الحلقة 22
تأملات في سورة النساء (الآيات 38 – 42)
د. الشهري: بسم الله الرّحمن الرّحيم،الحمدلله ربّ العالمين وصلَّى الله وسلّم وبارك على سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيُّها الإخوةُ المشاهدون الكِرام في كُلِّ مكان، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته وحيَّاكم الله في هذا اللِّقاء القُرآني الـــمُتَّجِدّد في برنامجكم ” بيّنات”. وأُرَّحِب باسمكم أيُّها الإخوة المشاهدون بإخواني الفُضَلاء في هذا المجلس الدُّكتور/ مساعد بن سليمان الطيَّار، والدُّكتور/ محمد بن عبد العزيز الخضيري. وقد توَقَّفنا في اللِّقاء الماضي أيُّها الإخوة في هذا المكان الذِّي نتحَدَّثُ فيه ونجلس فيه اليوم في هذا الصَّباح الجميل في مدينة النَّماص، كُنَّا تَوَقَّفنا عند قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (٣٨) وتوقَّفَ بِنَا الحديث عند الآية التِّي تليها (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (٣٩)). وتحدَّثنا في معاني هذه الآيات وفي بعض الاستنباطات والدِّلالات فيها والمعاني التَّربوية، ولعلَّنا نبدأ في هذا اللِّقاء بالحديث عن الآيات التي تليها، ونستمِع إلى هذه الآيات والآيات التي تليها مُرَتَّلةً، ثُمَّ نعود إلى الحديث حولها بإذن الله تعالى.
تلاوة من سوة النِّساء من الآية ( 38- 42)
(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (٣٨) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (٣٩) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢))
وبعد أَنِ استمعنا أيُّها الإخوة لهذه الآيات العظيمة من سورة النِّساء، نُدير الحديث مع إخواني في هذا المجلس. كُنّا تَحدّثنا يا دكتور مساعد في الحلقة الماضية عن التّقديم والتَّأخير في قوله (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ) ثمّ جاء في الآية التي بعدها وقال (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ). فَعَكَسَ التَّرتيب لعلَّك تُذَّكِرنا بِهذه الدِّلالة، ثُمَّ نَنطَلِق إلى الآيات التي بعدها يا شيخ مساعد
د. الطيّار: طبعاً قبل – إن تكَرَّمت – طبعاً قلنا نحن إنَّ الآية الأولى (الذِّين يَبخَلُونَ ويأمُرُونَ النَّاس بالبُخل ….) أنَّها من وصف من كان مُختالاً فخوراً، وكان فِيه حُسُن تَخَلُّص عن ذِكر الـــمُختال الفَخُور إلى مثال لهما من اليهود. ثمّ مثال آخر نسينا أن نذكر هذه الفائدة المثال الآخر في (والذين يُنفقون) أيّ صنف آخر من المختال الفخور (الذِّين يُنفقون أموالهم رئاء النَّاس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) وهذه تشمل الكُفّار والمنافقين.
د. الشِّهري: جميل، يعني يكون في الآية التي قبل ذَكَرَ (الذِّين يَبخَلُون ويأمرون النَّاس بالبُخل) يعني يُمسِكُونَ أيديهم، وهُنا ذَكَرَ صِنفًا آخر هُم يُنفقون ولا يبخلون ينفقون ولكنَّهُم يُنفِقُون لغير وجه الله رئاءً للنَّاس.
د. الطيّار: لذا لاحظ لـــمَّا قال ( وأعتدنا للكاَفِرين عذاباً مُهِيناً . والذِّين يُنفِقون) أيّ أعتدنا لهم أيضاً عذاباً مُهِيناً إشترك الجميع في صِفَة الــــكُفُر هنا. في الآية الأخرى التِّي سألت عنه لــمَّا قَدَّم الإيمان لأنَّه من لوازم الإيمان الإنفاق ولهذا قال (وماذا عليهم لو آمنوا) فجاءَ بالأصل وهو الإيمان فقدَّمه لأنَّه هُوَ الأَصل. وهُنَاك قدَّم الرِّياء الذِّي هو إنفاق المال رياءً لأنّه بالنِّسبة لهم هو الـــمُبتَغَى وهُوَ الــمُراد وأَخَّرَ الــإيمان لأنَّه قال (يُنفِقُون ولا يُؤمنون) فَقَدَّم مَا هُو من صِفتهم وعنايتهم به أكثر، وأَخَّرَ الإيمان لأنّهم لا يُؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وعَكس هنا فبيِّن أنّهَم لو كانوا يُؤمنون لحصَلَ منهم الإنفاق لوجه الله تعالى وَلَيس رئاء النَّاس.
