برنامج بينات

برنامج بينات 1429هـ – اللقاء التاسع – آيات الصيام

اسلاميات

اللقاء التاسع

برنامج بينات 1429 هـ

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) البقرة)

د. عبد الرحمن الشهري: بسم الله الرحمن الرحيم. حياكم الله أيها الأخوة مرة أخرى في هذا المجلس القرآني الذي نسأل الله أن يرزقنا وإياكم فيه القبول والإخلاص. وقد وقفنا في الحديث عن موضوعات سورة البقرة وفي الحقيقة أنا لا أريد أن نطيل أكثر من هذا في الحديث عن موضوعات سورة البقرة على أنها سورة عظيمة وهي جديرة أن تستغرق منا شهر رمضان كله لو أردنا ذلك. وصلنا إلى الحديث عن الصيام وكأن السورة دخلت في الحديث عن الأحكام الفرعية تحدثت عن الصيام، تحدثت عن القصاص، تكلمت عن الحج بعد ذلك، وسوف يأتي بعد ذلك الحديث عن أحكام الأسرة كالطلاق والإيلاء وما يتعلق به. وقفنا في الحديث عند آية الصيام ثم الآية التي بعدها في قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (186)) وكان الحديث عن قوله سبحانه وتعالى (فَإِنِّي قَرِيبٌ) يعني لماذا لم يقل سبحانه وتعالى “وإذاسألك عبادي عني فقل لهم إني قريب” وإنما قال (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ويذكر العلماء لفتة جميلة فيها أنها بخلاف الأسئلة الأخرى التي وردت في القرآن الكريم (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (219) البقرة)، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (189) البقرة)، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) ففي قوله (فَإِنِّي قَرِيبٌ) لفتة بيانية لو تبينها لنا يا أبو عبد الملك

د. مساعد الطيار: كأنها أدعى إلى القرب كأنه ليس بين العبد وبين الله واسطة

د. عبد الرحمن الشهري: كأنها تذكرني هذه بقصة سليمان عليه الصلاة والسلام عندما قال (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) النمل) يعني على ما تقوم أكون قد أحضرته، (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ (40)) ما قالت السورة فقال جئ به أو تعال به، قال (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ) تم الأمر بمجرد رجوع الطرف

د. محمد الخضيري: لا إله إلا الله

د. عبد الرحمن الشهري: فكذلك هنا سبحان الله العظيم بل إنه أقرب، إجابة دعوة الله تعالى للداعي وقرب الله تعالى من عبده أقرب من هذا

د. محمد الخضيري: لما رفع الصحابة رضي الله عنهم أصواتهم بالذكر والدعاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:” اِربَعوا عن أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنما تدعون سميعاً قريباً هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته”. الرجل وعنق الراحلة بينهم يمكن متر أو أقل طبعاً هذا لتمثيل القرب وإلا فالأمر أقرب من ذلك وأعظم وهكذا هنا وأنت تدعو ربك، لما قال الأعرابي: أرَبُّنا بعيد فنناديه أم قريب فنناجيه؟! يسأل هذه المسألة

د. مساعد الطيار: فرق بين المناداة والمناجاة

د. محمد الخضيري: فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرب سبحانه وتعالى قريب من عبده وأنه ليس كما يحصل في خطاب الإنسان للإنسان بل هو أقرب من ذلك، ولذلك يشرع للإنسان في الدعاء والذكر الأصل الإسرار

د. عبد الرحمن الشهري: وإن رفع صوته فيخفضه

د. محمد الخضيري: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا (3) مريم) وهو ينادي نداء خفي: يا رب، يا رب

د. مساعد الطيار: أيضاً لعلنا أشرنا إليها ونعيدها لأهميتها وهي أنه لماذا وقع التنبيه على الدعاء مع الصيام؟ وهذه مع الأسف نغفل عنها كثيراً، سبحان الله هذا الشهر له مزية لا يمكن أن تجدها في كل الشهور فإذا كان الإنسان صائماً بالذات تكون سبحان الله نفسه قريبة للخير يعني ما يقال له اِفعل كذا أو أن فيه الخير الفلاني إلا تجد أن نفسه تتقبل هذا وتكون مستعدة أتم الاستعداد

