قصة زكريا كان فيها نوع من الغرابة أن امرأته عاقر وهو كبير في السن فكأنها وطنت النفوس للقصة التي هي أغرب منها وهي قصة ولادة عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب فلا شك أن هذه أكثر غرابة..

د. محمد: في قوله (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً) هذه سبحان الله أيضاً تأكيد على ما ذكرته يا دكتور مساعد أن زكريا وهو نبي يدعو الله ويعلم أن الله ويجيب الدعاء ويفعل ما يشاء ومع ذلك من شدة استعجاله يريد علامة (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً) قال (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا) يعني يلقى عليك الصمت أو يُخرس لسانك فلا تستطيع أن تتكلم بكلمة ولا تنبس ببنت شفة إلا أن يكون رمزاً لشيء معين، ترمز إليهم يعني تشير من غير مرض ومن غير علة لذا قال (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) مريم) وهنا قال (إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) يقول العلماء أنه كان غذا أراد أن ينطق بالذكر نطق به وأما ما سواه من كلام الناس فإنه لا يتكلم به وإنما يرمز إلى الناس رمزاً.

د. عبد الرحمن: البعض قد يفهم الآية (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً) المقصود بها أنه اجعل لي معجزة أنه يطلب من الله أن يرزقه الله له معجزة وليس هذا المراد لأن سياق الآية اجعل لي علامة أعرف بها قرب حمل زوجتي أو قرب حصول الولد، قال العلامة هي كذا وكذا لا تستطيع أن تتحدث إذا أردت أن تتحدث مع الناس فهو لما أراد أن يتحدث مع قومه فوجيء بأنه لا يتكلم فعلم أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب.

د. مساعد: بعض المفسرين ذكر أن هذا من قبيل العقاب لزكريا وهذا فهم فيه نظر ليس عقاباً لزكريا عليه السلام في مثل هذا الموطن لأن زكريا في هذا الموطن لم يأت بما يستحق العقوبة

د. عبد الرحمن: وإنما هي الطبيعة البشرية كما في قصة إبراهيم قال (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (260) البقرة) وأيضاً في قصة زكريا ليطمئن قلبه أكثر وتكون له علامة

د. مساعد: وهي من باب زيادة الطمأنينة.

د. عبد الرحمن: وهي بشارة أيضاً وكأنها نوع من البشارة، بشارة بعد بشارة.

د.محمد: قبل قليل كنت في إحدى الدوائر الحكومية التقيت بشاب سلّم عليّ وأثنى على البرنامج وسلم عليكم. وقال نحن عندنا حلقة نفتح فيها المصاحف ونتأمل مثل في قصة زكريا (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) مريم) قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُعذر منه الإنسان غذا كان يستطيع حتى ولو بالإشارة، هذا واجل على الناس جميعاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يوحي إلى الناس يشير إلى الناس أن سبحوا بكرة وعشية فأنت إذا كنت أعمى أو أصم أو معاق لا تقول أنا حالت إعاقتي دون ما أمر الله عز وجل به، فقلت يا أخي هذا تدبر جميل فقال ما هي الضوابط للتدبر حتى لا نخرج عن السند؟ فماذا تجيبون؟ قلت عليك بقواعد اللغة الغربية وعليك بتعلم أصول الفقه فإنها مهمة جداً فيما يستنبطه الإنسان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصحة المعنى بأن لا يكون المعنى شططاً وأيضاً عليك بقواعد التفسير والعلماء قد كتبوا في هذا وأتوقع لو أنك قرأت هذه القواعد وخاصة ما كتبه الدكتور خالد السبت في كتابه قواعد التفسير يضبط لك من طرق الاستنباط وفهم ما يؤخذ من الحياة بشكل جيد.

د. عبد الرحمن: وإن كان أحياناً عندما نُسأل مثل هذه الأسئلة، قواعد التفسير وقواعد الترجيح بين أقوال المفسرين هي في الحقيقة مرحلة متقدمة لا يكاد يحتاجها إلا طالب العلم المتمرس والمفتي والمجتهد تماماً مثل قواعد أصول الفقه للمجتهدين ليست قواعد أصول الفقه لكل مسلم عادي.

د. مساعد: لكن فيما يستطيع أن يصل إليه فهمه ولهذا نقول نحن مثل هذا التدبر يتجزأ فقد يدرك القارئ على بساطة ما عنده من معلومات أنها معلومات يسيرة قد يدرك من المعاني على قدر ما عنده. وكذلك المتقدم في العلم يدرك من المعاني ومن الاستنباطات ما لا يدركها من هو أقل منه.

د. عبد الرحمن: وهذا من خصائص القرآن.

