(وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (142)) إن المراد بالليالي في هذه الآية هي الليالي وأيامها فما السر في الاقتصار على ذكر الليلة دون اليوم؟ إنه مما لا شك فيه أن المواعدة كانت لأجل الانقطاع للعبادة والنفس في الليل أكثر تجرّداً للكمالات النفسية منها في النهار. إذ اعتادت النفوس الاستئناس بنور الشمس للاشتغال بالدنيا وينحطّ ذلك في الليل. فجلّ جلال الله في دقة نظمه وحسن اختياره.
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ (148)) انظر إلى هذه الفائدة اللطيفة في دقة اللفظ القرآني فانظر إلى قوله (عِجْلاً جَسَدًا) إذ لم يقل عجلاً جسماً وذلك لأن الجسد هو الجسم الذي لا روح فيه وهو خاص بجسم الحيوان إذا كان بلا روح. وبهذه الصفة (جسداً) إستطاع القرآن أن يسلب من السامع الدهشة التي تصورها من تحويل قوم موسى الحُليَّ عجلاً فهم صنعوا هذا العجل لكن لا روح فيه.
(وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ (149)) هذه كلمة أجراها القرآن مجرى المثل إذ نظمت على إيجاز بديع وكناية بارعة. فإنك تعلم أن اليد تستعمل للقوة والنصرة فبها يضرب بالسيف وبها تحرك الأشياء وهي آية القدرة. وقد استعملت في الآية بمعنى الندم وتبين الخطأ. ففي الآية تمثيل بحال من سُقط في يده حين العمل أي تعطلت حركة يده بسبب غير معلوم دخل بها فصيرها عاجزة وهذا كناية عن الفجأة والدهشة.
(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ (150)) انظر إلى هذه الزيادة في قوله تعالى (مِن بَعْدِيَ) فالخلافة أصلاً تفيد البعدية فلماذا آثر البيان ذكر (مِن بَعْدِيَ) عقب (خَلَفْتُمُونِي)؟ ما ذلك إلا للتذكير بالبون الشاسع بين حال الخلف وحال المخلوف عنه. وتصوير فظاعة ما خلفوه به أي بعدما سمعتم مني التحذيرمن الإشراك والتحذير من تقليد المشركين وقع منكم ذلك الضلال؟!
(وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ (154)) في هذه الجملة القرآنية صورة بلاغية تشهد للنظم القرآني تفننه في ألوان البلاغة فقد شبه القرآن الغضب وفورانه في نفس موسى بشخص مرتفع يغريه بالانفعال ويدفعه إلى أفعال تطفئ ثورة هذا الغضب.
(قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ (157)) انظر إلى رحمة الله تعالى المنزلة على عباده. فقد عبّر عنها بالكتابة وأعرض عن لفظ العطاء فقال (فَسَأَكْتُبُهَا) ولم يقل فسأعطيها، أتعلم لم قال ذلك؟ لأن الكتابة قيدٌ للعطاء المحقق حصوله المتجدد مرة بعد مرة. فالذي يريد تحقيق عطاء يتجدد في المستقبل يكتب به في صحيفة ليصونه عن النكران ويصونه من النقصان والرجوع. وتسمى الكتابة عهداً والله لا يخلف عهده سبحانه وتعالى. ولو كان العطاء لمرة واحدة لم يحتج للكتابة كقوله (إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا (282) البقرة).
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ (157)) لو وصفت رجلاً بأنه أمي لكان ذلك نقصاً فيه لكن الله في نظمه البليغ وقرآنه البديع جعل من هذه الصفة كمالاً وزيادة تشريف لشخص نبيّه الكريم عليه الصلاة والسلام. فأين وجه الكمال والتشريف في صفة الأميّة؟ إعلم أن الله أراد بذلك إتمام الإعجاز العلمي والعقلي الذي أيّد به نبيه فجعل الأمية وصفاً ذاتياً له لتكون بذلك آية على أن ما حصل له إنما هو من فيوضات إلهية. وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه مع أنها في غيره وصف نقصان.
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ (158)) لعلك تسأل نفسك طالما أن المخاطبين هم بنو إسرائيل وهم أهل توحيد فلم يورد القرآن هذه الصفات الثلاث لله عز وجل وهم يقرون بها؟ إنما جيء بهذه الصفات لتذكير اليهود ووعظهم حيث جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أن لا رسول بعد موسى واستعظموا دعوة محمد وكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول فذكرهم الله بأنه هو وحده مالك السموات والأرض وهو واهب الفضائل فلا يستعظم أن يرسل رسولاً ثم يرسل آخر فالمُلك بيده. وفي ذكر الإحياء والإماتة تذكير لهم بأن الله يحيي شريعة ويحيي أخرى فلا تعجب إذن من ذكر هذه الصفات في هذا الموضع لأن القصة أعظم.
(وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ (161)) لا بد وأنك قرأت نظير هذه الآية في سورة البقرة لكنك مع التطابق الكبير ترى هذا الاختلاف البسيط في الضمائر فهنا استعمل ضميري الغيبة (وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ) (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وفي آية البقرة استعمل ضميري الخطاب (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ (57)) وما ذاك إلا بقصد التوبيخ في الخطاب وبقصد عرض المِنّة وعرض العبرة في قصة بني إسرائيل في الغيبة وزاد على ذلك أنها عادة القرآن في تغيير أسلوب القصص استجداداً لنشاط السامع وذهنه.
(واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ (163)) سوف تجد إذا ما استعرضت القصة أن أسلوب الخبر قد تغير من الطلب إلى الإخبار فابتدأ هنا بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل لحاضرين عنها فقال (واَسْأَلْهُمْ) فهل لهذه القصة شأن غير شأن القصص الماضية؟ نعم، ففي هذا التعبير إيماء إلى أن هذه القصة ليست كما كتبت في توراة اليهود لأن كتب أنبيائهم حرّفت وغُيّرت ولكن أحبارهم يعلمون حقيقة ما جرى مع أسلافهم ولذلك افتتحت بسؤالهم بصيغة الأمر (واَسْأَلْهُمْ) لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم وهم كانوا يكتمونها فعلمه الله من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم.
(إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً (163)) تأمل هذا التمثيل الرائع في تصوير إتيان الحيتان شُرّعاً. فحقيقة الشروع إنما تطلق لإتيان الإبل والنعم نحو الماء لتشرب وفي هذه الكلمة إضافة لمسة فنية على البيان القرآني لتمثيل حالة الحيتان في كثرتها واصطفائها بحال الإبل إذا شرعها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكضت وهذا شأن الحيتان هنا فهي لا تأتي إلى الشط وحسب بل وتتسابق في الإجتماع حتى تملأ المكان وتغري الصُياد بأخذها.
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ (167)) تأمل دقة اللفظ القرآني الذي ينقلك إلى جو الحدث والقصة ويضعك أمام أحداثها فالله جل جلاله قال (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) ولم يقل ليرسلن إليهم ليدل على تمكن من يسومهم سوء العذاب من رقابهم فحرف الجر (عليهم) يدل على التمكن والفوقية وزاد الفعل (لَيَبْعَثَنَّ) الأمر وضوحاً فهو فعل مضارع يدل على التجدد في أوقات مختلفة ولكنه لا يقتضي الإستمرار يوماً فيوم فهم قد ذاقوا ألوان العذاب حيناً بعد حين وإن لم يستمر فيهم.
(وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا (169)) قال بنو إسرائيل سيغفر لنا ولم يقولوا سيغفر الله لنا مع أنهم يعلمون أن المراد هو الله فلِمَ بنوا الفعل للمجهول وقالوا (سَيُغْفَرُ)؟ أرادوا بهذا البناء العموم في المغفرة لا في خصوص الذنب الذي أنكر عليهم ولذلك حذفوا نائب الفاعل أيضاً فلم يقولوا سيغُفر لنا ذنبنا وما الباعث على ذلك إلا اعتقادهم الخاطئ بأن ذنوبهم كلها مغفورة دون سبب المغفرة من توبة وإنابة واستغفار.
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا (172)) قد يظن الظانّ أن حرف الجر (بلى) مساوٍ لـ (نعم) وهذا خطأ شائع. فلو أجابت الأنفس بـ (نعم) لكان ذلك كفراً، فكيف ذلك؟ إن الحرف (بلى) هو حرف جواب لكلام فيه معنى النفي فيقتضي إبطال النفي وتقرير المنفي. أما الحرف (نعم) فهم يحتمل تقرير النفي وتقرير المنفي. فلو قال المرء لصديقه (ألست صديقك؟) فأجابه بـ (نعم) لكان المعنى لا لست صديقي وأما (بلى) فيعني بل أنت صديقي.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)) تأمل هذا اللفظ الذي يرسم لك صورة متكاملة. فكلمة (فَانسَلَخَ) ترسم صورة عنيفة قاسية للتخلص من آيات الله بظلِّها الذي تلقيه في خيال القارئ لأن الإنسلاخ حركة حسّية قوية. ونحن نرى هذا الكافر ينسلخ من آيات الله انسلاخاً، ينسلخ كأنما الايات أديم له متلبس بلحمه فهو ينسلخ منه بعنف وجهد ومشقة انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه.
