تدبر آية – (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) الجاثية)
د. رقية العلواني
تفريغ سمر الأرناؤوط – موقع إسلاميات حصريًا
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والآه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصف الله سبحانه وتعالى كتابه العظيم بأوصاف عديدة ومن تلك الأوصاف أنه بصائر يقول الله عز وجلّ في كتابه العظيم في سورة الأنعام (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِر مِن رَّبِّكُمْ) [الأنعام: 104] ويقول في الأعراف (هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 203] ويقول في الإسراء (مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) [الإسراء: 102] ويقول في سورة القصص (بصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص: 43] ويقول في الجاثية (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) الجاثية). ولنا أن نتوقف عند معنى البصائر فالبصائر جمع لكلمة بصيرة وهناك ترابط واضح بين البصر والبصيرة، فبالبصر يرى الإنسان وينظر المحسوسات المختلفة، الصور المتعددة المتنوعة الكونية التي نراها من حولنا ولكن عندما يأتي الأمر عند البصائر أو البصيرة فهي نور في القلب يرى فيه الإنسان القضايا المعنوية غير المحسوسة، غير المرئية يدرك بها أمورًا تقع في وجدانه، في إدراكه، في ذاته، يميّز بها بين الحق والباطل، يميّز بها بين العدل وبين الظلم، بين الخطأ وبين الصواب. عشرات الأمور تقع لنا في اليوم والليلة نحتاج فيها إلى اتخاذ قرارات، هذه القرارات لا يمكن أن تأتي هكذا من فراغ مبنية على مجرد الصور التي نراها من أمامنا، هناك أشياء أخرى.
والقرآن العظيم ربي سبحانه وتعالى حين اختار له هذا الوصف ووصفه بأنه بصائر في أكثر من موضع في آيات القرآن يريد أن يعلمنا أن نتوجه إلى هذا القرآن الكتاب العظيم حين تختلط علينا الأمور، حين نريد أن نتبين الحق من الباطل، الخطأ من الصواب، الضلال من الهدى. هذه الأمور المختلطة المتشابكة وكثير من الأمور في واقعنا وفي حياتنا باتت متشابكة، خيوط، كومة من الخيوط المتشابكة، أخرى من الطرق المتعددة وكأنها ألغاز في بعض الأحيان. من الذي يمكن أن يساعدنا في حل هذه الإشكاليات؟ في فكّ هذه الخيوط المترابطة المتشابكة؟ من الذي يمكّننا من أن نصل إلى اختيار الأصوب والأفضل والأحسن لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا؟ من الذي يمكن أن يقودنا إلى اختيار العاقبة الأحسن، النتيجة الأفضل في قراراتنا حين تختلط علينا الأوراق والأمور؟ القرآن العظيم.
وبطبيعة الحال أنا لن أجد حين أريد على سبيل المثال أن أبحث عن حل أو أتخذ قرارًا في قضية معينة ربما متعلقة بزواج، ربما متعلقة بعمل، ببيت، بأولاد، بشراء، ببيع، بأهل، يا ترى هل سأجد الإجابة واضحة في كتاب الله مباشرة؟ القرآن كتاب لا يقدم الإجابات المباشرة على المشاكل أو الإشكالات اليومية التي يمر بها الناس لأنها متنوعة، لأنها متعددة، لأنها تختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى، ولكن القرآن يضع لي الإطار العام الذي من خلاله أستطيع أن أتبين الأمور، أستطيع أن أميّز بين الخطأ والصواب، بين الحسن والأحسن. فكلما ازدادت علاقتي بكتاب الله عز وجلّ تكرّست تلك النظرة في قلبي وفي نفسي وفي حياتي أنّي لا هدى لي بعيدًا عن القرآن، كلما أصبحت أتمسك أكثر بكتاب الله وأرى فيه هداية وأرى فيه سبيلًا لتخليصي مما أنا فيه على مختلف المستويات كلما تعمّق هذا الشعور والإحساس فيّ توطدت العلاقة بيني وبين القرآن، وكلما توطدت تلك العلاقة ازدادات وقويت البصيرة في نفسي وفي وجداني شعّ نور البصيرة في إحساسي وفي تصوراتي وفي أفكاري التي أبني من خلالها قراراتي المختلفة التي أتخذ قراراتي في الحياة من خلالها، التي أبني مواقفي وقراراتي وعلاقاتي على أساسها. لا يمكن للإنسان العاقل أن يمشي في الحياة متخبطًا سائرًا على غير هدى تحرّكه الأهواء والنوازع، يحتاج إلى بصائر، يحتاج إلى دليل. وفي بعض الأحيان نحن حتى حين نريد أن نشق طريقًا في السيارة لنصل إلى مسافة قريبة أو بعيدة من شوارع أو من طرق أو من مكانات نحتاج إلى أن يكون لدينا دليل أو خارطة وحين يكون هناك نوع من أنواع الإعدادت في الشارع أو التغييرات حتى في البناء أو في مستوى الإعداد نجد أنفسنا في حيرة من أمرنا لا ندري أنذهب من هنا أو من نذهب من ذلك الطريق؟ نبحث عن الطريق الأفضل والأقصر والطريق الذي يمكن أن يوجهنا إلى الوجهة التي نريد بأسهل وأيسر ما نريد. فكيف لنا ونحن نسلك طريق الحياة الممتد المتعرج الذي ينحني حينًا ويبتعد أحيانًا عن المسار الذي نريد الوصول إليه؟! كيف للعاقل أن يسير في الطريق دون بصائر توجهه؟! دون طريق يوضح له المسافات؟! دون نور يوضح له أين يسير في ذلك التوجه؟! أين يؤدي به ذلك المنعطف إن أخذ يمينًا أو شمالًا؟! لا يمكن للعقل ولا المنطق ولا القلب يمكن أن يقبل بهذا النوع من التخبط!. ولذلك ربي سبحانه حين وصف كتابه الكريم بعدة أوصاف في نفس القرآن إنما أراد أن ينبّه تلك القلوب التي غفلت عن هذا النبع الصافي في كتاب الله عز وجلّ أن تعود إليه، أن تثوب إلى رشدها، أن تحاول أن تتلمس بكل ما أوتيت من قوة ووجدان وعقل ومنطق وعاطفة في هذا الكتاب العظيم، هذا الكتاب الذي حوى كل تلك الإجابات على مختلف التساؤلات الصعبة التي تواجهنا في طريق الحياة. ذاك التخبط وتلك الحيرة التي نمر بها في حياتنا حين نواجه بعض الأوقات نواجه بعض المواقف الصعبة وحتى حين لا نواجه نحن بحاجة إلى ذلك الدليل. وتلك البصائر هي من رحمة الله سبحانه أوجدها في كتابه العظيم فكلما ازددت قوة وعلاقة وبدأت العلاقة بينك وبين كتاب الله تزداد وتقوى وتشتد ازداد شوقك إليه وكلما ازداد الشوق والتعلق والمحبة لكتاب الله بدأ نور القرآن العظيم يدخل إلى ثنايا النفس والروح تشرق به الروح، يشرق به العقل والفكر والحسّ فيبدأ فعلًا بطريقة عفوية جدًا يرى الهدى، يرى النور، يرى الخير، يتبصّر فيما حوله، يتبصّر في كل المسائل والأشياء والمواقف التي تمر به وهو في ذلك كله لا يستغني عن الدعاء لله عز وجلّ والتوجه إليه في كتابه الكريم ليهديه سبل الرشاد. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصّرنا وأن يعلمنا وأن يهدينا للحق الذي يحبه ويرضاه وأن يجعلنا له كما يحب ويرضى.