د. عبد الرحمن الشهري: صحيح وهذا من أسرار الصيام

د. مساعد الطيار: وهذه العبادة العظيمة التي ورد فيها الحديث “الدعاء مُخّ العبادة” “العبادة هي الدعاء”، فنحن نغفل عنه كثيراً مع أنك الآن في موطن وزمن إجابة فأنت متلبس بعبادة فضيلة وشريفة جداً وهي الصيام، ولذا أيضاً نلاحظ قضية الذكر تكثر في الحج، فالدعاء جاء مع الصيام والذكر في الحج

د. محمد الخضيري: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (200))

د. مساعد الطيار: ولهذا نقول للسامع اِنتبه إلى هذه اللفتات؛ ففي الصيام أكثِر من الدعاء وفي أيام الحج أكثِر من الذكر

د. محمد الخضيري: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ (203))، (ليذكروا الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)

د. عبد الرحمن الشهري: وحتى في صيغة الآية في قوله (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) عبّر بالفعل المضارع للدلالة على أن الله يجدد لكل دعوة إجابة ودائماً كلما دعاني أجبته ولكن البعض لا يرى تحقق الدعوة مباشرة فيظن أن الله لا يستجيب الدعاء ولكن صدق الشافعي رحمه الله عندما قال:

أتهزأ بالدعاء وتزدريه          وما تدري بما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطئ ولكن   لها أجلٌ وللأجل إنقضاء

وهو يشير إلى حالات الدعوة وهي أنها قد تُستجاب في الدنيا مباشرة أو تُؤخّر أو يُدفع عنك من الشر بقدر ما دعوت به من الخير أو تُدخر لك في الآخرة فأنت رابح على كل الحالات

د. محمد الخضيري: بمناسبة ذكر الدعاء وما أفضتم فيه حفظكم الله، في الحقيقة آيات الصيام أشارت إلى أهم العبادات المقترنة بالصيام بأسلس أسلوب بحيث لا تشعر أنك تنتقل كأسلوب الفقهاء مثلاً “ويشرع للإنسان كذا وكذا إذا كان صائماً” لا، الآن مرت هذه العبادات المرتبطة بالصوم بأسلوب حسن جميل، لاحظ مثلا معي

أولاً: قراءة القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)،

ثانيا: الدعاء (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)

الثالثة: الصدقة في الآيات الأولى أو الآيات الثانية من آيات الصيام قال (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) هذه تدل على التلازم بين الصيام والصدقة وأن الصدقة عِوَض عن الصيام إذا لم يستطعه الإنسان، قال (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ)

الرابعة: من العبادات الاعتكاف قال (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) لماذا جاء بالاعتكاف هنا؟ لصلته بالصيام لأن أكمل ما يكون الاعتكاف عندما يكون الإنسان صائماً ولذلك لم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف إلا وهو صائم إما في العشر الأواخر من رمضان كما هي عادته وإما حتى في العشر الأوائل من شوال لما فاته الاعتكاف في رمضان عليه الصلاة والسلام.

د. مساعد الطيار: وهذا في الحقيقة سر لطيف. وهنا أيضا نقول للسامع انتبه إلى هذا الانتقال وكما قال أبو عبد الله سلاسة في الانتقال، يعني بالفعل أنا كنت أتأمل (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) كذا جاءت اللفتة ولو تأملت الآيات قبلها فهو يتكلم عن أن الصيام كتب أياماً معدودات إلى أن جاء بعدها قال (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فالشهر هنا مرتبط برمضان لكن شهر رمضان هل هو شهر صوم؟ نقول نعم، لكن دخلت أنه أنزل فيه القرآن. فهذه الاستطرادات التي تعطي تكاملاً في موضوع ما مهم جداً أن ينتبه لها القارئ فمشكلتنا ونحن نقرأ لا ننتبه أو لا نتأمل، نقرأ فقط لنكسب أجر القراءة لكن هل أحد منا – كما ذكر أحدكما – عن شخص يقول أنه لا يستطيع أن يتجاوز الصفحة

