برنامج بينات

برنامج بينات – 1431هـ- تأملات في سورة النساء الآيات 17-19

اسلاميات

الحلقة العاشرة

د. الشِّهري: بسم الله الرّحمن الرَّحيم، الحمدلله ربِّ العالمين وصّلى الله وسلّم وبارك على سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وقفنا في اللقاء الماضي مع المشايخ الفُضلاء الدكتور مساعد الطيّار والدّكتور محمد الخضيري حول الحديث عن التَّوبة بعد أن تحدّثنا في الآيات التي تتحدّث عن حَدِّ الزِّنا ومَا ورد فيه في سورة النّساء وكذلك الآيات في سورة النّور في نفس حدِّ الزنا، وتوقّفنا عند الحديث عن التَّوبة وما ورد فيها في هذه السُّورة العظيمة في قوله تعالى ( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) والآيات التي بعدها، لعلَّنا نتحدّث عن هذه الآيات في هذا المجلس بإذن الله تعالى في هذا الجوِّ الصيفي الجميل المفتوح، ولكن دعُونا نستمع للآيات قبل أن ندخل في الحديث عنها ثمّ نعود إليكم فنتحدّث عن هذه الآيات بإذن الله تعالى .

الآيات من سورة النِّساء ( 17- 19) :

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)).

بعد أن استمعنا إلى هذه الآيات الكريـمة أيّها الإخوة، ننقل الحديث إلى المشايخ الفُضلاء هنا في هذا المجلس، الله سبحانه وتعالى يا مَشايخ يقول في الآية الثَّانية من الآيات التي وردت في الحدّ هنا (وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا(16)) وأشَار في هذه الآية إلى التَّوبة مرَّتين في قوله (فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا) ثمّ قال (إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)، ثمَّ جاءت الآيات التي بعدها (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ)، كُنَّا تحدَّثنا في الآيات السَّابقة أيُّها الإخوة عن حرص الإسلام على السَّتر وعلى حِفظ المجتمع المسلم، و أيضاً على عَدم شُيُوع خَبر الفاحشة والفَحشاء وحديث الفاحشة والفحشاء في المجتمع في عِدَّة جوانب منها: عندما قال فَأمسكوهُنَّ في البيوت، من حِكم إمساكها في المنزل هو كَفُّ ألسنة النَّاس عن الخوض في هذه الفَاحشة، أيضاً هذا من حِكم التغريب الذِّي يكون حدَّاً على الزَّاني البِّكر وعلى الزَّانية البِّكر أيضا، فإنَّ التَّغريب مِن فَوائده ومن حِكمَه كفُّ ألسنة المجتمع عن الحديث والخَوض في هذه الفاحشة.

د. الخضيري: ومن ذلك أيضاً طَلب شهود أربعة من النَّاس.

د. الشِّهري: نعم، ثمّ يأتي الحديث عن التَّوبة يعني ما أجمل الحديث عن التَّوبة الذِّي جاء في هذه الآيات بعد هذا الحدَّ، فلعلّك يا دكتور محمّد تُشير إلى شيء من هذا.

د. الخضيري: في الآيات الماضية قال الله عزَّ وجل (فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)، انتهت الجَلسة الماضية وكُنّا نريد أن نذكُر معنىً جميلاً في قول الله عزَّ وجل:( تَوَّابًا رَّحِيمًا)، وهو أنَّه لـــم يذكر الرَّحمة إلاّ بعد ما ذكر التَّوبة وفي كَثير من موارد القرآن لا تَكاد تُذكَر رحمة إلا بعد المغفرة (اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) كأنَّ الإنسان لا يستحق رَحمة الله عزَّ وجل إلاَّ بعد أن يـَتطَّهَرَ من ذُنُوبه، فكأنَّ الذُّنوب هي أعظم ما يُعيق وصول الرَّحمة إليك أيُّها العبد، فإذا طلبتَ لنفسك أن تُرحَم فأكثر من التَّوبة والاستغفار لتأتيَك رحمة الله، ومدده، ونصرُه، وعَونُه، وحِفظه وكَلآءته، ورعايُته، وهذا معنى ينبغي لنا أن نُرَاعِيه دائما، ولذلك كان العلماء لكي يحصلوا على كل خير ومنه العلم، وخصوصاً في مواطن الإشكال يُكثرون من الاستغفار لأنَّهم يعلمون أنّ ما يحول بينهم وبين فهم المسائل، أو فهم النُّصوص، أو حلِّ المشكلات والخروج من الــمُعضِلات هو الذُّنوب(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3)الشرح). فهذا معنى جميل في هذه الآية.