د. الشِّهري: بهذه المناسبة كُنت أقرأ في كتاب عن ( الإِنفاق في الــمُنَظَّمات التنصيرية) طبعاً هُم لديهم إنفاق كبير جِدّاً، ويُنفِقُون إنفاقاً أَضخم من إنفاق المسلمين في خدمة العمل الخيري، فيذكُر البَّاحث يقول: بالرَّغم من هذا الإنفاق الذِّي يُنفقه النَّصارى وغيرهم إلاّ أنّ الذِّي يَتَتبّع الدَّافع إلى الإنفاق يجد أنّه التَّهَرُّب من الضَّرائب، غَسيل الأموال يعني من هذا النُّوع الذِّي لا يُرَاد به وجه الله سبحانه وتعالى كما قال الله هُنا (يُنفِقُون أموالهم رئاء النَّاس). وَلاحِظ أنَّه قال أموالهم فأشار إلى أنَّه أموالهم فهم يُفترض أن يحرصوا عليها وأنّها قرينةُ النَّفس، المال في يَدِ الإنسان ولكن بالرَّغم من ذلك لأنّهم يبتغون هذه الدِّعاية وَهَذه السُّمعة فإنَّهُم يُنفِقونها. ولذَلِك أنا قرأت مرَّة عن أحد الأَثرياء – أمريكي- تبَّرع بــما أتصَّور أنّه وصل إلى 15 مليار دُولار أمريكي، وَأَوقَفَها لمؤسسة خيرية. تأتي إلى هذا البَّاحث – وهُوَ بَاحِث يعمل في العمل الخيري بكثرة وفي دِراساته يقول: تَجِد الثَّمرة التِّي تَنتُج عن هذا الإنفاق الذِّي يُنفِقُونه على مُنَظَّمات التَّنصير وعلى جُهُودهم يتصَدَّى له إنفاق بسيط جِدّاً من إنفاق المؤمنين الصَّادقين لوجه الله سبحانه وتعالى مـِـمَّن ينطبق عليهم قول الله تعالى (إنّما نُطعِمُكُم لوجه الله لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكُوراً)، تُوازِن بين هذا المعنى وهذا التَّصَرُّف (الذِّين يُنفقون أموالهم رئاءَ النَّاس) وبين الذِّين يُنفِقُون أموالهم ولا يريدون جَزاءً ولا شُكُوراً إلاَّ رِضَا الله سبحانه وتعالى.
د. الخضيري: تأكيداً لِكَلامِك سُبحَان الله، هؤلاء إذا أنفقوا يُنفِقون ويُجزِلُون في العطاء، لكن إذا عَرَفت الأسباب اتَّضَحت لك القضيِّة، العَجِيب أنَّ النَتَائِج ما هِيَ؟ النتَّائج خمسة وثمانين بالمائة من هذا الإنفاق يذهب في جُيُوب الذِّين يُدِيرون ذلك العمل، يعني الذِّي يتَبَقَّى للفُقَراء المقصُودين أوالــمُستَهدَفين أيًّا كانُوا هِي خمسةَ عشرَ بالمائة من مُجمل التَّبَرُع، وهذه كَشَفَها أحد البَّاحثين الغَربيِّين في مَقالة تَزدَرِي المجتمع الغَربيِّ كيف نَحن نبذُل هذه الأموال الطَّائلة، وفي النِّهاية يعني مائة مليار لا يصل إلى الفُقَراء منها إلا (15) مليار و (85) مِليار تذهب في جيوب هؤلاء في إدارة العمل! لا بَرَكَةَ فيها.
د. الشِّهري: ما عندهم احتساب يا شيخ .
د. الخضيري: هناك ناس يَحتسبون، لَكِن في الجُملة هُناك خَلق كثير يَسترزِقُون من وَراء هذه الأشياء ويُبَّذِرونها ويُبَدِّدُونها وهذا جزاء من الله سبحانه وتعالى لهم عاجل في الدُّنيا. المؤسسات الخيرية الإسلامية تدخل إلى بعض الدُّول بملايين يسيرة جِدًّا بل مُتواضعة، ويمكن يُعدّ على أصابع اليد الواحدة ومع ذلك تُحدِث من الأثر شيئًا هائِلًا جِدّاً ولذلِك أنا أقول الحملة على الإرهاب من أعظم أسبابها هو هذه الغَيرة مِن المؤسسات الخَيرية الإسلامية التي تعمل في العَالم الإسلامي وفي غيره لأنّهم وَجَدُوا أنَّ لها آثار بالغة مع قِلَّتها لأنَّ غَالِب من يعمل فيها هم ناس مُحتَسِبون. وانظر مثلاً تَجِد ملجأ للأيتام يُديره الغَربيُّون تكلفِتهُ في السَنّة مليون دولار، مثله وأكثر عدداً من الأيتام يُديره المسلمون بمائة ألف دولار، انظر الفرق! يعني عشرة أضعاف
د. الطيّار: الصِّيغة في قوله (وماذا عليهم …)
د. الشِّهري: استفهام استنكاري.
د. الطيّار: يعني هناك براعة في استخدام هذا الأسلوب، الذِّي إذَا نَظَرت إليه لأوَّل مرّة لا يُعطيك هذا المعنى.
