مقاصد السور
د. محمد عبد العزيز الخضيري
تفريغ موقع إسلاميات حصريًا
سورة المائدة
حديثنا حول سورة المائدة، هذه السورة الكريمة هي سورة العقود كما سماها بعض العلماء وذلك أنها افتتحت بهذا المعنى العظيم قال الله عز وجلّ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فمدار هذه السورة كلها من أولها إلى آخرها على الوفاء بالعقود سواء من ذلك ما اتصل بتوحيد الله عز وجلّ فالتوحيد أعظم عقد بين العبد وبين ربه جلّ وعلا، وهذه الكلمة التي ينطقها كل واحد منا فيقول (أشهد أن لا إله إلا الله) هي أعظم عقد تعقده في حياتك كلها وأعظم صفقة تكون بين اثنين هي هذه الصفقة أن تعلن بأنك لا تعبد ولا تستسلم ولا تتحاكم ولا تحكّم إلا الله سبحانه وتعالى، لا تؤمن بأحد ربًا ولا مشرّعًا ولا إلهًا إلا الله سبحانه وتعالى وتلتزم بذلك. ولذلك المشركون لما دعاهم النبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقولوا (لا إله إلا الله) يقولوا هذه الكلمة أبوا، لو كانت كلمة لا معنى تحتها ولا عقد فيها لقالوها ولكن يعلمون أنهم إذا قالوها يجب عليهم أن يلتزموا بكل ما فيها لذلك رفضوا وأبوا (أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴿٥﴾ ص) فأعظم العقود هو عقد التوحيد. ثم شرائع الإسلام كلها عقود: الصلاة عقد، أركان الإسلام عقود، البيع والشراء عقد، حفظ النفوس عقد، حفظ الأموال عقد، التحاكم إلى شرع الله عقد يجب الوفاء به والحرص عليه والقيام به وتأديته، كل هذه جاءت في هذه السورة الكريمة مع التأكيد على أن الله قد أخذ علينا العهد والميثاق أن نوفي بهذه العقود ونقوم بها حق القيام ولذلك قال هنا (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
ثم بدأ بشيء لا يتوقعه الناس قال (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فالله أحل لنا بهيمة الأنعام فلا يجوز لأحد أن يفتري على الله الكذب ويحرّم شيئا لم يحرمه الله لأن هذا يخالف العقد الذي بينك وبين الله، أنه لا يحق لأحد أن يحلل أو يحرم إلا الله بمقتضى قولك (لا إله إلا الله) فأنت إذا قلت لا إله إلا الله قد رضيت بأن الحكم كله لله (إن الحكم إلا لله) ولا يجوز لأحد كائنا من كان أن يكون مشرّعا مع الله عز وجلّ. قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) كل ذلك لأنه إخلال بالعقد الذي بينك وبين ربك. ثم بيّ، الله ما هي المحرّمات لأن المشركين قد توسعوا في هذا الباب كما جاء في سورة الأنعام (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا) [الأنعام: 136] وصاروا يفترون على الله الكذب وهنا في سورة المائدة (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) هذه الأشياء التي افتريتموها على الله ما جعلها الله وما أذِن لكم بأن تجعلوها فلا يحل لكم أن تفتروا الله الكذب ولذلك قال هنا (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ) هذه هي المحرّمات فإياكم أن تفتروا على الله الكذب فتحرّموا شيئا لم يحرّمه الله. ولما ذكر هذه المحرمات بيّن ما يحلّ لنا من الأطعمة والأنكحة فقال سبحانه (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) كل الطيبات حلال لنا بدءًا من الماء وانتهاءً بآخر فاكهة نسمع بها في هذه الحياة ما دامت من الطيبات التي لا تضر فإنها حلّ لنا بمقتضى قوله (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ). ثم ذكر المنكوحات فقال (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). ثم ذكر الطهارة فهي عقد أيضا يجب عليك أن تستلزم بها في الحر والبرد، في العسر واليسر، في المنشط والمكره ومنه غسل الجنابة.