د. عبد الرحمن الشهري: أنا ذكرت هذا، لكن ترى التدبر درجات وأضف إلى ذلك حتى المتدبر نفسه يظهر لك في حين مالا يظهر لك في حين آخر في الآية نفسها ولذلك أنا دائماً أستحضر قول السيوطي رحمه الله والسيوطي ممن مارس علم القرآن بكثرة في مؤلفاته في التفسير وفي علوم القرآن وفي المناسبات وغيرها فله أبيات جميلة في ألفيته في البلاغة يتكلم عن حسن التخلص الذي ذكرته وفن التخلص هذا فن راقي جداً من فنون البلاغة والقرآن الكريم مليء بهذا، لكن هذا التخلص كما ذكرت يا شيخ محمد ومزج الأشياء المتقاربة في آية واحدة لا تشعر بها أنت لو لم تتمعن فيها فيقول السيوطي:

وسور القرآن في ابتدائها وفي خلوصها           وفي انتهائها بالغة أبلغ وجه وأجلّ

وكيف لا وهو كلام الله جلّ فمن لها أمعن        في التأمل بان له كل خفي وجلي

فالفكرة في إمعان النظر والتأمل والتدبر لماذا ذكر الله عز وجل خاصة نحن عندما ننظر في القرآن الكريم يعني الآن عندما ننظر في شعر المتنبي يقولون أن المتنبي من أجود من استطاع أن يتخلّص في شعره يتخلص من المديح أو من النسيب إلى المديح أو من كذا مثل قوله مثلاً عندما تخلص من الحكمة إلى المديح قال:

فلا تعجبوا إن السيوف كثيرة           ولكن سيف الدولة اليوم واحد

ثم دخل في مدحه أو في الثناء عليه وكثير في قصائد المتنبي لكن في الشعر ربما يوافقك من تقرأ عليه الشعر ويقول أن هذا بالفعل حسن تخلص وبعضهم يخالفك في هذا، لكن في القرآن الكريم أنت على ثقة أولا أنه كتاب محكم كما قال تعالى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ (1) هود) ما قال كتاب أحكمت سوره فأشار إلى أن الإحكام موجود في أدق وحداته وهي الآية، فأنت عندما تبحث عن سبب التخلص أو الانتقال في القرآن كما في هذه الآيات عندما نسأل لماذا جاء الدعاء مع آيات الصيام؟ نحن نسأل ونحن على يقين بأن هناك حكم ظهر لنا منها شيء وقد يظهر لغيرك أشياء لا تخطر على بالك وهذا من أسرار التدبر فالتدبر لا يمكن أن ينتهي والقرآن الكريم لا يمكن أن تنتهي عجائبه والمقصود بعجائبه هي الاستنباطات والحكم التي فيه والأسرار البلاغية فلا يمكن أن يدّعي مدّعي أن هناك كتاب يشمل كل الأسرار البلاغية التي في القرآن

د. محمد الخضيري:أنا سأذكر شيئاً يا دكتور عبد الرحمن في موضوع الصيام أتمنى أن يلاحظه الأخوة عندما يقرؤون هذه الآيات، لما بدأت هذه الآيات قال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) هذه الكلمة فيها ثقل على المؤمنين ليس من جهة أنهم لن يتعبدوا الله بذلك ولكن هذه فريضة وتحتاج إلى عناية واحتياط واهتمام والله يكتب هذا الشيء ويوجبه على عباده إذن المسألة مهم. ثم يهوّن الله هذا الأمر على العباد بعدد من المهوّنات حتى يكون سهلاً رفيقاً على قلوبهم فيقول انتبهوا الصيام فريضة عليكم

ثم يقول (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) يعني لستم أنتم أول من أمُر به، هذه واحدة.

الثانية (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) تقليل،

الثالثة (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يعني تخافون من السفر أن يفرض عليكم الصيام قد أبيح لكم، في المرض قد أبيح لكم أن تفطروا وتقضوا في أيام أخر.

الرابعة أنه أول ما فرض صيام رمضان كان على التخيير كان على التخيير إما أن تصوم أو تفطر وتطعم قال تعالى:( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) أي يطيقون الصيام ولا يستطيعونه يعني إذا لم تصم فأنت تفدي ولذلك قال(فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ) يعني الصيام أفضل لكم من الصدقة

ثم بعد ذلك أوجب الصيام على العباد. لما أوجبه على العباد ظن الناس أن الصيام واجب عليهم سواء كانوا مسافرين أو مرضى ولذلك أعاد مرة ثانية قضية المرض والسفر في الآية التي تليها لأن كثيراً من الناس يتساءل لماذا نراها هنا وهنا؟ (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وهي جاءت قبل قليل، نقول ذاك قبل أن يفرض وهذا بعدما فرض، ففهم الناس أنه فرض عليهم في السفر وفي الحضر وفي المرض والصحة فقال الله عز وجل (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)

