الحلقة 171
ضيف البرنامج في حلقته رقم (171) يوم الإثنين 18 رمضان 1433هـ هو فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم بن علي الحكمي ، الأستاذ المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
وموضوع الحلقة هو :
علوم سورة المرسلات
*********************
د. الشهري: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. حيّاكم الله أيها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامجكم اليومي التفسير المباشر الذي يأتيكم على الهواء مباشرة من استديوهات قناة دليل الفضائية بمدينة الرياض. اليوم سوف حديثنا عن سورة المرسلات وهي آخر سورة من الجزء التاسع والعشرين ولله الحمد ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتم علينا وعليكم نعمته بفهم كتابه وأن يجعل هذه المجالس عوناً لنا جميعاً في فهم كتابه الكريم والعمل به على الوجه الذي يرضيه عنا سبحانه وتعالى في هذا الشهر المبارك. باسمكم جميعاً في بداية هذا اللقاء المبارك أرحب بضيفي العزيز فضيلة الأستاذ الدكتور إبراهيم بن علي الحكمي، أستاذ الدرسات القرآنية المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه تبيان سابقاً، حيّاكم الله يا دكتور وأهلاً وسهلاً يا دكتور ابراهيم وأسأل الله أن يتقبل منا ومنك
د. الحكمي: آمين، حياكم الله
د. الشهري: نحن وصلنا إلى سورة المرسلات وهي آخر سورة في الجزء التاسع والعشرين. نبدأ كما تعودنا بالحديث عن اسم سورة المرسلات، هل هو الاسم الوحيد لهذه السورة؟ هل هناك أسماء أخرى؟
د. الحكمي: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله محيي القلوب بالعلم والإيمان والصلاة والسلام على خير الأنام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الكرام. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. يشرف الإنسان المسلم حقيقة خصوصاً في مثل هذه الأيام بمدارسة كتاب الله عز وجل وقد كان لكم الفضل بعد الله عز وجل في نشر هذا الكتاب من خلال السنوات الماضية التي تقدمون فيها هذا البرنامج ولعله في عامه السادس وهنيئاً لكم
د. الشهري: نعم، أنتم شركاء فيه تقبل الله منا ومنكم.
د. الحكمي: هذه السورة التي هي آخر سورة في الجزء التاسع والعشرون من كتاب الله عز وجل سورة المرسلات. هذه التسمية جاءت في المصاحف في صحيح البخاري بهذا المسمى أما عند الصحابة رضوان الله عليهم فسميت بـ (والمرسلات) بالواو فكانوا يسمونها (والمرسلات) لأول آية فيها ولا يضرّ ذلك ويؤيده حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين قال: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غارٍ بمِنى إذ نزلت عليه سورة “والمرسلات” بل قال “والمرسلات عرفاً” بدون سورة وإني لأتلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيِهِ وإن فِاه لرطبٌ بها عليه الصلاة والسلام. وهذا التصوير من عبد الله بن مسعود، هذا المشهد العظيم لهذه السورة العظيمة التي هي سورة المرسلات. وجاء في الصحيح أيضاً أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قرأ سورة “والمرسلات” فقالت أم الفضل زوجة العباس عمته قالت يا بني أذكرتني سورة – وقد بكت لهذه القرآءة – أذكرتني بقرآءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها في المغرب في صلاة المغرب فتأثرت رضي الله عنها وتذكرت قرآءة النبي صلى الله عليه وسلم إذ يتأثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القرآءة التي كان يقرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا لما سمع المطعم بن جبير وكان مشركاً وكان في المدينة قبل إسلامه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور وهي من مثيلاتها في الإقسام من إقسام الله عز وجل قال كاد قلبي أن يطير وكان أول ما وقر الإيمان في قلبه. بعض العلماء سمى هذه السورة بالعُرف ذكرها بعض المفسرين للتسمية لقوله (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) ولكن ذلك لم يكن عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لكن لعله يكون من قبيل الوصف لهذه السورة أو التسمية الاجتهادية من بعض العلماء رحمهم الله في مثل ذلك.
د. الشهري: إذن هذا ما يتعلق باسم السورة. هل ورد فضل خاص لسورة المرسلات؟
د. الحكمي: لا أعرف فضلاً لهذه السورة من الفضائل الواردة في ذلك. وأنا بالمناسبة أنبه أن كثيراً من الفضائل التي تنتشر عند الناس عن فضائل سورة القرآن الكريم تحتاج إلى أن يتثبت الإنسان فيها، صحيح أنها قُربى ولكن هذه القربى لهذه السورة فالقرآن كله فاضل ومنه فاضل ومفضول كآية الكرسي والفاتحة ونحو ذلك لكن هنا أحياناً تجد بعض الأوراق في بعض المساجد وفي بعض الأماكن وبعض رسائل الجوال “من قرأ سورة كذا وكذا” ومعروف نوح ابن مريم الذي يسمى نوح الوضّاع نوح الكذّاب الذي وضع بعدد سور القرآن مئة وأربع عشر حديثاً كلها مكذوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له لِمَ فعلت ذلك؟ قال لما رأيت الناس أعرضوا عن كتاب الله عز وجل فأردت أن أرغّبهم. فهو من باب ما يُنشر في الجوّالات الآن “انشر تؤجر” فقد يكون “انشر تؤزر”!!
