برنامج بينات

برنامج بينات – 1431هـ- تأملات في سورة النساء الآية 2

اسلاميات

الحلقة الثالثة

تأملات في سورة النساء (الآية الثانية)

د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله والصّلاة والسَّلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، مشاهديَّ الكرام هذا هو المجلس الثالث من مجالس سورة النِّساء والذِّي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبارك لنا فيه وأن يجعلنا وإيَّاكم جميعاً من أهل القرآن الذّين هم أهل الله وخاصّته.

كُنَّا في الحلقة الأولى تحدَّثنا عن الجوّ العام في هذه السُّورة وما يُسمَّى عند علماء التَّفسير بــ” علوم السُّورة”، في الحلقة التي تليها افتتحنا هذه السُّورة وذكرنا مطلعها وهو قول الله عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١) ونحن نعترف بأنَّه لا يــُمكن لنا أن نُعطيَ هذه الآيات حقَّها، وأن نبسط القول في كل جُزئيةٍ من جُزئياتها ومسألةٍ من مسائلها. اليوم ننتقل بكم مشاهديِّ الكِرام لنتحدّث عن الآية الثَّانية من هذه السُّورة وهي قول الله عزَّ وجل: (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢). في هذه الآيةكما ترون مُشَاهِديّ، أنَّ الله عزّ َوجل افتتح بِحقِّ هؤلاء اليتامى. كما بيَّنا أنَّ هذه السُّورة كانت سورة الحقوق، بدأت بِحقِّ هؤلاء الضُّعفاء الذِّين يستحقون من العِناية والرِّعاية والعَطف والرَّحمة والشَّفقة ما ينبغي لمثلهم حتى أوصى بهم الرسول صلى الله عليه وسلّم الوصيِة الباَلغة فقال: “أنا وكَافل اليتيم كهاتين”. دعونا اليوم مع الشَّيخين الفَاضلين دُكتور مساعد الطيّار، والدكتور عبدالرحمن الشِّهري، نحاول أن نقف على بعض قَضَاياها وموضوعاتها وما فيها من الأسرار والعِبر والدُّروس والأحكام والحِكم ونسأل الله التَّوفيق ، تفضّل شيخ مساعد إذا كان لديكم شيء.

د. الطيَّار: بسم الله الرَّحمن الرحيم، الحمدلله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله. أما بعد، فَكَما ذكرتم أخي أنَّ مطلع الآية بَدأ بِحقِّ اليتامى ولأنَّ السُّورة كما ذكرنا في اللِّقاءات السَّابقة تتكلم عن مجموعة من الحُقوق فذكر هنا حقّ اليتامى في أموالهم وواضح منها لــــمّا قال (وآتوا اليتامى أموالهم) أنّه خِطاب للأوصياء على اليتامى أن يُؤتوا اليتامى أموالهم وسيأتي التَّفصيل هذا في الآيات اللاَّحقة. واليتيم كما هو معلوم هو من مات أبوه وهو دون سن البلوغ، وإيتاء المال لليَّتيم لا يكون إلاَّ بَعد بلوغه الأشُّد كما سيأتي. ووصفُه باليُتم في هذا لأنَّه قارب الخُروج من اليُتم فَلزِمه هذا الاسم، وإلاّ لا يكون يتيماً بعد بلوغ الرُّشد، ولا يُعطى ماله قبل بلوغ الرُّشد، فدلَّ على أنَّ تسمِيَته باليتيم في قوله (وآتوا اليتامى) التنبيه على أنّه قد قارب الخروج من هذا الوصف لأنّه خرج قريبا منه ولكن لا زال هذا الاسم يلحقه

د. الخضيري: بناءً على ما كان عليه.

د. الطيَّار: نعم بناء على ما كان عليه، لأنَّ هذا يقع سؤال عليه كيف يقول (وآتوا اليتامى)، (وإذا بلغ اليتامى) فكيف وصفهم ياليُتم وهو قد بلغ وانتهى فهو التنبيه على سبب التسمية.

د. الشِّهري: طبعاً اليُتم هذه الصِّفة مأخوذة من الانفراد كَما يقولون في اللُّغة، دُرّةٌ يتيمة، أنَّ اليُتم في اللُّغة هو الانفراد فكأنَّ اليتيم بعد أن ماتَ والده أصبح منفرداً من الـــمُعين والنَّصير مــمَّا احتاج معه أن يكون له وليِّ يُشرِف على تَربيته ويُشرِف على تنميةِ ماله. فالله سبحانه وتعالى يُخاطِب الأوصياء في هذه الآية، وفِعلاً في البداية بالحديث عن اليَتامى إشارة إلى مدى حاجتهم إلى الرِّعاية وإلى العطف وإلى الحنَّان، وإشارة إلى أنّه ينبغي على المجتمع المسلم أن يكون لهذه الفئة من فــِئاته عِناية خاصَّة، فقد قدَّم الحديث عن الَيتامى في هذه السُّورة التي هي سورة الحقوق، فتحدّث في أوَّلها عن الَيتيم وأيضاً تذكرون في سورة الضُّحى عندما نصَّ الله سبحانه وتعالى على حقِّ اليتيم في قوله سبحانه وتعالى (فأمَّا اليتيم فلا تقهر * وأمَّا السَّائل فلا تنهر* وأمّا بنعمة ربِّك فحدِّث). وتعلمون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نفُسه كان يتيماً عليه الصَّلاة والسّلام، فَهُنا تذكير عندما نزلت عليه هذه الآيات، تذكير للنَّبي صلى الله عليه وسلّم ولأمته من بعده، بالعِناية بهذه الفئة التي كانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم منها والعناية بها، فلذلك فهذه الآية أصل في حُقوق الأيتام ورعاية الأيتام وكفالة الأيتام والذِّي يَتأمل النُّصوص التي وردت في القرآن الكريم في شأن اليتامى وفي السُنَّة النَّبوية يجد أنّ الإسلام قد أعطى هذه الفئة عناية خاصّة فعلاً.