د. محمد: ذكرنا للغة العربية أحياناً بعض الناس قد يفهم كلمات القرآن على المصطلحات الحاصرة مثل (وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ (19) يوسف) يفهمونها على أنها سيارة من أنواع السيارات المعروفة بينما السيارة هم القوم المسافرون. ونلاحظ في المساجد توضع (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) وتوضع في محراب المسجد وتوضع مكان الإمام

د. مساعد: ومكان الإمام عادة يكون مقوساً

د. محمد. الآن انتقل إسم المحراب إليه والحقيقة أن المحراب هو المكان المعد للصلاة من المسجد ولذلك قال هنا (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) يعني المكان المعد للعبادة فلا يجوز أن تحمل كلمات أو اصطلاحات القرآن على الاصطلاحات الحادثة فيزل اللسان في المعنى ويستنبط استنباطات غير صحيحة.

د. مساعد: يقع فيها أشياء وإن كانت غرائب إلا أنها تكون مضحكة في الفهم. نذكر قديماً يا ابا عبد الله أذكر أنك قلت في أحد المساجد عن الآية (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ (37) التوبة)

د. محمد: هذه ليست واحداً فهمها فهماً خطأ وإنما قال ما حكم النسيان؟ قلت النسيان ليس له حكم وإنما الحكم بما يقع من النسيان أما النسيان نفسه هذه بلايا يبتلي بها الله العباد كما تقول ما حكم المطر؟ ما حكم السحاب؟ ما حكم الهواء؟ هذه أفعال الله في عباده. قال ل، له حكم موجود في القرآن، قلت لا أعرفه، قال بلى هناك آية، قلت لعلك تقصد الآية في سورة التوبة (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) قال نعم، قلت هذا النسيء غير النسيان، النسيء يعني التأجيل وكان العرب ممن زادوا به كفراًً أنهم يأتون الشهر الحرام إذا اشتاقوا للقتال فيه والسبي والغنائم أجّلوا حرمة هذا الشهر إلى شهر حلال واستحلوا حرمة هذا الشهر. قال سبحان الله جدتي أكثر ما تدعو به الله أن الله عز وجل ما يؤاخذها بالنسيان التي تبتلى به وتقول أخشى أن أكفر بهذا النسيان.

د. مساعد: الآن دخلنا في قصة مريم عليها السلام (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ) خوطبت مريم كما خوطب زكريا (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) ذكر الاصطفاء مرتين. الإصطفاء العام (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ) ثم الاصطفاء الخاص على نساء العالمين

د. محمد: ولذلك هي مصطفاة بالنسبة لنساء العالمين “كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع وذكر النبي عليه الصلاة والسلام مريم وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام رضي الله عنهن جميعاً

د. مساعد: بعدها قال (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) في الآية الأولى اصطفاء أول وثاني وهنا الآن الأمر اقنتي لربك معناها أطيعي ربك واسجدي إشارة إلى الصلاة وإذا قلنا القنوت المراد به طول القيام فصارت الإشارة إلى الصلاة بأهم ركنين إطالة القيام وإطالة السجود. ثم قال بعدها واركعي مع الراكعين إشارة إلى الجماعة (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) فذكرها من باب التفنن بالركوع.

د. محمد: وأنت تتكلم يا أبا عبد الملك بدت لي فائدة أرجو أن تجمعوا عقولكم عليها حتى تصدقوني أو تحكمون عليها. أنا اقول سبحان الله الرزق هنا اقترن بالصلاة فالآن يقول في قصة مريم (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) المحراب مكان العبادة، فالرزق اقترن بمكان العبادة فأنت إن تفرغت لعبادة الله عز وجل لا يقع في عقلك أو في خاطرك أن هذا التفرغ لعبادة الله أو الإقبال عليها سيحرمك رزق الله وإنما هو سبب من أسباب مجيء هذا الرزق وبركة هذا الرزق. ثم قال (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)) جاءته البشارة والرزق بالولد بعد بلوغ الكبر وانقطاع الأسباب المعروفة عند أهل الدنيا وهو في حال الصلاة. المفروض أن تأتيه البشارة وهو في الفراش يعني إئت أهلك الآن فإن الله سبحانه وتعالى سيقيض لك رزقك، لا، وإنما جاءت وهو يصلي حتى يقترن الرزق بالعبادة والصلاة وأن هذه من أسباب عطاء الرب للإنسان ولذلك قال (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) طه)

د. عبد الرحمن: وأيضاً عندما قال (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ (10) الجمعة) فهي مرتبطة.

د. محمد: وأيضاً قال بعض العلماء أن من حكم اقتران الصلاة بالزكاة أن الإنسان إذا صلى رزقه الله فإذا رزقه وجبت عليه الزكاة، والله أعلم.