د. الطــيَّار: أيضاً نرجـِع إلى الفِكرة السَّابقة وهي قضية الانتقال من موضوع إلى موضوع بحُسنِ تخلُّص، لــمّا قال ( إنَّ الله كان توَّاباً رحيماً) قال (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) ثم سيقول بعدها (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) ثم ينتقل من التَّوبة إلى موضوع آخر سيأتي، طيِّب (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ) ولاحِظ كيف جاءت (عَلَى اللّهِ) وكأنَّها نوع من الإلزام، وهو سُبحانه وتعالى لا يُلزمه أحد فهو القَويِّ العَزيز، ولكن سبحان الله كيف يتحبَّب إلى خَلقِه حتى يُلزمَ نفسه بأنّه يتوب على من تاب!

قال (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ)، وابن عبَّاس رضي الله عنهما الحقيقة له كلامٌ جميل، قال: كلُّ من عَصَى الله فهو جاهل، فليس الجهل هنا الجهل بالعلم، إنَّما هي الجهالة التي هي أنَّه ما دام أنَّه عمل السوء ففي حال عمله السُّوء فهو في حال جَهَالة، فهذا من ابن عبّاس طبعاً معنىً دقيق جدّاً ولا ترتفع هذه الجهالة إلا بالتَّوبة، ولهذا قال (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) يعني يُلحِقُون فعلهم السَّيئ هذا بتوبة.

د. الخِضيري: إذاً يا دكتور مساعد ممكن بعض النَّاس يفهم الآية فهماً خاطئاً، يعني أنَّ مَن عَمِل الذَّنب وهو جَاهل أنَّه ذنب فهذا يتُوب الله عليه، ولكن من عَمِل الذَّنب وهو لا يجهل أنَّه ذَنَب فهذا لا يتوب الله عليه هذا ما يفهمونه، وهذا ليس هو المراد من الآية، فالجهالة هُنا ليست الجّهل، الجهالة هي الاقتحام على المعصية، أنت جَهِلت على نفسك عندما تقحَّمت المعصية وفَعَلتها، هذه منك جهالة.

د. الطيّار: ولهذا لاحظ قال بعدها (فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً)، يعني لاحِظ التَّوبة، إنّـَما التَّوبةُ، يتوبون، يتوبُ الله عليهم إذاً تكرُّر هذه اللَّفظة مرَّة بعد مرَّة ثم في الأولى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) عامَّة، (ثُمَّ يَتُوبُونَ) هذا فعل العبد، يأتي فعلُ الرَّب (فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ)، ولهذا التَّوَّاب ابتداءً، والتوَّاب انتهاءً، فالله سُبحانه وتعالى يتوب على عباده ابتداءً فسُّمِّيَ التوَّاب، ويتوب على عباده انتهاءً يعني بعد فعلهم الذَّنب فهو توَّاب، يعني يرجعُ إليهم بالحَسَن إليهم منه سبحانه وتعالى بعد توبتهم، ولهذا نقول إنَّ موضوع التَّوبة سبحان الله من الـــموضُوعات التيِّ مهما اجتهدت في إِبراز هذه القِيمة الكَبيرة جِدّاً أوهذه الصِّفة العَظيمة جِدّاً وهي قَضية التَّوبة ما ِمن شك في إبرازها في أنّك لا تستطيع في أن تُوَّفِيَها حَقَّها مِن الألفاظ، وأنا عندي أنَّ هذا ممَّا يَستعصي على الألفاظ أن تُبيِّنه وتُــــبرِزَهُ، ولهذا تجد من اللَّذة والفرَح بالتَّوبة ما يَجعلك أحياناً تفرح بالذّنب الذيِّ أوصَلَكَ إلى هذه التَّوبة، تقول الحمدلله الذِّي قدَّرَ ليَ هذا الذَّنب لأَصِل إلى هذه التَّوبة.

د. الخضيري: ورُبَّما صحَّت الأجسادُ بِالعِلل.