د.الخضيري: في قوله (وآتوا اليتامى أموالهم) إذا كانت هذه العناية بأموالهم، كيف تكون تلك الِعناية بهم هم؟ وهذا الحقيقة ملمَح رائع جِدّا في الآية، وهو أنَّه إذا كان الرَّب سبحانه وتعالى قد جعل لأموالهم من الحقّ في الرِّعاية والحِفظ والتَّنمية ما جعله، وأيضاً في تسليم هذا المال لهم عندما يُؤنَس منهم الرُّشد دلالة على أنّه يجب العناية بهم هم أيضاً إذا كان هذا لأموالهم، وأيضاً نَسَب المال إليهم قال (أموالهم) دلالة على أنّها حقّ لهم، وأن المال لا ينتقل بسبب وفاة أبيهم إلى وليِّهم كما كان أهل الجَّاهلية يفعلون، فهو يَضُّم مال اليتيم إلى ماله، فإذا وقع على ماله شيء جعله في مال اليتيم ويستبدل طبعاً كما في هذه الآية

د. الشِّهري: ما معنى الخبيث في الآية؟.

د. الخضيري: الخَبيث من المال يعني الرَّدِيء والسَّيء فإذا كان هناك قد خَلَط مال اليتيم بماله، وكانت عنده غَنمٌ مهازيل وغَنمٌ طيِّبة قال غَنم بغنم، فجعل الغَنم الطيِّبة له، وجعل المهازيل لليتيم وقال اسمُ الغَنَم واقع على الأمرين وجَعلها من حظِّ اليتيم وقهره بهذا .

د. الطيّار: هناك مبحث هنا يلوحُ لي، وهو أنّنا إذا لاحظنا السُّور المكيِّة التي تحدّثت عن اليتيم مثل لــمّا قال (فأمَّا اليتيم فلا تقهر) في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم، (أرأيتَ الذِّي يُكَذّبُ بالدِّين * فذَلك الذِّي يَدُّع اليتيم)

د. الخضيري: أوّل وصف من أوصاف هذا الــمُكذّب بالدِّين أنّه يدُّع اليتيم أيّ أنّه يقهره ويدفعه عن حقِّه،

د. الطيار: وهذا يبدو أنَّه كانَ متأصِّلاً في العادات الجاهلية عدم احترام اليتيم، وأنَّه لا يُؤبه له أحد وأنّه ضعيف وأنَّ حقَّه يُؤكل، فلمَّا جاء القرآن الـــمَكيِّ سنُلاحظ أنَّ أغلب القرآن المكيّ يُنبِّه على هذا الوَصف السَّيء في هذا المجتمع الكَافر، وفي القرآن المدني أسَّس للأحكام وأنَا أقول هذا محل بحث. وكذلك في قضيِّة النِّساء لو نظرنا إلى موضوع النِّساء في القرآن المكيِّ، وموضوع النِّساء في القرآن المدني سنجد كما هي العادة الغالبة، أنَّ التَّفاصيل تأتي في القرآن المدني مثل هذه السُّورة التي عندنا وسيَأتينا تفصيل في قضِّية إيتاء المال لليتيم، فالقرآن المكِّي غير هذه الآية التي بين يدينا وإنـّما هنا الآن أمر مطلق (وآتوا اليتامى أموالهم – ولا تتبدَّلوا الخبيثَ بالطيِّب – ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم). طبعاً لاحِظ (آتوا) هذا فعل أمر، (ولا) هذه نهي وهي مساوية للأمر، يعني الأمر مقابل النَّهي يعني كأنّه قال أعطوهم الطيِّب وكأنَّه يقول أعطوهم مالهم كاملاً، لكنَّه جَاء بصيغة النّهي (لا تتبدَّلوا)- (لاتأكلوا) فالذِّي أقصده أنّه يمكن أن يُنظر في البحث في تدَّرج الشَّريعة في التَّعامل مع هذه الفِئة الضّعيفة من النِّساء ومن اليَتامى، وكيف أنَّ الإسلام بدأ يَنزع من قلوب هؤلاء الذّين عاشوا على هذه الأوصاف ينزع منهم هذه الأمور حتى يُوصلهم إلى مرحلة الكمال لتخليته ثمَّ التَّحلية.

