(قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (70)) لعل سائلاً يسأل ألا يصح أن يكتفي بقوله “ونذر ما يعبد آباؤنا” دون (كان)؟ وكيف يمكن الجمع بين الماضي والحاضر في الآية؟ لتدل على أن عبادتهم أمر قديم مضت عليه العصور. والتعبير بالفعل كونه مضارعاً في قوله (نعْبُدُ) ليدل على أن ذلك متكرر من آبائهم ومتجدد منهم.
(قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ (71)) تأمل التقديم والتأخير في الآية، فكلاهما يدل على بلاغة كلام الله تعالى. فقدّم (عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب إيقاظاً لبصائرهم لعلهم يبادرون بالتوبة. وأخر الغضب عن الرجس لأن الرجس هو خبث نفوسهم قد دلّ على أن الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضلال أمراً جلياً. فدل ذلك على أن الله غضب عليهم لما وقع منهم من فسق ورجس. وقبل ذلك كله تجيء كلمة (قد) لتؤذن بتقريب زمن الماضي من الحال مثل قولك (قد قامت الصلاة).
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)) حقيقة الأخذ تناول الشيء باليد. والرجفة اضطراب الأرض وارتجاجها. إذن هذه الآية تطرق سمعك وتُعمل خيالك بصورة حية مستعادة شاخصة تزخر بالحياة والحركة. يتحول الزلزال أو الصاعقة فيها إلى رجل يتلقف بيديه جميع المشركين من قوم صالح لتعبر في منتهاها عن شدة إلإهلاك الله لهم والإحاطة بهم إذ لا يفلت من قبضة عذابه أحد.
(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)) تدبر قوله تعالى (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) وهو حكاية لكلام المشركين في لوط. فحقيقة التطهر تكلّف الطهارة فلِمَ جاء الفعل على هذه الصيغة دون أن يقولوا إنهم أناس طاهرون؟ إعلم أن القوم لما تمردوا على الفسوق كانوا يعدون الكمال منافراً لطباعهم فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال ويذمون ما لهم من الكمالات فيسمونها ثِقلاً. ولذلك جاؤوا بهذا الفعل على صيغة التهكم والتصنع والتأمل وهو مع ذلك كله تهكم بلوط ومن معه من المؤمنين.
(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا (84)) لقد ضمن الله سبحانه وتعالى هذه الآية ما من شأنه أن يلقي في نفس السامع العظمة والرهبة لذات الله. فانظر إلى الفعل أمطرنا أسنده إلى ضمير الجمع جرياً على التعظيم والدلال لذاته جل جلاله. ثم نكّر (مطراً) للتعظيم والتعجب أي مطراً عجيباً من شأنه أن يكون مهلكاً للقرى. وجاء بالظرف (عليهم) للإستعلاء المفضي إلى التمكن والأخذ فالحرف (على) يفيد التمكن من الشيء خلافاً لـ (في) التي تفيد الظرفية. فلو قال وأمطرنا فيهم مطراً لما أفاد إهلاكهم إهلاك تمكّن. والآية في مجملها محمولة على الاستعارة التخيلية إذا علمت أن ما أصاب القوم هو الجمر والكبريت وليس ماء نازلاً من السحاب وقرينة ذلك كلمة (وَأَمْطَرْنَا) التي تؤذن بنزول شيء من السماء يشبه المطر وليس بمطر وإنما للعذاب.
(قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا (88)) لقد آثر البيان القرآني أن يصف الملأ بالاستكبار دون الكفر مع أنه لم يحكِ هنا عن خطاب المستصعفين فهل لذلك الإيثار من عِلّة تدرج في بلاغة هذا البيان؟ نعم حتى يكون ذكر الاستكبار إشارة إلى أنهم استضعفوا المؤمنين كما اقتضت قصة ثمود. واختير وصف الاستكبار هنا لمناسبة مخاطبتهم شعيباً بالإخرج أو الإكراه على اتباع دينهم. وذلك من فعل الجبارين أصحاب القوة فاختيار القرآن لألفاظه يجري على نظم يجعل الآية في وحدة معنوية لا تتعارض معانيها.
(لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا (88)) لاحظ قوله تعالى على لسان قوم شعيب كيف جعلوا عودة شعيب إلى ملة القوم بأسلوب القسم فقالوا (لَتَعُودُنَّ) ولم يقولوا لنخرجنك من قريتنا أو تعودن في ملتنا وقد زاد هذا القسم الآية قوة لا تتأتى بدونه فتأمل كيف أرادوا ترديد الأمر بين الإخراج والعود في حيّز القسم لأنهم فاعلون أحد الأكريم لا محالة. وأنهم مصرون على إعادتهم إلى ملّتهم بتوكيد مؤذن بأنهم إن أبوا الخروج فإنهم سيُكرهون على العودة إلى ملة قومهم.
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ (96)) إنها صورة حسية متخيلة. وهذه الصورة تعمل عملها في الخيال لتترك في نفس السامع أو القارئ تذوقاً تاماً لمعناها فاستطاع البيان أن يستخدم سحر الإستعارة ليعبر عن إعطاء الخيرات لأهل الإيمان والتقوى فيشبه البركات بالبيوت التي تفتح أبوابها وقرينة ذلك قوله (لَفَتَحْنَا) فتعدية فعل (فتح) إلى البركات هنا إستعارة مكنية للانتفاع من بيوت البركة المحتجزة في السماء والأرض.
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)) الكلام في الآيات مسوق للتعجب من حال أهل الكفر في أمنهم لمجيء البأس. ولكنه يطالعك تقييد هذا التعجب بوقتي البيات والضحى وبحالي النوم والتعب هل يعني ذلك أن عذاب الله وبأسه لا يجيء في غيرهما من الأوقات؟ في الواقع أن الوقتين أجدر بأن يحذر حلول العذاب فيهما لأنهما وقتان للدعة والراحة. فالانسان يكره أن ينغِّص عليه وقت راحته فكيف إذا علم مسبقاً أن هذا الوقت هو مدعاة للعذاب والغضب؟ لا شك أنه سيجعله وقت راحة ولكنه خالٍ من المعصية.
(وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100)) ألا تجد أن الأولى ظاهراً أن يكون الزمن بصيغة الماضي فيكون وطبعنا على قلوبهم بدل (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)؟ بَيْد أن البيان الإلهي جاء بالفعل المضارع وما ذاك إلا ليدل على استمرار هذا الطبع وازدياده آناً فآناً. ثم داء بالفعل (لاَ يَسْمَعُونَ) وكان السامع ينتظر أن يقال لا يعقلون فعدل القرآن عن المنتظَر وعبّر عن عدم تعقل الآيات وتدبرها بعدم السمع وهو أول درجات تلقي الآيات. فشبّه حال إعراضهم عن تدبر ما ينزل من الآيات بحال من لا يسمع فالآيات لا تصل إلى أسماعهم وبالتالي فلن تصل إلى قلوبهم من باب أولى.
(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)) إنه من المحال في ذلك الوقت أن يجتمع كل السحرة لدى فرعون فعلام دلت كلمة (كل) الغارقة في الاستغراق والشمول؟ ولِمَ كان الطلب بجمع السحرة كلهم لا بعضهم؟ ما هذا الإستعمال إلا من باب البلاغة فكلمة (كل) مستعملة في معنى الكثرة فيصير المعنى بها أي بجمعٍ عظيم من السحرة يشبه أن يكون جميع ذلك النوع واستعمالها هنا يؤذن بشدة ما جاء به موسى على فرعون وملئه فطلبوا أن يجابه بأعظم مما جاء باجتماع كل السحرة لديهم.