د. الخضيري: لكنّه يُحَفِّز. والغَريب هذا الأسلوب موجود في القرآن في مواطن منها قول الله عزَّ وجل (وما أُمِروا إلاّ ليعبُدُوا الله مُخلصين له الدِّين حُنَفاء) يعني الذِّي أَمرناهم به مــمَّا أعرضوا عنه وكفروا به هو شيءٌ ظاهر وواضح تُقِّرُهُ العقول، وهو من دينهم (وما أُمِروا إلاّ ليعبُدُوا الله مُخلصين له الدِّين حُنَفاء ويُقيموا الصّلاة ويُؤتوا الزّكاة وذلك دينُ القيِّمة) يعني هل محمد صلى الله عليه وسلم جاء إليكم لِيقُول لكم إجمعوا لي أموالكم، أو أعطوني نساءكم، أو غيَّر في ما جاء به الأنبياء؟! إنّما جاء بشيء جاء به من قَبلَه، فلماذا أنكرتُم؟ ولماذا لا تؤمنوا؟
د. الشِّهري: الحقيقة لفت نَظَري في الآيتين أيضاً الامتنان من الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى وفي الآية الثَّانية في قوله ( ويكتُمُونَ ما آتاهُم الله من فضله) يعني هل جزاءُ الإحسانِ إلاَّ الإحسان؟ أنَّ الله ما دام تفَضَّل عليك وأَعطاك إن لم يكن الجزاء أنّك تُقَدِّم وتبذل. وأيضاً في الآية التي بعدها في قوله (وأنفقوا ممّا رزَقَهُم الله) تُلاحِظُون الامتنان على الآخرين بما تُعطِيهم لا شَكّ أنّه ليس من مكارِم الأخلاق.
د. الطيّار: ولكنَّه من الله
د. الشِّهري: نعم، وأنَّ الله قد ذَمَّهُ وقال (ولا تُبطِلُوا صدقاتِكُم بالمنّ والأذى) لَكِنَّه من الله سبحانه وتعالى مقبول أليس كذلك؟! فالله سبحانه وتعالى يَـــمتَنّ علينا بخَلقِنا، يمتن علينا بالصِّحة، يــمتنّ عليك بالرِّزق، يــمتنّ عليك بالفضل، يــمتَنّ عليك بالعلم، وأنت لا تملك إلا ّ أن تُذعِن لهذا الامتنان، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو الــمُتَفَضِّل به ابتداءً.
د. الخضيري: في هذه الآية (وأنفقوا مــمَّا رَزَقَهُم الله) فائدة عظيمة جِدّاً وهي أنّ الإنسان يسعى في طلب الرِّزق، لكن يعلم أنّ الرزَّاق هُو الله، وأنَّه لا رزق إلا إِذا أَذِنَ الله، وعليه وأنت تسعى إعلم أنَّ هذه الوسائل والأسباب التِّي تفعلها ما هي إلاَّ أسباب إذا لم يأذَن الــمُسَبِّب بإبلاغك أو إِيصالك إلى المقصود لن يحصُل شيء. ولذلك اسعى في طلب الرِّزق وابحث عنه، واجتهد لكن إجعل قلبك بين يَدِيّ الله – عزَّ وجل – واعلم أنّه لا رزق إلا من عنده، انظُر قال (وأنفَقُوا ممّا رَزَقَهُمُ الله) ولم يَقُل (كَسَبُوا ) أو (اجتهدوا) أو (حَصَّلُوا) بل قال (رزقهم الله) .
د. الطيّار: قوله (وكان الله بــــهِم عليماً) جاء بالضّمير هُنا ، مع انّه سَبَق قال (وأعتدنا للكافرين) هو يتكّلم الآن عن هذه الأصناف الذِّين يبخَلُون، والذِّين يُنفقون أموالهم رئاءَ النّاس قال عنهم (وكانَ الله بهم عليماً) اسم الله العليم الــمُتَضَّمِن لصفة العلم، طبعاً مقامه الآن هنا هُو مقام المراقبة والتّهديد، لأنَّ السِّياق مَعَ أُناس يَبخَلُون، ويأمُرون النّاس بالبُخُل، ويكتُمُون ما آتاهم الله من فضله، وأُنَاس (يُنفِقُون أموالهم رئاء النّاس ولا يُؤمنون بالله و لا باليوم الآخر وكان الله بهم عليماً). أيّ وكان الله عليماً بهم.
د. الخِضِيري: طبعاً رِعَاية الفَاصلة من جِهة، وأيضاً المعنى البلاغي يُقَدَّم هؤلاء للدَّلالة على أنّهم هُـــمُ المقصُودون دونَ أحَدٍ سِوَاهُم.
د. الطيَّار: أيضاً تُلاحِظُون، وهذه فائدة ذكرناها سابقاً من باب التّأكيد عليها، تكرار الاسم الجليل (الله)، لو نظرنا في الآيات السَّابقة قوله (آتاهُم الله من فضله) (لا يؤمنون بالله) (وماذا عليهم لو آمنوا بالله) (مما رَزَقهم الله) (وكان الله بهم عليماً) ويتكّرر هذا الاسم الجليل في الآيات القادمة.