د. الشِّهري: وأيضاً في قوله (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) أيضاً فيها تعبيرٌ بالأكل عن أخذ الأموال وإلاَّ لا يوجد أحد يأكل الدراهم هذه، لكن عبَّر الله سبحانه وتعالى هنا بالأكل لتبشيع أخذ مال اليتيم بغير حق، ولأنَّ الأكل هو أبرز الصِّفات للانتفاع بالمال، والأمر الثاني ليس هناك أحد يستفيد من المال المأكول، يعني الطّعام الذي تأكله أنت لا يستفيد منه أحد بعد أن تأكله، لكن إذا أخذت المال فإنّه يستفيد منه غيرك، ولذلك عبّر الله بهذه الصِّفَّة للإشارة إلى أنَّك عندما تتجرأ على أكل مال اليَتيم فكأنّك تُفسِدُه فيَفسُد ولا يَستفيد منه أحد بعدك لأنَّك أكلته ظُلماً وعُدواناً، فالتعبير فيما يبدو هنا بالأكل للدِّلالة على هذه المعاني تبشيع أولاً أمر الجُرأة على أكل مال اليتيم، والأمر الثاني للإشارة إلى حُرمة هذا المال.

د. الطيّار: فإذا أُكِل لا يعود.

د. الخضيري: في قوله (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) نُريد الحقيقة الحديث عن قضِّية التعبير (بإلى)، هل هي بمعنى (معَ) كما يذكره بعض المُفَّسرين أم أنّها تشير إلى فِعلٍ آخر في ضِمن قوله (ولا تأكلوا).

د. الطيّار: بعض الــمُفَّسرين قدَّره بِقوله (ضامِّينَ).

د. الخضيري: نعم، لا تأكلوا أموالهم ضامِّينها إلى أموالكم، فيكون عندكم أموال ومع ذلك جَشَعُكُم وطمعُكم وعدم رِضاكم برزق الله لكم، والله قد وسَّع لكم في الرِّزق فلستم فقراء ومع ذلك طمعتم في أموال هؤلاء الضعفاء، وهذا كما ذكرت يا دكتور عبد الرَّحمن في غاية التبشيع والتقبيح لفِعلهم (ولا تأكلوا أموالهم) ضامِّينها أيضاً إلى أموالكم التي ملَّكَكُم إيَّاها ربُّكُم ووسَّع عليكم بها، فما الذِّي يُحوِجُكُم إلى أن تُضيِّعوا على أنفسكم بهذا المال لهؤلاء الأيتام.

د. الطيّار: ألا تُلاحظون هنا في تكرار أموالهم، أموالهم التَّأكيد على أحقِّيتهم بالمال يُضاف إليهم ويتكَّرر، للتَّنبيه على أنّهم هم الأحقّ بالمال وهم أصحاب المال

د. الشِّهري: يعني أنت مجرّد مشرف على هذا المال، ريثما يَبلغهم الرُّشد ثم تُسَّلمه.

د. الخضيري: العجيب في الآية أنَّها جاءت بمنطق التَّدرج، فأولاً قال (آتوا اليتامى أموالهم) هذا هو الكَمَال يُؤتَون هذا المال كاملاً مُوَفَّراً، ثمَّ جاءَ إلى مرحلة ثانية هي ليست أكلاً للمال تامَّاً ولكنَّها فيها نقصٌ من المال (لا تتبَّدلوا الخبيث بالطيَّب)، وجاءت إلى المرحلة القبيحة الثالثة التي هي جَشع ظاهر وإثم كبير قال (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) ثمَّ عقَّب بقوله (إنَّه كانَ حُوباً كبيراً) ما الُحوب يا دكتور عبدالرحمن؟

د. الشِّهري : الحُوب الكبير، الحقيقة أنَّ الحديث في مفردات القرآن عندما تقرأ في كُتب التَّفسير، عندما تأتي إلى التَّفسير الميَّسر كما عند الشيخ مساعد تقرأ (إنَّه كان حُوباً كبيراً) إنَّه كان إثماً عظيماً، لكن هل الحُوب هو الإثم؟ الحقيقة الذي يبدو لي والله أعلم أنّه أشَّد من التعبير بالإثم وأنَّ المقصود بـ (الحُوب) هو الإثم الضّخم الكَبير البَّشع، أنَّ كُل هذه المعاني يُعّبِّر عنها كلمة حُوب. لكن ماذا يصنع الــمُفَسِّرون عندما يأتون لكي يُبيِّنون مثل هذه الكلمات الغريبة؟ يأتون إلى أقرب لفظةٍ يتداولها النَّاس فيُعبِّرون بها. فمن أراد الاستزادة  من معنى هذه اللَّفظة فليرجع إلى كُتُب اللُّغة الـــمُوَسَّعة.