ثم قال يتحبب ويتودد ويليّن ويسهل عليهم العبادة (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

ثم ختم هذا كله بقوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ) وهذا تسهيل أيضاً لأنه كان الصيام في أول الإسلام إذا غربت الشمس لك الحق أن تفطر لكن متى نمت أو طلع الفجر حرُم عليك الفطر مرة أخرى. فكان الصحابة يعملون طوال النهار لا يستطيعون ترك العمل لقلة ذات اليد فكان الرجل يفطر وقد ينام حتى أحياناً قبل صلاة العشاء فيحرم عليه الأكل والشرب والمباشرة من الآن إلى الغد فشقّ ذلك عليهم. وحصلت قصة لواحد من الصحابة فالله عز وجل يقول لهم (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) وفي هذا فائدة تربوية يا إخوان وهي أننا إذا أمرنا الناس بأمر ورأينا أن هذا الأمر فيه شيء من المشقة عليهم أو أنهم أخذوه على أنه شيء صعب أنك تهونه عليهم وهذا يحدث كثيراً في الحج، يأتيك إنسان ما عرف الحج ويسمع أن الحج فيه موت وزحام وجمرات وعرفة وأن الناس في الطواف يطوفون في السطح وأشياء من هذا القبيل، قل يا أخي أهون شيء الحج، تصدق أنه سفر ممتع إلى أبعد درجات الإمتاع؟ وأتوقع أنك إن حجيت هذه السنة فإنك لن تترك الحج بعدها. وتقوله يا أخي أتدري ما هو الحج؟ الحج عرفة إذا وقفت بعرفة خلاص انتهى الحج والجمرات هذه هوّلوها الناس وهي سهلة، قصدي هذا أسلوب تربوي نأخذه من هذه الآية.

د. مساعد الطيار: في قوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ) أود أن أذكر فائدة في كيف استخدم القرآن كلمة الرفث، وأنا أريد أن أرجئها إلى قضية يجب أن نعود أنفسنا عليها وأسمّيها عفّة اللسان بمعنى أن يحاول المسلم دائما أن يكون لسانه عفيفاً خصوصاً عند المشاحنات لأنه ثد يكون في غير المشاحنات في السعة قد يستطيع الإنسان أن يملك نفسه لكن في المشاحنات أنا لاحظت خصوصاً في الانترنت ولما تكون الأسماء وهمية أيضاً وأحياناً قد تكون بالأسماء الصريحة تجد ه عندما يتكلم عن أخيه المسلم يكأنه يتكلم عن عدو الله إبليس من الألفاظ التي يخرجها والأوصاف التي يصف بها وهذا منافي لهذا الأدب

د. محمد الخضيري: وينافي المروءة بغض النظر

د. مساعد الطيار: وحتى لو كان كافرا فبعض ما يقال لا يجوز حتى على الكافر لأن المسألة ليست مسألة انتصار للنفس فقط، فتكون من أهداف المسلم تربية نفسه على عفة اللسان هذا هدف نبيل جداً. ولذا من اللطائف من بعض الدعاة الذين هداهم الله ممن كان مفحِّط أو دخل في باب المخدرات أو غيره يذكرون سبحان الله هذه اللفتة أنه كيف كانت أولاً الألفاظ التي يذكروها وتدور على لسانه والآن ما هي الألفاظ التي يقولها ويسمعها، هذا الانتقال من المفترض أن نقف عند هذا الانتقال وقفة مهمة جداً وحتى ونحن الآن في هذا المجال ونحن نرى أنفسنا أننا نقول خيراً نزداد منه ولنجتهد في أننا نبحث عن الأفضل فقضية عفة اللسان أرى أن تكون بيننا هدفاً نحن نتواصى به