د. الشِّهري: الآيات التي نتحَدَّث عنها يا إخواني الآن آيات الحقيقة عظيمة، والنّبي صلى الله عليه وسلّم قد طلب من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه سورة النِّساء، فكان رضوان الله عليه يقرأ هذه الآيات حتى وصل إلى الآيات التّي نتحَدّث عنها الآن. الآيات التي بعدها (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ) أيّ يا محمّد عليه الصّلاة والسلام (عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)) عبد الله بن مسعود يقول فقال النبي صلى الله عليه وسلم حسبُك، فقال عبد الله بن مسعود فَنَظرتُ إليه فإذا هُو عيناه تَذرِفان عليه الصّلاة والسَّلام، والعُلماء يتحَدَّثون عن بُكاء النَّبي صلى الله عليه وسلّم عند هذه الآيات، وسبب بكائه النّبي صلى الله عليه وسلّم هل هُوَ من هذه الآية (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيداً) أو أنّه عمّا تقدَّم حتى الذِّي نتحدَّث عنه الآن من الآيات؟ والنَّبي صلّى الله عليه وسلَّم يَستحضِر وهُو يَسمع هَذه الآيات ما لَقِيَه النَّبي صلى الله عليه وسلم من المشركين من العَنَت ومن العَدَاء، ثمّ ما لَقِيَهُ من اليهود في المدينة ومن المنافقين، وكيف كان النّبي صلى الله عليه وسلّم يفهم القرآن الكريم، يعني نتخيَّل الآن نقول عبدالله بن مسعود ترجمان القرآن وأنه كان رضوان الله عليه من أعلم النّاس بالتفسير، يا أخي تخَيّل النّبي صلى الله عليه وسلّم وهُو أعلم النّاس بمعاني القرآن الكريم الذِّي أُنزِل عليه، كيف كان عليه الصّلاة والسّلام يتأَثَّر، ويتصَرّف مع هذا القرآن الكريم، كيف كان يفهم، كيف كان يتفاعل معها، كيف كان يقوم بها اللّيل، كيف كان يبكي من بعضها عليه الصَّلاة والسَّلام مِثل هذه الآية؟ ولا أدري هل هُناك آيات أخرى لها نظير في القرآن الكريم ثَبَت أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم بَكَى عندها؟
د. الطيّار: لا، إذا كان توَقّف عندها فَنَعم.
د. الشِّهري: مثل ماذا؟
د. الطيّار: مثل في قصة عيسى عليه السلام في آخر سورة المائدة (إن تُعَذِّبهُم فإنّهم عبادُك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم) كرَرّها في وِتره عليه الصّلاة والسّلام.
د. الشّهري: في قوله (إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة) والحديث هنا عن الإنفاق يا شيخ محمد، ما علاقة هذه الآية بما قبلها من الآيات؟
د. الخضيري: أنا أقول هذه ممّا يُؤَكِّد ما ذكَرتَهُ قبل قليل يا دكتور مساعد (وكان الله بهم عليماً) أنَّه يُراد بها التّرَهيب لأولئك الذِّين أنفقوا رئاءً، أو بَخِلُوا، والتّرغيب في أنَّ ما أنفَقَهُ الإنسان فسيُخلِفُه الله عليه ولذلك قال (إنّ الله لا يظلمُ مثقال ذَرّة) يعني من علمه جلّ وعلا أنّ ما تُنفِقُه ولو كان مثقال ذَرّة وهذا غير حتّى مُتَصَّور لكن يُراد به في القلّة (لا يَظلِمُ مثقال ذَرّة) وإن كان شيئاً قليلاً لا يكاد يُرى بالعين الــمُجَرَّدة فالله عزّ وجل يُحصيه لك، ويُجازيكَ به، ويُعطيك أجره.
د. الشِّهري: (فمن يعمل مثقال ذَرّةٍ خيراً يَرَه . ومن يعمل مثقال ذَرّة شرّاً يره)
د. الخضيري: وبالمناسبة ما يأتي في مثل هذه الأساليب في ذِكر أقلّ القليل أوّ الكثير لا مفهوم له، لا يعني إنَّ الله لا يظلم مثقال ذرّة، أنَّ ما دون مثقال الذّرة يظلمه! لا، أستغفر الله، إنّما المراد المبالغة.
د. الشهري: ولذلك قال في آية أخرى (إنَّ الله لا يظلم النّاس شيئاً)
د. الخضيري: وفي الكَثرة قال (إن تستغفر سبعين مرّة) فلا يعني هذا انّه لو استغفر لهم واحداً وسبعين أو سبعمائة لَغَفَرَ الله لهم
د. الطيَّار: طبعاً الذَّرة هنا، بعض السَّلف مثل ابن عباس قال: رأس النَّملة أو عين النّملة الحمراء، وبعضهُم قال: النَّملة، وبعضهم قال الهَباءة، وبعضُهُم قال الخَردلة التِّي تكون مُتناهية في الصَّغر. في قراءة لابن مسعود (إنّ الله لا يظلم مثقال نملة).
د. الشِّهري: عجيب!.
د. الخضيري: إذا فتُفَسَّر الذَرّة على أنَّها النَّملة بهذه القراءة.
د. الطيّار: نعم، كُلّ هذه التَّعبيِرات التِّي وردتها عن السَّلف، فيها إشارة إلى القلّة شيء قليل جِدّاً لا يكاد يُوزن.
