قبسات من روائع البيان

سورة الأنعام 1

اسلاميات

وقوع النِعم ، فقد وقع قبل الحمد نعمة من نعم الله  تعالى ومن لوازم الحمد أن يكون على نعمة ولعلك تسأل أين هي النعمة؟ فكأنه قد قيل لك (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) وتلك نعمة من نعم الله تقتضي حمده أوليس هلاك الظلمة نعمة. فهلاكهم صلاح للناس ..والصلاح أعظم النعم وشكر النعمة واجب.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (49)) انظر إلى هذه الآية فقد ختمت بقوله (بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) لماذا استعمل الفعل (كان) والفعل (يفسقون) ولم يقل بما فسقوا بالماضي؟ لفتة لطيفة وهي أن العذاب نزل بهم لإصرارهم على الفسق فالفعل المضارع (يفسقون) يدل على التجدد والاستمرار.

(وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ (54)) السلام هو سنة للداخل على الآخرين يلقي عليهم تحية الإسلام فكيف طلب الله تعالى من النبي أن يحييهم تحية الإسلام مع أنهم هم الداخلون؟ هذه كرامة من الله تعالى للمؤمنين المستضعفين فقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأهم بالسلام حين دخولهم عليه إشارة لشأنهم ومكانتهم عند الله وقد نزل النبي r في هذه الآية منزلة القادم عليهم لأنه زفّ إليهم بشرى رضوان الله عنهم.

(قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ (56)) أمر النبي r بهجران المشركين وأعمالهم فلِمَ قال هنا (لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ) ولم يقل على الأصل لا أتبعكم؟ هذه نكتة لطيفة فالأهواء جمع هوى وهو المحبة المفرطة التي تعمي عن الحق ولذلك قال (لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ) للإشارة إلى أنهم في دينهم تابعون للهوى نابذون  وناكرون لدليل العقل وفي هذا تجهيل لهم في إقامة دينهم على أصل هش لا أساس له سوى التشهي والهوى.

(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ (59)) هذه الجملة من الآية فيها تقديم وتأخير وهو تقديم جائز أي لو كان السياق مفاتيح الغيب عنده لكان التركيب صحيحاً. فلِمَ قدّم الظرف (عنده)؟ هذا التقديم فيه إفادة التخصيص أي مفاتح الغيب عنده وحده لا عند غيره.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى (60)) انتقال بديع وحجج دامغة لكل إنسان في هذا الوجود فقد انتقل السياق القرآني من بيان سعة علمه تعالى إلى بيان عظمة قدرته. وقد جرت عادة القرآن بذكر دلائل الوحدانية في أنفس الناس كما في قوله (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) عقب ذكر دلائل الوحدانية في اآفاق وهو قوله (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (59)).

(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ (60)) لِمَ خص الله تعالى علمه بما يكسبه العبد في النهار دون الليل؟ وقع الإقتصار على الإخبار بعلمه تعالى بما يكسب الإنسان في النهار دون الليل مراعاة للغالب لأن النهار هو وقت أكثر الأعمال والاكتساب وفي الإخبار بأنه يعلم ما يقع فيه تحذير لنا من اكتساب ما لا يرضاه الله وفيه تهديد للكافرين.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ (66)) في الآية السابقة قال (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)) فكان السياق يؤذن أن يقول (كذبوا وهو الحق) فلم عدل عن المضمر (كذبوا) إلى إظهار كلمة (قومك)؟ إن التعبير عن المكذبين بقوله (قومك) تسجيل عليهم بسوء معاملتهم لمن هو من أنفسهم ومن بين ظهرانيهم. ألا ترى أن ظلم ذوي القربى أشد إيلاماً ولذلك قال طرفة بن العبد:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة        على المرء من وقع الحسام المهند