د. الطيّار: ولهذا بعض النَّاس حالُه بعد التّوبة خيرٌ من حاله قبل التَّوبة، لأنه قبل التوبة قد يكون في غفلة، وقد يكون ينظر لنفسه نَظرَ الــمُحسن وأنَّه ممن يُطيع الله، فإذا وَقَعَ في الذَّنب ذَلَّ لله سبحانه وتعالى وانكسر لله سبحانه وتعالى، فارتفع بهذا الانكسار إذا قُبِلَت توبته فرجع إلى حال أحسن.

د. الخضيري: وأيضاً يا أبا عبدالملك،يذهب عنه في باقي عُمرِه كُلِّه ما يُسَمِّيه العُلماء بالعُجُب، بـمعنى كل ما أراد أن يُعجب بعمل أو بحسنة قدَّمها تذَّكَرَ ذلك الذَّنب فانكَسر، هذا الذُّل والانكسار مطلوب لـِتأدِيب هذا العبد حتى يَبلُغ الكمال، ولذلك ابن القَّيم –  رحمه الله –  في طريق الهجرتين ذَكَر بحثاً جميلاً في حِكمةِ الله تعالى في تقدير الذُّنوب، وأنَّ لله حِكَم عظيمة في أن يُقَدِّر على العَبد أن يقع في الذَّنب، العبد يجتهد في أن لا يقع في الذَّنب ولكن يوقعه الله عزَّوجل رحمةً به، لكي ينكسر، ويذِّل، ويتذَّكَّر، ويُكثر من البُّكاء ويُكثِر من الاستغفار، فَيُحصِّل – كما ذَكَر الدُّكتور مساعد – بعد ما يقع في هذا الذَّنب ويتوب منه من الخَير عند ربِّه سبحانه وتعالى أكثر ممّا كان عليه قبل الذَّنب، كما قال الله عزَّوجل في سورة الفرقان: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)) .وهذا من عظيم فضل الله عزَّوجل على هؤلاء التَّائبين.

د. الشِّهري: تلاحظون في قوله (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) طبعاً أنتم تحدَّثتم عن الجَهالة أنَّ المقصود بها ليس عدم العلم، قد يُقدِم الإنسان على الذَّنب وهو يعلم أنَّه معصية ويُسمَّى جَهَالة، لكن المعنى الآخر أنَّه قال ثمَّ يتوبون من قريب، قد يَفهم البَعض أنَّ المقصود يتوب مباشرة بعد وقوع الذَّنب وبابُ التَّوبة مفتوح من كل ذنب، ولذلك يقول المفسِّرون إنَّ كل من تاب قَبل أن يُغرغر فقد تَاب من قريب.

د. الخضيري: هذا المعنى هو معنى الرُّخصة، في أنَّ الإنسان يُتاحُ لهُ أن يَتوب حتى يُدرك، لكن الأَوْلى والأجدر بالإنسان إذا وقع في الذَّنب أن يُسرع إلى التَّوبة ليكون أمكن في القُرب، ولأنَّه لا يَدري مَتى تأتي الــمَنيِّة قد تأتيك مَنيُّتك وأنت نائم، أو تأتيك على حِين غِرَّة وهذا معنىً أيضاً مُهِمّ جدّاً ينبغي أن يفهمه القارئ من هذه الآية، ولذلك نُلاحظ أنَّ الذُّنوب التي يقع فيها الأنبياء أو ذَكَرَها الله عزَّ وجل على الأنبياء ما في ذنب يُذكَر إلا وتُذكَر توبةُ النَّبي مُبَاشرةً، لنأخذ مثال نوح لــمّا قال (.. رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ(47)هود).

د. الشِّهري: مباشرةً، وموسى أيضاً قال (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ(16)القصص) مباشرة.

د. الخضيري: ويُونس وسليمان وداود (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24)ص) (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) فدَلَّ على أنه باشر التوبة مباشرة .