د. الخضيري: وإن كُلّ ما يعمله الإنسان يُمكن أن يكون فوقه، وهذا ملحظ مهم جِدّاً
د. الطيّار: نعم ، ولهذا لما قال لقمان (يا بُنيَّ إنّها إن تَكُ مثقالَ حبَّةٍ من خردلٍ فَتَكُن في صخرةٍ أو في السَّموات أو في الأرض يأتِ بها الله) بِــمَعنى أنَّ عِلمَ الله سبحانه وتعالى يَتَنَاهي إلى هَذا الشَّيء الحَقير الذِّي لا يَكاد يُرى ويأتِي به سبحانه وتعالى في أيّ مكان كان.
د. الشِّهري: هل يَصِّح يا شيخ أننّا نُفَسِّر الآية هنا الذّرة بأنَّها أصغر جزء من المادة التّي تتكّون من البُروتونات والنيّترونات…
د. الخضيري: ما هُنَاك شيء يمنع من ذلك، لأنَّ هذا الأُسلُوب عند العرب، هو أصلاً لو عبَّر الله سبحانه وتعالى بغير هذا ممّا اكتشفه النّاس الآن ما فَهمِه العرب، فالله عبَّر بما يُعَبِّر به العرب من الدّلالة على الصِّغَر، فالمقصود ذكر اللّفظة التي تدُلّ على هذا المعنى. قوله تعالى (إنَّ الله لا يظلم مثقال ذرّة) طبعاً لا يُراد بها نفي الظُّلم عن الله مُجردَّاً دون إثبات ضِدَّه وهو كَمَال العَدل، لأنّ النّفي الــمُجَرَّد ليس كَمَالاً ولا مدحاً.
د. الشّهري: مثل ما أقول والله أنت لستَ بخيلاً، وَلَستَ أحمقاً، وَلَستَ مُغفّلاً، وَلَست جاهلاً، وَلَست ….
د. الخضيري: لا، هذا بالمناسبة يكُون مَدحاً
د. الشهري: لا، بالعكس.
د. الخضيري: لأنَّ الــمُراد منه إثبات – إن شاء الله – الكمال، لكِن قــُل هذا التُّراب وهذا الجِدار ليس بخيلاً، ولا جَواداً ولا شُجاعاً، ليس مدحاً له، لأنَّه لا يتضَّمن كَمَال ضِدِّهِ.
د. الشِّهري:ولكن أحيانًا عندما آتي وأقول يا شيخ محمد الرَّجل ليس أحمقاً وليس مغَفّلاً هذا الحقيقة أشبه ما يكون بالتَّطويل
د. الطيّار: تطويل في غير مَحِلّه.
د. الخضيري: قُبيِّلة لا يَغدرُون بِذِّمَةٍ ولا يَظلِمون النَّاسَ حبة خردل
د. الشهري: المدح بنفي النّقص ليس في الحقيقة أسلوب مقبول يدلّ على المدح.
د. الخضيري: ولذلك نحن نقول لا يظلم لِكَمَال عَدلِه، لَيس لِعَجزه ولا لعدم قدرته
د. الطيّار: أحسنت، (وإن تَكُ حسنةً) بالفتح، وفي قراءة (وإن تَكُ حسنةٌ) بالضَّم فتكون كانَ تامّة، هذه من أمثلة (كان) التامة وقلنا أن كانَ التّامة قليلة.
د. الخضيري: يعني وإن تُوجد حسنةً أو تحدُث حسنةٌ يُضاعفها ويُؤتِ مِن لدُنهُ أجراً عظيماً.
د. الطيّار: وعلى القراءة الثَّانية (وإن تَكُ مِثقَال الذَرّة حسنةً (وأنَّثَها)
د. الخضيري: أو يُقال وإِن تَكُنُ الفَعلَةُ حسنةً يُضاعفها
د. الطيّار: لكنّه قال (وإن تكُ) يُرَدّها إلى مثقال الذّرة.
د. الشّهري: جميل، الفكرة التّي أردت أن أقولها إلى فضل الله سبحانه وتعالى في تعامله مع النّاس، وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى يُضَاعِف الحسنة، ويَتَفَضَّل على الإنسان بمُضاعفتها، في حين أنَّ السَّيئة تبقى كما هي.
د. الخضيري: هذا من كَرَمِ الله .
د. الشِّهري: نعم، لاحظ أنّه قال في الآية التّي قبلها قال (ويكتُمُون ما آتاهم الله من فضله) هُنا يشير إلى هذا الفضل فيقول (وإن تَكُ حسنةً يُضاعفها ويُؤتِ من لدُنُه أجراً عظيماً)
د. الطيّار: ولم يُقِّيد التَّضعِيف بِشَيء فدلّ على
د. الخضيري: نعم، فَدَلَّ على أنَّ الــمُضاعفة في كُلِّ ما يَكُون في جانب الحسنات، لكن مضاعفة الله عَزَّ وَجل مَحضُ فضلٍ من الله، لذلك يُضَاعِف لهذا بعشر حسنات، وذاك بسبعين، وذاك بسبعمائة، وذلك على حسب ما يَحتَفّ بالعمل من الأحوال، رجُل يُنفِق من قِلَّة ريالاً، ورَجُلٌ يُنفِق مِن سَعَة ريالاً، ليسُوا سواءً!. قال النّبي صلى الله عليه وسلّم: سَبَقَ درهمٌ مائة ألف درهم، قالوا :وكيف يَسبِق يا رسول الله درهَمٌ، مائة ألف درهم؟ قال : أنفق رجُلٌ من عُرضِ ماله مائة ألف (طَرف ماله) ورجُلٌ له درهمان أنفق أحدهُما وأبقى الآخر، اُنظُر كأنّه أنفق نصفَ ماله!