د.محمد الخضيري: عامة الناس بالمناسبة يتهاونون في قضية ما ذكره الدكتور مساعد في عفة اللسان فتجدهم في مجالسهم أحياناً حتى بين الأطفال الذين لا يفقهون يذكرون أشياء يُحتشم منها ويُستحيى من ذكرها. لاحظ القرآن يربينا على أن نذكر اللفظ الذي يهون على الإنسان أن يقوله ويؤدي نفس المعنى يعني الرفث له معاني معروفة عند الناس وكل الناس يعرفونها، هذا يؤدي المعنى وهذا يؤدي المعنى ولكن هذا يؤدي المعنى بسمو ورقي وجمال وذوق وذاك والعياذ بالله تشعر أنه يجرح النفس ويخدش الأخلاق ويسف بالإنسان ويذهب المروءة ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” ليس المؤمن بالطعان و لا اللعان ولا الفاحش البذيء” قال العلماء: أن الفاحش البذيء هو الذي يذكر الأمور المكروهة بأسمائها القبيحة ولا يكني ولذا قال بن عباس كلمة جميلة حينما جاء إلى قوله (الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ) قال: إن ربكم حييّ كريم يُكني ولا يذكر الشيء باسمه أو كما قال رضي الله عنه. وهذه جاءت في آيات الحج أيضاً (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ (197))

د. عبد الرحمن الشهري: حتى في قوله (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) جاء في غاية السمو والأدب

د. محمد الخضيري: مع أن هذه الأمور غاية في الدقة

د. عبد الرحمن الشهري: وهذا يدلك على أمرين أنه ليس هناك تعارض بين التربية والتعليم، ترى أشياء كثيرة في حياة المسلم يحتاج أن يتعلمها تتعلق بما يُستحيى من ذكره في أمور الزواج والنكاح والطهارة وما يتعلق بها لا بد من تعلمها وفي نفس الوقت بإمكانك أن تعبّر عنها بعبارة راقية ومؤدّبة ومهذبة فجاء القرآن الكريم ليربينا على هذا. وحتى النبي صلى الله عليه وسلم كان في غاية الحياء حتى إذا جاءت بعض النساء أحياناً لتسأل عن ما يخص النساء من الطهارة كان يستحي ويحيلهن إلى عائشة رضي الله عنها من حيائه عليه الصلاة والسلام، مع أننا نقول لا حياء في الدين وأنك تسأل عما شئت ولكن فوق ذلك نقول اِسأل بأسلوب مهذب مؤدب. حتى أني ألاحظ وأريد الأخوة المشاهدين أن يراعوا هذا فحين تسمع الاتصالات في البرامج المباشرة الفضائية فبعض المتصلين يصرِّح بما ينبغي له أن يكني أو يلمح فالأمر معروف، وبعض المتصلات لا ترضى إلا أن تصرّح حتى تلاحظ أن بعض المجيبين يقع في حرج من هذا. فهذا أدب يجب علينا أن نأخذ به أنفسنا وأبناءنا وتلاحظ حتى أن الأسرة التي يحرص فيها الوالدان على تربية أبنائهم على هذه التفاصيل من الأدب والأخلاق وتربية الذوق يظهر ذلك في أبنائهم والعكس فبعض الأبناء تسمع على لسانه كل الألفاظ القبيحة بل حتى تلاحظ على الأسوار يأتي أحدهم بالبخاخ ويكتب ذكريات أبو فلان وقد يكتب كلمات بذيئة وهذا من التربية التي تعرّض لها فلو كان تربى على الذوق والأدب وعلى تربية القرآن لما وجدته يكتب هذه الكلمات القبيحة!

د. محمد الخضيري: في الآية التي سنمر بها إن شاء الله (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (53) الإسراء) انظر! لم يقل يقولوا التي هي حسن بل قال (أحسن) أحسن ما تجد من العبارات حتى في المواطن الضيقة في الأمور التي يستحيى من ذكرها قل أحسن كلمة في قاموسك وعبّر بها

د. عبد الرحمن الشهري: ما رأيكم أن نختم هذا ولا نطيل؟ قل أحسن ما عندك، أحسن ما عند بعض الناس قد يكون سيئاً تبعاً لثقافته ومعرفته ولذا نقول أن هذه الآيات وسائل تربوية فالذي تربى وتدرب وتعلم على الأخلاق والكلمات الطيبة والحسنة تجد في قاموسه كلمات كثيرة حسنة يستطيع أن يتخير منها عندما يتحدث لكن البعض قاموسه ضيق جداً ما عنده إلا كلمات ضيقة وهذا يذكرني بالقاضي بن الزكي أو غيره أيام صلاح الدين لما انتصر منّ على الأسرى أو عفى عنهم فاستغرب النصارى والصليبيين من هذا الملك الذي يعفو عن هؤلاء مع أنهم قد ولغوا في دماء المسلمين فقال كلمة جميلة شعرية متداولة فقال:

