حلقات برنامج بينات في شهر رمضان المبارك 1430 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة 15
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
الحديث عن غزوة أحد في سورة آل عمران. في المجلس السابق تحدثنا عن الآيات { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)} هذه مسائل قلبية لا يطلع عليها أحد. الآن أحدث وسائل التجسس لا يمكن أن تطلعك على إن كان يحبك أو لا يحبك .هل يمكن أن يكتشف شئ يكشف هل فلان يحبك أو لا يحبك؟ الله أعلم. فهذه أعمال القلوب لا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى. أقول بالرغم من هذا التحذير والتنبيه من الله سبحانه وتعالى للمسلمين أن يكونوا حذرين جدا في هذه المسائل الحساسة مسألة البطانة وأن الأسرار لا ينبغي أن يطلع عليها إلامؤمن يكون معك في الصف.
تلاحظون أن هذه كلها تمهيد ومقدمة للحديث عن المعارك، معركةأحد الآن، وأنه ينبغي على كل قائد أو كل صاحب قرار أن يكون حذرا جدا في مسائل المعارك والحروب وأنه ينبغي في غاية السرية وغاية الحذر. وهذه الآيات من سورة آل عمران {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} أربع آيات فيها تحذير وتنبيه لما ينبغي أن يحتاط ويحذر من إفشاءه , من تسرب معلومات, إعداد وانتباه من الأعداء.
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121). ويؤكد هذا المعنى في سورة التوبة لما ذكر الله سبحانه وتعالى قصة غزوة حنين وتبوك بعدها قدمها بمثل هذه المقدمة تماما. قال تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16). يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} وهذا يدلنا على أن موضوع القتال ينطلق أول ما ينطلق من القلوب. ماذا في قلبك من الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين؟. إن كنت ستقاتل الكفار وأنت معجب بهم وتحبهم وتقربهم وتداهنهم وتجعلهم بطانة , كيف ستنتصر؟! لا يمكن. لكن يجب أن يكون التجرد والولاية والنصرة أولا في هذه الأنفس. إذا فزنا على أنفسنا وعلى شهواتنا في دواخلنا إستطعنا أن نصرع أعداءنا في الخارج. وتأكيد لمعنى عمل القلوب في المعارك والحروب قول الله سبحانه وتعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} (الفتح) علم ما في قلوبهم من الصدق ومن الإيمان فأنزل السكينة عليهم وكذلك هنا.
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
قوله (وإذ غدوت) يعني خرجت غدوة في أول النهار وتبوئ أي تجعل كل إنسان في مكانه أي تنزلهم منازلهم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وفي قوله”إذ غدوت من أهلك” قال أهلك ولم يقل من بيتك أو من المدينة ولو قال إذ غدوت تبوئ للمؤمنين مقاعد تكون مفهومة. ولكن (من أهلك) إشارة للمكان الذي خرج منه النبي صلى الله عليه وسلم وفيه من الفوائد الشيء الكثير منها التنبيه على أن المسلم يخرج مجاهدا من بيته وأهله الذين يحبهم ويحبونه وقد باع نفسه لله فهذا ملحظ في قوله (من أهلك) تركتهم وهم أهل لك. وفي ذلك تأكيد على العمل القلبي. الآن يتجرد الإنسان من محبته للكافرين وحتى من أهله أيضا فلا يؤثر محبتهم على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .وهذا المعنى أيضا مذكور في سورة التوبة {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} ولذلك أقول أن المؤمنين يؤتون من هذا الجانب أولا وإذا نجحوا فيه نجحوا فيما بعده. والمشكلة أن هذا هو الذي يشغلنا كثيراً عن الجهاد. حتى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)}(الفتح) هم ليسوا منافقين ولكن اشتغلوا بالدنيا.