د. الشهري: صحيح أحسنت. بالنسبة لوقت نزول السورة هل لها وقت محدد؟ وأنت ذكرت قصة ابن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم؟
د. الحكمي: نعم، العلماء رحمهم الله وحتى نجد في المصاحف يقال مكية أو مدنية فالعلماء رحمهم الله اعتنوا بمسألة المكي والمدني فيكتبون هذا مكي وهذا مدني بحسب النزول. فهذه السورة شاهِدها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ونزلت في غار حراء والنبي صلى الله عليه وسلم في مِنى وهذه قبل الهجرة
د. الشهري: هل هو في غار حراء أو في غار في مِنى؟
د. الحكمي: في منى وفي رواية أخرى أنه في غار حراء فهذه الروايات في أحد الجبال وإن كان تنوعت أنه قال في غار في منى يدل على أن النبي كان مختبئاً بها ويدل أيضاً أنها كانت من أوائل السور وقد ذكر أهل العلم كذلك أيضاً مسألة موضوعات السورة وأسلوبها يدل على مكيّتها وأنها من أوائل سور القرآن. العلماء رحمهم الله يكتبون مكي ومدني ليس فقط للتقسيم وإنما لفوائد ذكرها أهل العلم في معرفة المكي والمدني منها مراعاة التدرج في الأحكام الشرعية أو الدين الإسلامي كيف تدرّج هذا الدين؟ كيف بدأت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وما الذي عاناه؟ كذلك من التثبيت الذي لاقاه صلى الله عليه وسلم في أوائل الدعوة، كذلك في أسلوب الدعوة الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم. أمر آخر يحتاج إليه الفقهاء في مسألة الناسخ والمنسوخ عند الترجيح فإنهم ينظرون في المكي والمدني وهذه من عوامل المرجحات عند التعارض
د. الشهري: هي من السور التي نزلت متقدمة
د. الحكمي: بل من الطريف من اللطائف غير أنهم قالوا المكي والمدني أن هناك من العلماء من اعتنى أيضاً كما ذكر السيوطي وغيره مسألة الحضري ما نزل في الحضر وما نزل في السفر وابن مسعود صاحبنا رضي الله عنه ونحن أصحابه ونشرف بصحبته صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفسي بيده ما من آية في كتاب الله إلا وأعلم متى نزلت وأين نزلت؟ ولهذا ذكر القرطبي وغيره رحمهم الله أن هذه السورة من لطائفها أنها نزلت تحت الأرض يعني في الغار فجعلوا ذلك من عنايتهم رضي الله عنهم بالسور وتحديد المواضع حتى منه ما قيل فراشي (عند النوم) ونحو ذلك.
د. الشهري: كنا أمس نتحدث عن سورة الانسان واليوم المرسلات، هل ظهر لك تناسب أو مناسبة يين هاتين السورتين؟
د. الحكمي: العلماء رحمهم الله أراحونا كذلك وهناك كتب ينبغي لطالب العلم أن يرجع إليها مثل نظم الدرر في تناسب الآي والسور للبقاعي كذلك الإمام ابن عاشور والمراغي وغيرهم يعتنون بمثل هذه اللطائف في تفاسيرهم فيرجع إليها طالب العلم في الربط والصلة بين آي القرآن الكريم. من تأمل في السورة السابقة وهي الإنسان تجد في صدرها (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴿١﴾ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٢﴾ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿٣﴾) فلما ذكر الله الوعد بالمقابلة بين الطائفتين (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ﴿٤﴾) ثم ذكر جزاء المتقين وهم الأبرار جعلنا الله وإياكم ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا منهم (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴿٥﴾) حين ذلك أخبر الله عز وجل في هذه السورة بما وقع، ذاك وعد وهذا الجزاء الذي وقع وسيقع وما أخبر الله عز وجل به في المستقبل فهو في حكم الواقع كما في أول سورة النحل قال (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ (1)) أتى هنا بالماضي وسيأتي لكن المستقبل بالنسبة لله عز وجل في حكم الواقع
د. الشهري: موضوع سورة المرسلات الذي يمكن أن نقول تدور كل آيات السورة عنه ما هو؟
د. الحكمي: موضوع السورة من خلال من يقرأ وحبذا الإخوة والأخوات أخذوا مصاحفهم ويتأملوا الآيات في سائر الدروس التي ستأتي معكم، من نظر في هذا ينظر إلى وقوع الجزاء يوم القيامة وكذلك أشراط الساعة ومقدماتها لهذا الجزاء والأعظم هذه المشاهد الرهيبة المخيفة من مشاهد يوم القيامة التي أخبر الله عز وجل بها
د. الشهري: الله أكبر! إذن يتحدث عن البعث وعن يوم القيامة وإثبات وقوع هذا اليوم
د. الحكمي: ولا شك ولا أدلّ على ذلك من الإقسامات التي حصلت في بداية السورة
د. الشهري: دعنا ندخل في السورة من أولها من قوله (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا)
د. الحكمي: قبل ذلك هذه السورة عدد آياتها خمسون آية وأيضاً العلماء اعتنوا بعدّ آيات القرآن وقد يستفاد منه في فهم المعنى مثل: البيان في عدّ آي القرآن للداني، يستفاد منه كمرجع في هذا الجانب.
د. الشهري: نعود إلى أول السورة في قوله (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) أولا ما المقصود بالمرسلات؟ اسم السورة المرسلات وأولها المرسلات
د. الحكمي: قوله سبحانه (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴿١﴾ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ﴿٢﴾ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ﴿٣﴾ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ﴿٤﴾ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ﴿٥﴾) اختلف العلماء رحمهم الله في ما المراد بهذا القسم؟
- فمن أهل العلم من ذهب إلى أنها الملائكة على الاطلاق أن هذه الأوصاف خاصة بالملائكة على الإطلاق.
- القول الثاني أن المراد بها الرياح على الإطلاق
- والقول الثالث وهو أن المراد بالمرسلات والعاصفات هي الرياح والناشرات والفارقات والملقيات هم الملائكة واختار ابن جرير رحمه الله في تفسيره الجمع بينهما والخلاف في ذلك وإن طال عند بعض المفسرين الثمرة منه ليست مهمة عندنا لأن الله عز وجل يقسم بما يشاء فإن الله عز وجل أقسم بملائكته وأقسم بالرياح وأقسم بمخلوقاته فلله عز وجل أن يقسم بما شاء متى شاء كيف شاء وليس لأحد من مخلوقاته أن يقسم بشيء من مخلوقات الله فما يقول وحياة فلان والنبي!
