قبسات من روائع البيان

فبسات من روائع البيان – سورة طه

اسلاميات

سورة طه

(وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)) لِمَ ابتدأ الله تعالى نبيّه بالسؤال عن معرفته بحديث موسى مع أنه لا علم له مسبق بذلك؟ إن الاستفهام هنا مستعمل في التشويق إلى الخبر وليس المراد الاستفهام الحقيقي, ألا ترى أنه إذا أردت أن تشوّق المستمع إلى خبر ستدلي به تقول له: هل عرفت ماذا حدث في كذا وكذا؟ وزاد من هذا التشويق قوله تعالى في الاية التالية (إِذْ رَأَى نَارًا (10)) فالمستمع يصبح متشوقاً لمعرفة ما حدث جرّاء هذا الرؤية.

(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي (18)) لِمَ ابتدأ تعالى سؤال موسى عمّا يحمل بيده مع أن حمله للعصا واضح بداهية وهو لا يحتاج إلى سؤال؟. كان هذا الاستفهام لشد انتباه موسى عليه السلام. لأن مشاهِد الخوارق تسارع بالنفس بادئ ذي بدء إلى تأويلها وتدخل عليها الشك في إمكان اختفاء واستتار الأمر العادي بساتر خفي فلذلك ابتدأه بالسؤال عما بيده ليوقن بأنه ممسك بعصاه حتى إذا ما انقلبت حيّة لم يشك في أن تلك الحيّة هي التي كانت عصاه.

(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)) إن السؤال عن العصا بـ (ما) الاستفهامية كان يتطلب تحديد ماهية ما يحمل وحسب. فيقول مثلاً (هذه عصا) فلِمَ أطنب موسى وعدّد منافعها؟ لقد توسع الجواب تلذذاً بالخطاب؟ فالمرء إن تكلم مع شخص ذي بال تمنى لو طال حديثه معه، فكيف بمن خاطب وتكلم مع خالق الخلق سبحانه وتعالى؟

(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)) لو قال موسى عليه السلام (رب اشرح صدري ويسر أمري) دون الجار والمجرور (لي) لتحقق المراد. فلِمَ ذكر (لي) مع أن ياء المتكلم في قوله (صدري – أمري) تُغني عن الجار والمجرور (لي)؟ إن زيادة (لي) بعد قوله (اشرح) وبعد قوله (يسر) كانت من أجل التأكيد والتعليل لما تفيده اللام من معنى العلّة. وكأنه يقول يا رب اشرح صدري لأجلي ويسّر أمري لأجلي وهذا إلحاح من موسى في الدعاء لنفسه.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67)) انظر إلى قوله (في نفسه) فقد حدد ربنا موطن الخيفة التي ألمّت بموسى عليه السلام فهي خيفة تفكر داخلية في نفسه لم يظهر أثرها على ملامحه ولذلك أكّدها بقوله (في نفسه).

(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ (71)) نقول صلب على النخل فلِمَ قال فرعون في جذوع النخل ولم يقل على جذوع النخل؟ إنما عُدِّيَ (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ) بحرف (في) مع أن الصلب يكون فوق الجذع لا بداخله ليدل على أنه صلبٌ متمكن وأن المصلوب أُدخل في الجذع لا عليه.

(إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74)) انظر إلى قوله تعالى (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ) فقد جعل الباري جهنم للمجرمين مستحقة وكأنها لهم وهم صائرون إليها لا محالة وعذابهم فيها متجدد. ولذلك وُصِف المجرم بأنه لا ميّت ولا حيّ. وهذا في ظاهره يوحي بتناقض ولكن الله أراد أن يسلب عنهم خصائص الحياة الكريمة. فحياتهم مليئة بالكدر والعذاب والألم.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)) انظر إلى هذا الخوف وما يضفيه من تهويل في روع السامع فقال (مَا غَشِيَهُمْ) دون تحديد لما غشيهم لتذهب النفس في كل مذهب من الهول والخوف والخشية. فهو غرقٌ بلغ من هوله أنه لا يمكن وصفه.

(أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86)) هل من عاقل يريد استجلاب غضب الله عليه؟! فكيف يسأل موسى قومه بقوله (أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ)؟ هذا استفهام إنكاري لما بدر منهم من تصرفات لا تأتي إلا بالسخط والغضب الإلهي. ولذلك فقد شبّه سيدنا موسى عليه السلام حالهم في ارتكابهم أسباب حلول غضب الله عليهم بحال من يحب حلول غضب الله عليه إذ الحب لا سبب له.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ (88)) لِمَ قال ربنا (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا) ولم يقل فصنع لهم عجلاً مع أنه من صُنع السامري؟ إنما عبّر ربنا عن فعل السامري بالإخراج دون الصنع إشارة إلى أن صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى تمّه ثم أخرجه وأظهره بعد أن كان محجوباً لتنطلي حيله على عقولهم.

(أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)) انظر إلى ترتيب الضر والنفع فهل من سبب وراء تقديم الضر على النفع؟ قدّم ربنا نفي ملك الضرر على النفع عن العجل ليقطع أي عذر لهم في اعتقاد إلهيته. لأن عذر الخائف من الضر أقوى من عذر الراغب في النفع. فالإنسان يقدم من رهب ويستجيب من فرع أكثر مما يقدم عن طمع ورغبة.

(قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي (94)) لِمَ خاطب هارون أخاه موسى عليه السلام بـ (يَا ابْنَ أُمَّ) وعدل عن ندائه بـ (يا أخي) كما هو معتاد؟ عدل هارون عن ندائه بـ (يا أخي) إلى (يَا ابْنَ أُمَّ) لأن ذِكر الأم فيه تذكير بأقوى أواصر الأخوة وهي آصرة الولادة من بطن واحد والرضاع من لُبان واحد. وهذا من شأنه أن يهدئ من غضب موسى.

(قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)) لِم سأل سيدنا موسى عليه السلام السامري بقوله (فَمَا خَطْبُكَ) ولم يقل له ما شأنك أو ما طلبك؟ خصّ موسى سؤاله بقوله (فَمَا خَطْبُكَ) لأن الخطب هو الشأن المكروه كقوله تعالى (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) الذاريات). وكأنه يقول له ما هي مصيبتك الني أصيب بها القوم؟ وما غرضك مما فعلت؟ وهذا يناسب ما أتى به السامري من بدعة وكفر أضلّ به الناس.

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)) جاء الفعل (فقل) بفاء عقب السؤال أي (يسألونك فقل) مع أن كل سؤال في القرآن يأتي جوابه لالفعل (قُل) دون الفاء إلا هذا، كقوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى (222) البقرة) فلِمَ دخلت الفاء على هذا الجواب دون غيره؟ جاء الجواب هنا في قوله (فَقُلْ يَنسِفُهَا) مصدّراً بالفاء لأن المعنى “إن سألوك عن الجبال فقل” فتضمن الكلام معنى الشرط. فقد علم أنهم سيسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال. وأما الأسئلة الأخرى فقد تقدّمت وسألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقِب السؤال ولذلك خلت من الفاء.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ (111)) العاني هو الأسير والعناء هو الذِلّة فما صلة الذلة بالوجوه حتى قال ربنا (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ)؟ إن العاني هو الأسير ولمّا كان الأسير ترهقه ذِلّة في وجهه أسند العناء إلى الوجوه لتمثيل حال المجرمين الذين غمرتهم الذلة والمهانة.

(وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)) تأمل هذه الدقة البيانية والتعبير العميق في قوله تعالى (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا). ألا ترى أن فيه إيماء إلى أن الذِكر لم يكن من شأن العرب قطّ قبل نزول القرآن. فالقرآن هو من أوجد فيهم ذِكراً لم يكن من قبل.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (128)) لاحظ كيف يحض الله المشركين على التبحر والتفكر بما أصاب الأمم السابقة من العذاب. ويختم الآية بقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) فلِمَ عدل عن القول “إن في ذلك لآيات لهم” ليناسب قوله (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ)؟ آثر الله أن يحضر فائدة هذه العِبر عند أصحاب العقول للإيماء إلى أن الذين لم يتعظوا بهذه الآيات ولم يهتدوا بها هم عديمو العقل.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132)) لِمَ آثر القرآن أن يأمر رسوله بقوله (وَاصْطَبِرْ) دون “واصبر عليه”؟ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من خلاله باصطبار على الصلاة لأن الهمم قد تتثاقل عن أداء النوافل مع مرور الأيام ولذلك جاء بالفعل الذي يدل على المبالغة في الصبر بقوله (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)

(قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)) انظر إلى هذا التحدي السافر الذي يعلنه البيان الإلهي فقد أمر المشركين بالتربص فقال (فَتَرَبَّصُوا) ولكنه لم يقل “إنا متربصون بكم” بل قال (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) وفي هذا تعريض بأن المؤمنين هم أصحاب الصراط المستقيم المهتدون. لأن مثل هذا الكلام لا يقوله في مقام المحاجة إلا الموقن بأنه المحِقّ.