وفي قوله (إذ غدوت من أهلك) قضية الغدوّ أي الإتيان بالأعمال في أول النهار وأن هذا مبارك ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الخروج في الصباح ويحرص على أن يبدأ المعركة في الصباح وفي هذا دلالة على أن يختار الإنسان الوقت للبدء. فكما أن الأشخاص والأماكن يختلفون كذلك الأوقات ففيها ما هو مبارك وما هو أقل بركة . ولذلك إذا بدأ الإنسان معركة يبدأها في الوقت الذي يكون مباركا. وفي الآية { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)}. ولمحة أخرى أيضاً في قوله (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) الإنسان الآن سيودع أهله ويذهب للقتال وقد لا يعود إليهم مرة أخرى ففيها العناية بهم وإعطاؤهم هذه العواطف الجميلة قبل أن يخرج للقتال وأن يجعلهم آخر شئ يخرج منهم وهذا آخر عهده بهم فهو يسلّم عليهم ويودعهم ويوصيهم ويدعو لهم “أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه وهم يقولون له ” نستودع الله دينك وأماناتك وخواتيم أعمالك” حتى أن الرجل إذا أراد أن يخرج للقتال سمع كلمة من زوجته تثبته ” إتقِ الله ولا يضرك هذا وأن الله عز وجل سيحفظنا” فهو يستبشر ويستنصر ويرتاح ويطمئن فيخرج وقد شعر أن هذه المعنويات الجميلة قد خلّفها في بيته
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
بسبب المنافق عبد الله بن أبي بن سلول وقد تكون مثالا للذين “لا يألونكم خبالا”. الطائفتان يقصد بهم قبيلة بنو سلمة وبنو حارثة كادوا أن ينسحبوا من معركة أحد ويتركوها بسبب رئيسهم عبد الله بن أبيّ ولكن الله ثبتهم فبقوا وثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} فثبتوا. ولذلك يقول جابر {نزلت هذه الآية فينا: { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } . بني سلمة وبني الحارثة ، وما أحب أنها لم تنزل ، والله يقول: { والله وليهما } . الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 4051خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
فرب ضارة نافعة. (الله وليهما) في حق من ثبت إبتداء أشد. ولكن ثبتت له الولاية وهذا ما يريده جابر رضي الله عنه. وهذا مثال لقوله تعالى { لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} فكون عبد الله بن سلول ينسحب بالجيش يدل على أنك إذا اتخذت بطانة فسيكون الأمر مثل ذلك، تخُذَل في أحرج المواقف . ولذلك فإن طالوت عليه السلام لما أراد أن يغزو عدوه جعل الله له شيئا يبتلي به الناس قال { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} (البقرة) تصفية حتى إذا دخل المعركة دخل فيها بأناس يثبتون ويصبرون فعرف بذلك الصادق من الكاذب من المنافق. أي أن سُنة الابتلاء هذه لا بد منها ولا يسلم منها أحد. ويقول البعض لماذا لا نلغي الاختبارات في المدارس والجامعات؟ نقول يا أخي كيف نعرف من يستحق هذه المكانة. الإبتلاء سنة في الدنيا والآخرة وفي الجنة والنار { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} (البقرة).
{ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} قوله سبحانه وتعالى “على الله” اسلوب من أساليب التوحيد أو الحصر. أي عليه وحده وليس على أحد سواه . والتوكل لا يجوز أن يكون على أحد من الناس. إنك تُوكل أحدا ولكن لا تتوكل عليه بمعنى أفوض الأمور ولهذا من الخطأ أن يقول الناس توكلت على الله ثم عليك. توكلت على الله يعني فوضت أمري على الله وحده ولكن وكلتك أن تقوم بالأمر الفلاني فلا بأس في ذلك. وهنا أمر مهم جدا في قضايا جهاد الكفار فمن أعظم الأشياء التى يجب أن يتربى عليها المؤمنون إذا أرادوا النصر على أعدائهم التوكل على الله . المعارك لها أسباب وعُدة ولكن كل هذه الأسباب والعدة ليست بشئ أمام تفويض العباد أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى ولذلك على العباد ألا ينظروا إلى الأسباب. نعم يعدوا ويتخذوا الأسباب ويقوموا بما أوجب الله عليهم ولكن لا ينظروا إليها ولا يجعلوها ميزان بينهم وبين عدوهم . كم دخل المؤمنون معارك وعدوهم يزيد عليهم عدة وعتاداً وكل معارك المسلمين تكاد تكون كذلك. ومع ذلك ينصر الله أهل الإسلام بصدقهم وحبهم لله ولرسوله وولايتهم لله ورسوله وتوكلهم عليه وتفويضهم أمورهم إليه. الله عز وجل أصلا ينصر عباده وينصر دينه ولكن يأمرهم أن يتخذوا الأسباب . في معارك المسلمين الأولى أيام أبي بكر وعمر الجيوش التي أرسلت للشام لملاقاة الروم كان جيش شرحبيل بن حسنة وجيش عكرمة بن أبي جهل وجيش عمرو بن العاص وجيش أبو عبيدة كانت جيوش متفرقة تنازع الروم فلما أرسل عمر إلى خالد بن الوليد في فلسطين أمره بالإتجاه إلى اليرموك. خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو في هذا الإتجاه وقطع مسافة في البادية لقيه بعض الروم يخوفه قال ما أكثر جيوش الروم!. فقال أتخوفني بكثرة الروم والله لوددت أن الأشقر برئ من علته (الحصان) وأن الروم أضعفت في العدد. وفعلا لما اجتمعت جيوش المسلمين كانت خمسة أو ستة وثلاثين ألف مقاتل مقابل مائة وعشرون ألف ونصرهم الله سبحانه وتعالى . ونلاحظ في كلام خالد بن الوليد رضي الله عنه التوكل الصادق على الله مع التنظيم والترتيب . ولكن هناك توكل صادق وحقيقي على الله .وكانت في الجيوش بركة يثبتون الناس. كم من الصحابة رضي الله عنهم كان يحفر مكان قدمه حتى لا يتراجع ويحمل الراية . وسقطوا رضوان الله عليهم شهداء ولكن وقفوا وثبتوا وصدقوا ما عاهدوا الله سبحانه وتعالى عليه.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
الذلّة هنا بمعنى القلة وليس الذُل أي عددهم قليل لأن الآن ومثل ما ذكرنا قضية القلة والكثرة في المعارك خاصة معارك المسلمين ليست هي الأصل ولكن الأصل هو ثبات هؤلاء المؤمنين بما عندهم من إيمان. عشرة آلاف مقابل مائة ألف المنطق والعقل يقول أن هؤلاء سيهُزَمون ولكن أنظر إلى { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} و { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} ولاحظ أنه جاء بالتقوى في قوله تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} إشارة إلى أن سيقع شئ في هذه الغزوة يخالف التقوى فوقعت الهزيمة ولذلك فإن هذه المقدمة { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} في البداية فيها مخالفة من المخالفات التي وقعت في هذه الغزوة. والإشارة الأخرى يذكّرهم ببدر. لقد نصركم في بدر وعددكم قليل فاتقوا الله إن أردتم النصر لعلكم تشكرون. والشكر يكون بالعمل. وما هو العمل؟.هو عمل الطاعة { اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} (سبأ) .ليس الشكر مثل ما نجده الآن من ينتصرون يقيمون الحفلات والمهرجانات . هذا مخالف لما يحبه الله ورسوله. لم نجد أن الرسول أقام احتفالا أو مهرجانا عندما انتصر في بدر. الرسول هو قدوة لنا لم يفعل مثل هذا. فعندما نجد مثل هذا فنعتبر هذا نوع من المخالفة يحتاج الإنسان أن يعيد حساباته في هذا الأمر. إذا أردت أن تشكر الله فاشكره بالطاعة ولهذا من لطائف سورة سبأ أنها ذكرت آل داوود وكان آل داوود أهل شكر وهو مثال عملي للشكر. وبعدها مباشرة { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)} (سبأ) وبعدها { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) } (سبأ) مثال آخر ضد الشكر وهو كفر النعمة.