بعدما انتهى من هذه المقدمات اليسيرة التي تمثل نماذج لهذه العقود التي بين العبد وبين ربه اسمعوا ماذا قال الله لتتأكدوا أن هذه السورة سورة العقود والعهود والمواثيق قال الله عز وجلّ لأمّتنا (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٧﴾) قد اعترفتم بأن بينكم وبين ربكم عهدًا وميثاقًا فإياكم أن تخلّوا بهذا العهد والميثاق وقد قلتم معترفين (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) فنحن نطالبكم بمقتضى هذا الاعتراف بالسمع والطاعة وذكر الله عقيدًا عظيمًا جاء في سورة النساء وجاء هنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) هذا من العقود العظيمة التي تهتز عندها النفوس الضعيفة (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) حتى من تبغضون من أعدائكم لا تتخلفوا عن العدل والشهادة بالقسط والحق ولو مثقال ذرة. لو جاءك مسلم ويهودي يشتكيان في أرض، اليهودي له قطعة مقدارها مئة متر والمسلم عنده قطعة مقدارها مليوم متر وقد أخذ المسلم من اليهودي مترًا واحدًا فلا تمالئ هذا المسلم وتقول هذا يهويد يستحق أن أظلمه، لا، العدل قيمة مطلقة واجبة في كل حال لكل أحد.
ثم انتقل ربنا سبحانه وتعالى إلى العهد الذي أُخذ على بني إسرائيل، انتهى من أمة محمد، قال (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) لتأكيد ذلك العهد (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) إذا قمتم بهذا العهد (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) فماذا فعل اليهود؟ نقضوا العهد، قال الله عز وجلّ (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) نسوا شيئًا من الشرع الذي أوحي إليهم وأُنزل عليهم ولا تزال يا محمد (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) يخونون وينكثون العهد (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) وهذا من عدل القرآن، هناك جماعة من اليهود لم يحصل منهم شيء قال الله (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
انتهى من اليهود بدأ بالنصارى (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) تركوا شيئا مما شرع عليهم (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) من أسباب العداوة والبغضاء في الأمة أن يدعوا شيئا من العهد الذي ينتهم وبين ربهم سبحانه وتعالى، قال الله عز وجلّ (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ثم دعاهم جميعا إلى الإيمان بهذا النبي حتى تستقيم أحوالهم يقول لهم (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴿١٥﴾ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿١٦﴾)
ثم ذكرت هذه السورة العظيمة قصة لموسى عليه الصلاة والسلام تبين كيف أن بني إسرائيل كانوا لا يوفون بالعهود ويخذلون أنبياءهم في أحلك الظروف وأشد المواطن (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿٢٠﴾ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) موسى يعرض عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة حتى يكون لهم ملك ويكون لهم دولة ويكون لهم شأن (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿٢١﴾) فقال بنو إسرائيل (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴿٢٢﴾) نحن نريد بلدًا على طبق من ذهب وليس عندنا استعداد أن نجاهد ونقاتل وتسيل منا الدماء! نحن أطعناك واتبعناك من دون بلاء ومشاكل، نريد دينًا من غير ثمن، نريد جنة من غير تعب كحال كثير من المسلمين تقول له هذا الطريق الذي تسلكه والدين لذي أخذته من ربك فيه مشقة شديدة وفيه بلاء (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾ العنكبوت). قال الله عز وجلّ مبينًا أنهم ليسوا كلهم كذلك (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿٢٣﴾) (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴿٢٤﴾) افتحها لنا يا موسى وإذا انتهيت أنت وربك من فتحها بلّغنا نأتي! هنا غضب موسى عليهم غضبا شديدا ودعا عليهم (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴿٢٥﴾ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أربعون سنة! (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) هذه عقوبة في غاية الغرابة هم أعرضوا عن الدخول فجعل الله عقوبتهم بأن لا يدخلوا وأن يتيهوا في الأرض فتاهوا في أرض سيناء يخرجون من الصباح يدورون في هذه الصحراء القاحلة ثم يعودون في الليل إلى المكان الذي خرجوا منه أربعون عامًاّ لو قيل لك أنك ستتوه في مدينة أربع ساعات لضاق صدرك ولو قيل إنها أربعة أيام فيمكن أن تتمنى الموت! تخيل أنك تبحث عن صاحبك في مدينة أربعة أيام قد تموت من شدة الغيظ والقهر، أحدنا إذا بحث عن بيت أربعة دقائق ملّ ورجع! هؤلاء بقوا أربعين عامًا عقوبة لهم من الله ومات موسى وهارون في أرض التيه، وأرض التيه وهي الأرض التي أنزل عليهم فيها المن والسلوى كما جاء في سورة البقرة وغيرها.