د.الشِّهري: الآن عندما يقول الله سبحانه وتعالى (فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) كما تفضَّل الشيخ عندما قال الإظهار في موضع الإضمار هذه مكرَّرة معنا في السُّورة في قوله سبحانه (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ) وكانَ بالإمكان أن يقول ( فأولئك يتوب عليهم) ولكنَّه قال (فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ) فأظهر لفظَ الجَلالة في هذا السِّياق إشارة إلى التَّرغيب في التَّوبة، وإلى تعظيم شأن التَّوبة من جِهَة، إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذِّي يتوب عليك، فما عليكَ من النَّاس، وهذه إشكالية فعلاً تقع عند كثيرٍ ممن يقع في المعاصي أنّه يُراعي النَّاس في توبته فرُّبما يُقبِل على التَّوبة أو يمتنع من الرُّجوع إلى الحقّ وإلى التَّوبة من أجل النَّاس، فالله سبحانه وتعالى يريد أن ينزَعه من هذا المجتمع الذي يُفكِّر فيه ويصعد به إليه مباشرة فيقول (فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ) الذي يتوب عليك هو الله.

د. الخضيري: عندي ملاحظة وعندي سؤال؟ أمّا الملاحظة فهي في قوله (اللّهُ) الحقيقة أنّنا نُلاحظ أنّها تردّدت مع الأحكام الشَّرعية كثيرأً، والظَّاهر أنَّ هذا أدعى لاستجابة العِباد له، فإنَّ الله معناه الإله العظيم الذِّي يَشرع لكم هذه الأحكام فخُذوها بقوّة وهابُوا ربَّكم أن تتخلّفوا عنها أو تتعدَّوا على حُدودِه، ولذلك يقول(إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)، (وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) ،( أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) إلى آخره. السؤال في قوله (إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) سألني قبل يومين أحد الشّباب قابلته، قال(كَانَ) هذه أليست للماضي طيِّب ماذا نفعل في الحاضر والمستقبل، فما هو جوابك يا أبا عبدالملك؟

د. الطيَّار: والله هذا جواب حبر الأمة كما في صحيح البُّخاري، سُئل عن نفس السُّؤال هذا فقال: كان ولم يَزَل.

د. الخضيري: معناه كان قد سُلبت الزَّمانية.

د. الطيَّار: نعم، وهذه خاصيَّة في (كَانَ) فيما يبدو والدَّليل فيها السِّياق كونها في أسماءِ الله سبحانه وتعالى أو صِفاته فإنَّها دالَّة على الدَّيـمومة والاستمرار، يعني كانَ في الماضي ولم يَزَل في المستقبل.

د. الخضيري: وكأنَّها والله أعلم عُبِّر عنها بالماضي، للدَّلالة على تمكُّن نفسها.

د. الطيَّار: وهذا قاله إن لم أكن واهماً الطّاهر ابن عاشور أشار إليه، أنَّ كان تأتي للدَّلالة على تمكُّن اسمها من خبرها.وهذا جيِّد.

د. الخضيري: الحقيقة كثرة أسماء الله في سُورة النِّساء، وظُهور ارتباط الاسمين بالآية، لا أكاد أجِده في سُورةٍ أظهر منه إلاَّ في سورة النِّساء – ولو ظهر في سُوَر القرآن – لكن في سورة النِّساء بشكل واضح يعني (إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) مع قوله (فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا) وهنا (وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) وقبلها أيضا (وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً).

د. الشِّهري: طيِّب هو في الآية الأولى التي نتحدّث عنها الآن، يُشير إلى الذِّي يتوب من قريب، فيه إشارة كما تفضَّل الشيخ محمد إلى قضِّية الحثّ على المبادرة بالتَّوبة فَورَ وقوع الذَّنب وأنَّ هذا أكمل في حال المسلم لأنَّه يدل على يقظته الدائمة كما قالَ الله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ(201)الأعراف)، يعني تذّكروا فتابوا، وهذا دليلٌ على أنّهم أهل بصيرة، تعال إلى الآية التي بعدها في قوله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) الله سبحانه وتعالى يقول التَّوبة لا تكون من الله للذِّين يُصِّرون على السَّيئات ويعملونها وتُلاحظ حتى في الفعل المضارع عندما قال ( للذِّين يعملون السيئات) إشارة إلى أنهم يجَّددون مثل هذا العمل السَّيء مرَّةً بعد مرّة قال (حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ) هذا يُذّكرِّنا بفرعون (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)يونس).

د. الخضيري: يقول العُلماء أنَّه آمن ثلاث مرات ، يعني كلَّ واحدة كانت كافية في قبول إيمانه، ومع ذلك جاءت في غير وقتها فلم يُقبل واحدٌ منه (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) آلآنَ..) ومع ذلك انتهى الوقت.