وفي قوله (أذلة) لمحة أخرى أيضا بالإضافة إلى قلة العدد وهو أن هذا الذل الظاهر بقلة العدد أورثكم تعلقا بالله وتوكلا عليه . كان عددهم 314 في بدر وكان عدوهم الألف أو فوق الألف. هذه الذلة جعلت المؤمنون لا يتكلون على شئ من أسبابهم وإتكلوا وإعتمدوا على الله ودخلوا المعركة ومعهم سلاح الإيمان ولذلك جاءت ضد هذه القضية في حنين { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} (التوبة) ماذا أإنت الكثرة؟! أنتم الآن اعتمدتم على الكثرة وتوكلتم عليها ورأيتم أن العدو سيكون لقمة سائغة وسهلة جدا بالنسبة لكم. لا، فالأمر هو الذي يحسبه ويقول به هو الله سبحانه وتعالى فلا تنظروا إلى هذا العدد. ولذلك فإن (أذلة) فيها هذا المعنى وهو أن ذل القلب بين يدي الله عندما يكون في هذه المواطن بل في كل المواطن . فأنت ما دمت ذليلاً لله خاضعاً لله تعلم أن النصر لا ينزل إلا من عنده أبشِر بالنصر. أما إذا دخلت وأنت فيك من العنجهية والكبر والإعجاب بالعدد والخطط وغير ذلك فاعلم أن الله يكلك إليها ويريك ضعفك وضعفها. ولذلك ذكر الله أن هذا من أسباب هزيمة المشركين { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)} (الأنفال) . معروفة قصة أبو جهل عندما قال لن نرجع حتى تنحر الجزر ونشرب الخمر وتعزف القيان وتسمع بنا العرب. وفعلا سمعت بهم العرب ولكن بخلاف ما كان يخطط له، قتلى أسرى. وبالإضافة إلى ما ذكر في (أذلة) فإن من يصف المؤمنين بهذا الوصف هو الله سبحانه وتعالى ولذلك جاء الوصف منه مقبول سبحانه وتعالى يصف المؤمنين أنهم أذلة بين يديه ولذلك نصرهم بخلاف لو جاء وصف المؤمنين أنهم أذلة من أعدائهم لما كان هذا مقبولا. فعماد النصر هو التقوى. الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم كانوا كلهم ينطلقون من هذه المعاني. في كل المعارك يوصون ويقولون أنكم لن تنتصروا بالعُدّة ولا بالعدد وانما تنتصرون بأعمالكم . ويقال كتب عمر رضي الله عنه لجيش سعد وقال إنكم لا تنتصرون بعددكم ولا بعدتكم ولكن اللهَ اللهَ في الذنوب والمعاصي أن تؤتَوْا من قبلها. أحيانا بعضنا يقرأ هذه الكلمات في التاريخ ويقول أن هذه الوصايا فيها نوع من النرجسية، أين الدعم؟ أين السلاح؟ أين المال؟ أين الرجال؟ لكنك لما تتأمل القرآن الكريم تجد أن هذه القواعد ثابتة { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) } ولكن بدون أن نهمل الأسباب نتخذ كل ما بوسعنا من الأسباب التي يستجلب بها النصر وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .حتى التخطيط الحربي الدقيق كل ذلك نفعله ثم نعلم أن هذا لن يغنينا من الله شيئا ونعلم أنما النصر هو من عند الله وأننا ما فعلنا الذي فعلنا إلا طاعة لله .وأن الله قادر على أن ينصرنا وينصر أهل الإسلام في كل زمان ومكان بدون أن يتخذوا شيئا من الأسباب. ولكن الله تعبّدنا بإتخاذ هذه الأسباب وهذا أمر قد يغفل عنه بعض الناس . يقولون أن عمرو بن العاص في معركة أجنادين أرسل من يجس نبض الروم من باب اتخاذ الأسباب. فجاء الرسول فما شفى غليله. فأرسل رسولاً آخر فقال اسأل عن كذا وكذا ولكن ما شفى غليله. فذهب عمرو بنفسه إلى القائد ولو عرف القائد أن هذا عمرو بن العاص لقتله. فذهب عمرو بن العاص فتحدث مع القائد وكأنه أحس أنه قائدهم وقد سمع عن ذكائه ومواصفاته وكأنه أشار إلى من يقتله. فهم عمرو بن العاص إشارة الرجل فقال أنا من أحد عشر أرسلنا أمير المؤمنين لنكون مع عمرو بن العاص وأنا قد أعجبني كلامك وسأذهب أحضر لك العشرة حتى يسمعوا ما سمعت منك. فرأى القائد في ذلك فرصة وأفلت عمرو منه. الشاهد أنهم لم يغفلوا اتخاذ العدة ولكن لم يعتمدوا عليها وهذا هو الفرق.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