د. الشهري: ويبدو لي دكتور ابراهيم أن سبب الاختلاف بين المفسرين في هذا هو أن هذه التي وردت هي صفات لموصوف محذوف يعني والمرسلات ما هي المرسلات؟ قد تكون الملائكة يصح أن توصف بالمرسلات والرياح توصف بالمرسلات فهي تنطبق على الريح وتنطبق على الملائكة سيّان
د. الحكمي: جزاك الله خيراً، وهذا يفيد الاتساع في المعنى القرآني وكلما كان المعنى حمّال أوجه يحتمل معاني كثيرة فما المانع؟ ولا تعارض بينها فهو يكون من اختلاف التنوع كما يذكر المفسرون أن هناك اختلاف تنوع واختلاف تضاد. فإن قلنا اشتراك المعنى أحياناً فإذا قلنا (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) المراد بالمرسلات هنا الرياح فإن الرياح تُرسل بالعُرف والعُرف هنا المقصود بها التتابع كتتابع الفرس والعُرف هو الشعر الذي في ظهر الفرس فيكون عُرفاً. وإن كانت الملائكة كما سيأتي المعنى الآخر (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴿١﴾ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ﴿٢﴾) فالله عز وجل أقسم بالريح والريح لها أخبار كثيرة في كتاب الله عز وجل فقد تكون هذه الريح (رِيحٌ عَاصِفٌ). لو رجعنا إلى الآية (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ (22) يونس) الريح الأولى الناس بحاجة إليها في البحر فإن السفن بحاجة إلى الهواء الذي يدفعها ولكن الهواء إذا زاد عن حدّه الذي هو ريح عاصف كانت مميتة وهناك الريح القاصف وهناك العاصف ولكن الله عز وجل قال (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (48) الفرقان) فالرياح الوارد ذكرها في القرآن إنما هي رياح الرحمة (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ (22) الحجر). وأما الريح إذا جاءت موحّدة بالإفراد فهي العذاب ولذا النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه “اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً” (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ (164) البقرة) فكل ذلك من الريح فإذا انقطع الريح وتوقف الهواء مات الناس. فإذن الهواء سر من أسرار الله عز وجل. إذن (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴿١﴾ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ﴿٢﴾) ثم ذكر (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) التي تنشر ونحو ذلك (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) تفرّّق (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) كل ذلك قلنا وصف للريح ويصح فيها أيضاً وصف الملائكة فإن الملائكة مرسلات فهي تُرسل للأنبياء عُرفاً أي بالعرف وهي الحكمة وهذا معنى آخر وهو صحيح كما ذكر بعض المفسرين، وأيضاً عُرفاً بالتتابع فإن الملائكة تتابع بالوحي وازالها للقرآن الكريم كجبريل عليه السلام وكذلك في مسألة التثبيت ومسألة النصرة ونحو ذلك، لا نقف كثيراً عند ذلك. (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ﴿٥﴾ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴿٦﴾) كذلك تشبيه الملائكة في السرعة بالريح وهنا مسألة يقال فلان يذهب كالريح
د. الشهري: إشارة إلى سرعته
د. الحكمي: نعم، (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) إن قلنا أنها الريح فالله عز وجل جعل الريح عذراً أو نذراً فمن تأمل في هذا الريح يأتي لأعتى الدول في العالم التي يتقدم علينا في الاقتصاد والصناعة والحضارة تقف عاتية ترفع ألوان الخطر للطوارئ لأجل هذه الريح لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، وصلوا إلى الفضاء، ووصلوا إلى قوة الصناعة وقوة الحضارة وكثرة الأسلحة لكنهم يقفون عاجزون أمام الريح التي هي جند من جنود الله سبحانه وتعالى
د. الشهري: ومرت علينا قصة عاد عندما قال (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى (7) الحاقة) أهلكهم الله بالريح
د. الحكمي: ثم قال الله سبحانه عن الملائكة (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) فإن الملائكة يُرسَلون عذراً أو نذراً، عُذراً للإعذار وإقامة الحجة ونذراً للإنذار مبشرين ومنذرين ولم تأتي هنا البشارة لأن السياق سياق وعيد سياق تخويف لم تأتي فيها بشارة وإنما الأنبياء أرسلوا مبشرين ولكن هنا الآن الزمن ليس زمن بشارة، ليست ساعة بشارة فيما يظهر والله أعلم أن زمن البشارة انتهى لأن المهلة انتهت كونها قامت أشراط الساعة وقامت القيامة فلا ينفع أن نبشّرك الآن لترجع، انتهى الوقت فهذا الذي يظهر لم لم يذكر البشارة هنا وإنما ذكر جانب النذارة مباشرة
د. الشهري: ثم يدخل في التفاصيل فيقول (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) هذا هو جواب القسم
د. الحكمي: أحسنت، تلك كلها مقسَمات وقد طال القسم. بعض العلماء قال فيه تشويق الواحد لو قال “والمرسلات عرفا إنما توعدون لواقع” أدّى المعنى لكن (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) النفس تنتظر ما سيكون جواب القسم أو المقسم عليه؟ فالجواب هنا (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ)
د. الشهري: وأيضاً تعدد القسم فيه تعظيم للمقسَم عليه
د. الحكمي: نعم، كل ذلك في هذا المعنى. أيضاً القسم في قوله (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) أي ما وُعدتم به في الدنيا من العذاب والجزاء والحساب واقع لا محالة وهذا التأكيد هو من الله فجاء بصيغة (إنما) لـتاكيد الحصر وتأكيد وقوع الشيء ولهذا من تأمل في قوله سبحانه وتعالى في مثل هذا في نظائر ذلك (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الأعراف) هذا في سورة الأعراف وفي سورة التوبة قال عز وجل (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ (111) التوبة)
د. الشهري: إذن هذا هو المُقسَم عليه. ونحن أيضاً كررنا في اللقاءات الماضية في قضية أركان القسم
د. الحكمي: أركان القسم هي: أداة القسم هي الواو (والمرسلات)، المقسِم هو الله عز وجل والمقسَم به ما جاء المرسلات والعاصفات والناشرات الخمس الأولى والله له أن يقسم بما شاء وجواب القسم (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) فهذه هي أركان القسم الأربعة
د. الشهري: المقسِم والمقسَم به والمقسم عليه وأداة القسم وجواب القسم. ثم قال هنا (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ)