د. الشِّهري: حدِّثنا يا شيخ محمّد عن هذه الآية التي بكى عندها النّبي صلى الله عليه وسلّم (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١))
د. الطَيَّار: هناك آية شبيهة لها في سورة النّحل (ويوم نبعثُ في كُلّ أمَّة شهيداً عليهم من أنفسهم وجِئنا بكَ شهيداً على هؤلاء)
د. الخضيري: طبعاً هذا تذكير بــــموقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذَلِك الــموطِنّ الذِّي يَظهر فيه شرَفُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم على كُلِّ وَلَدِ آدم، يبقى الخَليقة كُلُّهُم ينظرون إليه لأنّهَم في ذلك اليوم عندما يطُول بهم الموقف ويشتدّ عليهم الأمر، يُطالبون بفصل القضاء من طول اليوم ومن شِدَّة الهَول، فيذهَبُون إلى الأَنبياء وَيبدَأُون بآدم عليه السَّلام، ثمّ يَــــمُرُّون على نوح، ثمّ إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى وكلهم يعتذر إلى أن يقال لهم: اذهبوا إلى محمّد، اذهبوا إلى محمّد ولم يذكُر ذنباً ، ثمّ يذهب فيسجُد تحت قائمة العَرش، ويسجد فيفتح الله عليه من المحامد ما لم يفتحُه عليه من قبل، ثمّ يُقال: إرفع رأسك، وسَلْ تُعطه، واشفّع تُشَّفَع . هذا الموقف الذّي يحدُث للنّبي صلى الله عليه وسلّم موقف مهيب وهو المقام المحمود الذّي ذَكَرَه الله عز وجل له. فيقول الله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ ( يا محمد) عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١) يعني تشهد عليهم.
د.الشّهري: يعني كأنّ المقصود بالشّهيد هنا النّبي.
د. الخضيري: نعم.
د. الطيّار: ولكنّه بمعنى الشّهادة وليست الحضور، وإنّما الشهادة عليهم، الحُكم عليهم بما عملوه
د. الخضيري: أو بالشّهادة أنّه بلّغهم، لذلك النبي صلى الله عليه وسلّم كان يحرص في مواطن التبليغ أن يقول: ألا هل بلّغت، اللهم فاشهد، ألاّ هل بلّغت. اللهمّ فاشهد. وينكُت بإصبعه الشريفة عليه الصّلاة والسّلام إلى النّاس.
د. الطيّار: طبعاً الشِّيخ عبد الرّحمن يقصد أنّ الشِّهيد هنا هو النّبي (من كُلِّ أُمّةٍ بشهيد) أيّ بِنــبيّ يشهد على قومه أنّه قد بلّغهُم رسالة الله إليهم، وبلَّغّهُم نُبُوَّة محمد صلى الله عليه وسلّم، (وجِئنا بكَ على هؤلاء شهيداً) فَعَمَمّ يحتمل (هؤلاء) على أُمَّتِك، أو على أنبياء الأمم، وهذا لا شكَّ أنّه من شَرَفه عليه الصّلاة والسّلام.
د. الشهري: التَّنوين هنا في قوله (يومئذٍ) ماذا يُسمّى شيخ محمّد؟
د. الخضيري: تنوين عِوض يكون عن حرف، يكون عن كلمة، ويكون عن جُملة.
د. الشِّهري: هُنا التَّنوين عِوَض عن جملة.
د. الخضيري: (يومئذٍ يَوَدُّ الذِّينَ كَفَروا) وهُنُا عَطَف، وقال (وعَصَوُا الرَّسول ) هو الذِّي يَعصِي الرَّسول قد كفر، لكن من باب التَّنصيص على أنّ مخالفة الرّسول مؤدِّية إلى الكُفُر .
د. الشّهري: وأيضاً مناسبة لقوله (وجِئنا بِكَ على هؤلاءِ شهيداً).
د. الطيّار: وفيه تكريم للرّسول صلى عليه وسلّم بذكر الرّسالة
د. الخضيري: وفيه دلالة – مثل ما ذكر دكتور عبدالرّحمن- على أنَّ المقصود بالشّهادة الشَّهادة على أنَّه بَلَّغ وأدَّى ما أُوحِي َإليه. إذاً أنتم عصيتم وهُو قد بلَّغكم، يعني بذَلَ كُلّ مَا في وِسعه من أجل ان يُوصِلَ رسالةَ ربّه إليكم، فليست خافية عليكم، ولا حُجّة لكم، وقد عصيتم!.