د. الخضيري: مثل؟

د. الشِّهري: مثل كُتب (غريب القرآن)، مثل (المفردات) للرَّاغب الأصفهاني مثلاً أو حتى أحياناً قد لا تجد فيها التَّفاصيل التي تطمح إليها، لأنَّكُ تُلاحِظون النَّاس يا إخواني في التَّفسير تقول له إرجع إلى التَّفسير الــــمُيَّسر مثلاً فيقول أنا رجعت للتفسير الميَّسر وقرأته لكنَّه لم يشفِ غليلي، طيِّب جميل! طيب إرجع إلى تفسير ابن كثير فيرجع إلى تفسير ابن كثير فيقول أنا قرأت تفسير ابن كثير ولكن في هذه اللَّفظة لم أجد أنَّه شَفَى غَليلي، طيِّب بسيطة إرجع إلى كِتاب (تهذيب اللُّغة) للأزهري وهُو من كُتُب المعاجم اللُّغوية الواسعة، فيرجع إلى كلمة (حَوَبَ) مثلاً فيجد أنَّه فصَّلها وذكر معانيها التي تستخدمها العرب فزادت معرفته بدِلالة هذه اللَّفظة.

د. الخضيري: وما دلالة التنكـــير يا دكتور مساعد في موضوع (إنَّه كان حُوباً) ثمَّ وَصف هذا التنكير بقوله كبيراً؟

د. الطيّار: طبعاً هو التَّنكير هنا للتَّعظيم والتَّفضيل، ولهذا لما ساق الآية جرى على هذا ولهذا وَصَف الحُوب بأنه كبير، كفاية أنّه يوُصف بأنّه حوب فضلاً على وصفه بأنَّه كبير وهذا دِلالة على تشنيع أكل مال اليتيم بالباطل .

د. الخضيري: وهذا مثل ما يأتي أيضاً في مواطن اخرى، مثل (وأعَدَّ له عذاباً عظيماً) (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيما) هذا التنكير للدَّلالة على التعظيم والتفخيم وتكبير الشيء

د. الطيّار: إن تكَّرمت ملحظ أخير، في اللِّقاء السَّابق نبَّهنا في آخر اللقاء على ما يُسمى بـــــ “الإظهار في مقام الإضمار”، (واتقوا الله الذّي تساءلون به والأرحام إنَّ الله كان عليكم رقيباً)، ولم يقل (إنّه كان عليكم رقيباً) هنا جاء الإضمار في مكانه في الآية الثانية قال (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنَّه كان حُوباً كبيراً) يعني (إنَّه) ما سبق الذي هو التبدّل والأكل، و لا تتبدَّلوا ولا تأكلوا إنَّه أي إنَّ هذا وهذا إن فعلتموه أو فعلتم أحدهماكان حُوباً كبيراً .

د. الخِضيري: وصار الضَّمير هنا أدّى دوره في الاختصار، وفي شمُول كل ما تقدَّم في قضِّية (حوباً كبيراً).

د.الشِّهري: تُلاحِظونَ أنَّه بدأ في أوّل الآية باليَتامى مُطلقاً (وآتوا اليتامى أموالهم) يدخل فيها اليتامى من الرِّجال ومن النِّساء، من الذكور والإناث، ثمّ جَاءَ في الآية التي بعدها (وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى) هذا المقصود به اليتيمات فخَصَّص، والحقيقة أنَّه اجتمع فيها وصف اليُتم وكونها امرأة، والنِّساء لهم حقوق خاصَّة لأنَّهنَّ من الضُّعفاء، واليتامى لهم حقوق خاصَّة لأنَّهم من الضعفاء، فإذا اجتمع اليُتم في المراة أصبح حقُّها أعظم، والحاجة إلى رِعايتها أكبر، وإلى صيانتها، فجاءت الآية الثانية في تخصيص هذه الفئة

د. الخضيري: هذه الآية، الحقيقة تُشكل على كثير من النّاس ومنهم واحد قبل أسبوع سألني، قال لي ما علاقة قوله الله عزّ وجل (وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النِّساء) هذا طبعاً يجعلنا نتحدّث عن أهمية معرفة أسباب النُّزول، لأن سبب النُّزول هو الذّي يحلُّ هذه المشكلة، وإلا والله أعلم قد لا يهتدي الإنسان إلى معناها أو لا يهتدي إلى أن يصل إلى حل ِّ شَافِي إلا بمعرفة سبب نزول هذه الآية، ماذا عندكم يا أبا عبدالملك في هذا الموضوع؟

د. الطيَّار: طبعاً كما هو معلوم في قوله (وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى) تكون اليتيمة عند الرَّجل فيخشى ألا يعدل معها، يكون وليِّاً لها ،فقد تكون هذه اليتيمة دميمة فلا يُريد الزّواج منها فيحبِسها رجاءَ مَالِها، أو قد تكون جميلة فيعكس الأمر فيتزَّوجها رغبةً بها لكنّه لا يعدل معها في مهرها، ولا يعطيها حقّها من المهر.

د. الخضيري: لا من المهر ولا من النَّفقة، بحكم أنَّه هو الذي ربَّاها وقام عليها وأحسن إليها وليس لها وليٌّ غيره فهو لا يُقسِط معها.

د. الطيّار: نعم، ولهذا تأتي لأنّه كثير ما يقع السُّؤال ما علاقة هذه بهذه؟ فإذا عُرِفَ سبب النُّزول في مثل هذا فإنّه يتضح معناه (فإن خِفتم ألاَّ تُقسطوا في اليتامى) في شأن الزواج.

د. الخضيري: فتزَّوجوا من سائر النِّساء فقد وسَّع الله عليكم

د. الطيّار: نعم نعم، ولهذا نقول مهم جدّا التنبّه لمثل هذا وأنَّ هذا لا يُمكن أن يُعلم أيّ سبب النُّزول إلاّ من جهة أصحاب المشاهدة.