د. الحكمي: كأن سائلاً يسأل هنا في قوله (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) كيف أعرف هذا الوعد متى يقع؟ فجاء الجواب والقرآن فيه تفسير القرآن بالقرآن وهذا أصح ما جاء في التفسير أنه لما نحتاج إلى الآية يأتي تفسيرها مباشرة في الآية التي بعدها
د. الشهري: البيان المتصل
د. الحكمي: البيان المتصل فبيان هذا المعنى (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) متى؟ قال (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أتى بالفاء وقلنا أن الفاء تفيد التعقيب والمباشرة (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) عجيب، هذا أمر لم يعتده الناس
د. الشهري: كما قال في آية أخرى (وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ)
د. الحكمي: (وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) التكوير) هذه النجوم التي يهتدي بها الناس وجعلها علامات لهم بالأسفار ذهب ضوؤها طمست وخفت ولم يعد يتسلى الناس برؤيتها جعلها زينة في السماء وجعلها كذلك يهتدي بها الناس وإذ بها تتغير على حالتها طبيعتها فإذا بالنجوم طمست. (وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ) كقوله (وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) النبأ) صارت أبواباً وكذلك في قوله (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) الانشقاق) إذن فقوله (وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ) والفروج هي الشقوق والانفتاح
د. الشهري: سبحان الله في سورة الملك مر معنا في قوله سبحانه وتعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)) إشارة إلى أنها في غاية الاحكام
د. الحكمي: هذا في الدنيا أما في الآخرة
د. الشهري: في الآخرة تتشقق وتطمس وتنفرج
د. الحكمي: نعم، ولهذا الله عز وجل قال (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ (48) ابراهيم) كل ما في السموات يتبدل وكل ما في الأرض يتبدل وسيأتي نظائر هذا في القرآن كثير في سورة الزلزلة وغيرها. قال (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ) سبحان الله!
د. الشهري: وهنا وقفة ونحن نتحدث كثيراً عن إعجاز القرآن ونقول ما هو سر إعجاز القرآن؟ مثل هذه المعاني التي يذكرها الله سبحانه وتعالى لم تعرفها العرب ولم تسمع بها من قبل ولم يعرفها الشعراء، هذه معاني جديدة على العرب تماماً
د. الشهري: ولهذا هي تأخذ بالألباب وتأخذ بالمسامع وهذه الكلمات جاءت أيضاً بالإيقاع الموجز، إيقاع صغير (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ) تصور كلمة نسفت، الآن الناس تحتاج كما نشاهد في الأبراج التي تبنى ينسفونها نسفاً قوياً يحتاج إلى شهور وسنوات لأجل أن يبنوا مكانها بنياناً ولكن هذه الجبال التي تملأ هذه الكرة الأرضية بأسرها في أمر واحد من الملك سبحانه وتعالى تُنسف
د. الشهري: ويبدو لي أن قريش كانوا معنيين بهذا الموضوع بالذات لأنهم يعيشون وسط الجبال فكانوا يسألون (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) طه)
د. الحكمي: ذكرتني حقيقة بأمر وهو أن منهج القرآن الكريم والحقيقة هذا نحتاجه الآن في الدعوة إلى الله عز وجل أن نحاطب الناس بالمعاني القريبة مثل قوله (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) الغاشية) ما قال أفلا ينظرون إلى الأسود وإلى كذا وإلى كذا، أتى بما يعاصرهم في حياتهم ويحتكون به الجبال يشاهدونها ويعيشون بينها فهنا هذه اللفتة
د. الشهري: الواقعية
د. الحكمي: الواقعية في الدعوة إلى الله، ما يأتي إنسان والناس في هجرة، ما عندهم كهرباء وما عندهم ما يأكلون به ويتحدث عن حكم زكاة الأسهم! بعيد كل البعد. فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يحدّث الناس بما يحتاجونه. أيضاً هنا (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ) سبحان الله! هذه الجبال العاتية التي جعلها الله رواسي تُنسف بل يقول الله عز وجل كما ذكرت (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً (47) الكهف) الجبال كأنها تسير
د. الشهري: سبحان الله! ولفتة في قوله (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً (47) الكهف) كأن الجبال في الدنيا كانت تمنع بروز الأرض فلما نسفت الجبال صارت الأرض واضحة
د. الحكمي: كما في قوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) طه) حينئذ (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) طه)
د. الشهري: هذا في قوله (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ). (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ)
د. الحكمي: وقال في الآية الأخرى عن الجبال (فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا (6) الواقعة) شيء عجيب!
د. الشهري: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) المعراج)
د. الحكمي: الإنسان يلاحظ لو في بيته أخذ العهن كالقطن ليست بشيء لكن أمام قدرة الخالق سبحانه وتعالى ليست بشيء
د. الشهري: وأيضاً تذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام عندما طلب موسى رؤية الله سبحانه وتعالى فقال (قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا (143) الأعراف) وكان جبلاً عظيماً (جَعَلَهُ دَكًّا) هذا مشهد عظيم نسأل الله أن يثبتنا ويعيننا عليه. (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ)
د. الحكمي: من علامات الساعة (اقتت الرسل) اقتت هنا يعني جعل لها وقت معلوم وأجل إما بحضور الشهادة على الخلق وإما أُخبرت بموعد القيامة بمعنى أنه سيكون هناك لميقات يوم معلوم
د. الشهري: المقصود بالرسل هنا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
د. الحكمي: كما في قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) المائدة). أيضاً قُرئت قرآءة أخرى (وإذا الرسل وقّتت) هنا أقتت بالألف وفي قرآءة أبي عمرو وقتت بالواو يعني جعل لها وقت كما في قوله (لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (38) الشعراء) فجاء الرسل إلى ميقات بل كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الدنيا يقول: إنما بُعثت أنا والساعة كهاتين. فإذا كان مبعث النبي قرب الساعة فما بالك بمجيء الرسل عليهم الصلاة والسلام؟!
