قبسات من روائع البيان

قبسات من روائع البيان – سورة مريم

اسلاميات

سورة مريم

يقولُ تعالى -على لسانِ زكريَّا (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (4)) لا شكَّ أنَّ التالي لهذه الآية يشعرُ بتناسقٌ موسيقيٌّ أخَّاذ في ترتيبِ الكلمات، فالنسقُ بُنِيَ على ترتيبٍ لا يصلُحُ فيه التقديمُ والتأخير، فلو حاولتَ مثلاً أن تُغيرَ وَضعَ كلمةِ {مِنِّي} فقط، فتجعلها سابقةًً لكلمةِ {الْعَظْم} فتقول (قال ربِّ إني وهن منِّيَ العظم) لأحسستَ بما يُشبهُ الخَلَلَ في التناغُمِِ اللفظيّ، ذلك أنَّ {مِنِّي} تتوازنُ مع {إِنِّي} في صّدْرِ الفِقْرة هكذا {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعّظْمُ مِنِّي}.

ولنتأمَّلُ في قولهِ تعالى على لسانِ زكريّا (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) هذا الأسلوبُ الرقيقُ في استرحامِ اللهِ واستجلابِ عطفِهِ، فقد أسند الوَهنَ إلى عظامِهِ دونَ غيرها مما شَمَلَهُ الوَهنُ في جسدِهِ، فلم يقل (إني ضعيف) أو ما شابه، لأنَّ إسنادَ الوهنِ إلى العظمِ أوجزُ في الدِّلالةِ على عمومِِ الوهنِ لجميعِ بدنهِ لأنَّ العظمَ هو قَوامُ البدن، وهو أصْلَبُ شيئٍ فيه فلا يبلُغُهُ الوَهنُ إلّا وقد بَلَغَ ما فوقَهُ.

(قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيْبًا (4)) إنَّ التعبيرَ القرآنيِّ يَنْبِضُ بالحياةِ والحركة، فما إن يَمَسُّ الساكِنَ أو ما شأنُهُ السُّكون حتى تَدُبَّ فيهِ الحياة فيَنْتفِضَ حيًا مُتحرِّكًا، فالرأسُ ساكِن، ولكنَّ هذا التعبيرَ المُصَوِّر يُخَيِّلُ للشيبِ في الرأسِ حركةً تَخْيلية سريعةِ الحركة كسرعةِ اشتعالِ النارِ في الهَشيم، وهي حركةٌٌ جميلة تُثيرُ الخيال، وتُشْرِكَ النظرَ والمُخَيِّلَة في تذوُّقِِ ما فيها من جَمال.

(وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)) انظر إلى هذه العناية الإلهية التي أحاطت بسيدنا يحيى عليه السلام. فهو محاط بالأمن والسلام الإلهي في مختلف مراحل حياته وبعد مماته ومكلوء بالرحمة في كل لحظة. ألا ترى كيف عبّر ربنا عن ذلك بيوم الولادة إلى يوم الوفاة وأتبعه بيوم حشره وبعثته ليكون ذلك عاماً له دونما استثناء.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)) إن السياق القرآني نكّر لفظ (مكاناً)، فلِم عاد ووصفه بالشرقي فقال (مَكَانًا شَرْقِيًّا)؟ في وصف المكان بالشرقي نكتة بديعة في تاريخ الشرائع. فهذا الوصف كان للتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرق قِبلة لصلواتهم.

(قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)) عندما تتلو هذه الاية أو تسمعها فكأنك ترى مريم عليها السلام مشحونة بمشاعر الخوف والأسى. وذلك بفضل قوة العرض والإيحاء. فمريم العذراء عليها السلام تحمل في بطنها جنيناً في موقف مهول مرعب. فتنزوي مفكِّرة بأي وجه ستقابل مجتمعها. فتعذبها الآلآم النفسية وتواجه الآلآم الجسدية آلآم الوضع وهي بِكرٌ وحيدة غريبة. فماذا تراها تنطق في مثل هذا الموقف المفزع؟ إنها تطلق عبارات تبلغ القمة في تصوير ما تحس به من شتى الأحاسيس. ولذلك لم تقف عند أمنية الموت (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا) بل بالغت في أمنية الموت قائلة (وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) وبذلك رصدت هذه العبارة حالتها النفسية المحطمة.

(يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ (28)) في هذه الآية يخاطب القوم مريم بنت عمران، فلِمَ عدلوا عن التصريح بإسمها إلى التعريض بـ (أخت هارون). خاطبها القوم بأخت هارون لأن هارون كان صالحاً وفي إضافتها إلى إسمه توبيخ لها. أي ما كان لأخت رجل مثله أن تفعل فعلتها.

(فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)) لِمَ هذا الاطناب في السؤال؟ هلاّ قالوا “كيف نكلم صبياً”؟ في زيادة الفعل (كان) مع (المهد) دلالة على تمكن ظرفية المهد من عيسى عليه السلام وذاك للمبالغة في الإنكار والتعجب الذي صدر منهم إزاء مقالتها. إذ يُعدّ هذا الطلب استخفافاً بهم. ولذلك أطالوا في صيغتهم فقالوا (من كان في المهد) للتأكيد على سبب استغرابهم.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إذ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)) هنا وصف يومِ القيامة، فقد سَمَّاهُ اللهُ يومَ الحسرة مع أنَّ المراد: “أنذرهم الحسرةَ في يومَ الحساب”، فجعلَ الحسرةَ هيَ اليومَ ذاته، وما ذاك إلّا لِما يحدثُ في يومِ القيامة من شدَّةِ الحسرات، حتى لَكَأنَّما اليومَ مُختصٌّ بالحسرة ولا شيء آخرَ فيهِ سواها، فهوَ للظالمينَ يومُ حسرة، وإنْ كانَ يومَ فرحةٍ بالنسبةِ للصالحين.

ويقول تعالى عن إبراهيمَ عليه السلام (إذ قَالَ لِأَبِيْهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيئًا (42)) نتأمَّلَ هذا التلطُّفَ والتأدُّبَ من إبراهيمَ النَّبي معَ أبيهِ المشرك، ولو قال (وإذ قال إبراهيمُ لأبيه لِمَ تعبدُ ما لا يسمعُ) لكانَ الكلام مُستقيمًا، ولكنَّهُ آثَرَ أنْ يُناديَ أباهُ بقوله {يَا أَبَتِ} لِأمْرَينِ اثنين: أوَّلِهِما أنه أرادَ أنْ يكونَ بارًّ بأبيهِ، مؤدبًا في خطابه له، وثانيهما أنَّ إبراهيم عَلِمَ أنَّ في طَبْعِِأهلِ الجهالة تحقيرَهم للصغيرِ مهما بلغَ حالَهُ في الْـحَزَق وخاصًة الآباءُ معَ أبنائهم، فتوجَّهَ إلى أبيه بخطابهِ بوصفِ الأُبُوَّة، إيماءً إلى أنَّهُ مُخلصٌ له النصيحة حتى يَسْتَرْعِيَ انتباهَهُ ويَمْتَصَّ نَقْمَتَهُ وغضَبَهُ.

ويقول تعالى في نفس الموضع على لسانِ إبراهيم عليه السلام (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًا (44)) في هذه الأية نجد سيدُنا إبراهيمَ عليه السلام ينهى أباهُ عن عبادةِ الشيطان، وهل كانَ أبوهُ يَعتقدُ بألوهيةِ الشيطانِ حتى يَعْبُدَه؟ المرادِ بعبادةِ الشيطان عبادةُ الأصنام، وقد عبَّرَ عنها بـ (عبادةِ الشَّيْطَان) إفصاحًا عن فسادها وضلالها، فإنَّ نسبةَ الضلالِ والفسادِ إلى الشيطان مُقَرَّرة في نفوسِ البشر، ولكنَّ اللذينَ يتبعُونَهُ لا يَفْطَنونَ إلى حالِهم ويتبِعونَ وَساوِسهِ تحتَ سِتارِ التَّمْوِيه، فإبراهيمُ يعني: لا تَعْبُد يا أبتِ الأصنام لأنَّ اتِّخَاذها من تَسْوِيلْ الشيطان وَعبادَتَها من وَساوِسِ الشيطان، وفي جعلِ عبادةِ الأصنامِ عبادةًً للشيطان تَبْغِيضٌ لِعبادةِ الأصنام، لأنَّ في قَرَارَةِ النفوسِ بُغْضَ الشيطان والحذرَ مِن كَيْدِه، وقد أكَّدَ ذلك الحذرَ منَ إضْلالَه بقولِهِ (عَصِيًا) دونَ (عَاصٍ) لأنَّ (عَصِيًا) فيها مُبالغةًٌ للعِصيان.

(وَاذكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)) قُرِأت كلمةُ (مُخْلِصًا) بالكسرِ أي: مُخْلِصًا، وبالفتح (مُخْلَصًا) وإنَّما خُصَّ موسى بالوَجهينِ لأنَّ ذلكَ مَزِيَّتُهُ، فأمَّا {مُخْلِص} (بالكسرِ) فلِأنَّهُ أخْلَصَ في الدعوة إلى الله واستخَفَّ بأعظمِِ جَبَّارِ وهو فرعون وجادَلَهُ مُجادَلَةَ الأكِفَّاء، فكانَ الإخلاصُ في أداءِ الامانةِ إلى اللهِ تعالى مَزِيَّتُهُ، وأمَّا {مُخْلَص} (بالفتح) فلِأنَّ اللهُ اصطفاهُ بكلامهِ مباشرةً قبلَ أن يُرْسِلَ إليه المَلَكُ بالوَحيِّ، فكان (مُخْلَصًا) بذلك أي مُصْطَفَى.

(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)) تأمل هذا الوعيد والتحذير لكل من أضاع الصلاة وفرّط بها واتّبع شهوته فهو عُرضةٌ للغيّ والخسارة. وقد عُبَّر عن هذا الجزاء بالمضارع (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ) ليدل على أن لقاءهم الغيّ متكرر في أزمنة المستقبل. وفي هذا مبالغة في وعيدهم وتحذيرهم من الإصرار على ذلك.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ (61)) إن الجنة هي جزاء المؤمنين وهذا ما وعدنا به الله جزاءً لطاعتنا، فلِمَ وصف الجنة بقوله (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ) وهذا معلوم لنا؟ وصف الجنة بقوله (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ) لزيادة تشريفها وتحسينها. وأنت تفتخر بما وعدك به من هو فوقك لأنه وعدٌ ممن تحترمه وتجلّه، فكيف إذا كان الوعد من الله العليّ الكبير؟. فلا يخفى ما في هذا الوصف من التكريم والتشريف للموعودين.

(إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)) المأتيّ هو الذي يأتيه الآخرون فكيف يأتي الناس إلى الوعد؟ استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقَب فالإنسان يحصل على الشيء بعد أن يسعى لتحصيله. وكذلك وعد الله فهو أشبه بمكان يقصده الطائعون. وسوف يبلغونه ويحصلون على ما وُعِدوا به.

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63)) انظر إلى هذا الفضل الإلهي. فقد جعل الجنة لك رثاً فلم يقل مثلاً “تلك الجنة نهبها من عبادنا من كان تقياً”. لأن الهبة فيها منّة بلا عمل وبلا سبب. أما الإرث فهو في حقيقته انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنه أولى الناس بماله. وفي جعل الجنة إرثاً لك يوحي بأن هذه الجنة قد ورثتها عن حق وسبب وهي ملك لك.

(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)) لِمَ عبّر ربنا عن الصبر على العبادة بالاصطبار فقال (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) ولم يقل “واصبر على عبادته”؟ الاصطبار هو شدة الصبر على الأمر الشاقّ. وآثر البيان الإلهي وصف الصبر على العبادة بالاصطبار دون الصبر لأن العبادة مراتب كثيرة وكلها تحتاج إلى مجاهدة النفس وهذا يتطلب صبراً مبالغاً فيه حتى لا تضعف النفس وتتقاعس عن أداء ما أُمرت به. ولأن بعض العبادات قد تثقل على النفس فتغلبها الشهوة وتتراخى عن أدائها فناسب ذلك بالحضّ على الاصطبار.

(فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)) انظر إلى هذا التصوير الحسي وهذا المشهد الحركي لأولئك الكافرين. فهم محشورون يوم القيامة ولكن مع من؟ إنهم يُحشرون مع الشياطين في صورة مهينة ذليلة في هيئة الخاضغ الذليل وهم جاثون على رُكبهم جثو الخزي والفزع.

(ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)) هناك ألفاظ يصور جرسها ولفظها على ما فيه ثقل وشدة صورة الألم. فلو قرأت كلمة (لَنَنزِعَنَّ) لشعرت بثقل الكلمة الذي يوحي بالصعوبة. فأنت بهذا اللفظ أمام مشهد كامل. فهم يُنزعون طائفة فيلقون في النار وإنما يُختار منهم أولاً فأولاً أعتاهم وأشدهم وأقواهم. ففي اللفظ وتشديده صورة لهذا الانتزاع تتبعها صورة القذف المتخيَّلة وهي الحركة التالية في الخيال للانتزاع.

(ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)) لم اختير وصف الرحمن في الآية ولم يصرح بلفظ الجلالة الإسم العلم للإله فلم يقل “أيهم أشد على الله عتيا”؟ في ذكر صفة الرحمن هنا تفظيع لحالة عتوّهم لأن شديد الرحمة بالخلق حقيقٌ بالشكر له والإحسان لا بالكفر به والطغيان.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)) ابتدأت الآية بالاستفهام مقترناً بالرؤية للعتجيب من كفر هذا الكافر. والمقصود من هذا الاستفهام والرؤية لفت الذهن إلى معرفة قصة الآية أو إلى تذكرها إن كان عالماً بها. فالآية نزلت في خبّاب بن الأرتّ والعاصي بن وائل السعمي. فقد كان خباب يصنع السيوف في مكة فعمل للعاصي بن وائل سيفاً وكان ثمنه ديناً على العاصي. وكان خباب قد أسلم فجاء خباب يتقاضى دينه من العاصي فقال له لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. فقال خباب وقد غضب لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك. قال العاصي: أو مبعوث أنا بعد الموت؟ قال نعم، فقال العاصي متهكماً: إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك، فنزلت هذه الآية في ذلك.

(أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)) انظر إلى هذا التهكم الذي تضفيه كلمة (أَاطَّلَعَ) فهي تدل على المبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء. والطلوع يُطلق على الإشراف على الشيء فالذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من علوّ. وهذا الاستفهام في الإطلاع على الغيب فيه استنكار وتعجب. وكأنه يقول: أوَ قد بلغ من عظمة شأنه أنه ارتقى إلى عالم الغيب فرأى مالاً وولداً معدين له حتى يأتي يوم القيامة بهما؟!

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)) يقول الشاعر:

وجهٌ مثل الصبح مبيضٌ

وشعرٌ مثل الليل مسودُّ

ضدّان لمّا اجتمعا حَسُنا

والضدُّ يُظهِر حسنه الضدُّ

هذا شأن الأضداد أن تظهر حسن الحسن وقبح القبيح. والله تعالى يرصد لنا في هاتين الآيتين مشهدين: مشهد المتقين ومشهد المجرمين ليرغّبك أيها المؤمن في الإيمان وينفِّرك من الكفر والفسق. ففي آية المتقين بدأها بالحشر والحشر يُطلق على الخير والشر. ولذلك أتبع فعل الحشر بوصف سمة المحشورين فسماهم (وَفْدًا) لأن الوفود تُطلق على الداخلين على الملِك ولا شك أن الوفود يكونون مكرّمين من مضيفهم لا سيما إن كان الملك هو الرحمن. هذه صورة عباد الرحمن فهم وفودٌ مكرّمة. فما شأن المجرمين؟ إنهم مساقون سَوْق كراهة. وقد اختار البيان الإلهي لحشرهم لفظ (وَنَسُوقُ) دون غيره لما في السَوْق من المذلة. فالسوق هو تسيير الأنعام أمام رعاتها يجعلونها أمامهم لترهب زجرهم وسياطهم فلا تتغلب عليهم. وأكّد صورة المذلة لهم وحشرهم على هيئة الأنعام بقوله (وِرْدًا) فقابل لفظ (وَفْدًا) للمؤمنين. والورد أصله السير إلى الماء وتسمى الأنعام الواردة (وِرْدًا) فهل أذلّ من هذه الصورة؟!

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)) تأمل هذا النعيم الذي يعدنا به الرحمن. فهو نعيم معنوي دقيق يلقي بظلاله النفيسة الرقيقة على الوجوه. فالنعيم قوامه الودّ السامي بين الرحمن والمؤمنين. وللتعبير بالودّ في هذا الجو نداوة رخيّة تمس القلوب فهو نعيم معنوي. ولكن لا يماثله أيّ نعيم مادي محسوس. وهل أعظم من الودّ بينك وبين ملك الملوك سبحانه وتعالى؟

(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97)) لِمَ عبّر الله تعالى عن المؤمنين بصفة المتقين فقال (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) ولم يقل “لتبشر به المؤمنين”؟ إن اختيار صفة المتقين كان بها من القوة والجمال ما يعجز لفظ المؤمنين عن تجسيده. فالتقوى تعني الطاعة والامتثال لأمر الله. وهذا الموقف يقابله موقف الألدّ الذي يعني العصيان والمكابرة والمراء. وفي وصفهم بالألدّ تعريض بأن كفرهم عن عناد مع علمهم أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحقّ.