قبسات من روائع البيان

سورة البقرة 4

اسلاميات

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ (212) البقرة) لِمَ اختار الله تعالى صيغة الماضي للتزيين (زُيّن) وصيغة المضارع للسخرية (ويسخرون)؟ أتى فعل التزيين ماضياً ليدلنا على أن التزيين أمر مستقر في الكافرين فهم أبد الدهر يعشقون الدنيا ويكرهون الموت. وأتى بفعل السخرية مضارعاً (يسخرون) ليبيّن لنا ربنا سبحانه وتعالى أن الكافرين يسخرون من الإيمان وأهله بشكل متجدد متكرر. وفي ترتيب الفعلين دلالة منطقية لأن السخرية مبعثها حب الدنيا والشهوات والتزيين سابق للسخرية فعبّر عنه بالماضي والسخرية ناشئة من تعلق القلب بالدنيا فعبّر عنها بالمضارع. 

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ (213) البقرة) بعث الله تعالى الأنبياء فعبّر عنهم بصيغة الجمع (النبيين) ولكنه قال (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) ولم يقل الكتب مع أنهم جمع متتابع ولم يكن للكل كتاب واحد فلِمَ أفرده تعالى؟ أفرده ليعلّمنا أن الحق الذي نزل به الأنبياء واحد ولكنه نزل على فترات وكل واحد منهم متمم لما قبله. 

 (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ (214) البقرة) انظر أخي المؤمن كيف عبّر الله عن شدة المصاب بقوله (وزلزلوا) وهذا الفعل يدلك على شدة اضطراب نظام معيشتهم لأن الزلزلة تدل على تحرك الجسم في مكانه بشدة والتضعيف في الفعل زلزلوا يدل على تكرر هذا الحدث. 

(وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ (217) البقرة) أثير انتباهك أخي المؤمن إلى هذه اللفتة الإلهية فالله تعالى أخبرنا بأن الكافرين مستمرون على زعزعة إيماننا وإخراجنا من دوحة الإسلام ما قُدِّر لهم ذلك. لاحظ قوله تعالى (إن استطاعوا) فقد قيّد قدرتهم على إخراجك من الدين بقوله (إن استطاعوا) وهذا إحتراس لئلا يظن السامع أن المؤمن سهلٌ إخراجه عن إيمانه فاستعمل تعالى حرف الشرط (إن) وهو يدل على الشك لا اليقين ليطمئن أن استطاعتهم في ذلك ولو على آحاد المسلمين أمر بعيد المنال لهم لقوة الإيمان التي تتغلغل في القلب فلا يفارقه. 

(وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ (217) البقرة) لِمَ استعمل حرف العطف الفاء في قوله (فيمت) وهو حرف يفيد الترتيب والتعقيب ولم يستعمل (ثم) التي تفيد التراخي والمهلة في الزمن؟ أي قال (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) ولم يقل ثم يمت وهو كافر؟ لِمَ استعمل الفاء بدل (ثم)؟ نحن نعلم أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الإرتداد بل قد يعمّر المرتد طويلاً والفاء تفيد الترتيب والتعقيب أن يقع الأمران متعاقبين متتاليين فما وجه إستعمال الفاء إذن؟ في هذا ارتباط بديع في أن المرتد يُعاقب بالموت عقوبة شرعية فإن ارتدّ فيُقتل حدّاً.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218) البقرة) قال عن المهاجرين هاجروا ولم يقل هجروا مثلاً فهل من فرق بين اللفظين؟ استعمل القرآن كلمة هاجروا دون هجروا لأن هاجر نشأ عن عداوة بين الجانبين فكلٌ من المنتقِل وهم أصحاب النبي r والمنتقَل عنهم وهم المشركون في مكة، كلٌ قد هجر الآخر وقلاه وطلب بُعده. 

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (219) البقرة) الخمر فعله خَمَر. نقول: خمره الشيء أي ستره ولذلك سمي الخمر خمراً لأنه يستر العقل ويحجبه عن التصرف ويحجبه عن عمله. 