د. الشهري: أستأذنك يا دكتور ابراهيم نأخذ الفاصل الأول في هذه الحلقة. فاصل أيها الإخوة المشاهدون نرى فيه سؤال الحلقة ثم نواصل حديثنا عن سورة المرسلات.
—————————————-
فاصل – سؤال الحلقة
قوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)) ما هو معنى كلمة (كِفَاتًا)؟
1. الضم والجمع
2. المعاش والرزق
3. الموت
——————————————–
د. الشهري: حياكم الله أيها الإخوة المشاهدون مرة أخرى ما زال حديثنا متصلاً مع ضيفنا الدكتور إبراهيم بن علي الحكمي الأستاذ المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وما زال حديثنا عن سورة المرسلات. نواصل حديثنا يا دكتور إبراهيم وقفنا عند قوله سبحانه وتعالى (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) ذكرت أن هناك قرآءة صحيحة عن ابي عمرو البصري (وإذا الرسل وقتت) بالواو.
د. الحكمي: بالمناسبة هناك معاني للقرآءات يعني مادام نحن في مدارسة وهناك طلبة العلم هناك معاني القراءات لأبي منصور الأزهري يستفاد منه في المعنى الذي تؤدّيه هذه القراءة توجيه القرآءات وما يتعلق بها فيستفيد منها طالب العلم في فهم معنى جديد للتفسير هناك الحجة لأبي علي الفارسي لكن أسلم منه كما ذكرت معاني القراءات لأبي منصور الأزهري الإمام ابن جرير رحمه الله كذلك في تفسيره يركز كثيراً على هذه المعاني. (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) جعل لها ميقات. (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) هذه كلها أيضاً تشويق (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) الذي يُفصل فيه بين الخلائق بين أهل الجنة والنار، بين الحق والباطل فيوم الفصل هو يوم القيامة ولكن الخطاب ما زال يأخذ بالألباب (وَمَا أَدْرَاكَ) أتى بهذا الأسلوب العجيب (وَمَا أَدْرَاكَ) ما أعجبك ما أعظمك ما يخطر ببالك! (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ) كل هذا الاستفهام من التعجب جاء بعده (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).
د. الشهري: وهذه تكررت في السورة كثيراً (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).
د. الحكمي: هناك كتب اعتنت بأسرار التكرار في القرآن الكريم أتمنى أن يرجع طالب العلم إلى هذه الكتب في أسرار التكرار ولطائف التكرار فالتكرار في القرآن الكريم ليس عبارة عن نقص وعجز في القرآن الكريم ولو كانت العبارة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) التي تكررت في هذه السورة عشر مرات وتكررت مثلها (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (الرحمن)) وربما أكثر في القرآن الكريم فهنا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هذا التكرار لو كان مكرراً عشر مرات في موطن واحد لأدّى إلى الملل ولكن تكررت بعد مقاطع فالعلماء رحمهم الله لهم وجهان في ذلك:
1. أن هذا من أسلوب العرب في الإطناب والتكرار في العبارة وموجود هذا في شعرهم ولهذا من اللطيف يمكن عرض في حلقة سابقة في سؤال الله عز وجل لموسى (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) طه) كان بالإمكان أن يقول هي عصاي وانتهى الجواب لكن ماذا قال موسى عليه السلام؟ قال موسى (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) طه) هذا زيادة على المعنى. قال العلماء رحمهم الله تعالى أراد أن يتلذذ بشرف الخطاب مع الملك تبارك وتعالى وهو شرف عظيم فموسى كليم الله عز وجل، هذا قول.
2. القول الثاني وهو الأشهر عند المفسرين أن قوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في كل موطن معنى يختلف عن المعنى السابق، فإذاً (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين كذّبوا بأمارات الله عز وجل في ما مضى من أشراط الساعة ومقدماتها، وسيأتي (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين كذبوا بإهلاك الله عز وجل للأمم، وهكذا في كل موطن، فكل موطن يربطه بما قبله فيأتي بمعنى جديد مثل (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (21) الأنعام) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (114) البقرة) فالظلم أنواع ولكن في جانب منع المساجد والذكر فإنه لا أحد أظلم ممن منع مساحد لله أن يذكر فيها اسمه. كذلك بالنسبة إلى الويل هنا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) فإن هؤلاء المكذّبون كما ذكر القرطبي وغيره أشاروا إلى مثل ذلك فإن هؤلاء لهم ويل يختلف عن ويل من قبلهم بالمعنى الذي يتقدم هذا المعنى.
د. الشهري: أستأذنك يا دكتور إبراهيم نأخذ إتصالاً من الإخوة المشاهدين، معنا إتصال من الأخت زهرة من الرياض.
إتصال من الأخت زهرة من الرياض: سؤالي في (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هل هو الكذب العام أم هو كذب معين؟
د. الشهري: إذاً سؤال الأخت زهرة متصل بحديثك الآن يعني (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أنت ذكرت أن المقصود به التكذيب بهذه الأشياء.