د. الخضيري: هنا سؤال دكتور عبدالرَّحمن في قوله (وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى) طبعاً العُلماء يُفسِّرونها يقولون خفتم هنا بمعنى علمتم، لكن الحقيقة ليست هي بمعنى علمتم بهذه الدِّقة، فهل من تعليق في هذا؟

د. الشِّهري: الحقيقة فعلاً التَّعبير بالخوف عن العلم موجود في القرآن الكريم، وموجود أيضاً في لُغة العرب، ويقولون أنَّه يُعبَّر بالخَوف عن العلم، للإشارة إلى أنَّ الخوف يكون باعثاً على العلم، فمثلاً قوله سبحانه وتعالى (وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى) قالوا معناها وإن غَلب على ظنِّكم وعلمتم أنَّكم ستظلمون هؤلاء اليتيمات، طبعاً هي نزلت في اليتيم كما عُروة بن الزُّبير – رضي الله عنه- سأل خالته عائشة – رضي الله عنها عن هذه الآية في قوله (فإن خفتم ألا تُقسِطُوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النِّساء) كما تفضَّلت، فقالت: “يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حِجر وليِّها فيُعجبه مالها وجَمالها ويُحبِّ أن يتزوَّجها” فنُهِي وليُّ اليَتيمة أن يتزَّوج هذه اليتيمة ولا يُعطيها صَداقَها كاملاً يعني يبخسها صداقها، فنُهُوا عن هذا العمل إلا بشرط أن يُعطيها أعلى سُنَّتِها في الصَّداق.

د. الخضيري: كأن يُعطي أعلى نظيراتها في الصَّداق.

د. الشِّهري: نعم، كما قال في آية أخرى (وترغبون أن تنكِحوهُنَّ) والنبي صلى الله عليه وسلم قد سُئل عن هذه الآية أيضاً كما سُئلت عائشة. فإذاً هذه الآية إرشادٌ لوليّ اليتيمة، أنت الآن عندك يتيمة ومالهُا عندك أنت المسؤول عنه، وأنت لا ترغب في الزّواج بها لجمالها أو شيء من هذا القبيل. فالله سبحانه وتعالى قد وجَّهك توجيهًا آخر، لا تتزَّوجها فلستَ مُلزماً بذلك فَتَظلِمها وتُعطيها أقل من حقِّها في الصدَّاق وتزّوج ما شئت من النِّساء غيرها لك أن تتزّوج زوجة أو زوجتين أو ثلاثة أو أربعة كما في هذه الآية (وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النِّساء مثنى وثلاثَ ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً) فالتَّعبير بالخوف في هذه الآية للإشارة إلى أنَّه إذا غلب على ظنِّكم وخفتم وعلمتم أنكم لن تُقسطوا في هذه اليتيمة إما انّها فعلاً أنّها ليست جميلة فتضغط على نفسك وتتزّوجها وتظلمها بهذا فلا تفعل ذلك ودعها تتزَّوج ممن ترغب ممّن ترضى لها دينه وخُلقه، وأنت تزَّوج ما شئت من النِّساء غيرها.

د. الخضيري: طبعاً كلمة (خفتم) جاءت في الآية مرَّتين، ويظهر أنَّها في نفس المعنى (فإن خِفتم ألا تعدلوا فواحدةً) يعني إن غَلَبَ على ظنِّكم أنَّكم لن تعدِلُوا بين النِّساء فاقتصروا على الواحدة فذلك أخيرُ لكم وأبعدُ لكم عن الرِّيبة والشُّبهة.

د. الشِّهري: طبعًا هذه الآية في سورة النِّساء هي أصلٌ في إباحة زواج الرَّجل من أربع زوجات، وهذه الآية واردة كما تُلاحظون في شأن اليتيمة أصلاً، فالبعض أحياناً ممن يرُيد أن يقصُر معناها على هذا المعنى وهو أنّه لا يجوز للرَّجل أن يتزوج بأربع نساء أو بثلاث او بثنتين إلا إذا كانت هذه حالته أن يكون وليِّا ليتيمة لا يرغب في نِكاحها فالله أباح له أن يُعدِّد لِكي يُعتِق هذه اليتيمة تتزّوج من تشاء.

د. الخِضيري: هذا قطعاً ما فهِم كلام العرب ولا عرف كيف يُفَسَّر القرآن. لكن في قوله (فانكحوا ما طاب لكم من النِّساء) هذه كأنّها أمرٌ بعد حظر والأمر بعد الحظر عند العلماء يدل على الإباحة ولا يدل على الوجوب، حتى لا يَظنّ بعض النَّاس أنَّ هذه الآية دالة على الوجوب، لا نعلم أنّ أحداً من أهل العلم حمل الآية على الأمر على الوجوب مثل قول الله عزّ وجل (فإذا قُضِيت الصَّلاةُ فانتشروا) لأنَّه أمَرَ بالبقاء لاستماع الخُطبة، ومثل قوله (فإذا حللتم فاصطادوا) فهذا أمرٌ بعد حظر، والحظر بمعنى المنع، والأمر بعد الحظر يدل على الإباحة كما يُعبِّر عنه الأصوليين وبعضهم يقول أنَّ الأولى أن يُقال أنَّ الأمر يعود إلى ما كان عليه قبل الحظر.