حكمنا فكان العدل منا سجية                    فلما حكمتم سال بالدم أبطَح

وحللتموا قتل الأسارى وطالما          غدونا على الأسرى نمنّ ونصفَح

ولا عجب ذاك التفاوت بيننا             فكل إناء بالذي فيه ينضح

ولذلك لا بد من تربية الصغير من البداية على الكلمات الحسنة حتى تصبح عنده ثروة لغوية يستخدمها

د. محمد الخضيري: ولكن يا دكتور استدراكاً على ما ذكرت نفترض أن الشخص قاموسه كما ذكرت كلماته سيئة لو كان عنده في حسّه أن يعبر بأحسن ما عنده فأنا مطمئن إلى أن الله سيهديه إلى الأحسن لأنه كلما زاد العبد طلباً للهداية هداه الله وفتح له أبواب الهداية (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) محمد) فلذلك لو كان عنده عشر كلمات والعياذ بالله قبيحة وهو يحاول أن يتفادى أقبح ما فيها فيعبّر بأقلها قبحاً سيفتح الله عليه ويعلمه من الكلمات الكثير

د. مساعد الطيار: طبعا هذا إذا أراد وتوجه لكن الشيخ أبو عبد الله يقول فيه أناس هكذا

د. عبد الرحمن الشهري: اسمح لي فالكلام أخذ يجر بعضه بعضاً، حتى في الكتابة يا دكتور مساعد وأنت صاحب كتب وصاحب تأليف تجد بعض المؤلفين يكرر كلمات وقاموسه ضيق ولذلك أعجبتني فكرة دراسة قاموس المؤلفين والكتاب أو الشعراء مثلاً تأخذ كتب الشيخ محمد الخضيري كلها وترى الكلمات التي يكررها ثم نقول هذا الشيخ محمد ما عنده إلا 500 كلمة يكررها

د. محمد الخضيري: وستجد أيضاً من بينها واحدة تظهر لازمه

د. عبد الرحمن الشهري: يعني انظر إلى الأعشى وغيره تجد له كلمات يكررها، هذا يذكرني بعلي بن الجهم إن صحت القصة التي تنسب إليه يقولون عندما جاء من البادية ومدح الخليفة وكان شاعراً يتوقع له أن يكون شاعراً مطبوعاً فلما جاء عند الخليفة في بغداد قال له يمدحه:

أنت كالكلب في حفاظك للود  وكالتيس في قراع الخطوب

مع أن التيس ليس أحسن من يقارع في الخطوب لولا قرونه! فيقولون بعضهم امتعض من هذه الألفاظ السوقية التي يخاطب بها الخليفة فقال الخليفة لا أدري هل هو المأمون أو المتوكل أو غيره لا أظنه المتوكل لأن المتوكل صحبه آخر حياته لكنه قال: دعوه فقد مدحنا بأحسن ما عنده، يعني الكلب والتيس هي أحسن شيء في قاموسه قالوا فتركه مدة حتى نزل الرصافة في بغداد واستقر فيها علي بن الجهم ورقّ طبعه وقرأ وصار عند كلمات فغدا عليه فيما بعد بقصيدته التي تعتبر من عيون الشعر العربي التي يقول فيها:

عيون المها بين الرصافة والجسر      جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

أعدن لي الشوق القديم ولم أكن         سلوت ولكن هجن جمراً على جمر

قصيدة من أروع ما يكون فالإنسان ممكن أن يطور من عباراته وأسلوبه ويرتقي بذوقه من خلال القرآن ومصاحبة الصالحين من أمثالكم

د. مساعد الطيار: ولهذا الصحبة لها دور. أذكر طرفة من كتب الأدب أن رجلاً تزوج امرأة وكان اسمه حمار ففي صبيحة يوم الزواج قالت له زوجته: لو غيرت اسمك فقال لها: سأذهب لأصحابي وأرى، وبعد أن رجع في الظهيرة فأول ما استقبلته تريد أن تعرف الاسم الجديد قالت: ما سميت نفسك؟ قال: سميت نفسي بغلاً فقالت: ما زلت في الحظيرة ما خرجت منها! وهذا يدل على طبيعة أصحابه