د. الحكمي: بلا شك، ذكرنا الظلم أنواع وهنا التكذيب أنواع فهناك تكذيب يحدث بأشياء تحصل بين الناس في ما اعتاده الناس ولكن التكذيب الأعظم هو التكذيب بالبعث هذا أعظم ليس هناك أعظم. ولذلك بالمناسبة أيضاً في مسألة الويل يكثر عن البعض الحديث المشهور أن الويل وادي في جهنم وهو حديث لا يصح ضعيف فالصحيح أنه ويل أي عذاب شديد الذي تأخذ النفس له كل مسمع وتذهب إليه كل مذهب فإذن الويل هنا بلا شك أنه عذاب شديد وتهديد يختلف هذا الويل والعذاب بحسب أنواع التكذيب فالذي كذّب بأشراط الساعة مثلاً أو التكذيب بنصر معين للنبي صلى الله عليه وسلم كما حصل للمنافقين ليس كمن كذّب بوجود الله وإن كان كله تكذيب لأن الله عز وجل أخبر بنصر أوليائه لكن التكذيب يتفاوت بتفاوت المُكَذّب به.
د. الشهري: إذاً هذا في قوله تعالى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ثم قال بعد ذلك (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) جاءت الأسئلة الاستنكارية إن صح التعبير.
د. الحكمي: هذه السورة إن جعلناها كمراحل.
د. الشهري: كنت أريد أن أسأل فعلاً هل يمكن تقسيم السورة إلى مقاطع؟
د. الحكمي: نعم وهذه المقاطع يستفيد منها طالب العلم:
1. المقطع الأول هو جانب الإقسام الذي جاء في أول السورة.
2. المقطع الثاني وهو ما يتعلق بالإقسام وهو أمارات الساعة وأشراطها فقال (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).
3. المقطع الثالث في قوله سبحانه (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) في عاقبة المكذبين، وهذا دائماً يأتي به في التذكير ولهذا لما أخبر الله عز وجل في سورة فصلت وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة ماذا قال؟ ناشدتك الله والرحم إلا سكت، لما قال (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) فصلت) يعرفون ذلك فهنا ماذا حصل؟ قال ناشدتك الله والرحم إلا سكت. فهنا يؤكد الله عز وجل (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ).
د. الشهري: سبحان الله كيف كان يبلغ القرآن الكريم من نفوسهم!.
د. الحكمي: هم يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال سبحانه (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ) يعني من جاءوا بعدهم وهذه تحتمل التأكيد أن الله سيفعل بهم وإما يحتمل الوعيد انتبهوا ولهذا جاءت قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وهي قرآءة شاذة (وسنتبعهم الآخرين) والشاذّ في القراءة ما خلا من شروط القرآءة الصحيحة واتصال السند وموافقة الرسم العثماني وموافقة اللغة العربية ولو بوجه كما قال ابن الجزري:
فكـــل ما وافق وجه نحو |
أو كان للرسم احتمالا يحوي |
أو صح إسنادا فهو القرآن |
فهــــذه الثلاثـــــة الأركــان |
هذه عبارة من باب الفائدة (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)) يعني اِنتبهوا كل من أجرم وكذب برسل الله عز وجل فإن مصيره إلى ذلك ولهذا قال الله عز وجل في سورة الأنعام (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) الأنعام) أمر الله بالسير في الأرض للاعتبار (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ (138) الصافات)، وفي رحلة الشتاء والصيف ما ذكر الله في العِبَر
د. الشهري: هذا أيضاً في قوله سبحانه وتعالى (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17)) كأنه قد يقول قائل هذا في الماضي فقال الله هذا ليس حادثاً عظيماً وإنما هي سُنّة جارية فقال (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) حتى لاحظ (نفعل) فعل مضارع دلالة على أنها فعل متجدد كلما وجد أمثال هؤلاء المكذبين عاقبهم الله بمثل هذا العقاب.
د. الحكمي: هي بلا شك كما أسلفت سنة ثابتة من سنن الله الكونية أنه يعاقب والناس للأسف الآن تنظر إلى هذا الجانب تاخير العقوبة نحن الآن في مثل هذه الليالي الفاضلة نلهج إلى الله عز وجل بالدعاء أن ينصر إخواننا في سوريا وأن ينصر إخواننا في بورما وقبلها في فلسطين وقد يحصل من الناس جانب من الإحباط من تأخير هذا النصر يقولون ندعوا الله فلا يجيبنا فالناس تحب العاجلة (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) وفي قراءة كذِّبوا (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) يوسف) فالعاقبة كما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث عقبة ابن عامر رضي الله عنه “إذا رأيت الله يتابع نعمه على عبده وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما هو استدراج” ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (6) الأنعام) ومثله أيضاً عن عقبة رضي الله عنه “إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته” ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (11) هود). فنقول يا إخواننا في سوريا ويا إخواننا في بورما ويا إخواننا في فلسطين الله عز وجل يقول (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) اِنتظروا (وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) يوسف) كما قال يعقوب لأبنائه عليه السلام. ثم قال (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي الذين يكذّبون بالإهلاك والعقوبة لمن كذّبوا رسل الله عز وجل.
د. الشهري: وترك هنا المكذَّب به للإشارة إلى أنهم كذبوا بأشياء كثيرة.
د. الحكمي: بلا شك حذف المكذب به والمتعلق يدل على ما يسمى حذف المفعول كذلك لكي تبقى للنفس كما أسلفنا كل مذهب في ما كُذِّب به سواء كان صغيراً أو كبيراً.
د. الشهري: أستأذنك معنا إتصال من الأخ الأستاذ صباح من العراق.
اتصال من الأخ صباح من العراق: عندي سؤال عن آية في سورة النساء يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) النساء) ما المقصود بـ(لا تقتلوا) وسبب نزول الآية؟
د. الشهري: نعود يا دكتور عفواً إلى آيات السورة حتى لا يدركنا الوقت.
د. الحكمي: قال الله سبحانه وتعالى بعدها وهذا المقطع كما قلنا المقطع الثالث قوله سبحانه وتعالى (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) بدأ التذكير بمرحلة الخلق هذه الرحلة العجيبة التي كانت قبل الوجود يعني هو تذكير للإنسان بحالته السابقة فأنت يا أيها المكذِّب في السياق هنا حينما كذبت بالبعث والجزاء تأمل أين كنت قبل ذلك؟! قال سبحانه وتعالى (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) من ماء حقير وهو ماء الرجل (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) هذه الرحلة العجيبة التي أخبر الله عز وجل بها. (فَجَعَلْنَاهُ) أي جعلنا هذا الماء (فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) وهو رحم المرأة أنا الحقيقة كل ما أتأمل في (قرار مكين) مستقر عجيب! الآن الأطفال الخدج يجعلون لهم من الزجاجات ويجعلون لهم من أدوات تنفس ونحو ذلك شيء عظيم يماثل جزء يسير من هذا القرار المكين وهو رحم المرأة بل حينما تقرأ في كتب الطب التي تعلقت بمثل هذه المعاني يعني اُنظر إلى هذا الرحم الذي لا يجاوز 2 سم يتسع لأكثر من ثلاثة آلآلاف ملليمتر حين اتساع هذا الرحم ثم يرجع ويعيش هذا الجنين من الذي يغذّيه؟ من الذي يأتي له بالهواء؟ (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)).
د. الشهري: لعلنا نواصل بعد أن نأخذ الفاصل الأخير في هذه الحلقة، فاصل أيها الإخوة المشاهدون ثم نواصل حديثنا عن سورة المرسلات إن شاء الله تعالى.
——————-
فاصل تعريف بنشاطات مركز تفسير
لقاء أهل التفسير الشهري
——————-
د. الشهري: مرحباً بكم أيها الإخوة المشاهدون مرة أخرى، ما زال حديثنا متصلاً عن سورة المرسلات مع ضيفنا الأستاذ الدكتور إبراهيم بن علي الحكمي أستاذ الدراسات القرآنية المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقبل أن نواصل حديثنا نشاهد الفائز في مسابقة الأمس.
الفائز في سؤال الأمس: رندا عمر محمد بالبيد – جدة.
د. الشهري: نعود يا دكتور إلى سورة المرسلات نحن وصلنا إلى المقطع الثالث في تذكير الإنسان بأصل خلقته (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)).
د. الحكمي: أيضاً فيه تذكير أن هذا الماء الحقير أن الإنسان لا ينبغي أن يتكبر على خالقه فإنما هو خُلِق من ماذا؟ من هذا الماء المهين الذي هو مستقذر عند الناس. قال (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) وهو رحم المرأة كيف الله عز وجل قد جعله وهذه رحلة تطول حقيقة كما أسلفت كيف أن الله عز وجل هيأ في رحم المرأة من الإنقباض والإنبساط والأدوات العجيبة التي جعلت ذلك قراراً مكيناً فتحفظ به هذا المولود. (إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) وهو زمن ولادته، الحمل أقله ستة أشهر والغالب تسعة أشهر أو أكثره كما يذكر بعض الفقهاء إلى أربع سنوات ومن الطريف أن أحد المفسرين وهو الضحّاك بن مزاحم قد جلس في بطن أمه سنتين ذكر ذلك ابن حبّان البستي في مشاهير علماء الأمصار في ترجمته قال فجلس في بطن أمه سنتين وخرج ومعه سنين فسمّوه الضحاك.
د. الشهري: طبعاً هذه موجودة في بعض كتب الفقه أطول مدة للحمل.
د. الحكمي: من باب الاحتياط ذكروا هذا. لكن هنا قال (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)) وهو القدر الذي جعله الله عز وجل لهذا الجنين (فقدّرنا) وقرأ أيضاً قرآءة سبعية (فقدّرنا) أي قدّرنا هذه الأطوار وقدّرنا هذا الخلق. (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) يصف الله عز وجل نفسه ويمدح نفسه وهو أهل الثناء والمجد والحمد سبحانه وتعالى قال (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ). ثم قال (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي الذين يكذبون بأمور الخلق. ثم جاءت مرحلة أخرى وهي مرحلة الأرض والكفات لن نصف كفاتاً حتى لا نجيب على سؤال الحلقة (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) للأحياء فهي كافتة لهم وللأموات فهي كافتة لهم سنقول بمعنى حافظة (وَجَعَلْنَا فِيهَا) أي في الأرض (رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ) وهي الجبال أنظر هنا جعل (رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ) وهذه الرواسي الشامخات لما جاء الموعد نُسِفت.
د. الشهري: والعجيب أنه قال رواسي والرواسي مقصود بها في الأرض فقال رواسي شامخات ولم يقل رواسخ ثابتات مما يشير إلى أنها راسخة رسوخاً بعيداً وأيضاً شامخة شموخاً مرتفعاً.