د. الشِّهري:الحقيقة أنا أوّل مرّة أتوَقّف مع أنّ هذه الآية قرأت حديث عبد الله بن مسعود قرأته كثيراً، ولكن لم أتوقف يوماً عند معرفة سبب بُكاء النَّبي صلى الله عليه وسلّم، يعني لماذا بكى عليه الصّلاة والسّلام عند هذه الآية بالضّبط؟ لكن الآن عندما تُدَّقِق فيها تظهر لك فعلاً، أوّلاً بُكاءه صلى الله عليه وسلّم شَفقَةً على أمته، لأنّه كان عليه الصّلاة والسّلام شديد الشَّفقة على الأمة، وقصّة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع النَّبي صلى الله عليه وسلّم عندما قال له: اقرأ عليَّ القرآن، لم أتّوقف عند سبب بُكاء النّبي صلى الله عليه وسلّم مثل هذه المرّة، يعني لماذا بكى النَّبي صلى الله عليه وسلّم؟ كان يتبادر إلى ذِهني، بُكاء النّبي صلى الله عليه وسلّم شفَقَةً على أُمَّته، عندما يذكر الله سبحانه وتعالى أنّه سوف يأتي شهيداً يوم القيامة على هَذه الأُمّة، ويأتي شهيداً على الأمم، فكأَنّ النّبي صلى الله بكى على حال هؤلاء الذّين عَصَوه، شَفَقَةً بهم ورحمةً بهم، ولكن الآن تبيَّن لي – ما ذكرتموه يا شيخ محمّد- من قضيّة تذّكُرَه لمهابة ذلك اليوم وكونه يأتي عليه الصّلاة والسّلام يشهد على هؤلاء الأُمم جميعاً، ثمّ من هُم؟ فيهم آدم، فيهم إبراهيم، وفيهم نوح، وفيهم إدريس، وفيهم موسى، وفيهم عيسى.يعني موقف مهيب.
د. الخضيري: وفيها شيءٍ آخر، في قوله في اليَّهُود (ويكتُمُونَ ما آتاهُم الله من فضله) هُنَا يُظهر الله عزّ وجل فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر هذا الفَضل في كتاب الله، ويَعترف به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويُشيعه بين النّاس، ويتحَدّث بنعمة الله، ويقول (أنا سيّد وَلَدِ آدم ولا فَخَر) وأنا الشَّافع والــمُشَّفع والحاشِر والــمُقَفَّى إلى آخر ما ذكر من أوصافه لِيَتَحدَّث عن نعمة الله .
د. الشّهري: ما أجمل هذا! وما أجمل ما سيأتي أيضاً في قوله تعالى (أم يحسُدون النّاس على ما آتاهُم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم (والنّبي صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم) الكتابَ والحُكم والنبّوة وآتيناهم مُلكاً عظيماً) باللّه يا إخواني من الذّي أُوتِيَ مثل ما أُوتِيَ آل إبراهيم؟! يعني امتنان من الله سبحانه وتعالى.
د. الطيَّار: في بعض الطُّرُق في رواية ابن مسعود ورد أنّه لما قال (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)) قال أقول كما قال العبد الصّالح (وكنُت عليهم شهيداً ما دُمتُ فيهم فلمّا توَّفيتني كنت أنت الرَّقيب عليهم)
د. الخضيري: لعلّ هذا يُشعِر بأنّ هذا المقام مقام خوف صلى الله عليه وسلّم أنّه إذا شَهِد على أمّته بالبلاغ أنّه سيُفرز الذّين عَصَوا وكَذَّبُوا فيُعَذَّبُوا وأنّه يَخاف على أمّته وهذا من كمال شفقته كما أسلفتم .
د. الطيّار: في قوله (لو تُسَوَّى بهم الأرض)
د. الخضيري: هذا الآن جواب (يَوَدُّ الذّين كفروا وعَصَوا الرَّسول لو تُسوّى بهم الأرض)
د. الطيّار: نعم، (تُسَوَّى ) قُرِئت هكذا، وقراءة أخرى (تسَّوى) أيّ تتسوى بهم الأرض
د. الشِّهري: وفي كلام النّاس قولهم: سأُدّمّر هذه القرية وأُسوِّيها بالأرض يعني ألغيها
د. الطيّار: نعم، قاعاً صفصفًا، ففيها هذا الاحتمال وهذا الاحتمال. وأنت لو تأمّلت الملمح الدّقيق في قوله (لو تُسَوَّى بهم الأرض) أيّ يُجعلون هم والأرض سواء فيكونون ترابًا كما قال الله سبحانه وتعالى في آخر سورة النّبأ، أو تسوى بهم الأرض يعني يكونون تحت الأرض بمعنى أنّهم يموتون ولهذا هُم يتمنُّون الموت.
د. الشّهري: طيِّب لماذا يتمنَّون هذا؟ ما معنى قوله: (ولا يكتُمونَ الله حديثاً)
د. الطيّار: لأنّه ظهر لهم مَا كان خافياً.