(فانكحوا ما طاب لكم من النِّساء) الحقيقة أنَّ النِّساء يا أبا عبد الملك يعني عاقلات، ومع ذلك عبَّر عنهنَّ بـــــ (ما) الدَّالة في عُموم كلام العرب على غير العاقل، والأصل أن يُقال فانكحوا من طاب لكُم من النساء، فما هو السِّر في ذلك؟

د. الطيّار: طبعاً، كما هو معلوم إذا قال فانكحوا من طاب من النِّساء بناء على أنّه خِطاب لأعيان الذي هم النِّساء فإذا كان خطاب لعاقل فإنّه يأتي (من) وهنا لمّا كان الخِطاب لعاقل وجاءت (ما) فدلَّ على أنّ المراد أحوال هذا العاقل صفاته، ولهذا قال (ما طاب) بمعنى الطيِّب فالحديث مُنصَب على الطيِّب وليس على النِّساء يعني فانكحوا الطيِّب من النِّساء، لما رُوعيت الصِّفة جاءت ما لأنَّ الصِّفة غير عاقلة.

د. الشِّهري: يعني كأنَّها موصولة يعني فانكحوا الذِّي طابَ لكم من النِّساء

د. الطيّار : نعم، فانكحوا الذِي طاب لكم من النِّساء.

د. الخضيري: الحقيقة مراعاة الطيبوبة لفظ عام أظن أنَّ المـــراد به أنّه يختلف باختلاف النّاس، فأنت ما يَطيب لك غير الذي يطيب لي، فالله عزّ وجل وسَّعها علينا وما قال (فانكِحوا ما طاب) فما عبَّر الله بتعبير آخر فيه تقييد لنا، نكحوا ما طاب ولذلك نحن لا ينبغي لنا أن نَلومَ الإنسان على أن يبحث عن الطيِّب من النِّساء.

د. الشِّهري: وهذا أيضاً فيه إشارة إلى جواز نظر الرَّجل إلى المرأة لأنَّه لا يمكن أن تطيب لك بالسَّماع فقط،لكن الأصل أنّها تطيب لك عندما تراها وترى فيها ما يدعوك إلى نكاحها.

د. الطيَّار: طبعاً لكن هذا يُفهم من خلال الشّرع في  قضية الرؤية، لأنّ هناك تفاصيل في قضية الرؤية بعضها فيه شذوذ فيما يراه الرَّجل من المرأة في حال خطبتها.

د. الخضيري: طبعاً الرؤية المقصود منه أنّه يَرَى منها ما يُرَّغِبُه في نكاحها هو رؤية الشَّيء الغالب في الرؤية، الشّعر والنَّحر، والوجه، واليدين ، والسَّاقين، والرِّجلين.

طيب ما طاب لكم من النِّساء مثنى وثُلاث وربُاع هل هذا يدل على الجمع، يعني أنّ الإنسان يجمع ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً ؟

د. الطيَّار: طبعاً هذا فهم سقيم لدلالة اللُّغة يعني أشَار الزَّجاج إلى هذا فيُصبح تسع ذكره الزَّجاج وهو كلام لبعض الرَّافضة بأنه يجوز الزواج من تسع نساء، وهذا لا يصح لغة وأيضاً شرعاً.

د. الخضيري: لو أراد لقال فانكحوا اثنتين اثنتين، وثلاثاً، وأربعاً

د. الطيَّار: فالزَّجاج لــــمَّا ذكر هذا القول كقول مردود عليهم استدلوا بهذا، فنقول هذا مردود عليهم بالشّرع لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لما جاءه أحد الصحابة وقال إنَّ عنده عشر نسوة فقال أبقي أربعاً، فدلَّ على أنَّ الأربعة هو الحدّ وأيضاً إجماع المسلمين على ذلك، لئلا يأتي واحد ويُوقع شبهة فيقول بجواز الزِّيادة وأنّها من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه يجوز لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج مثله تِسعاً، طبعاً تأتي بعض الشُّبَه ومنها مثلاً يقول لك الأحاديث الواردة ليست صريحة في النَّهي، أو يَدخل عليها بعض العِلل التي ليس فيها وُضوح في الحديث، نقول إجماع المسلمين المنعقد على أنّه لا يجوز الجمع بين أربعة لا يمكن تخطِّيه ولا يُمكن أن يكون هناك إجماع بين النّاس

د. الخضيري: وهذه الآية بالمناسبة لها نظير في القرآن (الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رُسلاً أولي أجنحةً مثنى وثُلاث ورُباع) ترى ما أحد قال أنّه صاحب المثنى هو صاحب الثُّلاث هو صاحب الرُّباع.