(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)) تلقي الآية ظلالاً لا يمكن للسامع أن يتحصل عليها لو أنه قال “فسجدوا لرب العالمين” وإنما قال (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) فحقيقة الإلقاء تستعمل في سرعة الهوي إلى الأرض فيكون المعنى أنهم لم يتمالكوا أنفسهم فسجدوا دون تريث ولا تردد. وساعد على ذلك بناء الفعل للمجهول لظهور الفاعل وهو “أنفسهم” فيصير المعنى “وألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين” وخص السجود هنا لما فيه من هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض وذلك بقصد الإفراط في التعظيم.
(إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)) جاءت هذه الآية حكاية على كلام فرعون للسحرة المؤمنين وكلامه مسوق هنا للتوبيخ والإنكار والوعيد. وختم البيان الإلهي الآية بجملة حُذف مفعولها وهي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وما ذلك إلا لقصد الإجمال وإدخال الرعب في قلوبهم وكلام فرعون هذا مؤذن بعجزه فإنه لما أعجزته الحجة صار إلى الجبروت والظلم.
(وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)) للسائل أن يسأل لِمَ لم يعبِّر الله في هذه الآية إلا بقوله (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) ولم يقل وإنا لهم لقاهرون؟ إن الظرف (فوقهم) في الآية مستعمل مجازاً في التمكن من الشيء وكلمة (فوقهم) مستعارة لاستطاعة قهرهم لأن الإعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره فهي إذن صورة تمثيلية.
(فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ (131)) تمعن في روعة النظم الإلهي فلو تدبرت التقابل البديع الحاصل في الآية لوقفت خاشعاً في تحراب الله تعالى. فانظر كيف عبّر في جانب الحسنة بالمجيء في حين عبّر في جانب السيئة بالإصابة لأنها تحصل فجأة من غير رغبة ولا ترقب. وفي التعبير عن السيئة بـ (تُصِبْهُمْ) دقة لا متناهية فالإصابة وحدها توحي بالسوء فكيف إذا عدّ الإصابة بالسيئة فهو ألم فوق ألم.
(فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)) لو قال آل فرعون صيغة غير التي حكيت عنهم لتأملنا منهم خيراً لكنهم صاغوا كلامهم على أعلى درجالت المبالغة في الكفر بموسى وآياته. فاسمع لقولهم (فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) وتأمل هذه الأمور: أولاً الجملة الإسمية وما تحتوي من الدلالة على ثبوت الإنتفاء ودوامه. ثانياً بما تفيده الباء الزائدة من توكيد هذا النفي (بمؤمنين) ألا ترى أن الباء يمكن أن تُحذف فذكرها فيه توكيد. ثالثاً قدّموا (لك) على متعلقه (بمؤمنين) ليؤكدوا رفضهم للإيمان بما جاء به موسى عليه السلام فهل ثمة تعنُّتٌ أشدُّ من هذا؟!
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ (134)) تُرى ما هو المراد بالرجز في الاية الثانية؟ إنه مرض الطاعون لكن لسائلٍ أن يسأل لم لم يذكر في عداد الآيات المفصلات في الآية السابقة حين قال (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ)؟ كانت بلاغة القرآن تقتضي أن يستقل الرجز بالذكر تخصيصاً له فالآفات السابقة حلّت على بيئتهم ويمكن الإحتراز منها أما مرض الطاعون فقد كان شديداً لا مفر منه ولذلك عدّى وقوعه بـ (عليهم) دون (فيهم) لما تدل كلمة (عليهم) من تمكُّن ذلك المرض منهم. ولا أدلّ على شدته وعِظَمه من أنه ألجأهم إلى الاعتراف بآيات موسى والإقرار بربّه.
(فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ (138)) انظر إلى قوله تعالى (أَصْنَامٍ لَّهُمْ) فلِمَ اختار طريق التكير في (أصنام) ثم وصفها بأنها (لهم) ولم يقل أصنامهم؟ ما ذاك إلا للحط من شأن هذه الأصنام ولذلك نكّر (أصنام) للدلالة على أنها مجهولة. فالتنكير يستلزم خفاء المعرفة وقال (لهم) دون أصنامهم ليبين صغر عقولهم فهم يعبدون ما هو ملك لهم ويجعلون مملوكهم إلههم.