د. مساعد: من باب التنبيه، الشيخ محمد قال عبارة من يسمعها يعترض البعض عليها ونحن نقول للإخوة المستمعين أن أحياناً وهو الإنسان يتكلم قد يذكر عبارة لكن لو راجع عبارة لو سمع نفسه لتراجع عنها. الشيخ قال “المفروض أن تأتيه البشارة وهو نائم” وأقول نقول المتوقع لكي لا يستدرك وهذه من الأشياء التي يحسن أن نتنبه لها أنه حينما نجد الكلام الدائر أنه لا نتوقع أن كل ما يقوله الإنسان يكون قاله وهو يعيه ولكن لو روجع فيه يقول أنا أقصد هذا فهذا انتهى أمره لكن قد يخرج من الإنسان أحياناً مثل هذه الأشياء.

د. عبد الرحمن: وهذا يقال كثيراً في كتب المفسرين أنه لماذا عبّر الله بكذا ولك يعبّر بكذا مع أن المتبادر إلى ذهنك أنت وأنت عربي أنه يعبّر بكذا مثلاً (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ (6) الإنسان) معظم المفسرين وأهل اللغة يقولون النظم الذي اعتاده العربي أن يقول يشرب منها فلماذا قال يشرب بها ولم يقل يشرب منها، تتأمل في الحكمة البلاغية تجد فيها أسراراً بلاغية ومثلها الذي ذكره الدكتور محمد عندما قال (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) فيقول المتبادر للذهن والمناسب للبشارة بالولد أن لا تكون بهذه الحال لكن لدلالة اقتران الصلاة بالرزق.

د. مساعد: ختم الحديث عن قصة زكريا أولاً مع آل عمران واصطفاؤهم ثم أم مريم ثم مريم ثم زكريا ثم نرجع إلى مريم مرة أخرى وما زلنا مع مريم ختمت (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ) لوهذه إشارة وتنبيه كما ذكرنا لمن يريد أن يجادل النصارى أننا لا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو كان كما يزعمون كلام محمد صلى الله عليه وسلم وقوله ما كنت تجد مثل هذه الآية (نُوحِيهِ إِلَيكَ) وإنما ينسبه لنفسه وهذه الأشياء إن كان نسبها لنفسه تكون أرفع له ولكنه هو يقول هذا ليس من عندي ولكنه من عند الله وكونه يقول هذا من عند الله مرة بعد مرة فهذا دليل عقلي على أن مصدر القرآن هو من الله سبحانه وتعالى (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ) معناه ما كان يطلع عليه صلى الله عليه وسلم إلا من خلال هذا الوحي. ثم قال بعد ذلك (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) هذا الأسلوب تكرر في أنباء الغيب في قصة موسى (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ (44) القصص) (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا (46) القصص) وفي قصة يوسف (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ (102) يوسف) (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ (49) هود)

د. محمد: هذه تدلنا على شيء جميل جداً وهو أن القرآن سيقت ولها أهداف وغايات من غاياتها إثبات صدق القرآن فضلاً عن كونها تدلنا على عبودية الله ودين الأنبياء وتدلنا على أن الأنبياء يلجأون إلى الله وتدل على نصرة الله للمؤمنين وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تستقى من هذه القصص إلا أن من غاياتها وهذا يدل عليه ما استقرأتموه من الآيات أن ذكر هذه القصص إثبات أن محمداً رسول من عند الله وأن هذا الكتاب نزل عليه من عند الله. يا محمد هل قومك يعلمون هذا؟ اسمعوا أيها المشركون هل كنتم تعرفون هذه القصص أو هل كانت تُذكر في أسماركم وأحاديثكم في الليل؟ أبداً ما كنتم تعلمون ذلك، من أين جاء به محمد وهو لا يقرأ ولا يكتب؟

د. عبد الرحمن: (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) هود) ولاحظوا أن فيها إقامة للحجة على بني إسرائيل فكثير من هذه القصص وردت عندهم وكثير مما ورد في القرآن الكريم يصحح ما عندهم من الاختلاف ولذلك قال (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) النمل) فهذه كلها تدل على حكم من إيراد القصص في القرآن الكريم.

د. محمد: في الدقيقة الأخيرة أختم بفائدة وهو مشروعية القرآن عندما يختلف الناس ولا نميز بينهم ولذلك قال (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) هم اختلفوا في كفالة مريم وسارعوا إلى ذلك فلما كانوا متساوين في الأحقية جاءت القرعة لتفصل بينهم وهكذا في كل من تساووا في أمر

د. عبد الرحمن: والسؤال لماذا اختلفوا على كفالتها؟ لفضل مريم؟

د. مساعد: نعم لأن كان أبوها عمران من أفاضل بني إسرائيل إكراماً له ولعلنا نقف عند هذه الفائدة لأن الوقت ضاق علينا ونبتدئ إن شاء الله في قصة عيسى عليه السلام في اللقاء القادم:

سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

بُثّت الحلقة بتاريخ 13/5/2009م