ثم ذكر الله عقدًا آخر من العقود العظيمة وهو عقد النفس المحرّمة (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿٢٧﴾ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٨﴾ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴿٢٩﴾ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) كانت هذه أول نفس تُزهق من بني آدم ولذلك كل من قتل بعد هذه النفس فعلى القاتل الأول شيء من وزرها لأنه أول من سنّ القتل في بني آدم ولذلك قال الله عز وجلّ (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)
ثم انتقل بعد ذلك إلى ذكر أولئك الذين يخلّون بالعقد الاجتماعي والسلم الاجتماعي وهو عقد عظيم بين المسلمين أن لا تخرج عليهم بسيفك ولا تقاتلهم ولا تقطع طرقهم قال الله عز وجلّ (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٣٣﴾)
ثم ذكر الذين يعتدون على أموال الناس من غير قطع طريق فقال الله عز وجلّ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٣٨﴾ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿٣٩﴾)
ثم انتقل إلى أهل الكتاب مرة أخرى ليذكرهم بالعهود والمواثيق التي أخذت عليهم وكيف أنهم لم يقوموا بها حتى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فكان موقفهم موقف الكائب الكاتم للحق الذي يستمع للكذب ويأكل السحت قال الله عز وجلّ واصفًا إياهم (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٤١﴾ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)
ثم قال الله مبينًا كيف جاءهم الخلل (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) فالربانيون والأحبار جُعل حفظ التوراة عندهم ولم يحفظها الله لهم ولذلك دخلها التحريف. ثم قال الله عز وجلّ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴿٤٤﴾) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿٤٥﴾) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿٤٧﴾) هذا لبيان أن الحُكم بما أنزل الله عقد من أعظم العقود وأنه يترتب عليه الكفر والحكم الظلم وبالفسق بحسب الأحوال المذكورة عند أهل العلم.
ثم ما زالت السورة تتحدث عن هذه العقود والعهود والمواثيق ومواقف الأمم وخصوصًا أهل الكتاب فيها إلى أن قال جلّ وعلا مبينًا عقوبة بني إسرائيل (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿٧٨﴾). ثم عاد إلى القضية الأولى في أول السورة في تحريم ما أحلّ الله فقال الله جلّ وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿٨٧﴾ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿٨٨﴾). ثم ذكر عقدًا من العقود التي يعقدها الإنسان على نفسه (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) قال (عقدتم) ما قال كسبت لأن السورة سورة العقود (بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) أي بما حلفتم عليه مؤكدين إياه كأن تقول: والله لا آكل كذا، والله لا أذهب إلى كذا، والله لا أجلس عند فلان، هذا يسمى يمين معقودة أو مكسوبة أو يمين الحنث. ولما ذكرها الله عز وجلّ ذكر قبلها اليمين اللاغية وهي اليمين التي لم يعقد صاحبها عليها مثل قول الإنسان في الكلام: لا والله، بلى والله، هذه لا يريد صاحبها منها اليمين ولذلك عفا الله عنها ولم يؤاخذنا بلفظ القسم وذكر كفارتها وقال في آخرها (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) احفظوها لأنها عقد فأنت إذا قلت والله لا أفعل كذا أو لأفعلنّ كذا وجب عليك إما أن تفي وإما أن تكفّر عن اليمين لو حنثت فيها. ثم ذكر شيئا من أمر العقود في الطعام والشراب والأمور الأخرى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾)
ثم ذكر أيضًا قضية أخرى في ابتلاء الله لعباده وحفظهم لعقد عظيم من عقوده يقول الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) وكان هذا في صلح الحديبية عندما خرج الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ابتلاهم الله بأن جعل الصيد ينبث في الأرض حتى إن الرجل ليصيد بيده، يصيد الأرنب بيده من كثرة ما جاءت الأرانب والجرابيع والظباء وغيرها مما هو معروف في جزيرة العرب ونفوس العرب تتشوق للصيد ابتلاهم الله، لماذا؟ قال الله عز وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) وكم من الأمور يتيحها الله لك وييسرها لك ولا يكون بينك وبينها إلا أن تحرّك أحيانًا اصبعك (بالريموت مثلا وأنت جالس أمام الشاشة تشاهد) ما وضع هذا بين يديك وما يسره لك إلا ليعلم مقدار خوفك من ربك وهل ترقبه في الغيبة أو لا.