د. الشِّهري: سبحان الله العظيم! (قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ) وهذا الصِّنف الأوَّل وهو الذي يترك التّوبة ويؤَّجلُها حتى ينتهي وقتها وهو بعد الغرغرة، ثم قال (وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) لا يتوب الله عليهم.

د. الطيّار: طبعاً الأوَّل في العُصاة.

د. الشِّهري: في العاصي، لكنَّ العاصي الذي يترك التَّوبة حتى ينتهي وقتها فأمره إلى الله، والثَّانية واضحة في الذّي يموت وهو كُافر فهؤلاء لا يتوب الله عليهم، كما قال الله (ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ(34)محمد).

د. الخضيري: (قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ) هذا (الآنَ) ذكرٌ للزَّمان المتصِّل بكل شخص على حِدة منذ أن خلق الله آدم إلى أن يَرِث الله الأرضَ ومن عليها، هناك زمان مختص بأهل آخر الزَّمان لا تصح التوبة بعده وسيأتينا في سورة الأنعام بإذن الله عزَّ وجل(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا(158)الأنعام) فالعُلماء يا إخواني ذكروا أنَّ من شروط صِحةِ التَّوبة وقوعها في الزَّمان الشَّرعي وهو قبل الغَرغرة بالنِّسبة للشَّخص، وقبل طلوع الشَّمس من مغربها بالنِّسبة للَّجميع، ومع ذلك لا أحد يدري متى تطلع الشَّمس من مغربها، لا هذه ولا هذه فعلى الإنسان أن يستعد.

د. الشِّهري: يعني علامات التَّوبة فعلاً التي تنتهي عندها التَّوبة كلَّها غيب، فمعناها بَادِر، أنت الآن لا تعرف متى يأتيَ أجَلُك، ولا تَعرف مَتى تطلع الشّمس من مغربها، ولا تَعرف متى يخرج المسيح الدَّجال، فكُل هذه العَلامات التي ربط الله بها نهاية التَّوبة في علم الغيب، فمعناها أنّك لابد أن تُبادر إلى التَّوبة، ولاحظوا أيضاً عندما قال (أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ً) للذِّين يموتون وهُم مُصِّرين على الذُّنوب وعلى المعاصي وعلى الكُفر، فقال سبحانه وتعالى (أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ً) في التَّعبيرب(أَعْتَدْنَا ً)  فيه نوع من السُّخرية والاستهزاء بهؤلاء الذّين أصَّروا على الكفر وعلى الذّنوب وعلى المعاصي حتى ماتوا، فالله سبحانه وتعالى يقول (أَعْتَدْنَا لَهُمْ) والإعداد في العَادّة يكون للإكرام، فَهي مثل قوله تعالى (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)التوبة) والبِّشارة لاتكون إلاَّ بالأخبار السَّارة، لكنّه من السُّخرية بهم قال (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وأيضاً هنّا قال (أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

د. الخضيري: وهنّا نكّر العذاب لتعظيمه وتفظيعه فوصفه بالأليم (عَذَابًا أَلِيمًا) ، قال ابن عبّاس: كلُّ أليمٍ في القرآن فهو مُوجع.

د. الطيّار: هنا أيضاً قال(أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ومُقتضى نَظم الكلام، أعتدنا عذاباً أليماً لهم، لأنَّ الجَارَ والمجرور يُؤَّخرَ، هذه يقف عندها الطَّاهر ابن عاشور كثيراً ويُنّبه على أمرين: الأمر الأوّل رعاية الفَاصلة في (عَذَابًا أَلِيمًا)

(عَلِيماً حَكِيماً) (خَيْرًا كَثِيرًا) إلى آخره، والأمر الآخر: أنّه قال أعتدنا لهم لأنّهم هم الذِّين سِيق الكلام من أجلهم فقدَّمهم.

د. الخضيري: يعني تأكيداً لوقوع هذا في حقِّهم.

د. الطيَّار: نعم، فقوله (أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) إذا كانوا من باب التأكيد لمّا قدَّمهم وأنَّهم ممن سيق الكلام من أجلهم، رأيت البعض ممن يتكلّم في قضية الفَاصلة يتحرَّج من مثل هذا الأمر أن تقول لِرعاية الفاصلة.