د. الشِّهري: يعني هُم يتمنُّون أنّها تُسَّوَى بهم الأرض وكأنّهَم لم يكونوا، حتى لا يَقِفُوا في هذا الموقف الذِّي لا يستطيعون فيه أن يكتُموا الله حديثاً، انفضَحُوا كما قال الله (وَوُضِعَ الكتاب وترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مالِ هذا الكتابِ لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها ووجَدوا ما عَمِلُوا حاضراً ولا يظلمُ ربُّكَ أحداً). وهذه من مهارات ودقائق تفسير القرآن بالقرآن تحتاج الحقيقة إلى بحث دقيق. يعني الآن عندما يحمل بعض السَّلَف معنى آية على معنى آية أخرى يأتي بعض الباحثين أحياناً فلا يفهم وجه الرَّبط يظُنّ أنّ الصّحابي يحملها عليها بكُلّ المعاني وإنّما هو يلمح إلى المعنى اللُّغَويّ. يعني مثلاً في قوله: (ويلٌ للمُطَفِّفين. الذّين إذا اكتالوا على النَّاس يستَوفُون) فيأتي سلمان الفارسي ويرى رجُلاً ينقر صلاته فيقول (ويلٌ للمُطَفِّفين) وسّع المعنى واعتبر الذّي يُصلّي وينقُر صلاته مُطَفّف مع أنّ الآية وردت في الذّين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون.
د. الخضيري: في قوله (ولا يكتمُونَ الله حديثاً) طبعاً هذه ليست معطوفة على قوله (لو تُسَوَّى بهم الأرض) بل هي معطوفة على قوله (يومئذٍ يَوَدُّ الذِّين كفروا لو تُسَوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا) الواو عاطفة على أول جملة وليس على (تسوى) أحياناً القارئ قد تُشكل عليه الآية لو عَطَف على القريب (يومئذٍ يَوَدُّ الذِّين كفروا لو تُسَوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا)
د. الشّهري: ولا شكّ أنّه استدلال ممتاز جِدّاً الحقيقة قلّ من يتَنَبَه إليه في هذا الحديث يربطَهُ بعلم الوقف والابتداء.
د. الطيّار: هل في قوله (ولا يكتُمُونَ الله حديثاً) هل له ارتباط بقوله (ويكتُمُون ما آتاهم الله من فضله)؟
د. الشّهري: هي تشترك في الكتمان.
د. الخضيري: وأيضاً إن كتمت فإنه سيأتي يوم لن تستطيع أن تكتُمه
د. الطيّار: لأننا قُلنا قبل قليل لــمّا تكلّمتم أنّه قال (وَجِئنا بِكَ على هؤلاء شهيداً) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم يُظهر ما أخفاه وكتَمهُ هؤلاء اليهود.
د. الخضيري: في قوله (وعَصَوا الرَّسول) الرّسول هنا يمكن أن نحملها على الجِنسية يعني الألف واللاّم على الجِنس عَصَوا كُلّ رسول، وليست خاصَّة برسول صلى الله عليه وسلّم، ويُمكُن تُحمل على العهد أيضاً وعَصَوا الرّسول هذا
د. الشّهري: وأيضاً يُمكن أن تُحمل على أنَّ من عصى النبي صلى الله عليه وسلّم فكأنّه عصَى كُل الرُّسُل كما ورد في قصّة قوم نوح وقوم إبراهيم قال (كَذَّبُوا الرُّسُل)
د. الطيّار: (كذّبت قوم نوح ٍ المرسلين).
د. الشّهري: ومَا أُرسِلَ لهم إلا نوح، وما كان قبله رسول
د. الخضيري: لأنَّ تكذيب الواحد يعدل تكذيب للجميع
د. الشّهري: بقي معنا يا إخواني دقيقة لعلّنا نُلَّخص فيها هذه الآيات لعلَّك يا دكتور محمّد تُلَّخص لنا ما تحدّثنا به سابقاً.
د. الخضيري: يعني هذه الخِصال التّي ذكرها الله جلّ وعلا كيف أنّ الإنسان يُمكنه ان يَعُدَّها ثُــمَّ ينظر إذا كانت مذمومة أن يتَّقيها ويعلم أنّ الله قد ذمّها وتوعّد عليها بهذا الوعيد العظيم. وإن كانت طيّبة وإذا به يحرص على الاتّصاف بها، مثلًا البخل، أمر النّاس بالبُخُل، كتمان ما آتاك الله من فضله، الإنفاق رئاءً، ترك الإيمان بالله واليوم الآخر، هذه كُلُّها خصال ذمّها الله. وفي المقابل أمَرَ الله بالإيمان، والإنفاق ممّا رزَقَنا الله، والتّحدّث بنعمة الله، والكرم، فيجب على الإنسان أن يَعرِض نفسه على القرآن ويجتهد في أن يَتَخَلّق بأخلاقه.
د. الشّهري: نسأل الله أن يرزُقُنا وإيّاكم العمل بكتاب الله تعالى، وما أحوجنا فعلاً يا إخواني أن نعرِض أعمالنا على كتاب الله كل ّيوم، حتى ينظر الإنسان أين مكانك من كتاب الله، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم من أهل القرآن.
إنتهى الوقت في هذا اللّقاء أيّها الإخوة، ولعلّنا بإذن الله تعالى نُكمل معكم المجلس القادم في سورة النّساء في هذا المكان من مَدينة النَّماص، إلى ذلك الحين نستودعكم الله، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بُثّت الحلقة بتاريخ 22 رمضان 1431 هـ