د. الحكمي: بل ذكر العلماء ما يتعلق بجيولوجيا الأرض ونحوها أن ما يظهر للناس ثلثيه في الأرض من الجبال مثل الأسنان!. قال سبحانه (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي الذين يكذّبون بمسألة البعث والجزاء والحساب. ثم انطلق إلى مقطع جديد وهو من مكر الله عز وجل بهؤلاء القوم (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) الآن هم في أرض المحشر لا يعلم بحالهم إلا الله يعني في حالة عجيبة من الخوف والهلع وإذ بهم كما قال الله عز وجل (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ (43) إبراهيم) رؤوسهم مرفوعة ومقيدة الأيدي إلى الأعناق (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ (43) إبراهيم) من الخوف وأما أفئدتهم فهي هواء (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) إبراهيم) من الخوف أيضاً قيل أنها إلى حلوقهم! كذلك هنا (انطلقوا) كأنه جاء الفرج ولكن هذا الفرج من مكر الله بهم (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ (30)) الإنسان يفرح إذا انطلق إلى الظل لكن هذا الظل (ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) أي صاحب ثلاث طبقات قيل طباق وقيل أنواع من أهل التفسير من قال عن اليمين نار وعن الشمال نار ومن فوقهم نار وقيل أنها ثلاث درجات بمعنى أنهم يتفاوتون في العذاب على تفاوتهم في الكفر كما جاء في الحديث عن أبي طالب أنه أقل أهل النار عذاباً في الصحيح وله نعلان من النار تغلي منهما دماغه إذا كان هذا أقل أهل النار عذاباً فكيف بمن غطاؤه من نار وفراشه من نار ومهاده من نار؟!!! (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) الزمر). إذاً هنا قال (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) إلى الآن المسألة ليست بالتهويل الشديد. اُنظر ما بعدها (لَا ظَلِيلٍ) يعني لا يحصل فيه ظل (وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) يعني هناك لهب يصل إليه وأعظم من هذا (إِنَّهَا) أي هذه النار (تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) الشرر المتطاير منها كالقصر قيل كالقصر كالبناء العظيم وهذا ضخم جداً! هذه الشررة الواحدة كالبناء العظيم كالقصر وذكروا في القصر أمثلة كثيرة لكن يحتمل المعنى كل ما كان كالقصر العظيم في الحجم. (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) يعني كأن هذا الشرر كأنه جمالة صفر قرئت جِمالة وجِمالات على الجمع وكلاهما قراءة صحيحة وقيل الجمالة الصفر هي الجمال السود كعادة العرب في الأسماء والمسميات وقيل المراد بها الحبل العظيم الذي جعل للسفن والمعنى في ذلك أنه كله لتقريب المعنى لأنه جاء بالكاف للتشبيه والتشبيه فيه نوع من التقريب وإن لم يكن ينال حقيقة الشيء (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ). ثم تأتي المرحلة التي بعدها قال (هَذَا) أي ذلك اليوم (يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)) بعض الناس يريد أن ينفِّس أحياناً فيريد أن ينفس يعتذر فأنت لما تقول لا تعتذر كما قال تعالى (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) المؤمنون) هذا من أعظم التبكيت وأعظم الإهانة. قد يسأل سائل يقول كيف قال هنا (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ) وفي بعض المواضع في القرآن ينطقون؟! (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) الصافات) فأجاب العلماء أن مواقف القيامة مراحل ومواقف فتارة يُسألون تارة لا يُسألون وهذا جواب ابن عباس وغيره من المفسرين. (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)). ثم قال سبحانه (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ) هناك قال (يوم الفصل) فأعطانا في البداية قال (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)) ثم أتى بما يقرّب المعنى فقال (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) حصل المقصود مما وعد به كما ذكر في السورة السابقة ذكر الأبرار والفجار. ثم ذكر الله عز وجل الفريقين (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ) ظلال جمع ظل
د. الشهري: يعني يذكر الآن الصورة المقابلة يعني ذكر العذاب والوعيد ثم ذكر النعيم.
د. الحكمي: وهذه فائدة في مسألة المقارنة يستفيد منها المسلم أن يعيش بين منظرين منظر أهل الجنة ومنظر أهل النار ويقرر أي المصيرين يختار؟ ولهذا كما في السورة السابقة التي جاءت معنا (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) الإنسان) اِبدأ من سورة سورة البقرة الخمس الآيات الأولى عن المؤمنين الخُلّص والثانية الآية السادسة والسابعة عن أهل الكفر الخُلّص ليحصل بها المقابلة وهكذا الرحمة والعذاب إذا جاءت في القرآن يحصل بها المقابلة. بعدها قال (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هنا الباء سببية أي بما كنتم تعملون وقبله فضل الله ورحمته فالإنسان قد يعمل ولكن إذا لم تنله رحمة الله عز وجل وأسأل الله عز وجل في هذه الساعة أن يرينا من رحمته ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا إنه جواد كريم. قال في المقابل (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)) ذكر الله عز وجل عنهم قد يقول قائل كيف يقول الله عز وجل (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) للكافرين؟ الأمر هنا خرج عن ظاهره إلى أمر وهو الامتهان كما في قوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) الدخان) ليس تكريماً مثل ما يقول فلان تفضل الله لا يحييك كل هذا لا ليس تكريم كما في قول الحطيئة
دعِ المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فهنا أيضاً كلوا وتمتعوا من قبيل الإمتهان (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وفي الأخير قال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ) ابن عباس يرى أن هذه الآية مدنية باعتبار الركوع وخرج العلماء رحمهم الله أنهم إذا أمروا بأمور الإسلام ومنها الصلاة فيرفضون فيكون الأمر بأصل الإسلام فيكون التعبير عن الركوع هنا هو تعبير عن الصلاة وأصول الإسلام والحديث حقيقة على ذلك كثير. فبعده قال (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي إذا لم يكن هذا القرآن كأن هناك إشارة لطيفة أختم بها الإمام ابن عاشور في تفسيره أشار إلى لطيفة كأن هناك ظرف مقدّر أو هناك شرط مقدّر وكأنه قال إذا لم يكن هناك حديث يؤمن به غير القرآن فبأي حديث سيؤمن به؟! والله أعلم.
د. الشهري: فتح الله عليك يا دكتور، الحقيقة اِنتهى وقت البرنامج والحديث معك ذو شجون والسورة ما زالت تحتمل المزيد لكن أرجو أن يكون في ما تفضلت به كفاية إن شاء الله. الأخ صباح سأل عن قوله (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) النساء) ما المقصود بـ(تقتلوا أنفسكم)؟
د. الحكمي: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) هنا تعبير عن قتل الإخوان فعبّر عن النفس بالأخ باعتبار الإنسان نفسه كما في الحديث بأمر واحد المسلمون والله أعلم (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) لا تقتلوا إخوانكم بأخذ أموالهم أو بقتلهم حقيقة.
د. الشهري: فتح الله عليك أيها الإخوة المشاهدون الكرام اِنتهى وقت هذا اللقاء. باسمكم جميعاً أشكر ضيفنا فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم بن علي الحكمي، إستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كما أشكركم على متابعتكم أراكم إن شاء الله غداً وأنتم على خير في أمان الله.