د. الشِّهري: يعني إمّا أجنحتها مثنى، أو أجنحتها ثلاث، او أجنحتها أربعة

د. الخضيري: في قوله (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم) في قوله إن خفتم هنا قلنا بمعنى غلب على ظنَّكم أو علمتم أنّكم لن تستطيعوا العدل بين النِّساء، لما جُبلتم عليه من الميل الشَّديد في المحبة، والرَّغبة ، أو لما يعتريكم من نقص إما في إمكاناتكم الذّاتية الجسمانية أو النَّفسية أو المالية. يخاف الإنسان على ألا يعدل وألا يُقسط مع هؤلاء النِّساء فعليه أن يقتصر على واحدة ولا يُلجأ نفسه إلى أمر قد لا يطيقه،ولهذا نقول نحن أن أمر التَّعدد ينبغي أن يتحرَّى الإنسان فيه لأنَّ الله قال (فإن خفتم) يا أخي ما هو أخوك هذا شقيقك الذِّي تزّوج من ثنتين تجعل ما جرى له من النّجاح أو القدرة على الجمع بين ثنتين سبب لأن تُجازف وتجمع بين ثنتين هو عنده قدرة خفية أنت لا تدري عنه، قدرة جسمية، قدرة نفسية، قدرة مالية وغير ذلك، إذاً أنت لازم تدرس هذا الأمر ، بل إذا كنت لا تستطيع تقيّم هذا الأمر بالنسبة لنفسك، اسأل من يعرفونك فالنّاس تعرف تقيِّم الشخص، اسأل فلان من النّاس ما رأيك هل أصلح بأن أعدِّد أم لا أصلح؟ أنا اعرف أناس لا يصلحون لأنّه شديد الميل، فيه جنوح في أحكامه وفي تصرُّفاته، بحيث تعرف أنّه لا يمكن أن ينجح عندما يُعدِّد. فقوله فإن خفتم أنا أقول هذه حُجّة يجب ان يُتكأ عليها في أن أمر التَّعدد لا ينبغي التهاون به وأنّه يكون من باب المجاراة انا أرى الآن كثيرًا ممن أخفقوا في التعدد، كان سبب إخفاقهم ،أنّهم دخلوا هذا الميدان من غير استشارة ولا حاجة شديدة.

د. الشِّهري: بعضهم يُعدِّد من باب أحياناً التَّحدِّي والعناد، أذكر أحد الأصدقاء كُنّا في مجلس وهو معدِّد لديه عدد من الزّوجات، فقال له أحد الجالسين الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من كانت له زوجتان فمالَ إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِّقه مائل، فقال: أنا أصلاً، شِّقي مائل من الآن.

د. الخضيري: قبل الآخرة.

د. الشِّهري: نعم، من الظُّلم والميل

د. الخضيري: الله لا يبتلينا يا رب. (فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم) لمّا قال أو (ما ملكت أيمانكم) دلَّ ذلك على أنّ مثنى وثُلاث ورُباع في الحَرائر، فَلاحظ وهذا استدلال جميل جِدّاً في الدَّلالة على أنّ هذا ليس مُطلقاً يعني قوله مثنى، وثُلاث، ورباع لا يُراد به الجمع الكثير، بدليل أنّه أطلق في ملك اليمين، طبعا المقصود بملك اليمين من هي يا دكتور عبدالرَّحمن؟

د. الشِّهري: طبعاً هي المرأة التي تقع في السَّبي من الكُّفار في حربٍ مشروعة بين المسلمين والكُّفار، فالمرأة المسبــية التي تقع في يدِّ الجيش ثمّ تأتي في نصيبك، فهذه يصِّح فيها أنّها ملك يمين.

د. الخضيري: وتكون ملكك وحدك لا شركة لأحد.

د. الشهري: لا شراكة في الإِماء، فلا يصح لإمرأة أن تكون شَريكة بين رجلين لا يمكن هذا.

د. الخضيري: لأنَّ هذا يُفضي إلى اختلاط الأنساب وغير ذلك. وقوله (أو ما ملكتم أيمانكم) يقولون فيها تفضيل لليمين حيث نُسِب المُلك إليها دون مِلك اليدين أو ِملك الشِّمال، فيه تفضيل اليمين على الشِّمال.

د. الشِّهري: طبعاً هذا أسلوب العرب في طريقتها في الكلام، أنّها تُضيف من الملك والغَلبة والمبادرة كلَّها إلى اليمين ولذلك يقول الشَّمَّاخ عندما مدح رابع الأوسي يقول:

رأيت عَرابةَ الأوسيَّ يسمو        إلى الخيرات منقطعَ القرين

إذا ما رايةٌ رُفعت لمجد            تلقَّاها عَرابة باليمين

فالشَّاهد أنَّ العرب تذكر اليمين وتُفَّضلها وتقدِّمها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاء أيضاً بهذه السُّنة، فكان يُقدِّم رِجله اليمنى عند الدُّخول إلى المسجد، وكان يشرب بيده اليمنى، ويأكل بيده اليمنى، ويُصافح بيده اليمنى.

د. الخضيري: تعليقكم يا شيخ مساعد على ما بدأ يشيع بين الشَّباب في كون بعضهم- نسأل الله العافية والسَّلامة- تجد معه إناء العصير أو المشروب بيده اليسار فيشربه بكل أريحية، الحقيقة هذا ما كان موجود بين آبائنا وأهلنا في السَّابق، تعليقك يا دكتور مساعد.