د. الشِّهري: رعاية الفاصلة يا دكتور مساعد المقصود بها رعاية آخر الآية.

د. الطيّار: نعم آخر الآية، لو قال (أعتدنا عذاباً أليماً لهم) لاختل آخر الكلام في السَّمع، فمُراعاة آخر الكلام في السَّمع مقصد من مقاصد البليغ، ودائماً نقول للطُّلاب إذا جاء مثل هذه المسألة فأوَّل السُؤال الذِّي يجب أن يَرِد : هل رعاية الفاصلة وانضباط آواخر الكلام مقصد من مقاصد البليغ أو لا؟ طبعاً الجواب: بلى، إذاً ما دام مقصد من مقاصد البليغ، هذا المقصد هل يُؤثِّر عنده على المعاني أو لا؟ إن أثّر عنده على المعاني فدلَّ على قصوره في البلاغة، وإن لم يُؤَّثر عنده على المعاني فدلّ على بلاغته، وهذا ما هو موجود في الُقرآن، فإذاً لا يُشكل علينا ان نقول إنَّ رعاية الفاصلة مقصودة بذاتها.

د. الشِّهري: أحسنت، لأنَّ البعض الحقيقة يتحرَّج ترى من هذا، عندما يُقال الله سبحانه وتعالى ذكر هذا مراعاة لِنَظم الكلام أو للفاصلة، هم يُسَمُّون الفاصلة في القرآن ولم يقولوا القَافية كما يقولون في الشِّعر، الشِّعر يقولون هذا للقافية مراعاة للقافية، فمراعاة الفاصلة في القرآن الكريم ليست غريبة ولا مُستغربة على سَنن العرب في كلامها، فالعرب تعرف هذا في كلامها والله يقول: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)يوسف) ففيه ما في اللُّغة العربية التي يعرِفها النّاس من أوجه الكَلام والبيان، وبعض النَّاس أنا لاحظتهم ممن يتحدَّث في بلاغة القرآن الكريم يتحرَّج من مثل هذا الكلام، ويقول لا ينبغي لنا أن نقول إنَّ سِر تقديم مثل (آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70)طه) ، أو (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48)الشعراء) في آية أخرى أنّه من أجل مراعاة الفاصلة، قال إنّ هذا لا يليق أن نقول ذلك في حقِّ الله سبحانه وتعالى، وإنما المعنى هو السبب الذي جعل هذا التَّقديم هنا وهذا التأخير هنا مثلاً نحن نقول المعنى إذا استوى فإنّ مراعاة الفاصلة أولى في مثل هذا الموطن.

د. الخضيري: مَر بنا في آية المواريث حقيقةً (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) ما نبَّهنا على أنَّ الأزواج هنا بمعنى الزّوجات، وأنّ في لغة القرآن الفصيحة استعمال الزَّوج للذّكر والأنثى، يعني للرّجل والمرأة، لكن علماء المواريث رحمهم الله إذا تكلّموا يقولون زوجة، من أجل أن لا يحصل لبس.

د. الشِّهري: وإلاّ الرَّجل يُقالُ له زوج، والمرأة يُقال لها زوجة.

د. الطيَّار: وأيضا من قضية حُسن الانتقال لاحظ لمّا قال (أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) هذا مقام تهديد، جاء بعده قضية فيها نهي، فناسب مقام التَّهديد مقام النّهي، قال(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا) ثم قال (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) إلى آخره، هذا الآن مقام النَّهي ومقام النّهي يُناسبه التَّهديد، فسبحان الله انظر كيف يكون الانتقال من مقام إلى مقام بحيث تتناسق الآيات بعضها مع بعض، فلعلَّنا نقف عند هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا).