(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ (175)) هذه صورة أخرى تلتصق بأختها لتكمل سلسلة الخيال في الآية. فهي حركة إنسان ضالٍ انسلخ عن آيات الله وسار في طريق الضلال فتبعه الشيطان بهدف غوايته حتى لا يفكر في العودة إلى الآيات التي انسلخ عنها وخلّفها وراءه.
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)) انظر إلى قوله (أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ) جعلها الله كلمة مستأنفة وابتدأ بها الكلام لتصوير فظاعة حالهم ولتكون أدعى للسامعين. ثم جيء باسم الإشارة (أُوْلَـئِكَ) لزيادة تمييزهم بتلك الصفات وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر من تسويتهم بالأنعام أو جعلهم أضل من الأنعام. ثم أتبع ذلك بـ (بل) فقال (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) للانتقال والترقي في التشبيه بالضلال ووجه كونهم أضل من الأنعام أنها لا يبلغ بها الضلال إلى إيقاعها في مهاوي الشقاء الأبدي.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (187)) صيغ الكلام في الآية على الاستعارة فما من شك أننا نعلم أن الإرساء إنما يطلق للسفينة إذا استقرت في الشط. وأطلق هنا على الساعة تشبيهاً لوقوع الأمر الذي كان مرتقباً أو متردداً فيه بوصول السائر في البحر إلى المكان الذي يريده. فالساعة تقترب كلما مضى يوم حتى تبلغ النهاية كما أن السفينة تقترب كلما مر يوم وهي تسير حتى تبلغ منتهاها ومرساها في الشط.
(قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ (188)) لو عدت إلى الآية القائلة (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا (76)) في سورة المائدة لوجدت تقديم النفع في هذه الآية وتأخيره هناك فهل لذاك عِلّة توخاها بيان الله؟ الحقيقة نعم فإن الله قدم النفع على الضر هنا لأن النفع أحب إلى الإنسان وعكسه في سورة المائدة لأن المقصود هناك تهوين أمر معبوداتهم وأنها لا يُخشى غضبها فلئن كانت على جلب الضر عاجزة فهي لتقديم النفع أعجز. أما هنا فقدّم النفع على الضر لأنه يريد أن يبين لهم أنه لا يملك النفع لنفسه مع أن الإنسان يسعى أبد الدهر لينفع نفسه فكيف يملك ضُرّ ذاته؟!
(وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)) لنحاول أن نتبين سبب تقديم (النذير) في الآية مع كثرة الآيات التي جاءت على تقديم البشير فلا بد لها من غاية ترتجى. إعلم أن المقام هنا خطاب المكذبين المشركين لذلك قدمت النذارة على البشارة لأنها أعلق بهم.
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا (195)) لسائل أن يقول طالما أن الرجل وسيلة المشي واليد وسيلة البطش والعين للبصر والأذن للسمع فلِمَ جيء بهذه الأوصاف بعد هذه الآلآت؟ أتى بيان الله بهذه الأوصاف لسببين: الأول لزيادة تسجيل العجز على الأصنام والثاني لأن بعض الأصنام كانت محمولة على صدر الآدميين كهُبل وسواع ولئن كان لها صور الأرجل والأعين ولكنها عديمة العمل والفائدة.
(إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)) لقد أعرض البيان الإلهي عن كل صفات الله وأجرى الصفة بالموصولية في إنزال الكتاب فقال (إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) وفي ذلك تلميح بأن إنزال الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الأميّ لأعظم دليل على توليه واصطفائه.
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)) إنك تعلم أن حقيقة الأخذ هي تناول الشيء للانتفاع به فكيف جعل القرآن العفو شيئاً يؤخذ وأنت تعرف أن الإنسان إذا أخذ شيئاً أمسك به كاملاً دون إفلات شيء منه. ذلك لأن الله يريد أن يكون العفو مملوكاً لك دون تفريط بأي جزء منه.
(وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ (200)) بُني الكلام في الآية على التخيل لصورة وسوسة الشيطان في نفس المؤمن. فإطلاق النزغ هنا إستعارة إذ أن حقيقة النزغ هي النخر والغرز بالإبرة وعلى هذا يُشبِّه بيان الله حدوث الوسوسة الشيطانية في النفس بنزغ الإبرة ونحوها في الجسم فكلاهما له تأثير خفي وإيلام بسيط يتدرج حتى تفقد النفس الشعور بها.