د. محمد الخضيري: وهذا يسوقنا إلى قصة رمزية تدل على أن الإنسان أسير طبعه ونحن في القرآن لكن من باب أن نضفي البسمة على وجوه المشاهدين، يقولون أن الكلب تضايق كثيراً من اسمه وامتعض واستاء من الناس يرمونه بهذا الاسم فقال: لا بد أن أغيّر اسمي فذهب إلى الأسد فقال: أنا أقدّم اعتراضاً على اسمي وأريد أن أغيره، فقال الأسد: هذا اسمك الذي اتفق عليه منذ زمن بعيد ولا تعرف إلا به فقال: أنا مُصِرّ على تغييره فأخذ الأسد يحاول فيه أن يبقى على اسمه لكنه رفض فقال له الأسد: إذن سنغير اسمك لكن بعد امتحان واحد فقال: وما هو؟ قال: تأخذ هذه القطعة من اللحم وتحفظها عندك إلى الغد ثم تأتيني ونحن نغير اسمك بعدها، قال: هذا أمر يسير، فأخذ القطعة وذهب بها وعلقها وجلس الكلب يرمقها ثم قال إن الأسد قال احفظها ولم يقل لا تنظر إليها فجلس ينظر إليها ثم فكر قال إن الأسد قال احفظها ولم يقل لا تشمها فدنى منها وبدأ يشمها ثم قال إن الأسد قال احفظها ولم يقل لي لا تلحسها فبدأ يلحسها فثارت شجونه وأحاسيسه ثم قال: اسم كلب والله لا يضرني في شيء ثم أكلها ولم يرجع إلى الأسد.

د. مساعد الطيار: قوله سبحانه وتعالى (وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) نريد أن نلمح إلى فائدة قد تكون معروفة للسامع لكن من باب التأكيد، فالاعتكاف لم يرد له أي تفصيل في القرآن عموماً فمن أين نأخذ أحكامه؟ هذا هو الجانب الثاني من جوانب التشريع وهو السُنّة، ولهذا ينتبه القارئ وهو يقرأ القرآن إلى أن الأحكام التشريعية فيها تفصيلات لا تعلم إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم

د. عبد الرحمن الشهري: ولا يمكن الاقتصار على القرآن فيها

د. مساعد الطيار: نعم، وهذه قد أشار إليها الطبري صراحة في مقدمة تفسيره، جعلها أحد وجوه تفسير القرآن وهي ثلاثة ومنها هذا الوجه وهو ما يؤخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم ونصّ صراحة على أنه ما يتعلق بالأحكام عنده ما لا يعلمه إلا الله وهذا في المتشابه الكلي في المغيبات وغيرها، وما لا يعلم إلا من جهة النبي ولا سبيل لأحد من العباد لمعرفته إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في آيات الأحكام، ثم ما يعلم من جهة الإنسان وهذا أفاض فيه وفي ضبطه، مهم جداً أن ننتبه إلى هذه الحيثية لأنه أحياناً بعض الناس ممن في قلبه مرض قد يقلل من شأن السنة؛ فيُنتبه إلى أن بعض الأحكام لا يمكن أن تعرف هذه الأحكام التفصيلية إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم أو أنك تحتكم إلى عقلك وهذا لا يمكن.

د. محمد الخضيري: بعد ذكر آيات الصيام ذكر آيات الجهاد فقال عز وجل (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (191)) وقال (وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) هذه كلها آيات الجهاد. والجهاد كما تعلمون جهاد بالنفس وجهاد بالمال لأنه قال في آخرها: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ظنّ بعضهم أن المقصود بإلقاء التهلكة هي أن الإنسان يندفع يدخل في صفوف الأعداء ولكن المقصود كما ذكر أبو أيوب وبعض الصحابة (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) في ترك النفقة وترك الخروج في سبيل الله عز وجل. أنا أتعجب من كون آيات الجهاد تذكر ثم يذكر بعدها الحج وبينهما تشابه الجهاد والحج. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحج أنه في سبيل الله وذكر أنه جهاد الضعفاء: “عليكنّ جهادٌ لا قتال فيه الحج والعمرة ” إذن هناك تشابه. وأيضاً في وجود السفر والمشقة وبذل المال والزحام والتفويج، كل هذه الأشياء يتشابه فيها الجهاد والحج لكن الحج فريضة معلومة المشاعر والشعائر والأعمال أما الجهاد فهو أمر مفتوح في قضية مقابلة العدو