د. الشِّهري: طبعاً الآن ما زال الحديث متصِّل عن إعطاء النِّساء حقوقهِنَّ، يعني مرَّ معنا الآن تقسيم الترّكات، ومرَّ معنا إصلاح المرأة عندما تقع في الذّنب وفي الزَّلة في قوله (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) وإلى آخره، والدّعوة إلى التَّوبة دعوة الرِّجال ودعوة النِّساء جميعا إلى التَّوبة وإلى الرُّجوع إلى الله سبحانه وتعالى هذا باب استصلاح وباب إصلاحٌ للمجتمع وإلى المرأة، ثمّ يأتي الآن إنصاف وإعطاء حقّ  الله سبحانه وتعالى يذكُر أنّ النِّساء يُعضَلن كثيراً من الأولياء في قوله(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا)، لأنَّهم كانوا في الجاهلية يعتبرون زوجة الأب جُزء من الترَّكة، يَرِثُها الأكبر من الأبناء أو الأعجل، كما يقول بعضهم كان الذي يسبق إلى زوجة أبيه فإنّها تكون سهماً له، فقد يكون الأكبر من الأبناء، وقد يكون الأقوى وقد يكون الأسبق.

د. الطيَّار: هو إذا وَرَثها في الجاهلية فله أن يتصَّرف فيها فقد يتزّوجها وهذا الذي يأتي فه (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء) أو قد يعضلها أي أن يمنعها من الزَّواج ،أو يُزَّوجها لمن يشاء بدون رضاها، فلاحظ في كل الصُّور هذه فيه ظُلم للمرأة، فجاءَت النّهي (لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا) فقد تقع بعضها في الصُّورة منهم، وكلُّها صور منهي عنها ثمَّ قال (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ).

د. الشِّهري: ما أدري هل كان مثل هذا يقع في غير العرب، يعني أنّ الرَّجل يَرِث زوجة أبيه، يعني في الحضارات القديمة؟

د. الخِضيري: والله لا تستبعد، يعني نحن سمعنا ورأينا من أخبار النّاس في مثل هذه الأبواب أشياء والله لا ينقضي منها العجب، وأنا رأيت كتاب لعمر رضا كَحَالة صاحب معجم قبائل العرب، لديه كتاب المرأة قبل الإسلام أو شيء من هذا القبيل، أنا قرأت هذا الكتاب قديما فذكر من عادات النَّاس في قضِّية الزَّواج وما يَتصِّل به أشياء يُستغرب منها، يعني من ضمن الأشياء التي ذكرها قال في دولة ما – الهند أو في غيرها – أن الشّاب يتزَّوج فلا يحقُّ له أن ينكح هذه الزَّوجة وإنما هي تحِلُّ لأبيه هو الذِّي ينكحها، والزَّوج هو الذِّي يرعاها ويحفظ هذا البيت ويُقيم عليه وليس له منها حظّ، والأب هو الذِّي يستمتع بهذه المرأة حتى تُنِجب، ثمَّ يتزَّوج ابنه! لاحظ فإذا تزّوج حلّ الابن للمرأة، تصور هذا!

د. الطيَّار: وأحدهم يقول عنده عامل هندي ذهب تزوَّج ورجع، وبعد سنتين أو ثلاث سنوات يُبَّشره بأنّه جاءه مولود، قال كيف جاءك مولود وأنت عندي، فكانت العادة عندهم أنّه إذا تزَّوج الواحد فيحلّ لأهل البيت كلّهم.

د. الشِّهري: الحقيقة المذاهب الأرضية لا تستغرب فيها شيء لأنَّه إذا ضَلّ البشر وضل َّالإنسان فالهداية من الله سبحانه وتعالى.إلاَّ أننَّي رأيت من يُشَّنِّع ويعتبر العرب في غاية التَّخلَّف وفي غاية السُّقوط الأخلاقي وكذا ويُضَّخم هذه الأشياء في حين أنّها كانت مُشتركة بين المجتمعات الجاهلية بصفة عَامّة، المجتمعات الجاهلية تشترك في كثيرٍ من العادات القبيحة.