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ (220) البقرة) انظر إلى عظيم عناية الله تعالى ولطفه بعباده الضعفاء. يتجلّى هذا اللطف في قوله تعالى (إصلاح لهم) حيث قال (لهم) ولم يقل إضلاحهم لئلا يظن الإنسان أه ملزم بإصلاح جسده ورعاية جسمه والعناية به وحسب ثم يهمل ما عداه، لا. فأنت أيها الكافل اليتيم مأمور بإصلاح ذاته وروحه وعقيدته وخلقه وكل ما يتعلق به. 

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى (222) البقرة) انظر إلأى هذه الدقة والاعجاز العلمي فقد أطلق الله سبحانه وتعالى الأذى ولم يقيّده فقال هو أذى ولم يقل هو أذى لكم أو لهنّ فهل لهذا التعبير من سبب؟ نعم لأن جماع المرأة أثناء حيضها أذى للرجل يسببه الدم الفاسد وفيه أذى للمرأة ومرض وفيه أذى للطفل فالأطباء يقولون أن الجنين إذا تموّن بجماع خلال الحيض يصاب بمرض الجذام. 

(نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (223) البقرة) أدب رفيع وبلاغة عالية كيف لا وهو كلام الله سبحانه وتعالى؟ انظر إلى كلمة حرث ماذا توحي لك هذه الكلمة؟ وما صلة الحرث بالنساء؟ هذا تعليم لنا حسن الكلام والأدب فقد عبّر ربنا سبحانه وتعالى عن موضع النكاح بقوله حرث فالفلاّح يلقي بذاره في أرض خصبة ليجني الثمار والمؤمن يأتي زوجه في موضع إنجاب الطفل فهذا مثل ذاك. 

(لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ (226) البقرة) الإيلاء أريد به الحلف فلِمَ قال تعالى (يؤلون) ولم يقل يحلفون أو يقسمون؟ لأن الإيلاء هو حلف ويمين ولكنه يقتضي التقصير في حق المخلوف عليه وهو مشتق من الألو وهو التقصير. والإيلاء فيه إجحاف وتقصير في حق المرأة التي حلف زوجها أن لا يقربها.

(لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ (226) البقرة) لِمَ عدّى الفعل (يؤلون) بـ (من) فقال (من نسائهم) مع أنه حقه أن يعدّى بـ (على) لم يقل يؤلون على نسائهم؟ لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يضعك في صورة مشهد هذا اليمين فالرجل حلف أن يبتعد عن زوجه ولذلك عدّى الفعل يؤلون بحرف جرٍّ يناسب البُعد وهو (من) وتفهم معنى الابتعاد فكأنه قال للذين يؤلون متباعدين عن نسائهم.

(وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا (229) البقرة) لم قال آتيتموهن شيئاً ولم يقل مالاً؟ وردت كلمة شيء نكرة وهو لفظ عميق دلالة على النكرة فدلّ استعمال كلمة (شيئاً) على تحذير الأزواج من أخذ أقل القليل بخلاف لفظ المال فإنه يحذره من أخذ المال ويسمح له بأخذ ما سواه. 

(تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا (229) البقرة) انظر كيف شبه الله سبحانه وتعالى أوامره بالحدود لأن الحد هو الفاصل بين أملاك الناس وكذلك أحكام الله تعالى هي الفاصلة بين الحلال والحرام والحق والباطل. 

(وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ (231) البقرة) إن إمساك النساء ضرر لهن فكيف قال تعالى (فقد ظلم نفسه) ولم يقل فقد ظلم زوجه؟ انظر إلى رحمة الله تعالى بعباده فجعل ظلم النساء إساءة لنفس الظالم لأن هذا الظلم يؤدي إلى المشاحنة واضطراب حال البيت واحتقان النفوس وهذا ظلم للمرء قبل زوجه. 

(فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ (232) البقرة) استعمل العضل بمعنى المنع والحبس وهو لفظ أغرب بالدلالة من المنع فما سبب اختيار هذه الكلمة؟ إن المنع قد يحتمل أمرين: منعٌ بحق ومنعٌ بغير حق أما العضل فهو منع ولكنه دون حق أو إصلاح فنهى الوليّ عن منع المرأة في العودة إلى زوجها دون وجه إصلاح لذا كان اختيار كلمة تعضلوهن دون تمنعوهن. 

(وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (233) البقرة)  لِمَ لم يقل على الوالد رزقهنّ؟ في هذا إيحاء للأب وتذكير له بأن هذا الولد لك وهذه المنافع التي تقدمها لزوجك المطلقة منجرّة إليه وهذا الطفل مآله إليك فأنت الأجدر لإعاشته ولتهيء أسباب الحياة الكريمة له ولأمه. 

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (234) البقرة) انظر أخي المؤمن كيف أضاف ربنا تعالى (الأجل) إلى النساء المعتدّات فقال (فإذا بلغن أجلهن) ولم يقل إذا بلغن الأجل إيحاء إلى أن مشقة هذا الأجل واقعة على المعتدّات فهن الصابرات والمتعبدات بترك الزينة والتزام بيت الزوجية وفي هذا مشقة ولذلك أضاف الأجل إليهن لإزالة ما عسى أن يكون قج بقي في نفوس الناس من إستفظاع تسرّع النساء إلى التزوج بعد عدّة الوفاة لأن أهل الزوج المتوفى قد يتحرجون من ذاك فنفى الله تعالى هذا الحرج. 

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ (234) البقرة) إن الفعل يتوفون من الأفعال التي التزمت العرب فيها البناء للمجهول فنقول تُوفيّ فلان ولا نقول توفّى فلان. وقد حدث ذات يوم أن علياً رضي الله عنه كان يشيع جنازة فقال له قائل: من المتوفّي؟ بلفظ إسم الفاعل سائلاً عن المتوفى فأجاب عليٌّ بقوله (الله) ولم يجبه كما يقصد بأنه مات فلان لينبهه على خطئه. 

(وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ (235) البقرة) في هذه الآية نهي عن عقد النكاح فلم قال ربنا سبحانه وتعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح) ولم يقل ولا تعقدوا النكاح حتى يكون اللفظ صريحاً في النهي عن العقد؟ آثر ربنا سبحانه وتعالى أن يبين حرمة نكاح المعتدة أثناء عدتها بقوله (ولا تعزموا) دون و لا تعقدوا لأن العزم يدل على التصميم وإذا ما نُهي المؤمن عن التصميم والإرادة كان هذا النهي أبلغ من نهي العمل وهو (ولا تعقدوا) والمرء إذا صمم على أمر ما نفّذه ولذلك كان النهي عن العزم أبلغ في النهي عن المعزوم عليه. ومن هذا الباب قوله تعالى (تلك حدود الله فلا تقربوها) فقد نُهي عن القرب لأنه أبلغ من النهي في الوقوع في المحظور. 

(حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) البقرة) ألم يسترع انتباهك موقع هذه الآية؟ فقد اعترضت آيات أحكام الطلاق فما غاية هذا الاعتراض؟ لو نظرت إلى الآية قبلها لرأيت أنها ختمت بقوله تعالى (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ (237)) وهذه دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى خُلُق حميد وهو العفو عن الحقوق وبما أن النفس جُبِلت على ضرائب اللؤم وجُبِلت على طبع الشُحّ دلّنا الله تعالى على خُلُق ناجع ووصف لنا دوائين: الأول دنيوي فقال (ولا تنسوا الفضل بينكم) فأرشدنا إلى أن العفو يقرّب منك البعيد ويصيّر عدوك صديقاً، والثاني دواء روحاني وهو الصلاة فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر. 

(فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) البقرة) تأمل هذا اللفظ الإلهي وانظر كيف يسوق لك الأمان والاطمئنان، ألم تر كيف جاء ربنا بالأمن بـ (إذا) فقال (فإذا أمنتم) وجاء بالخوف بـ (إن) (فإن خفتم)؟ فهذا بشارة لنا نحن المسلمين بأن النصر والأمن سيكون لنا مهما طال أمر الفزع والخوف ولكن من أين نفهم هذا المعنى؟ نفهمه من استعمال (إن) و(إذا) في الآية. فـ (إن) تستعمل في الشك والتقليل فأدخلها ربنا تعالى على الخوف وتستعمل (إذا) لليقين والقطع فاستعملها ربنا مع الأمن. 

(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (245) البقرة) انظر كيف وصف الله سبحانه وتعالى القرض بالحسن فقال (قرضاً حسناً) فهل هناك قرض سيئ؟ وصف القرض بالحسن لأن الله تعالى مطّلع على القلوب ولا يقبل الله تعالى إلا المال الحلال الصرف ولا يرضى بالمال إلا إذا كان نقياً خالصاً من شوائب الرياء والمنّ. 

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ (246) البقرة) لِمَ قال ربنا عن بني إسرائيل (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل) ولم يقل إلى قوم بني إسرائيل أو الجمع من بني إسرائيل؟ هذا من بديع القرآن واستعمالاته المعجزة ولو عدنا إلى معنى الملأ ومعنى القوم أو الجمع لعلمنا سبب اختيار هذا اللفظ دون غيره فنحن نعلم أن بني إسرائيل كانوا خارجين على حدود الله ولم يشذ أحد منهم فناسب هذا الإجتماع المطلق على الرأي استعمال كلمة الملأ التي تعني الجماعة الذين أمرهم واحد. ألسنا نقول تمالأ القوم عندما نقصد جماعة اتفقت على شيء؟ وهذا المعنى لا تفيده إلا كلمة الملأ. 

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (249) البقرة) إن الماء سائل يُشرب وليس طعاماً يؤكل فلِمَ قال ربنا تعالى عن الماء (لم يطعمه) ولم يقل لم يشربه؟ آثر ربنا تعالى أن يصف امتناع القوم عن شرب الماء بقوله (من لم يطعمه) جون لم يشربه لأن الطعم يُطلق على التذوق فتقول تذوقت العصير وتذوقت الطعام وفي هذا التعبير (لم يطعمه) فائدة جليلة عظيمة وهي أن المرء منهم لن يتناول الماء مهما بلغ منع العطش. ألا ترى أن الإنسان إذا بلغ منه العطش مبلغاً عظيماً ثم شرب وصف الماء كأنه عسل واصفاً إياه بالطعوم اللذيذة فكان قوله تعالى (لم يطعمه) معناه أن المرء منهم وإن بلغ منه العطش حداً لا طاقة على تحمله فإنه لن يُدخله إلى فمه فضلاً عن جوفه لأن الامتناع عن التذوق يقتضي عدم مسّه لسانه. أما إن قال لم يشربه فإنه يدل على أنه لم يُدخله في جوفه ولكنه قد يتمضمض به ولا شك أن منع التذوق أشد من منع الشُرب. 

(وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) البقرة) تقول أفرغت الماء في الإناء إذا صببته فلِمَ عبّر ربنا سبحانه وتعالى عن الصبر بالإفراغ فقال (أفرغ علينا صبراً) ولم يقل صبِّرنا أو اجعلنا صابرين؟ إن التعبير عن طلب الصبر بقوله (أفرغ علينا صبراً) فيه إبداع وجمال ساحر لأن إفراغ الصبر يدل على المبالغة في صبر الداعي لصفة الصبر وذلك أن الإفراغ معناه الصبّ وإذا صببت الشيء أو أفرغته فقد ملأت المفرَغ فيه وإذا أُفرِغ الصبر في قلوب المؤمنين الداعين فهذا يعني أن القلوب قد ملئت صبراً حتى غدت وعاءً له. 

(وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) البقرة) انظر إلى هذا الأسلوب القرآني فقد قصر ربنا تعالى صفة الظلم على الكافر فالكفر والظلم متلازمان. ألم تر كيف فصل بين المبتدأ والخبر بالضمير (هم) مع أن حذف هذا الضمير لا يخل بالمعنى فلو قال والكافرون ظالمون لكان المعنى تاماً لكن ذكر الضمير (هم) أفاد حصر الظلم على الكافرين أي الكافرون هم الظالمون حصراً. 

(مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (255) البقرة) تأمل هذا الأسلوب في الاستفهام (من ذا) إنه استفهام لكنه خرج إلى معنى الإنكار والنفي وكأن الله تعالى يريد أن يخبرنا عن شرف ومكانة الشافع عند الله تعالى وهو محمد r فقال (إلا بإذنه) فلا أحد يشفع عند الله بحق الله ولكن يشفع من خصّه الله تعالى بهذا الإذن، كرامة ما بعدها كرامة. 

(وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء (255) البقرة) لِمَ قال تعالى (ولا يحيطون بشيء من علمه) ولم يقل ولا يعلمون شيئاً من علمه؟ إن الإحاطة تقتضي الإحتواء على جميع أطراف الشيء بحيث لا يشذّ منه جزء من أوله ولا آخره فأراد ربنا أن يصور لنا قصر علمنا وضعف مداركنا فنحن قد نعلم شيئاً كان مجهولاً بالأمس ولكننا لا نستطيع أن نحيط بكل ما يلزم عنه ولا نقدر على إدراك كل ما له به صلة ولذلك فإن علومنا قابلة للتبديل والتعديل. وانظر أيضاً إلى قوله تعالى (بشيء من علمه) ولم يقل ولا يحيطون بعلمه وهذا مزيد من الدقة في تصغير معارفنا وعلومنا. 

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ (258) البقرة) تأمل هذا الحوار الذي دار بين إبراهيم u وخصمه اللجوج فقد أدلى إبراهيم u بحجّة وهي إحياء الموتى فكابر المجادِل وادّعى ذلك لنفسه فلِمَ عدل إبراهيم u عن نفي ذلك عنه وانتقل إلى حجة أخرى؟ عدل إبراهيم u عن الاعتراض عن إدعاء النمرود بأنه يحيي الموتى لأن هذا الإدعاء مكابرة من خصمه وكذِبُهُ بيّن لا يحتاج أيّ دليل ولذلك إنتقل إبراهيم u إلى ما لا يستطيع الخصم إنتحاله. 

(وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا (259) البقرة) في كلمة (ننشزها) قراءتان: قِرئت (ننشرها) من أنشر إذا بعث فـ (ننشرها) هنا أي نحييها. وقرئت (ننشزها) من أنشز إذا رُفع الشيء والآية تعني رفعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها، فالقراءتان تدلان على معنى واحد. 

(قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ (260) البقرة) ما دلالة (من) في قوله (من الطير)؟ وهل تفيد معنى زائداً فيما لو قال: فخذ أربعة طيور؟ جيء بـ (من) في الآية لتدل على التبعيض وهذا ما يضيف معنى آخر وهو التعدد والاختلاف خلافاً لقولنا أربعة طيور فهذه العبارة لا تدل على تعدد أنواعها فقد تكون الطيور من صنف واحد وقد دخلت (من) على هذه الآية لتدلنا على التعدد والاختلاف حتى لا يتوهم مشكك بأن بعض الأنواع أهون بالإحياء والبعث من بعض. 

(ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا (260) البقرة) السعي هو نوع من أنواع المشي لا من أنواع الطيران فلِمَ خصّ ربنا تعالى إجابة الطيور بالسعي لا بالطيران مع أن هذا مخالف لطبيعة الطير؟ جعل الله سبحانه وتعالى هذا السعي دليلاً وآية على عودة الحياة بعد موت والحياة التي رُدّت إليهن مخالفة لحياتهن السابقة ولذلك عجزن عن الطيران لأنه غير معهود بهذه الحياة الجديدة. 

(مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ (261) البقرة) ما وجه الخصوصية في الحبّة التي اختارها الله تعالى للدلالة على مضاعفة الأجر والثواب؟ جعل الله سبحانه وتعالى الحبة مثلاً لمضاعفة الأجر والثواب لأن تضعيفها ذاتيّ فهي تزداد وتنمو وتخلف بنفسها لا شيء يزاد عليها وكذلك الحسنة يضاعفها الله تعالى بذاتها لا بعمل آخر يضاف إليها. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا (264) البقرة) إن الله سبحانه وتعالى ضرب لنا الأمثال والصور في القرآن لتكون دليلاً لنا وذكرى وعظة وحثّاً على العمل وزجراً عن ارتكاب المنهيات وتقريب المعقول إلى العقل. وانظر إلى هذه الصورة وبراعة التمثيل فقد مثّل حال الكافر الذي ينفق ماله رئاء الناس بحال صخر أملس عليه تراب صالح للزراعة حتى إذا ما ألقى المزارع بذاره وطمع في نماء زرعه هطل ماء فجرف التربة وما بها وبقي الصفوان مكانه كما هو أملس صلباً فخاب أمل زارعه كذلك حال المؤمن المرائي بإنفاقه فهو يظن أنه تصدق وزرع وبذر لكنه يفاجأ يوم القيامة بأن الرياء جرف حسناته وبقي لا يحمل إلا أوزاره. 

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ (265) البقرة) الجنة هي مكان من الأرض ذو شجر كثيف بحيث يجنّ أي يستر الكائن فيه. فالجنة مأخوذة من جنّ إذا ستر ولذلك سُمي القلب الجَنان لأنه مستور عن الحواس. 

(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء (268) البقرة) تأمل في الآية كيف تقدّم الفاعل على الفعل (الشيطان يعدكم) فلِمَ قدّم ربنا سبحانه وتعالى الفاعل على فعله؟ الفاعل هو الشيطان والفعل يعدكم قال تعالى (الشيطان يعدكم) ولم يقل يعدكم الشيطان بل قدم الفاعل على فعله؟ إن في تقديم إسم الشيطان وابتداء الآية به إيذاناً لك أيها المؤمن بذمّ الحُكم الذي سيأتي بعده لتحذر الوقوع به. ألا ترى أنك تحذر السامع فتقول له: السفاح في دار صديقك وذلك بخلاف قولك: في دار صديقك السفّاح. 

(لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ (273) البقرة) ماذا أراد ربنا بقوله (لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ) وهل ضرب الأرض فِعل الأغنياء؟ هذا وجه بديع من أوجه اللغة العربية وهو باب الكناية والكناية أن تقول كلاماً وتريد ما يلزم عنه. فتقول هذا رجل سيفه طويل يريد ما يلزم عنه وهو طول الرجل فلا يحمل السيف الطويل إلا الرجل الطويل. (لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ) كناية عن عجزهم وفقرهم فهم عاجزون عن التجارة لقلة ذات اليد والضرب في الأرض كناية عن المتاجرة لأن شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو بدابته. 

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا (275) البقرة) لِمَ قال (يأكلون الربا) ولم يقل يأخذون الربا مع أن الأكل يختص بالطعوم لا بالمال؟ نعم الأكل في حقيقته هو ابتلاع الطعام ولكن ربنا عبّر عن أخذ الربا بالأكل ليبين لنا حرص المرابي على أخذ المال بشَرَه. 

(يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) البقرة) تأمل هذا السر البديع في خاتمة الآية فقد ختمها بقوله (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) مع أن بداية الآية توحي أن ختامها : والله لا يحب كل مرابي أثيم، فلِمَ خصّ ربنا الكافر بعدم المحبة دون المرابي؟ إن الإخبار بأن الله تعالى لا يحب جميع الكافرين يؤذن ويشعر بأن الربا شعار أهل الكفر وهو سمة من سماتهم فهم الذين استباحوه. وفي هذا تعريض بأن المرابي متّسمٌ بخِلال أهل الكفر والشرك وإن كان مؤمناً. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) البقرة) لِمَ قدّم ربنا تعالى الأمر بالتقوى على الأمر بترك الربا مع أن الآيات تعالج قضية الربا؟ أُمِر الناس بتقوى الله تعالى قبل الأمر بترك الربا لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب وترك الربا من جملتها وخصلة من خصال التقوى. 

(فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا (282) البقرة) البخس هو النقص فهل اختيار البخس في قوله تعالى (ولا يبخس منه شيئاً) لغاية وسبب؟ نعم فالبخس وإن كان بمعنى النقص إلا أنه يدل على الإنقاص بخفاء وغفلة عن صاحب الحق لذلك كان اختيار هذا اللفظ دون غيره. 

(وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ (282) البقرة) ما الفرق بين قولنا (واشهدوا شهيدين) وقوله تعالى (واستشهدوا شهيدين)؟ انظر إلى هذا التصوير البديع الذي ترسمه زيادة السين والتاء في قوله تعالى (واستشهدوا) هذه الكلمة تدل على طلب شهادة الشاهدين وتكليف بالسعي للإشهاد وهذا ما لا يفيده لفظ (وأشهدوا) الذي يدل على مجرد الشهادة. 

(أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى (282) البقرة) في قوله تعالى (فتذكر إحداهما الأخرى) أظهر ربنا سبحانه وتعالى إحداهما مع أن حقها الإضمار فمقتضى الظاهر أن تكون الآية: أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى، فما فائدة تكرار إحداهما أي كما قال تعالى (أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)؟ تكررت كلمة إحداهما لأن كل واحدة من المرأتين يحوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير وتكرار كلمة (إحداهما) مع الضلال ومع التذكير لئلا يُتوهم أن إحدى المرأتين لا تكون إلا مذكِّرة للأخرى. 

(وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ (283) البقرة) كل من يقرأ هذه الآية يعلم أن الأمانة في قوله تعالى (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) يُراد بها البرهان الذي سبق ذكره (فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ) فلِمَ أطلق على الرهان إسم الأمانة؟ سمّى ربنا سبحانه وتعالى الدَيْن في الذمة أو الرهن أمانة لتعظيم الحق عند المدين فاسم الأمانة له مهابة في نفس الإنسان لا تضفيه كلمة الرهان وفيها تهويل من عدم الوفاء بالإتفاق لئلا يُسمى ناكث العهد خائناً. 

(وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ (283) البقرة) أليس من الممكن حذف لفظ الجلالة (الله) من الجملة (وليتق الله ربه)؟ فلِمَ ذكر رنا تعالى كلمة (الله) وكلمة (ربه) وهما إسمان لمسمّى واحد؟ ذكر إسم الجلالة (الله) في الآية مع أنه يمكن الاكتفاء بقولنا وليتق ربه لإدخال الروع في ضمير السامع ولغرس المهابة في قلبه ليكون حذراً من الإخلاف فاسم الجلالة (الله) له وقع في نفس السامع يشعرك بالمهابة والتعظيم. 

(وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ (284) البقرة) يحاسبكم، المحاسبة مشتقة من الحسبان وهو العدّ ويحاسبكم أي يعدّه عليكم ثم أطلق هذا اللفظ على ما ينجم عن العدّ والإحصاء وهو المؤاخذة والمجازاة فحساب الله تعالى هو إحصاء لأعمالك وأفعالك ثم مجازاتك على ذلك.