أي في بدر إذ يقول لهم كانوا أذلة. ومحتمل أن تكون في بدر أو في أحد {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)} وفي سورة الأنفال قال تعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} (الأنفال) فقوله (مردفين) أي يردف بعضهم بعضا ولم يحدد كم يكون الرديف . فبينت هذه الآية أن الأرداف كان باثنين أي كل واحد أردف باثنين ويكون هذا تفسير لما أجمل في (مردفين) إذا قلنا أن هذه كانت في بدر {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)} ثم قال بلى أي يكفيكم ثم شرح أن { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} أي ان صبروا واتقوا فيمدهم الله بمدد آخر من الملائكة وهذا سبحانه وتعالى ما يثبت المؤمنين في المعارك. نحن نقول ثلاثمائة مقابل ألف ولكن ثلاثة آلاف ملك الواحد منهم يساوي أهل الأرض جميعا ولكن تكرر المعنى مرة أخرى (إن تصبروا وتتقوا). وهذا شرط فعلا مذكور ومكرر . لو أردنا أن نتقصاه نجده في مواطن الجد والاجتهاد.
(يأتوكم من فورهم) أي يأتوكم مباغتين مسرعين فإن الله سبحانه وتعالى يعجل لكم بمن ينصركم من هؤلاء الملآئكة. قوله (يأتوكم من فورهم) يقصد أهل مكة يظنون أن من قلة عددكم أنهم قادرون على استئصالكم فيسرعون بالمجئ وهم يسرعون إلى حتفهم. ولذلك قال { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} و(مسومين) أن كل من يقتلونه يتركون عليه وسما وعلامة تبين أنه قتيل الملائكة. وهذا ما ذكره الصحابة رضوان الله عليهم الذين شهدوا هذه المعركة أنهم كانوا يعرفون المقتول الذي قتل من الملآئكة. لاحظ أنه يمكن أن تحضر بذهن كل من يقرأ الآيات أن الله سبحانه وتعالى مادام أمدكم بألف أو بثلاثة آلاف أو خمسة آلاف من الملائكة فإن النصر متحقق مائة في المائة فقال الله سبحانه وتعالى لا، لا تظنوا هذا الظن قال سبحانه وتعالى { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) } يعني الآن عندما يعلم المسلمون أن الملآئكة يقاتلون معهم ليس أنه لن تنتصروا إلا بالملائكة، لا، ممكن أن ينصرك الله بغير الملآئكة بأن يلقي الرعب في قلوبهم ولكن هذا من باب تطمين قلوبكم فقط وإلا فإن النصر من عند الله وليس بسبب الملآئكة . فقد يقول قائل مادام الملآئكة موجودة لماذا لم يفنى المشركون؟ فنقول أن هذا أمر مرتبط بالحكمة الإلهية ولهذا كثير من الناس يغفل عن باب القدر إذا جاء مثل هذه الأشياء مادام معهم الملآئكة هو يتصور بعقله البشري بأن المفترض أن المشركين يفنوا عن بكرة أبيهم ولكن سبحانه وتعالى يبين أن وجود الملآئكة الأصل فيه للتطمين والبشرى والسكينة ولا يدخلون القتال إلا بأمر من الله سبحانه وتعالى فالأمر كله لله فإذن لم يؤمروا بأن يقاتلوا وأن يبيدوا إنما أمروا بضربات معينة محددة وهذا يتضح من خلال الآثار التي وقعت. فمعنى ذلك أن هؤلاء الملآئكة لم يباشروا كلهم القتال وإنما باشر من أذن له الله في مواطن محددة فقط وإلا فهم موجودون للتطمين والبشرى. ولذلك