د. الخضيري: خذ مثال يا أبا عبدالله على موضُوع الوأد، يعني نحن إذا سمعنا الوأد ارتبط بأذهاننا بالعرب ، الآن الوأد الحاضر الــمُنَّظم الذّي تُنظِّمه مؤتمرات المرأة عبر الإجهاض، والذِّي الآن حتى السُّعودية يُضغَط عليها من قِبل الــمُنظَّمات الدُّولية في أن تَسُّن الإجهاض وتأمر به، هو عين الوأد الذِّي كان عند أهل الجاهلية هو نفسه، يقولون لابد نَسُّن قانوناً يحمي المرأة لكي تجهض ويكون شرعياً رسميّاً ومُعلناً، من أجل أن تفعل الفتاة ما تشاء وتحمل وتجهض بشكل قانوني ومن أجل أن تعبث بشرفها وتتيح نفسها لكل أحد دون أن يلحقها أي شيء من العار!  خذ مثال آخر الآن في الصِّين يُقنَّن على الرِّجال وعلى النِّساء ألا يتجاوز عدد الأولاد الواحد، طبعاً إذا خُيَّر الإنسان أنّه ما يأتيه إلا واحد، كل ما حملت امرأته ذهب بها إلى الطبيب فإذا تبيّن له أنّها أنثى في كل حمل طلب منها أن تُسقطه من أجل ولد واحد، وإذا حملت بولد طلب منها الإبقاء وهذا وأد، وقد يقتل هذه النَّفس حتى بعد أن ينفخ فيها الرُّوح وتُصبح معصومة.

د. الشِّهري: كيف تستقيم يا شيخ محمد الضَّمائر عندما تقول(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)  ؟

د. الخضيري: أنا أقول والله أعلم ، أنّ المعنى في الآية يحتمل هذا ويحتمل هذا ولذلك إذا أكملت الآية استقامت ايضاً .

د. الشِّهري: يعني لاحظ الآن (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) والابن هذا الذِّي ورِث ما أعطاها شيء زوجة الأب، الذِّي أعطاها هو أبوه، مثلاً تُريد أنّها تُطَّلق منه مثلاً، فيقول لا أطلِّقك حتى تَرُّدِّي مالي هذا عضل، أليس هذا نوع من العضل ؟

د. الخضيري: لا، هذا خُلع شرعي.

د. الشِّهري: الخُلع هذا إذا تم، دعونا نكمل الآية قال (إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)

د. الخضيري: في قوله (وَعَاشِرُوهُنَّ) فهذا في الزّوجة ولا إشكال فيه، ولكن في قوله (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) أنَّها نزلت في هؤلاء الذين يَعضِلون نساء آباءهم أو من ورثوه من النِّساء من النّكاح حتى يدفعن لهم كذا وكذا، يطلب منها شيئا.

د. الشِّهري: طبعا هذا واضح فيها العضل الحبس .

د. الطيّار: يعني منع الحق أيّ ولا تعضِلُوا زوجاتكم أي لا تمنعوهُنّ حقّاً لهنَّ، يعني حقّاً من حُقوقهنَّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن فأنت تمنع شيئاً من حقوقها من أجل أن تسترد. فيُخالِف ما ورد في الآية الأولى.

د. الشِّهري: طبعاً هنا في التَّفسير هم يؤيدون هذا المعنى  يَفصُلون بين الضَّمائر، يجعلون أوّل الآية في زوجات الآباء ويجعلون بقيتها في النِّساء في الزّوجات.

د. الطيَّار: وهذا أقرب من جهة المعاني، لأنّه قال (آتَيْتُمُوهُنَّ) ( وَعَاشِرُوهُنَّ) (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ) لأنّه هذا لا يقع على زوجة الأب وإنّما يقع على الزَّوجة.

د . الخضيري: اسمع يا أبا عبدالله ، يا أبا عبدالملك،  يقول: وقال زيد ابن أسلم في الآية : كان أهل يثرب إذا مات الرَّجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله، وكان يعضلها حتى يرِثها أو يُزّوجها من أراد، وكان أهل تِهامة يُسيء الرَّجل صحبة المرأة حتى يُطَّلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تَفتدي منه ببعض ما أعطاها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، كأنّ زيد جمع المعنيين، وأمّا ابن عبّاس يقول: كان الرَّجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من النّاس، فإن كانت جميلة تزّوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها فصار هذا عضلاً.

د. الطيار: لكن (بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) هذا سيكون ليس هناك إيتاء.

د. الشِّهري: الوقت أدركنا الحقيقة في هذا المجلس، لعلَّنا نستكمل هذه المعاني، وهذه النُّقطة بالذّات في اللِّقاء القادم  بإذن الله تعالى، أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام انتهى وقت هذا اللِّقاء، لعلنا نلقاكم في اللقاء القادم وأنتم على خير، نستودعكم الله، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

بُثّت الحلقة بتاريخ 10 رمضان 1431 هـ