د. مساعد الطيار: أبو عبد الله لو تكرمت قبل آيات القتال كان فيه إشارة إلى الحج في قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) فالحج من المواقيت ولكن إفراده هنا كأنه مقدمة لما سيرد في تفصيله. وهذا من الفوائد التي يحسن من الناس معرفتها أن القضايا الشرعية مرتبطة بالهلال أي بالقمر والقضايا الكونية مرتبطة بالشمس، فعندنا الحساب الشمسي والحساب القمري. الحساب القمري قد ربطه الله كما ذكر (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) لو تأتي إلى أيّ مزارع وتسأله متى يزرع كذا؟ يعطيك بالتفاصيل الدقيقة بل إن بعض المزارعين يكون عنده من الخبرة أنه يعرف متى يبدأ الماء يسيل في عروق الشجر من دقة معرفته لأنها مرتبطة بقضية كونية فلا يمكن للبطيخ أن ينضج في الشتاء مستحيل وإنما يخرج في الصيف. فلذا على المسلم أن ينتبه إلى هذه القضية ويعرف قيمة التقويم القمري الذي أغفله كثير من المسلمين مع الأسف وبعضهم حتى في بلدان المسلمين تجده لا يكاد يتقن هذه الأمور مع أنها مرتبطة بالشرائع فلا يعرفها إلا في رمضان أو الحج يسأل عنها فقط مع أنها مرتبطة بالأشهر الحرم وأشهر الحج ورمضان وصيام الثلاثة أيام من كل شهر وكلها مرتبطة بالقمر.

د. عبد الرحمن الشهري: لأننا في زماننا هذا أصبحنا لا نعتمد على متابعة القمر فكل واحد منا في يده ساعة وعنده التقويم، فلا تجد أحداً يتحرى رؤية الهلال ولا دخول صيف ولا خروج شتاء، لم نعد نزرع ولا نتابعها في عباداتنا، أنا ألحظ كبار السن قديماً كان كل شيء مرتبط بهذه الرؤية

د. محمد الخضيري: بهذه الساعة الكونية

د. عبد الرحمن الشهري: ولهذا يقولون أن امرأة من العرب تعرف النجوم وكيف تهتدي بها كما قال سبحانه وتعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (97) الأنعام) فقالوا لها: ما أعلمك بالنجوم؟ فقالت: وأينا لا يعرف سقف بيته؟!!، هذا شيء طبيعي. أذكر مواقف غريبة كنا في القرية في النماص لما كنت صغيراً، كان عندنا إمام مسجد مات عن مائة وثلاثين سنه تقريباً، فكان المؤذن يؤذن لصلاة الفجر وأنا صغير وأذكر فإذا أراد أن يقيم الصلاة يخرج فينظر إلى الشمس إلى الفجر ثم يعود فيجلس ثم يخرج فيتأكد من طلوع الفجر ثم يقول للمؤذن أقِم، فاستقر في ذهني هذا أنه لا يمكن للمؤذن أن يقيم حتى يخرج الإمام، فلما قعد هذا الرجل بسبب الكبر في السن والعجز وأصبحت أنا أصلي بعده وكنت يمكن في الأول المتوسط أو في سادس ابتدائي فلم أعرف كيف أخرج وماذا أفعل وأنا لا أعرف كيف خرج الفجر أم لا وأنا أرى الضوء فسألت أبي رحمه الله: أنا لا أدري ماذا كان يصنع جدي عثمان عندما يخرج!! فقال: لا ما عليك التقويم يكفي. الكلام والتقويم موجود ولكن ذاك الرجل من ستين أو سبعين سنة وهو لا يتعامل إلا مع الرؤية [الفجر، الهلال، دخول الشهر وخروجه، رمضان، العيد، الحج] وكما تفضلتم في قضية الزراعة يعرفون متى يزرعون، متى يصرمون، ومتى يبذرون.

د. محمد الخضيري: بدأت آيات الحج بقوله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)

د. مساعد الطيار: لو تكرمت أبو عبد الله، نعطي مَلحظ على آيات القتال.

د. عبد الرحمن الشهري: يبدو أن الوقت ضاق علينا هذا اللقاء، نستكمل إن شاء الله في الحلقة القادمة بإذن الله، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصلى الله على نبينا محمد.