د. الطيّار: طبعاً إذا نظرنا إلى السنّوات الأخيرة نجد في الحقيقة أنَّ هناك غزواً كبيراً جدّاً على الشَّباب، خصوصا في الأفلام وغيرها، ولهذا أنا في نظري أنَّ مِثل هذا والحقيقة نوعٌ من سريان هذه الأخلاق والعادات إلى الشَّباب مع الأسف شَعُروا أو لم يشعُروا وإنّها بسبب كثرة المشاهدة، ثمّ بعضهم يبدأ يألفها مع زملائِه إن لم يكن مشاهداً يبدأ يألفها من زملائه فتكون كالعادة عنده.

د. الخضيري: والحقيقة أنَّ هذا الأمر فيه نهي بالمناسبة، النّبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وليشرب بيمينه فإنَّ الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله. وهذا دلالة على تحريم الأكل بالشِّمال والشُّرب بالشِّمال، وأنا أنبِّه هنا على أمر الآن مثلاً في أواني العصيرات والبيبسي وغيرها من المشروبات التي يشربها النَّاس، تجده وهو يأكل الطعام يحاول يشرب باليسار تقول له لماذا؟ يقول لك: حتى لا ألوِّث الإناء! طيب هذا إناء سيُرمى فأيّ معنى للمحافظة عليه! اشرب بيمينك، وكُل بيمينك، وإيَّاك أن تتشبَّه بهؤلاء. العجيب يا إخواني إنّه ذوقياتنا في هذا الِّدين عجيبة جِدّاً، ذوقيات في الإسلام من أعجب الأشياء، حتى في هذا الأمور انُظر إلى الغَرب على ما بلغوا فيه من تنظيم الأشياء وتَرتيبها، إلا أنّهم في هذه الأمور لم يُنَّظِّمُوها وهذا ممَّا أعماهم الله عزّ وجل عنه، يعني هذه اليد وُضعت عِندنا في الإسلام وهي من جسمك جزءٌ منك وُضِعت للأشياء الدنيئة، وهذه اليد اليُمنى وُضعت للأشياء الكريمة، تصوَّر لأيّ درجة من درجات الذّوق وما يُسَمَّى بالإتيكيت وهذا شيءٌ يغيب عن ذِهن هؤلاء بل ولا يُبالون به، بل ولا يُعيرونه أدنى انتباه.

لعلنا نصل إلى قول الله عزّ وجل (ذلك أدنى ألاَ تعولوا)، معنى (تعولوا) يا دكتور مساعد؟

د. الطيَّار: تعولوا يمعنى تجوروا، من عال الميزان إذا مال، فألا تميلوا ألا تجوروا، وهذا هو المعنى المشهور في اللَّفظة، والشَّافعي وقبله زيد بن أسلم كان لهم رأي آخر تعولوا بمعنى تكثُر عيالكم من العيلة وكأنّهم نظروا إلى سببٍ من أسباب الميل والجور وهو كثرة العيال، فهل هم فسَّروا اللَّفظة على أنَّ هذا هو المراد منها في لغة العرب، أو أنّهم أرادوا أن يُنبِّهوا إلى سبب من أسباب الميل والجور؟ لذلك والله أعلم أنّه الثَّاني، فإذا كان الثاني فهذا يدل على دِقَّةٍ في فقه هذه الألفاظ القرآنية، وهنا لما اتجّه بعض المفسِّرين إلى بيان المعنى، الأصل هم أرادو أن يُبيِّنوا إلى أحد أسباب ما يقع في هذا الأصل وهو أنّ كثرة العِيال سبب في الميل والجَور، يعني كأنّ ألا تعولوا أي ألا تكثُر عيالكم فتَمِيلوا وتجوروا، فيكون من فسَّرَها بهذا التفسير وهو زيد بن أسلم والشَّافعي لا يعني أنّه لا يثبت المعنى الأصل بل يُثبت المعنى الأصل، وأراد ان ينبِّه إلى زيادة على المعنى الأصل.

د. الخضيري: لكن قد يَرُد على هذا والله أعلم الآية نفسها، لــمّا قال (فواحِدةً أو ما ملكتم أيمانكم) لمّا أطلق في قوله ملك اليمين، والإطلاق فيه يدل على كثرة العيال، إذاً فلزم أن نقول بما قال به جمهور السَّلف ممن قولهم (ألا تعولوا) أيّ ألا تميلوا.

د. الشِّهري: المعنى الذي قال به الشَّافعي هو المضمون به أن يفهم هذا الفهم، لأنَّ الشافعي عالم كبير جِدّاً باللُّغة، وأيضاً زيد بن أسلم دقيق في الفَّهم، فالمعنى الذي ذكرت صحيح.

د. الخضيري: هذه الكلمة يا دكتور عبدالرحمن لعلَّنا نبدأ بها في الحلقة القادمة، ونُفيض في تفصيلها، الحقيقة مشاهدينا الكرام كان الحديث ماتعاً مع الشَّيخين الفاضلين نرجو أن ينفعنا الله بما تحدّثنا به وأخذناه من هذه الآيات الكريمة ، إلى لقاء والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بُثّت الحلقة بتاريخ 3 رمضان 1431 هـ