ثم ذكر الله عز وجلّ شيئًا هذه العقود إلى أن جاء لقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وهي الوصية في السفر إذا كان الإنسان مسافرا وأراد أن يوصي، هذه محل للعبث فالله عز وجلّ وضع لها ضوابط وجعلها عقدًا من لعقود الموثقة التي لا يحل لأحد أن يعبث بها (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) من المسلمين (أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من غير المسلمين (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا) تأكيدًا للعقد (مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ﴿١٠٦﴾ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) لو اكتشف أهل الميت أن هذين قد لعبا بالوصية فإن من حقكما أن يشهدا عليهما عند الحاكم فيبطلا ما نقلاه من وصية الميت لكن يأتون بالقرينة التي تدل على أنهما قد عبثا بهذه الوصية.
ثم ختمت السورة بذكر العقد العظيم وهو عقد التوحيد عبر قصة عيسى وعبر قصة المائدة (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴿١١٠﴾) إذن عيسى عبد لله عز وجلّ وقد حعل الله عز وجلّ له حواريين، هؤلاء الحواريون قال الله فيهم (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١١٢﴾) هذا السؤال لا يليق بكم، قال الله عز وجلّ عنهم (قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴿١١٣﴾) (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ﴿١١٤﴾ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿١١٥﴾) احذروا إن أنزلتها عليكم أن تكفروا فإني بعد ذلك أعذبكم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين لأن الله قد أخذ عليكم العهد والميثاق ولأنكم رأيتم آية الله التي طلبتموها منه. ثم قال الله مذكّرًا بالعقد الأعظم عقد التوحيد (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) يسأله أمام الملأ في موقف القيامة (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) فيقول عيسى بشدة وغيرة على التوحيد (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿١١٦﴾ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿١١٧﴾ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١١٨﴾) لا إله إلا الله! هذه من غيرة عيسى عليه السلام على التوحيد، والله ما سأله ليستبين منه وإنما ليقيم الحجة على من عبدوه من دون الله، ولذلك أطال عيسى في الجواب كان يمكنه أن يقول لا، ما قلت لهم يا ربي، ولكنه فصل في الجواب ووضح حتى يقطع شبهة كل من عنده شبهة لأن عيسى قد أعلن التوحيد ودعا إلى التوحيد وخلّفهم على التوحيد. قال الله عز وجلّ مبينا أن هذه العقود وأهمها عقد التوحيد لا ينفع معها إلا الصدق (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١١٩﴾). والملاحظ من سياق هذه السورة الكريمة أن فيها قربًا مع سورة النساء، تلك في الحقوق وهذه في العقود، كما أن سورة البقرة وآل عمران في تأسيس الدين الأولى في مناقشة اليهود والثانية في مناقشة النصارى وكما أن السورتين القادمتين متشابهان سورة الأنعام وسورة الأعراف كلاهما في حِجاج المشركين ومجادلتهم وقطع شبهاتهم وأيضًا والأنفال والتوبة متشابهتان.