قال مجاهد أنهم لم يقاتلوا مع المؤمنين إلا في يوم بدر ولكن جاؤوا يوم أحد ويوم الخندق أيضا جاؤوا للتطمين والسكينة. وعليها حمل هذه الآية { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } أنهم لم يقاتلوا معكم في يوم أحد، أي من أجل الطمأنينة. ولكنها وردت في الأنفال في نص واضح. وفي رواية أن النبي يقول للصحابة رضي الله عنهم في المعركة هذا جبريل قد ركب ولبس لأمته للقتال معكم. وهذا في غزوة الخندق لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وخلع رداءه قال ما تصنع يا محمد قال جبريل إني أمرت أن أغزو هؤلاء (بني قريظة) {لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ، ووضع السلاح واغتسل ، أتاه جبريل عليه السلام ، فقال : قد وضعت السلاح ؟ والله ما وضعناه ، فاخرج إليهم . قال : ( فإلى أين ) . قال : ها هنا ، وأشار إلى بني قريظة ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم . الراوي: عائشة المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 4117
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]} فلبس صلى الله عليه وسلم لأمته وأمر أصحابه { قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة . الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم: 946
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]} احتذاء بالملائكة الذين خرجوا الآن مباشرة للقتال وهذا الشرف العظيم من لك بجيش مثل هذا يقوده الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل ولذلك يفخر حسان بن ثابت ويقول : جبريل تحت لوائنا ومحمد .
) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
هذا المدد بشرى لكم. هذا للتبشير فقد أخبرهم صلى الله عليه وسلم بوجود الملآئكة بينهم . أنا أتصور أن إذا قال صلى الله عليه وسلم للصحابة خبرا فكما يقول أبو بكر إن كان قال فقد صدق. هذه النفسية كيف ستقاتل؟ لا شك أنها تقاتل وهي مطمئنة ومرتاحة. وهذا التطمين الإلهي لهم بأن جعل الملائكة تقاتل معهم جعلهم يستقرون ويقاتلون وهم يشعرون بأنهم قد أمدوا بهؤلاء الملآئكة. ثم قال بعد ذلك { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} واطمئنان القلب هو الأصل لأنه إذا فزع القلب لإضطربت الجوارح ولذلك قالوا { قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}(البقرة) تثبيت القدم تربيط للقلوب { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} (الأنفال) هذا من المستحسن أن نلاحظ ترابط بين بداية سورة الأنفال وبين هذه الآيات بل هناك بعض اختلاف { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} (الأنفال) وهنا قال {(وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)}. ومن حكمة إنزال الملآئكة أيضا { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} أي من حكمة ترك جزء من المشركين أسرى ومشردين رجعوا قال الله تعالى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قد يتوب عليهم وقد يسلموا. كما نتأمل عكرمة بن أبي جهل كان على رأس جيش من جيوش المشركين في فتح مكة يحاول أن يصد محمد صلى الله عليه وسلم ولكن أصبح من قواد المسلمين الكبار في اليرموك { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} حتى محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} مرتبط بالملائكة { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) } أي يقطع طرفا بهذا الإمداد أي فريق من الذين كفروا . لماذا لم يبد المشركين عن بكرة أبيهم ما دام الملائكة موجودين؟ الله قال لا (طرفا). وقد لفت نظري في أدب الجاهلية لم أجد أحد منهم يعيّر المسلمين بقوله أنتم لم تنتصروا علينا بقوتكم بينما انتصرتم علينا بالملائكة لم أجد هذا. ولعل هذا من حكمة أنه لم يكون دور الملائكة دور ظاهر أي أن المسلمين لم يمارسوا القتال وناب عنهم الملائكة. لا، قتل من المسلمين كثير واستشهد منهم كثير. وهذا لو ظهر لآمن الناس كلهم مثل أيضا لو انتصر المسلمون في كل موقعة لآمن الناس كلهم. لأن من طبيعة النفس البشرية أن تميل مع القوي الذي لا يُهزَم ولكن الله يجعل ذلك ابتلاء { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران 140) . الأخبار التي وردت أن الصحابي إذا أهوى بالسيف يريد أن يقتله فإذا به ينشق لأنه للملك ولكن هو يقاتل ولذلك قال { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وهذه من الاستدراك أو الجمل المعترضة اللطيفة جدا. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . لأن أصل الخطاب بدون الإستدراك” ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فجاءت “ليس لك من الأمر شيء” في موطن فيه من البراعة ما يجعلك تتأمل وتقف.
وقد يستدرك البعض في قول “فيه براعة” حيث هل يجوز أن يوصف كلام الله بأن به براعة استهلال؟ ولكن يمكن أن يقال أن هذا أسلوب عند العرب يسمى اصطلاحا “براعة استهلال”. والقائل بهذا يرى أنه من باب الأدب مع الله ونحن نحمد له هذا ولكن هل كجانب علمي فيها انتقاص أو محذور؟ أو خطأ محض؟ ولكن نحن ننبه السامع إلى استخدام كلمات مثل “حسن التخلص” و” براعة الاستهلال”. كلها نفس المعنى.
ومثل هذا أمر آخر ننتبه إليه في باب ما ينسب إلى الله سبحانه وتعالى أن أسماء الله توقيفية بألفاظها ومعانيها فما نزيد في أسماء الله شيئا لم يرد في الكتاب ولا في السنة .والصفات يتوسع العلماء فيها لأنها مستنبطة من الأسماء ولذلك يرون أيضا أن يضاف في الصفات ما لا يضاف في الأسماء فمثلا صفة المكر والخديعة تضاف بضوابط معينة ومعروفة{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} (النساء) و {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} (الأنفال) . الأمر الثالث وهو أوسع منهما وهو أفعال الله والباب فيها واسع جدا وهي واردة في السنة النبوية وواردة على ألسنة العلماء رحمهم الله تعالى فيقولون مثلا اللهم هازم الأحزاب مجري السحاب فهي ليست من باب أسماء الله ولا من باب الصفات لأن الصفات فيها نوع من الثبوت وهذه من باب الأفعال مثل اللهم العن الكفار واهزمهم يا هازم الأحزاب ويا مجري السحاب فلا يسمى الله المجري ولا يقال في صفاته المجري ولكنها الأفعال. والأفعال بابها واسع. والله أعلم. إذن القاعدة في ذلك أن في باب الإخبار أوسع بشرط أن لا يكون ما يُخبَر به عن الله فيه تنقّص. ونذكر أبيات جميلة للسيوطي في ألفيته عن البلاغة عندما تكلم عن سور القرآن الكريم وما فيها من حسن التخلص وحسن الاستهلال والبداءة فقال:
وسور القرآن في ابتدائها وفي خلوصها وفي انتهائها بالغة أبلغ وجه وأجلّ
وكيف لا وهو كلام الله جلّ ومن لا أمعن في التأمل بان له كل ما هو خفيّ وجلي